3/20/2021

الأحكام العامة لقانون العقوبات والنظرية العامة للجريمة

الأحكام العامة لقانون العقوبات والنظرية العامة للجريمة


محاضرات في القانون الجنائي العام
الأحكام العامة لقانون العقوبات والنظرية العامة للجريمة
 
مقدمة
يعد قانون العقوبات من أهم القوانين التي تستعين بها الدولة في فرض الانضباط والأمن داخل المجتمع، على اعتباره القانون المتضمن لأشد أنواع الجزاءات القانونية وأكثرها لتحقيق فكرة الدرع العام قبل الردع الخاص. وكانت لهذا القانون ذات الأهمية حتى قبل ظهور الدولة، باعتباره من أقدم فروع القانون والذي وجد مع وجود الجماعات البشرية الأولى، وصاحب مختلف مراحل تطورها، وبذلك اتسم في كل مرة بسمات المرحلة التي تطبع النظام المتبع في المجتمع، بجوانبه الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، حيث في كل مرة كانت تجد فيه الجماعات المكلفة بالحكم – أيا كان نوعها- الوسيلة المثلى لفرض سياستها وأهدافها، وكذا الحفاظ على مصالحها. والسبب الذي جعل هذا الفرع القانوني الهام يحتل مثل هذه المكانة، ومثل هذه الدرجة من الأهمية، راجع بالأساس إلى الجزاء الذي تتضمنه قواعده، باعتبارها جزاءات تصيب الشخص المكلف في حياته أو حريته، وأقلها أن تصيبه في ماله، وبذلك كانت عبارة عن وسائل قهر وإلزام وردع، ووسيلة في يد السلطة الحاكمة في فرض رؤاها في كيفية سير الأفراد والجماعات. وعلى إثر ذلك ضم هذا الفرع القانوني في ثناياه نوعين من الأحكام، أحكام تجريمية وأخرى عقابية، وأن دراسته دراسة وافية تقتضي الإلمام بهما معا، بالنظر للتلازم الموجود بين النوعين أو الشقين من الأحكام. وبهذا فإنه من البديهي أن دراسة القانون الجنائي العام، تقتضي دراسة النظرية العامة للتجريم، والنظرية العامة للجزاء ( الجريمة والجزاء)، وهي المسألة الأولى التي تعطي لقانون العقوبات خاصته الأولى المتمثلة في تضمنه لعلمين، هما علم الإجرام وعلم العقاب، الذي يستدعي في كرة مرة الإلمام بالعلوم الجنائية لفهم أبعاد القانون الجنائي. هذا من جهة.
ومن جهة ثانية، تطبيق القانون الجنائي يستدعي نوعا آخر مخالف تماما للقواعد السابقة، التي تعد في جوهرها قواعد موضوعية، وهذا النوع الآخر هو القواعد الإجرائية، والتي تشكل في ذاتها فرعا قانونيا آخرا، وهو قانون الإجراءات الجنائية مع ما يتسم به من خصوصيات، وما يحكمه من مبادئ، والذي يعد وسيلة تفعيل وتطبيق القانون الجنائي بشقيه العام والخاص، والذي بدونه لا مجال للحديث عن دور وأهمية القسم العام، وهذا الأمر يجعلنا أمام مشكلة أخرى، وهي أن دراسة هذا الفرع القانوني في قسمه العام يقود بداهة لدراسة جوانبه الإجرائية، الأمر الذي يزيد دراستنا تشعبا وتوسعا. ويجعل الدارس والمدرس لهذا الفرع القانوني أمام ثلاثة فروع قانونية، النظرية العامة للجريمة، النظرية العامة للجزاء، وقانون الإجراءات الجزائية. والأكثر من ذلك، الفروع الثلاثة السابقة تستعدي أيضا الإحاطة بفرع قانوني آخر يتعلق بنظرية تنفيذ الجزاء، وهو المحكوم في الجزائر بقانون تنظيم السجون وإعادة الإدماج الاجتماعي للمساجين، والموضع السليم لدرسته هو النظرية العامة للجزاء الجنائي.
والغريب في الأمر أن دراسة هذه الفروع في مجملها مقررة لطلبة السنة الثانية، في حين القسم الخاص للقانون الجنائي – وفي جزء منه فقط- مقرر لطلبة السنة الثالثة، وهي مسألة نرى وجوب إعادة النظر فيها. غير أن ذلك لا يمنعنا من محاولة تقديم هذه المحاضرات بنوع من الشرح والتفصيل، معتمدين أسلوبا نتجنب من خلاله التفصيل الممل وكذا الاختصار المخل، خدمة وإعانة للطالب في استيعابه لمضامين وأبعاد هذا الفرع القانوني الهام من فروع القانون، ونخصص هذه المطبوعة أولا للنظرية العامة للجريمة والتي لا غنى فيها عن تناول الأحكام العامة لقانون العقوبات ذاته، لنتبعها – بعون الله- بمطبوعة أخرى نخصصها للنظرية العامة للجزاء الجنائي، وثالثة نخصصها للشرح أحكام قانون الإجراءات الجزائية، علها تكون عونا مفيدا لطالب السنة الثانية حقوق. 
هذا وننبه مسبقا، بأننا سنعمد وفي كثير من الأحيان، إلى الإشارة للخلاف الفقهي الذي قد يشوب فكرة من أفكار هذا القانون في هوامش هذه الدراسة، والتي ننصح في كل مرة الاطلاع عليها وأخذ فكرة عنها، على اعتبار متن الموضوع يخصص فقط لما استقر عليه الفقه في الغالب، أو لما تبناه التشريع المعاصر، مركزين على القانون الجزائري والإشارة في كل مرة تقضي فيه المسألة ذلكن إلى القانون المقارن. كما نشير في آخر الدراسة إلى أهم المراجع المعتمد عليها في إعداد هذه المحاضرات، دون إدراجها في موضعها على النحو الذي يقتضيه إعداد البحوث الأكاديمية، وذلك تقتضيه ظروف أخرى متعلقة بحقوق التأليف، لا إهمالا للجوانب المنهجية والشكلية في إعداد البحوث والدراسات. 
وسنتناول هذه الدراسة من خلال بابين أساسيين، نتناول في الأول النظرية العامة للجريمة، لنتناول في الثاني النظرية العامة للمسؤولية الجنائية، على أن نسبق كل ذلك بباب تمهيدي نتناول فيه الأحكام العامة لقانون العقوبات ذاته، ونعنونه بمعالم قانون العقوبات. وننبه مسبقا بأن قد يكون هناك اختلال في توازن البابين، على أساس أننا فضلنا تخصيص مطبوعة لنظرية الجزاء، في حين غالبية الفقه يتناولها في إطار نظرية المسؤولية الجنائية، لكن الفائدة الموضوعية المتوخاة من إعداد هذه المطبوعة، تتجاوز بكثير الفائدة المحققة من مراعاة الجوانب الشكلية. هذا ولا يفوتنا أن نتمنى أن تكون هذه المطبوعة عونا علميا لطلبتنا الأعزاء في دراستهم للمادة خلال هذه السنة، وعونا مفيدا في مشاريعهم العلمية المستقبلية.

باب تمهيدي
معالم قانـون العقوبات

 قانون العقوبات يشمل نوعين من الأحكام الموضوعية، النوع الأول عبارة عن المبادئ والأحكام العامة الحاكمة للتجريم والعقاب، والتي تعد بلورة للنظريات الجنائية التي تبلورت فقهيا وقانونيا على مر عصور طويلة من الزمن، سيما وأن هذا القانون، من أقدم القوانين على وجه الأرض، بل يمكن رده إلى ما قبل ذلك، عند بدأ الخليقة[1]. وهو النوع من الأحكام الذي يطبق على كل الجرائم أيا كان نوعها – على أساس أن قانون العقوبات يعرف التقسيم الثلاثي للجرائم، حيث يقسمها إلى جنايات وجنح ومخالفات-، وأيا كان مرتكبها – حيث أن الجريمة قد تكون مشروعا فرديا يسهر على اقترافه فاعل واحد، أو عدة فاعلين، وهو ما يعرف بالمسؤولية الجنائية أو الاشتراك- سواء كان وطنيا أو أجنبيا – تعبيرا عن مبدأ سيادة قانون العقوبات على إقليم الدولة، حيث يطبق على الوطنيين والأجانب على حد سواء-، ويسمى هذا القسم عادة بالنظرية العامة للجريمة، كما يشمل أيضا على الأحكام العامة والمبادئ التي تحكم الجزاء، ويسمى هذا الجزء بالنظرية العامة للجزاء الجنائي. وكلا الشقين يكونان ما يسمى بالقسم العام لقانون العقوبات، الذي يعد من المقررات لبرنامج السنة الثانية في دراستهم لقانون العقوبات.

كما يشتمل على أحكام خاصة، تبين الجرائم بمفرداتها وأركان وظروف وعناصر كل منها، والعقوبة المقررة لها، ويسمى هذا الشق، بقانون العقوبات الخاص، أو القسم الخاص لقانون العقوبات، الذي يعد مقررا على طلبة السنة ثالثة حقوق. على اعتبار أن هذا القسم ما هو إلا تطبيق للنظرية العامة لكل من الجريمة والجزاء. وعلى العموم، الموضوع الرئيسي للقانون الجنائي أو قانون العقوبات، وإن كان الظاهر منه أنه دراسة للنظرية العامة للجريمة، فهو يبحث أساسا على المسؤولية الجنائية على اعتبار الجريمة سلوك يرتكبه شخص يجب أن يكون مسؤولا عن فعله حتى يوقع عليه العقاب. وفي معالجة هذا الموضوع، ظهر خلاف فقهي كبير في الفقه القانوني الجنائي، حيث نجد المدرسة الألمانية اتجهت اتجاها فلسفيا في دراسة الموضوع، حيث يحللون الموضوع على خمسة عناصر أساسية، هي الفعل المتمثل في السلوك، النموذج وهو الوصف القانوني المجرد للتجريم، لا قانونية الفعل وهي مطابقة الفعل للنموذج ومن ثم تقرير الطبيعة اللامشروعة لهذا الفعل، الإثم وهو العلاقة ما بين الفعل والموقف النفسي الآثم، وأخيرا العقاب وهو الثر أو النتيجة أو ثمرة العوامل الأربعة الأولى.  أما الفقه الفرنسي ومعه الفقه العربي، له تحليل أكثر بساطة للموضوع، حيث يبدأ تحليل المسؤولية الجنائية من الجريمة إلى المجرم، ومن الشروط الموضوعية للجريمة إلى الشروط الشخصية للجاني، ولكن في الأخير يلتقون مع التحليل الألماني حيث يلتقون في فكرة الجريمة، الإثم، الأهلية للعقاب – أي المسؤولية الجنائية- ثم العقاب نفسه[2]. لكن قبل كل ذلك، وفي البحث عن تحديد معالم قانون العقوبات، شاب الخلاف الفقهي الطويل الذي يطبع هذا الفرع القانوني الهام، حول تسمية القانون في حد ذاته وتحديد مضامينه وأبعاده، وكذا تناول تطوراته وتحديد طبيعته وعلاقته بمختلف فروع القانون الأخرى. لذا فإن دراسة معالم قانون العقوبات، تقتضي منا التعريف به أولا، وتناول محتواه وتحديد طبيعة قواعده، وكذا إبراز علاقته مع مختلف القوانين الأخرى، وتبيان أهدافه. وذلك في فصل أول، نعنونه بماهية قانون العقوبات، لنتناول في فصل ثاني، نشأة وتطور قانون العقوبات، وذلك بتناول تطور الفكر الجنائي بصفة عامة، وقانون العقوبات الجزائري بصفة خاصة.

الفصل الأول
ماهيـــة قانون العقوبات

        قانون العقوبات من القوانين التي تجسد بها الدول الحماية القانونية لمصالحها ومصالح المجتمع الأساسية والجوهرية، والتي تكفل الأمن والسكينة والاستقرار لكافة أفراد هذا المجتمع، وإقامة العدل بين أفراده، وهو بذلك ضرورة وحتمية لكل مجتمع أيا كان توجهه وطرق حكمه وتسييره، على اعتبار الجريمة سلوك إنساني ملازم للمجتمعات في كل مكان وفي كل زمان، لذا نجد قانون العقوبات لازم التطور البشري، وعايش تحولاته الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، الأمر الذي انعكس على تسميته وتحديد معناه وتبيان محتواه، وحصر العلاقة الموجودة بينه وبين مختلف الفروع القانونية الأخرى، تبعا للتطورات التي عرفها هذا القانون، وهو ما يقتضي منا تناول هذا الفصل ضمن مبحثين، نخصص الأول لمفهوم قانون العقوبات، أين نتناول تحديد معنى مسمياته المختلفة، وحصر مضمونه وتبيان أقسامه، لنخصص الثاني للبحث في طبيعة هذا القانون.

المبحث الأول
مفهوم قانــون العقوبات
يتفق الفقه الجنائي حول مضمون قواعد قانون العقوبات وخصائصه وأهدافه، والتي نتناولها ضمن المبحث الثاني من هذه الدراسة، غير أنه يختلف حول تسميته وتعريفه وعلاقته بمختلف الفروع القانونية الأخرى، وتبعا لذلك حول تحديد طبيعته– وهو موضوع المبحث الثاني-، غير أننا سنقتصر دراستنا في هذا المبحث على مطلبين، خصص الأول لتعريف قانون العقوبات، والثاني لمحتوى هذا القانون.

المطلب الأول
تعريف قانـــون العقوبات
        قبل التطرق للتعاريف التي أعطيت لقانون العقوبات، والاختلاف الفقهي الكبير في ذلك، نشير بأن الخلاف انصب أولا حول تحديد تسمية هذا القانون. لكن دون أن ينعكس ذلك على تحديد محتوى ومضمون هذا القانون، وهو الأمر الذي نتبينه من خلال الفروع التالية.

الفرع الأول
في تسمية قانون العقوبات
        تطلق في العادة تسمية "قانون العقوبات " على هذا الفرع من فروع القانون[3]، والذي يضم في حقيقته كل من الجرائم والعقوبات المقررة لها، وذلك من قبل تسمية الكل باسم الجزء، أو مثلما نرى، من قبيل تسمية التابع للمتبوع، على اعتبار أن الجريمة سابقة في الوجود على ارتكاب الجريمة، كما أن ارتكاب هذه الجريمة لا يعني بالضرورة توقيع عقوبة، فقد يوقع على شخص تدبير أمني أو احترازي، أو قد لا يطبق الجزاء أصلا، سواء تمثل في عقوبة أو في تدبير أمني، في الحالات التي قد يتوفر فيها للشخص مانع من موانع العقاب، أو سبب من أسباب الإباحة، أو حتى في الحالات التي لا يعرف فيها مرتكب الجريمة أو لا تتمكن فيه النيابة العامة من إثباتها عليه، وهنا تكون الجريمة أمر واقع، في حين شق العقوبة لم يطبق. الأمر الذي يجعلنا نرى بأتن تسمية هذا القانون، بقانون العقوبات تسمية قاصرة على أن تستوعب مضامينه وخصوصياته. خاصة وأنها ركزت على شق العقاب دون شق التجريم، وفي جزء منه دون الآخر – كون الجزاء يشمل العقوبات والتدابير، على نحو ما سنرى-. وهنا جاء اتجاه فقهي، ينادي بإطلاق تسمية " القانون الجزائي" على هذا القانون، ليصبح يشمل شق الجزاء بنوعيه العقوبات والتدابير، لكنه يظل قاصر على أن يشتمل شق التجريم، وهو الأهم في نظرنا. وتبقى تسمية قاصرة عن استيعاب المضمون الكلي لهذا القانون ومحتوياته، لذا يفضل بعض الفقه، تسمية " القانون الجنائي" باعتباره قانون الجرائم، وأن هذا النوع – الجنايات- أهم وأخطر الأنواع، مقارنة بالجنح والمخالفات، غير أننا نرى بأن هذه التسمية تعد أيضا تسمية للكل باسم الجزء، حيث أنها ركزت على جانب التجريم – في حين الأولى ركزت على جانب العقاب- وفي نوع واحد فقط من بين ثلاثة أنواع من الجرائم، وهي الجنايات، مثلما ركزت التسمية الأولى على نوع فقط من أنواع الجزاء، وهي العقوبة، وبالتالي التسمية قاصرة جدا، كونها أهملت نوعين من الجرائم، زيادة على إهمالها لشق العقاب برمته.
        غير أن هذه الانتقادات الموجهة لكل تسمية من التسميات الثلاث السابقة، لم تمنع الفقه في عمومه، من استعمالها تبعا لتوجه المشرع في بلده، ووفقا لما ألفه في استعمال المصطلحات، غير أن الإشكال في رأينا يكمن في موقف المشرع نفسه، فإن كان من الجائز أن نستعمل مصطلح من المصطلحات الثلاثة السابقة، فعل الأقل أن يعممه المشرع، غير أننا نرى بأن غالبية التشريعات، بما فيها التشريع الجزائري، تسمي القانون الموضوعي، بقانون العقوبات، بينما تميل لشق الجزاء بخصوص الإجراءات، حيث نجد المشرع الجزائري، يطلق تسمية " قانون العقوبات" على القانون موضوع دراستنا في هذا السداسي، ومصطلح " قانون الإجراءات الجزائية" بخصوص الشق الإجرائي موضوع دراستنا في السداسي الثاني من السنة الجامعية، وهنا يثار التساؤل عن المغزى من عدم توحيد المصطلحات، وإن كانت بعض التشريعات تطلق عليه مصطلح " الإجراءات الجنائية" نسبة للجنايات.

الفرع الثاني
تعريف قانون العقوبات
        
يعرفه البعض[4]، بأنه: " مجموعة القواعد القانونية التي تبين الجرائم وما يقرر لها من أو يقابلها من عقوبات أو تدابير أمن، إلى جانب القواعد الأساسية والمبادئ العامة التي تحكم هذه الجرائم والعقوبات والتدابير"، بينما يرى البعض[5]، أنه :" مجموعة القواعد القانونية التي تحدد رد الفعل الاجتماعي ضد الجرائم، وتترجم مجموعة الحلول الوضعية للظاهرة الإجرامية".     في حين يرى آخرون، أن قانون العقوبات يمعناه الواسع، مجموعة القواعد التي تحدد التنظيم القانوني للفعل المجرم ورد فعل المجتمع إزاء مرتكب هذا الفعل، سواء بتطبيق عقوبة أو تدبير أمن، كما يشمل أيضا القواعد الإجرائية التي تنظم الدعوى الجنائية. وبذلك يشمل المعنى الواسع كل من القواعد الموضوعية التي تجرم وتعاقب على الأفعال، سواء تمثلت في قانون العقوبات أو في القوانين المكملة له، وكذا القواعد الإجرائية المتمثلة في مجموعة القواعد الواجب اتخاذها بخصوص الدعوى العمومية، وصدور الأحكام والطعن فيها، وحتى تنفيذ العقوبة التي ينظمها قانون تنظيم السجون وإعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين[6]. بينما المعنى الضيق لقانون العقوبات، فيطلق مرادفا لتقنين العقوبات أو مجموعة القواعد الموضوعية فقط الخاصة بالتجريم والعقاب. والتي تعني فقط الدور المزدوج لهذا لقواعد هذا الشق، حيث تبين من جهة، الأفعال والتصرفات المجرمة، ومن جهة ثانية، ردة الفعل الاجتماعي إزاءها أو في مواجهتها، سواء كان ذلك بعقوبة أو تدبير من تدابير الأمن أو التدابير الاحترازية[7].
        ويرى البعض، بأن الدور المزدوج لقواعد قانون العقوبات، هي التي تبين الاختلاف الفقهي والتشريعي الحاصل حول تسمية هذا القانون، وهي التسميات التي تعبر فعلا عن ماهية هذا القانون، حيث يمكن القول بأن الجريمة أيا كان نوعها والجزاء أيا كان نوعه، وجهان لعملة واحدة، فالتعبير بالجريمة يعني أنه هناك جزاء مقابل، والتعبير بالجزاء يعني أن هناك جريمة قد وقعت، حيث لا جريمة دون جزاء، ولا جزاء دون وقوع جريمة، من حيث المبدأ. غير أننا نفضل تسمية القانون الجنائي – والدليل على ذلك تسمية المادة التي نحن بصدد دراستها – على تسمية قانون العقوبات، حيث بإمكان التسمية الأولى أن تشمل الشق الإجرائي بالإضافة إلى الشق الموضوعي، في حين أن تسمية قانون العقوبات، في رأينا تشمل الشق الموضوعي فقط دون الشق الإجرائي. وبالتالي يمكننا القول بأن مسألة التسمية تقودنا لدراسة محتوى هذا القانون، وهو موضوع دراستنا في الفرع الموالي.

المطلب الثاني
محتوى القانون الجنائي
        يجمع الفقه في عمومه، على أنه لقانون العقوبات نوعين من المحتوى، محتوى قانوني وهو أساس والهدف المباشر لهذا الفرع القانوني، ومحتوى علمي وهو محتوى غير مباشر منه تستمد القواعد القانونية المنظمة لشقي التجريم والعقاب. وهو ما نبينه باختصار في الفرعين التاليتين.

الفرع الأول
المحتوى القانوني للقانون الجنائي

        تكمن مهمة قانون العقوبات بالدرجة الأولى، في تبيان الأفعال التي يرى المشرع أنها تضر بالمصلحة العامة وبالنظام العام القائم[8]، ويضع قائمة بها، وهي التي تشكل بذاتها فرعا من فروع القانون الجنائي، ويسمى ب:" القانون الجنائي الخاص"، أو القسم الخاص من القانون الجنائي أو قانون العقوبات، وهي القسم الذي يبين كل جريمة على حدا وما يميزها من أركان وظروف وعناصر، وما يتقرر لها من عقوبات
أو تدابير احترازية أو أمنية. وإلى جانب القواعد السابقة، هناك مجموعة أخرى من القواعد التي تحدد القواعد والمبادئ العامة التي تحكم القانون الجنائي في مجمله، من أركان عامة للجريمة، وقواعد المسؤولية الجنائية وموانعها، وتصنيف الجرائم، وأسباب الإباحة، وموانع العقاب... وهي مجموعة القواعد التي تشكل فرع من فروع القانون الجنائي، المسمى بالقسم العام، أو القانون الجنائي العام، الذي يعد موضوع دراستنا في هذا البحث. غير أن تطبيق الفرعين السابقين من فروع القانون الجنائي، يقتضي إجراءات معينة بموجبها تتدخل الدولة عن طريق أجهزتها من وقت ارتكاب الجريمة لغاية توقيع العقوبة على مقترفها، وتبين ماهية هذه الأجهزة، وطرق تدخلها وكيفيات ذلك، وهو القسم المسمى بقانون الإجراءات الجزائية[9].
        وبالتالي يتحدد المحتوى القانوني للقانون الجنائي، أو قانون العقوبات، بثلاثة فروع قانونية فرعية يتضمنها هذا القانون، وهي القسم العام، أو القانون الجنائي العام[10]، والقانون الجنائي الخاص[11] – المقرر في برنامج السنة الثالثة حقوق إلى جانب علم الإجرام- وقانون الإجراءات الجزائية أو الجنائية[12]، المقرر في السداسي الثاني من السنة الثانية حقوق. وهي أقسام وفروع تتكامل فيما بينها، لتشكل في الأخير الجزء الكبير من السياسة الجنائية والعقابية للدولة، من حيث تبيانها للتجريم وما قرر من عقوبات، والأحكام والمبادئ العامة التي تحكم العمليتين – التجريم والعقاب-، بالإضافة إلى قواعد إجرائية تنقل الشق السابق من حالة السكون إلى حالة الحركة، أو من الحالة النظرية المجردة، إلى الحالة الواقعية العملية. هذا من ناحية.
        ومن ناحية ثانية، يتحدد المضمون القانوني لقانون العقوبات، في كونه وبالإضافة إلى احتواءه لقسم عام وآخر خاص، أنه هناك قوانين عقوبات تكميلية وأخرى خاصة.
فقانون العقوبات التكميلي، يجد علته في كون القسم الخاص من قانون العقوبات لا يتضمن كل الجرائم التي قررها المشرع، فهناك عدد كبير من الجرائم نصت عليها قوانين أخرى مستقلة، مثل قانون المنافسة والأسعار وقانون الصحة والقانون الجمركي ...وهي مجموعة القوانين التي يطلق عليها مصطلح قانون العقوبات التكميلي أو القوانين الملحقة بقانون العقوبات، مما يستتبع بالضرورة خضوعها للأحكام العامة المتضمنة بالقسم العام لقانون العقوبات.    ولجوء المشرع إلى هذه الطريقة المتمثلة في التجريم والعقاب بموجب نصوص قانونية مستقلة، يجد أساسه في عدم قدرته على حصر كل الجرائم في موضوع واحد هو قانون العقوبات، خاصة إذا كانت هذه الجرائم تحمي مصالح متغيرة أو طارئة تخضع للتعديل والتغيير كلما دعت الضرورة لذلك، في حين أن قانون العقوبات يتسم بالاستقرار النسبي، لذا فهو يجرم في العادة الأفعال الشائنة والمستهجنة في المجتمع في كل وقت من الأوقات ولا يتدخل إلا في حال تغيرات اقتصادية
 أو اجتماعية أو علمية حديثة توجب إلغاء بعض الجرائم أو إدراج البعض الآخر.
        وأما قوانين العقوبات الخاصة، فهي حسب الفقه طائفة ثالثة من الجرائم، التي يتم النص عليها في قوانين خاصة، اصطلح على تسميتها بقوانين العقوبات الخاصة، منها قانون العقوبات العسكري وقانون العقوبات الاقتصادي وقانون العقوبات التجاري. وأصبحنا نسمع بقانون العقوبات الإداري وقانون الجنائي الدستوري...، وهي كلها قوانين تحمي مصالح تتميز بطابع خاص يبرر إخضاعها لقواعد قانونية خاصة، سواء من الناحية الموضوعية أو من الناحية الإجرائية، كونها تخضع لبعض الأحكام التي قد تختلف كلية
أو جزئيا عن الأحكام العامة الموضوعية والإجرائية، لكن العلاقة بينهما تظل قائمة ويجب الرجوع للأحكام العامة في كل حالة لم يرد بشأنها نص في هذه القوانين الجنائية الخاصة، تطبيقا لقاعدة الخاص يقيد العام. ولتجنب الخلط بين القوانين الجنائية الخاصة والقوانين التكميلية لقانون العقوبات العام، يدرج الفقه الفرقين الأساسيين التاليين: 
1- القوانين المكملة لقانون العقوبات، تحمي مصالح من ذات نوع وطبيعة المصالح المحمية بموجب القسم الخاص من قانون العقوبات، مما لا يجيز الخروج بشأنها عن الأحكام العامة المنصوص عليها بالقسم العام لقانون العقوبات، في حين تحمي قوانين العقوبات الخاصة مصالح وحقوق تتميز بطبيعة خاصة تستوجب الخروج نوعا ما ( بصفة كلية أو بصفة جزئية) عن الأحكام العامة لقانون العقوبات سواء في قسمه الموضوعي أو في قسمه الإجرائي .
2- الجرائم المنصوص عليها في قوانين العقوبات التكميلية، تخضع بحسب الأصل للأحكام العامة الواردة بالقسم العام لقانون العقوبات، إلا إذا نص فيها على ما يخالف ذلك، أما قوانين العقوبات الخاصة فتضم أحكامها الموضوعية والإجرائية الخاصة بها، ولا يرجع فيها إلى الأحكام العامة إلا في الحالات التي لا يرد فيها نص خاص.

الفرع الثاني
المحتوى العلمي للقانون الجنائي
        حتى يستطيع القانون الجنائي أن يحقق أهدافه على أتم وجه، يجب أن يستعين بالعلوم الحديثة وما تقدمه له من مساعدة مبنية أساسا على معطيات علمية، من أهم هذه العلوم المسماة بالعلوم الجنائية المساعدة،  علم التحقيق الجنائي وعلم الإجرام، اللذان يعدان ركائز العلوم الجنائية أو السياسة الجنائية بصفة عامة. وإن كان يستفيد القانون الجنائي أيضا ببعض العلوم الأخرى حتى وإن كانت من طبيعة غير جنائية، كعلم النفس وعلم الاجتماع، والعلوم الاقتصادية وغيرها من العلوم الإنسانية، خاصة وأن الجريمة بدورها ظاهرة إنسانية، فهمها يقتضي فهم السلوك الإنساني ككل، وذلك لا يتسنى إلا بالاستعانة بكل هذه العلوم في رسم السياسة الجنائية. وهو ما نبينه باختصار في النقاط التالية. والتي لا نقصد بها علاقة قانون العقوبات بباقي فروع القانون الأخرى، التي سنتناولها في نقطة مستقلة، وإنما هي علوم متضمنة بطريقة غير مباشرة في إطار هذا القانون ذاته. والمسماة بالعلوم الجنائية نسبة لهذا الفرع القانوني، ويقصد بها تلك العلوم التي تبحث في الجريمة والمجرم، من حيث تحديد أسباب الإجرام وصفات المجرم ووسائل معالجته وتقويمه، وأهداف العقوبة وأغراضها، وبالتالي نقطة الاشتراك بينها وبين القانون الجنائي، هي الاهتمام المشترك بالجريمة والمجرم والعقوبة، والأهم مكافحة الجريمة، وهي المحاور الأساسية للقانون الجنائي وسبب وجوده. غير أن وسيلة القانون الجنائي في مكافحة الجريمة، هي تحديد الأعمال المجرمة وتقدير الجزاء المناسب لها، بينما وسيلة العلوم الجنائية، هي البحث العلمي القائم على الدراسات التجريبية القائمة على الملاحظة واستخلاص النظريات والقوانين العلمية التي تحكمها، والتي تجعل من المشرع الجنائي يضع النصوص القانونية وفق سياسة جنائية معينة التي تعد محصلة النتائج العلمية التي توصلت إليها العلوم الجنائية[13]. وسنبين أهم هذه العلوم في النقاط الثلاث التالية.
أولا: علـــم الإجرام
        علم الإجرام، هو العلم الذي يدرس الجريمة كظاهرة اجتماعية، ويتناول بالتحليل والبحث أسباب الجريمة ودوافعها المختلفة، والذي يشمل أيضا ثلاثة فروع من العلوم، هي علم طبائع المجرم، ويتناول بالدراسة أسباب الجريمة الكامنة في تكوين الجاني الخلقي والجسدي، وعلم النفس الجنائي، وهو العلم الذي يهتم بالبحث في الأسباب النفسية الدافعة لارتكاب الجرائم، وتطور الفكرة الإجرامية في نفسية الجاني، بالإضافة إلى علم الاجتماع الجنائي، وهو العلم الذي يركز على أسباب الجريمة الراجعة إلى المجتمع والظروف الاجتماعية المحيطة بالجاني، بالإضافة إلى علم آخر تفرع عن علم الإجرام، وهو علم الإجرام الإكلينيكي، الذي يركز على دراسة كيفية فحص الجاني جسديا ونفسيا وعقليا، للتعرف على أسباب انحرافه[14]. خاصة وأن علماء الإجرام لهم معاييرهم لاكتشاف تصرفات وسلوكات الأفراد، ودراسة الجريمة دراسة علمية من حيث أسبابها وطرق مكافحتها، ومن هنا كانت العلاقة والاستفادة بين القانون الجنائي وعلم الإجرام علاقة تعاونية أو تبادلية، حيث أن المعطيات الأولية، من تعريف للجريمة، وتقديم المادة البشرية الأساسية موضوع الدراسة والبحث والتحليل، ورسم القيود والحدود التي يتعين على علم الإجرام عدم تعديها في دراسته للمجرم، ومنعهم من التدخل في الشؤون القانونية وخاصة الجنائية[15].
ثانيا: علــــم العقاب
        علم العقاب، هو العلم الذي يهتم بدراسة أهداف العقوبة والتدابير وتحديد أغراضها الاجتماعية، ودراسة القواعد والأساليب الكفيلة بتحقيق أغراضها، ودراسة أساليب تقويم الجناة أثناء فترة تنفيذ العقوبة
أو التدبير، كما وهو العلم الذي يعني مجموعة القواعد التي تحدد الأساليب التي تتبع في تنفيذ العقوبات والتدابير الاحترازية، حتى تحقق الغرض الذي يستهدفه المجتمع منها، في إطار الفلسفة التي يتبناها ويعمل في إطارها.
ثالثا: علــم (التحقيق الجنائي)  البوليس الفني
        وهو العلم الذي يهتم بدراسة تحديد الجاني والتعرف على مرتكب الجريمة وكيفية وقوعها، بدءا من دراسة البصمات، وكيفية رفع آثار الجريمة، وفحصها وتحليلها... وهو علم شهد تطورات مذهلة في السنوات الأخيرة[16]، حيث استفاد كثيرا بالتطورات العلمية والتكنولوجية التي وفرتها للبحث الجنائي، سواء فيما يتعلق بدراسة مسرح الجريمة، أو التعرف على الجناة، من وجود لفكرة البصمات الوراثية، والأدلة الإلكترونية والمعلوماتية والبيولوجية...وعلم التحقيق الجنائي يضم في الواقع العديد من التخصصات التي تتعاون في مجملها لأجل اكتشاف الجريمة ومرتكبيها، ففي إطار هذا العلم، هناك " الطب الشرعي" الذي ساعد على اكتشاف أسباب الوفاة مثلا ووقتها، ومدى وقوع الاعتداء من عدمه، وطريقة هذا الاعتداء وما إن كان عن طريق العنف أو غيره، وأي وسيلة كانت سببا في إحداث الجريمة، والتعرف حتى على المجني عليهم والجناة على حد سواء، سيما في ظل استفادة هذا العلم من التطورات العلمية الحاصلة في الثورة البيولوجية والمعلوماتية. كما يوجد " علم السموم" الذي يساعد على التحقق من أن مادة معينة أو مخدر ما كان السبب في حدوث الجريمة، وتحليل المواد المخدرة في جرائم المخدرات، كما يوجد ما يسمى بعلم البصمات[17]، وما يسمى " بالشرطة العلمية" وهي كلها علوم تسهل من مهام رجال البحث والتحري، والقاضي في إصدار حكمه. كما يستعين القانون الجنائي بالكثير من العلوم الأخرى، مثل علم الاجتماع القانوني، الذي يهدف إلى دراسة الواقع الاجتماعي للقانون منذ نشأته مرورا بمختلف مراحل تطوره، وكذا العوامل والظروف المحيطة بإصدار التشريعات العقابية ودراسة آثارها الاجتماعية، والعوامل الاجتماعية التي تؤثر في إصدار القوانين وعمل أجهزة العدالة، وهو بذلك يلعب دورا بارزا في تقديم الحقائق الاجتماعية بطريقة موضوعية للمشرع لكي يصدر بناء عليها قوانينه، مما يكفل علاقة الصلة بين القانون والمجتمع الذي نشأ لتنظيمه، وكذا علم الإحصاء، الذي يعتني بإعطاء حقائق رقمية للمتخصصين في التشريع حتى يكنوا على دراية واقعية بكل ما يتصل بالجريمة والمجرمين، من عدد الجرائم والمجرمين أو دراسة نوعية معينة منهم، ومدى انتشار الجريمة في زمان ما أو مكان ما ... خاصة وأن الدراسات الإحصائية من أفضل السبل للحكم على نجاح السياسة الجنائية.

المبحث الثاني
الطبيعة القانونية لقانون العقوبات
        المقصود من تحديد طبيعة قانون العقوبات، البحث فيما إذا كان يعد فرعا من فروع القانون العام أو فرعا من فروع القانون الخاص، وعموما، البحث في موقع هذا الفرع الهام من فروع القانون بين فروع القانون الأخرى التي تشكل النظام القانوني لأي دولة؟ خاصة إن كنا نعلم، أن النظام القانوني، هو مجموعة من القواعد القانونية التي تنظم مجموعة من المصالح، هذه الأخيرة التي قد تكون عامة كما قد تكون خاصة،  ووفقا لذلك ينقسم القانون إلى قانون عام وقانون خاص، فإذا كانت المصلحة التي تحميها القاعدة القانونية مصلحة عامة، كنا بصدد فرع قانوني عام، وإن كانت المصلحة المراد حمايتها مصلحة خاصة أو فردية، كنا بصدد فرع قانوني خاص، وبذلك يكون القانون العام عبارة عن مجموعة القواعد القانونية التي تحمي المصالح العامة وتنظم العلاقات العامة، كالقانون الدستور، والقانون الإداري، والقانون المالي أو الجبائي أو الضريبي، والقانون الدولي العام، بينما القانون الخاص، هو مجموعة الفروع أو القواعد القانونية التي تنظم العلاقات فيما بين الأفراد، وتحمي مصالحهم، كالقانون المدني، والقانون التجاري الذي يهدف إلى تنظيم طائفة من أفراد المجتمع وهم التجار، ونوع محدد من الأعمال وهي الأعمال التجارية، وقانون الأسرة الذي يهتم بشؤون هذه الأخيرة... وبالتالي السؤال السابق، وإن طرحناه بصيغة أخرى، ما موقع القانون الجنائي من تقسيمات القانون، فهل قواعد قانون العقوبات تحمي مصالح عامة، وبالتالي هو فرع من فروع القانون العام، أم يقتصر دوره على حماية مصالح فردية خاصة، وبالتالي هو فرع من فروع القانون الخاص؟ وهو السؤال الذي نرى بأن الإجابة عليه تكون بتناول علاقة قانون العقوبات بكل فروع القانون، سواء الخاصة
أو العامة منها، لنحكم بعدها عن طبيعة قواعده وموقعها من هذا التقسيم، أم تتنوع أصلا بذاتية واستقلالية تميزها عن سائر القواعد القانونية الأخرى. أم مجرد قانون مكمل لباقي فروع القانون الأخرى ولا يمكنه أن يتدخل ويلقى مجالا للتطبيق إلا عند عجز هذه القوانين عن كفالة حماية قانونية فعالة لقواعدها وأحكامها. وذلك من خلال مطلبين، نتناول في الأول، علاقة قانون العقوبات بفروع القانون الأخرى بمختلف تقسيماتها، وفي الثاني تحديد مكانة هذا القانون في النظام القانوني للدولة. على أن نخصص الثالث، وعلى غير العادة، لخصائص هذا القانون وأهدافه، ونقول على غير العادة، كونه جرت العادة على أن يتم تناول الخصائص ضمن المفهوم. لكن لطبيعة هذا القانون تركنا تناول الخصائص إلى ما بعد تحديد طبيعة هذا القانون التي بإمكانها أن توضح بذاتها العديد من خصائص هذا القانون وكذا أهدافه المرتبطة بهذه الخصائص.

المطلب الأول
علاقة قانون العقوبات بفروع القانون الأخرى
        سنحاول من خلال هذا الفرع، وباختصار، أن نحدد علاقة قانون العقوبات بكل فروع القانون الأخرى، سواء كانت عامة أو خاصة، ومن خلال ذلك يمكننا الحكم عن طبيعته وما إن كان قانونا عاما
أو خاصا، أو له ذاتية واستقلالية تميزه عن سائر الفروع الأخرى. وذلك من خلال الفروع التالية. أين نتناول علاقة قانون العقوبات بفروع القانون العام، في فرع، وفي آخر، علاقته بفروع القانون الخاص، وما دمنا بصدد تحديد العلاقات، فإننا نخصص فرعا لعلاقة قانون العقوبات بقواعد الدين والأخلاق.

الفرع الأول
علاقة قانون العقوبات بفروع القانون العام        
        بالاطلاع على محتوى غالبية الفروع القانونية التي تعد من القانون العام، نجد بأن لقانون العقوبات علاقة مباشرة ووطيدة بمختلف هذه الفروع، حيث أنه وبالاطلاع على القانون الدستوري – كأهم القوانين العامة في الدولة- نجد بأن القانون الجنائي هو المخول للحماية أهم المبادئ والأحكام التي يتضمنها القانون الدستوري، سواء تعلق الأمر بالحقوق والحريات، حيث أن القانون العقوبات يجرم كل الأفعال والسلوكات التي تمثل اعتداء على هذه الأخيرة[18]، وسواء تعلق الأمر بحق الدولة في الاحتفاظ بشكل الحكم، حيث يعاقب قانون العقوبات على جرائم الخيانة والتجسس وكل أنواع الاعتداءات التي تمس بأمن الدولة سواء من جهة الداخل أو من جهة الخارج[19]، كما يجرم كل الاعتداءات الواقعة على الاقتصاد والدفاع الوطنيين[20]، وتجريم كل الاعتداءات والمؤامرات ضد سلطة الدولة وسلامة أرض الوطن[21].... وهي أمور تبين بكل وضوح العلاقة الوطيدة بين القانونيين الجنائي والدستوري، الذي يعد أهم القوانين العامة في الدولة أيا كان شكل الحكم فيها، ومثل هذه العلاقة الوطيدة جعلت الفقه ينظر لفرع قانوني جديد سماه ب :" القانون الجنائي الدستوري"[22]
        أما بخصوص القانون الإداري، الذي يعد من أهم القوانين العامة للدولة، والذي عن طريقه تسير الدولة مصالحها ومرافقها، نجد لقانون العقوبات علاقة جد وطيدة به، باعتباره يجسد حماية جد فعالة من الاعتداءات التي تكون السلطة الإدارية أو الإدارة العامة عرضة لها، بدءا من ضمان سير المرافق العامة وتنظيم ممارسة السلطة الإدارية في الدولة والرقابة على الموظفين وضمان احترامهم لحقوق وحريات الأفراد، ضمن ما سماه المشرع الجزائي ب:" تواطؤ الموظفين"  ( المواد من 112 حتى 115)، والرقابة على السلطات الإدارية والقضائية وحدود ممارستهما لسلطاتهما ( المواد من 116 حتى 118)، الاختلاس والغدر[23]، الرشوة واستغلال النفوذ باعتباره من جرائم الموظفين، إساءة استعمال السلطة ضد الأفراد والأشياء العمومية ( المواد من 135 حتى 142)، وهي كلها تهدف إلى ضمان احترام السلطات لمهامها، وفي المقابل هناك جرائم من خلاقها يحمي قانون العقوبات الموظف، ويجعله يؤدي مهامه في ظل من الحماية الفعالة، كحمايته من أفعال الإهانة والتعدي ( المواد من 144 حتى 148)، حماية أختام الدولة ( المادة 155 وما بعدها)، وهي كلها أمور تبين لنا العلاقة الوطيدة بين القانون الإداري القانون الجنائي، للدرجة التي بدأ فيها البعض أيضا ينظر لقانون عقوبات إداري. 
        وعلى العموم لقانون العقوبات علاقة وطيدة بمختلف فروع القانون العام، سواء تعلق الأمر بالقانون الضريبي أو الجبائي وما قرره من تجريم لأفعال التهرب والغش الضريبي، والقانون المالي وما يقرره من تجريم للاعتداءات الواقعة على هذا المال، كما تظهر علاقته الوطيدة بالقانون الدولي العام، وذلك من خلال فرعين قانونيين هامين، هما القانون الجنائي الدولي، الذي ينظم العلاقات الجنائية فيما بين الدول، خاصة في مجال تسليم المجرمين وطرد الأجانب والتعاون الدولي لمكافحة الجرائم... وفرع قانوني آخر حديث نسبيا، وهو القانون الدولي الجنائي، الذي ينظم جملة من الأفعال التي تشكل جرائم ماسة بكل الدول، والتي تسعى لمكافحتها على النطاق العالمي الواسع في إطار نوع من التنسيق والتعاون، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم المخدرات بمختلف أنواعها، والاتجار بالرقيق، وعموما كل أنواع الإجرام الدولي المنظم[24].
        وبالتالي يمكن القول مما سبق، بأنه للقانون الجنائي علاقة جد وطيدة مع كل فروع القانون العام في الدولة، الأمر الذي جعل الرأي الفقيه الجنائي الغالب يستقر عليه، ودون البحث في علاقة قانون العقوبات بفروع القانون الخاصة، معتبرا هذا القانون جزء من النظام القانوني العام للدولة، وهو النظام الذي تتضامن قواعده فيما بينها لتنظيم المجتمع، وحماية المصالح الاجتماعية العامة، وتنظيم علاقات ذات طبيعة عامة، سواء كانت بين مؤسسات الدولة فيما بينها، أو بين هذه المؤسسات والأفراد، وبالتالي القانون الجنائي، شأنه شأن القانون الدستوري والقانون الدولي العام، والقانون الإداري والقانون المالي، من فروع القانون العام. غير أننا سنحاول رغم ذلك محاولة استقراء علاقة قانون العقوبات بفروع القانون الخاصة، حتى لا يفهم من الكلام السابق أن هذه العلاقة منعدمة.

الفرع الثاني
علاقة قانون العقوبات بفروع القانون الخاص
        من أهم فروع القانون الخاص في كل النظم القانونية، نجد القانون المدني الذي يعد الشريعة العامة للقوانين الخاصة، والذي تفرعت عنه باقي القوانين الأخرى، ومنها القانون التجاري وقانون الأحوال الشخصية، وهي الفروع التي تقتصر دراستنا عليها في تبيان علاقتها بقانون العقوبات. فبخصوص القانون المدني وما ينظمه من حقوق مثل الملكية والحيازة والعقود، نجد بأن قانون العقوبات يوفر حماية لكل هذه المواضيع التي تعد من صمم اهتمامات القانون المدني، فهو يحمي الملكية سواء المنقولة منها أو العقارية من أفعال السرقة والنهب والنصب وخيانة الأمانة والإتلاف والحرق ومن كل أشكال التعدي الأخرى، ويحمي العقود من التزوير... وبالتالي قانون العقوبات هو الموفر للحماية القانونية الفعالة للنظم المقررة في التقنين المدني، وبالتالي العلاقة بينهما جد ظاهرة.
        وبخصوص القانون التجاري المنظم لفئة التجار وأعمالهم التجارية ووسائل قيامهم بمهاهم المتمثلة في الأوراق التجارية، نجد بأن قانون العقوبات يحمي هذه الأوراق من التزوير، ومن كل أفعال تنال من الثقة المفروضة فيها، كما يحمي العلامات التجارية والمنافسة، ويعاقب على انعدام الفواتير ومخالفة الأسعار... الأمر الذي يبين أيضا العلاقة المتينة بين القانونين.
        وبخصوص قانون الأحوال الشخصية، نجد بأن قانون العقوبات هو المقرر للحماية الجنائية للأسرة من خلال تجريم الاعتداءات التي تشكل تهديدا لها، مثل تجريمه للأفعال التي تشكل هتكا لعرض الأسرة، كجريمة الزنا وهتك العرض، ويحمي البناء من خلال تجريمة لفعلي الإهمال والترك وعدم دفع النفقة المقررة، وتعريض حياة القصر للضياع... بل نجد قانون العقوبات قد خصص فصلا كاملا للجنايات والجنح التي ترتكب ضد الأسرة في المواد من 304 إلى 309 منه. وتبرز هنا أيضا العلاقة الظاهرة بينه وبين قانون الأسرة.
        وبالتالي نتوصل إلى القول بأنه لقانون العقوبات علاقة بسائر فروع القانون الخاص، مثلما وجدنا بأنه له علاقة مع سائر فروع القانون العام، الأمر الذي لا يمكننا حتى هذه اللحظة من الحكم على طبيعة هذا القانون وما إن كان فرعا قانونيا عاما أم فرعا قانونيا خاصا؟ وهو السؤال الذي يقودنا لنقطة ثانية نبحث من خلالها عن مكانة قانون العقوبات في النظام القانوني للدولة. وهو موضوع دراستنا في المطلب الثاني، غير أننا ما دمنا بصدد تحديد علاقة قانون العقوبات بمختلف فروع القانون، فإننا لا تود أن نفوت علاقته بقواعد الدين والأخلاق.

الفرع الثالث
علاقة قانون العقوبات بالدين والأخلاق
        تفرض كل من قواعد الدين والأخلاق، مجموعة من الواجبات والالتزامات على الفرد نحو ربه ونحو غيره من الأفراد، ونحو نفسه أيضا، وعادة ما تقوم مثل هذه الالتزامات والواجبات على أساس مبادئ البر والإحسان والخير والعدالة، وكل ما يهدف إلى سمو النفس البشرية، وذلك تحت التهديد بمجموعة من الجزاءات غير القانونية، منها الجزاءات الدينية، أو في استهجان الرأي العام أو حتى ذاتية، تتمثل في وخز الضمير، لذا فعلاقة قواعد الدين والأخلاق تأثير كبير لا ينكر على قواعد قانون العقوبات، حيث كثيرا ما يستلهم منها المشرع الجنائي بعض قواعد التجريم والعقاب، كما أنه بها يستهدي القاضي ويسترشد عند تقييمه للمسؤولية وتقديره للعقاب، وعليه فعلاقة الالتقاء بين الدين والأخلاق وقانون العقوبات أيضا وثيقة في مجال علاقة الفرد بغيره من الأفراد، وإن كان لكل من القواعد مجاله ونطاقه. بالرغم من وجود علاقة تعارض بينهما أحيانا، حيث قد يهتم قانون العقوبات ببعض المجالات التي لا تهتم بها قواعد الدين والأخلاق، مثل قواعد المرور، كما قد تهتم قواعد الدين والأخلاق ببعض المجالات التي لا يهتم بها قانون العقوبات، مثلما هو الشأن بالنسبة لجريمة الزنا إلا في بعض الجوانب الوضعية المبتدعة. وهو ما جعل بعض الفقه، يرى أن دائرة قانون العقوبات لا تتطابق مع دائرة قواعد الأخلاق، فهي أضيق منها من وجه، وأوسع منها من وجه آخر، وإن كان هناك منطقة تؤثر فيها قواعد الدين والأخلاق على قواعد قانون العقوبات.               

المطلب الثاني
مكانة قانون العقوبات في النظام القانوني للدولة
        بعد إجرائنا للعلاقة الموجودة بين القانون الجنائي ومختلف فروع القانون الأخرى، سواء كانت عامة أو خاصة، تبين لنا أن علاقته موجودة بكل فرع القانون هذه أيا كانت طبيعتها، مما يجعلنا لم نجب بدقة عن السؤال ولم نحدد طبيعته. وهو ما أثار جدلا فقهيا واسعا بين اتجاهين، يرى أحدهما بأن قانون العقوبات ما هو إلا فرع من فروع القانون العام، والثاني، يرى أنه فرع من فروع القانون الخاص، ولكل من الاتجاهين حججه، وهو الخلاف الذي نتناوله باختصار في فرع، لنتناول في آخر الاتجاه الغالب في الفقه.

الفرع الأول
الخلاف حول مكانة قانون العقوبات
        انقسم الفقه بخصوص مكانة قانون العقوبات بين قائل بأنه فرع من فروع القانون العام، وآخر قائل بأنه فرع من فروع القانون الخاص، ولكل اتجاه حججه وأسانيده، والتي نحاول تناولها باختصار في النقطتين التاليتين[25].
أولا:  قانون العقوبات فرع من فروع القانون العام
يرى أنصار هذا الاتجاه، أن قانون العقوبات حتى وإن كانت له علاقة بفروع القانون الخاص، لأنه تطبيقه يمس العلاقة بين الفرد والدولة وأن المتهم في الدعاوى الجزائية يحاكم باسم الشعب، وأنه غالبية الأفعال التي يعاقب عليها موجهة ضد مصالح المجتمع، كجرائم أمن الدولة، وجرائم اختلاس المال العام ورشوة الموظفين، وهي المواضيع التي لا جدل حول اعتبارها مواضيع من القانون العام، وأن الجرائم التي يظهر أنها تمثل مصلحة للأفراد،  كالقتل والضرب والسرقة، فهي جرائم تمس بطريق غير مباشر مصلحة المجتمع أيضا، كون هذه الأخيرة تقتضي تأمين حقوق أفراده الأساسية مثل حقهم في الحياة والسلامة الجسدية والملكية، وأن تأمين هذه الحقوق الخاصة تشكل في مجموعها تأمين مصالح المجتمع الأساسية. وبالتالي، تكون المصالح التي يحميها قانون العقوبات دوما مصالح اجتماعية عامة، حتى وإن تضمنت بالتبعية حماية حقوق يظهر أنها خاصة. كما يعد القانون الجنائي من فروع القانون العام، بالنظر لزاوية العلاقات التي ينشئها بعد وقوع الجريمة، والتي ترتب قيام حق الدولة كممثلة للمجتمع في متابعة مرتكب الجريمة ومعاقبته، عن طريق جهاز عام وهو جهاز النيابة العامة، مما يجعل قانون العقوبات بكل قواعده فرع من فروع القانون العـــــام.
ثانيا: قانون العقوبات فرع من فروع القانون الخاص
        على عكس الاتجاه الأول، يرى أنصار هذا الاتجاه، بأن قانون العقوبات أقرب للقوانين الخاصة، سيما إذا نظرنا للتلازم الدائم بين الدعوى العمومية والدعوى المدنية التبعية، وأن معظم نصوصه تجرم وتعاقب حقوقا خاصة بالأفراد وتتدخل كلما عجزت القوانين الخاصة عن فرض الحماية الكافية لأحكامها، وبالتالي الجدل الفقهي لم يفصل في طبيعة قانون العقوبات، هنا ظهر اتجاه غالب في الفقه، رأى أنه لقانون العقوبات ذاتية واستقلالية عن كل فروع القوانين، سواء كانت خاصة أو عامة. وهي المسألة التي نتناولها في الفرع الموالي.

الفرع الثاني
ذاتية قانــــون العقوبات
        يرى غالبية الفقه فصلا للجدل السابق، أن قانون العقوبات وبالرغم من علاقته بكامل فروع القانون الخاص، إلا أنه فرع من فروع القانون العام في الدولة، غير أنه يختلف عنها باستقلاله عنها، وبذاتية تميزه عن غيره من فروع القانون العام الأخرى، وليس مجرد حارس للقوانين الأخرى سواء كانت عامـــــة أو خاصة. فوظيفة القانون الجنائي داخل النظام القانوني للدولة، ليست مجرد وظيفة احتياطية باعتباره يتضمن قواعد جزائية تتدخل في حالة عجز القوانين الأخرى على بسط حماية لنفسها، فيتدخل لفرض الاحترام لهذه القواعد، مما يجعله قانون تابع لغيره ذو طبيعة احتياطية تدخله مرهون بعجز القواعد الأخرى، الأمر الذي يجعله مجرد حارس أو شرطي للقوانين الأخرى، يتم الاستنجاد به فقط في حالة عجز القواعد الأخرى[26]. وإن كان هذا القول يعد جزءا من الحقيقة، غير أنه ليس الحقيقة كلها، كون القانون الجنائي يشكل وحدة قانونية تتشكل من مجموعة من القواعد القانونية ذات الطبيعة الخاصة، التي لا تشبه أي فرع قانوني آخر، خاصة وأنه يتميز ببعض القواعد التي لم يسبق لباقي القوانين أن عرفتها، ويرتب التزامات تجهلها هذه القوانين، كالالتزام باحترام الآخرين ومساعدتهم، وفكرة الشروع التي في حقيقتها لا تعد اعتداء على أي حق من الحقوق أيا كانت طبيعتها، ويتطلب العمد كقاعدة والخطأ كاستثناء، ويركز في الكثير من الأحيان على بعض الظروف الأخرى، مثل شخصية الجاني والمجني عليه، وزمان ومكان ارتكاب الجريمة، ووسيلة ارتكاب الجريمة، ومثل هذه المسائل ليست ذات أهمية في فروع القانون الأخرى، كما أن القانون الجنائي وإن استعار مفهوما أو فكرة من فرع قانوني آخر، فإنه لا يتقيد بالمفهوم المعطى لها في هذا الفرع من فروع القانون، بل قد يوسع أو يضيق منه بحسب هدفه في حد ذاته بعيدا عن هدف القانون الآخر، كمدلول الملكية والحيازة والشيك والموظف العام، واهتمامه بفكرة الخطورة الإجرامية، وهي كلها أفكار تميزه وتجعل له ذاتية مستقلة عن سائر فروع القانون الأخرى سواء كانت عامة أو خاصة. وإن كان فعلا من القانون العام كونه يهدف بالدرجة الأولى لحماية النظام العام والمصلحة العامة، وهو الأمر الذي انعكس بوضوح على خصائص هذا القانون وأهدافه، التي لا يتميز بها أي قانون آخر سواه، وهي الخصائص التي سنتناولها في الفرع الموالي، مع أهداف هذا القانون، مذكرين بأننا تعمدنا ترك الخصائص لما بعد تحديد الطبيعة وذلك على غير العادة – حيث في الغالب ما تعالج الخصائص مع التعريف ضمن المفهوم-.

المطلب الثالث
خصائص وأهداف قانون العقوبات
        نظرا لطبيعة قواعد قانون العقوبات وما تميز به محتوى وذاتية واستقلالية، جعلته يتميز بجملة من الخصائص التي تعطي لهذا القانون نوع من التميز عن باقي فروع القانون الأخرى، وتؤكد فعلا فكرة ذاتيته واستقلاليته التي توصلنا إليها في النقطة السابقة، وتجعله يحقق أهداف مغايرة تماما للأهداف المتوخاة من باقي فروع النظام القانوني في الدولة، لذا سنحاول أن نتناول هذا الفرع من خلال فرعين، نخصص الأول لخصائص قانون العقوبات، والثاني لأهدافه.

الفرع الأول
خصائص قانون العقوبات
        يتميز قانون العقوبات بجملة من الخصائص التي تميزه عن باقي فروع القانون الأخرى، وتؤكد استقلاليته عنها وتمتعه بذاتية، ومن أهمها، أنه قانون ذو طابع سيادي أحادي المصدر متصف بنوع من الثبات والاستقرار والتعقيد، وهو ما نفصله في النقاط التالية.
أولا:  قانون العقوبات ذو طابع سيادي
        من أهم الخصائص التي ينفرد بها قانون العقوبات عن سائر الفروع القانونية الأخرى، هو طابعه السيادي الذي من خلاله تعبر الدولة عن سيادته على إقليمها وبسط نفوذها عليه، من خلال مبدأ الإقليمية الحاكم لتطبيق هذا القانون كقاعدة – على نحو ما سنراه- ومن خلاله تعبر الدولة عن سيادتها على الأفراد أيا كانت جنسيتهم وتفرض عليهم السلوكات التي تتماشى وأهدافها، وعن طريقه تفرض النظام والاستقرار والأمن داخل المجتمع، كما أنه القانون الوحيد الذي يطبقه القاضي الوطني الذي يمتنع عليه كقاعدة تطبيق قوانين العقوبات الأجنبية.
ثانيا:  قانون العقوبات أحادي المصدر
        نظرا لارتباط قانون العقوبات بسيادة الدولة، وبناءه على مبدأ فريد من نوعه هو " مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات" الذي يقضي بأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص صريح في القانون وأن يكون هذا الأخير صادر عن سلطة مختصة بإصداره وفقا للدستور، ووفقا لإجراءات محددة ومبينة دستوريا مخافتها يترتب عليه بطلان النص. مما يجعل منه قانوني أحادي المصدر، على عكس القانون المدني الذي تقضي المادة الأولى منه بتعدد مصادره، وهي الخاصية التي جعلت من قانون العقوبات يتميز بأخرى ناجمة عنها، وهي أنه قانون جامد.
ثالثا:  قانون العقوبات قانون جامد
        من الخاصية السابقة التي تحصر مصدر قانون العقوبات في النص التشريعي المكتوب، فإن التجريم والعقاب والتعديل والتغيير في أحكامه، يتطلب المرور بمراحل معقدة وطويلة وتتطلب فترة زمنية أطول مما تتطلبه باقي فروع القانون الأخرى، مما يجعله قانون يتميز بالجمود والثبات والاستقرار النسبي. خاصة وأن تجريم فعل جديد أو إلغاء جريمة موجودة يتطلب فترة زمنية طويلة لا نظير لها مع أي قانون آخر.

رابعا: قانون العقوبات ذو طابع إجرائي معقد
        قانون العقوبات مرتبط ارتباطا وثيقا بقانون الإجراءات الجزائية، وآخر يتعلق بتنفيذ الجزاء المحكوم به، وأنه دون هذه القوانين الإجرائية لا يمكن أن يلقى قانون العقوبات التطبيق، حيث لا براءة ولا إدانة إلا بالمرور بمراحل إجرائية طويلة ومعقدة، وأن هذا القانون الإجرائي متعلق فقط بقانون العقوبات، عكس القانون الإجرائي في القوانين الخاصة الذي يحكم كل فروع القانون الموضوعية الخاصة وحتى العامة مثل القانون الإداري – يحكمها جميعا قانون الإجراءات المدنية والإدارية- وهي قوانين لا تحتاج في تطبيقها لهذه القوانين الإجرائية إلا إذا ثار نزاع، عكس قانون العقوبات الذي يوجب اقترانه بالقانون الإجرائي في أي إجراء.

الفرع الثاني
أهداف قانون العقوبات
        بالنظر للذاتية الخاصة التي يتمتع بها قانون العقوبات وطبيعته السيادية، ووضعه الخاص في النظام القانوني للدولة، فإننا نجده يهدف إلى تحقيق مرامي سامية ورئيسية، يمكن لنا أن نوجزها في حماية مصالح المجتمع وتحقيق الأمن والطمأنينة لأفراده، وتحقيق العدالة، كل ذلك عن طريق فكرتي الردع العام والخاص، وهو ما نبينه باختصار في النقاط الأربعة التالية[27]
أولا: حماية المصالح الاجتماعية المشتركة
        يهدف قانون العقوبات أساسا إلى حماية المصالح الاجتماعية المشتركة لجموع الأفراد الذين ينتمون للمجتمع، سواء كانت هذه المصالح جسدية، كالحق في الحياة وسلامة البدن من جرائم القتل والضرب والجرح وكل أشكال الإيذاء الأخرى، أو مادية اقتصادية، كحماية الأموال وكل أنواع الملكية والحيازة من السرقة والنصب والاحتيال والإتلاف... أو أدبية معنوية، كحماية الشرف والاعتبار من جرائم القذف والسب والشتم والتحقير...
ثانيا:  تحقيـق العدالة
        قواعد قانون العقوبات قواعد عامة ومجردة، كونها تهدف إلى تجريم السلوكات التي يرى المشرع أنها ضارة بمصالح المجتمع، دون أن يميز في ذلك بين الأفراد الذين يرتكبونها، مقرا عقوبة واحدة للجميع، ومبينا أحكام تدرج المسؤولية بصفة موضوعية ومجردة، ومراعيا لأوضاع الجناة والمجني عليهم وموازاة ذلك مع مصالح المجتمع، مبنيا على العديد من الأفكار القانونية التي تعد تجسيدا لفكرة العدالة في معناها الواسع، كمبدأ الشرعية ومبدأ مادية الجريمة، وفكرة الذنب أو الإثم، وشخصية المسؤولية والعقوبة... وهو في ذلك يرمي لتحقيق المساواة والعدالة داخل المجتمع، وهي الهدف الذي يقود لهدف آخر لا يقل أهمية وهو توفير الأمن والطمأنينة للأفراد، الذي نتناوله في النقطة الموالية.
ثالثا:  توفير الطمأنينة للأفراد
        يعد قانون العقوبات صدرا لتحقيق الأمن والطمأنينة للمخاطبين بأحكامه، بالنظر لما تتضمنه قواعده من تحديد مسبق لما هو محظور على الأفراد إتيانه، وبناءه على مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات، وهو المبدأ الذي يوفر الأمان للأفراد من تعسف وتحكم السلطة التنفيذية والقضائية، وبناء عليه قررت العديد من المبادئ الأخرى  التي تعد مصدرا للاستقرار النفسي للأفراد أهمها تقادم الجرائم والعقوبات، عدم رجعية نصوص القانون العقوبات للماضي.
رابعا: تحقيق الردع العام والردع الخاص
        الردع العام يتحقق بما تلحقه أحكام قانون العقوبات من تخويف وترهيب لأفراد المجتمع بما تتضمنه من عقوبات، ومن رؤيتهم إنزال هذه العقوبات على الجناة، أما الردع الخاص، فيتحقق بإنزال الجزاء على مقترفي الجرائم كنتيجة لعدم امتثالهم لأوامر ونواهي قانون العقوبات، لتكون مانعا لهم من معاودة الإجرام[28].

الفصل الثاني
تطور قانون العقوبات
        مــر قانون العقوبات في تطوره بالعديد من المراحل، وهي التي ميزت تطور المجتمعات البشرية، وعرف الكثير من التطورات والانقلابات، غير أننا سنركز دراستنا فقط على أهم المراحل التي تساعدنا على فهم مبادئه ومضامينه التي ترسخت اليوم كنظريات. وفي تمييز مراحل تطور قانون العقوبات يمكن القول بأنها ثلاث مراحل أساسية، هي مرحلة المجتمعات القديمة ما قبل ظهور وقيام الدولة، وبعدها مرحلة ظهور هذه الأخيرة وقيامها –الدولة، ثم مرحلة ظهور المدارس الفقهية وأثرها على تطور قانون العقوبات، غير أننا سنحاول أن نتناول هذا التطور ضمن مبحثين أساسيين، نخصص الأول لمحلة ما قبل ظهور المدارس الفقهية، والثاني لتطور قانون العقوبات مع ظهور المدارس الفقهية، كون الأخيرة هي التي ساهمت في تطوره ووصله للشكل الذي هو عليه حاليا.

المبحث الأول
قانون العقوبات في المجتمعات القديمة
        يقصد بالمجتمعات القديمة، تلك المراحل الزمنية الطويلة التي مرت بها المجتمعات البشرية قبل أن تنتظم في شكل دول، وفي هذا الوقت أكد الباحثين أن البشرية عرفت أربعة نظم أساسية، هي نظام الأسرة، نظام العشيرة، نظام القبيلة، ثم فكرة المدينة التي كانت أساسا لقيام الدول. ورغم بساطة تكوين هذه الجماعات البشرية الصغيرة وطريقة عيشها التقليدية، إلا أنها عرفت الجريمة ورد الفعل المقابل ضدها، وهو ما أكدته الكتب السماوية منها الشريعة الإسلامية الغراء، حيث بينت أن أول فعل بشري مثير على وجه الأرض كانت جريمة قتل، حيث قال عز وجل في الآية 29 من سورة المائدة،:" فطوعت له نفسه قتل أخيه فأصبح من الخاسرين" في إشارة إلى قتل ابن آدم " قابيل" لأخيه هابيل. والاهتمام بالجريمة ورد الفعل المقابل، أي الجزاء، كانت النواة الأولى للاهتمام بقانون العقوبات، مثلما هو الأمر عليه اليوم، حيث أن أساس قواعد قانون العقوبات " الجريمة والجزاء" المشكلة للشق الموضوعي للقاعدة الجزائية. وسنحاول تقسيم تطور قانون العقوبات في المجتمعات القديمة إلى مرحلتين أساسيتين، هما مرحلة ما قبل ظهور الدولة، ومرحلة ظهورها، وذلك في المطلبين التاليين، مركزين فقط أهم التطورات التي شكلت ملامح القوانين العقابية المعروفة في العصر الحديث، دون تلك التفاصيل التي انفردت بها هذه المجتمعات ولم يبق لها اثر اليوم.

المطلب الأول
قانون العقوبات في فترة ما قبل ظهور الدولة
        قبل ظهور الدول، عرفت المجتمعات البدائية التقليدية الأولى نظم اجتماعية بسيطة، تمثلت في الأسرة، القبيلة، ثم العشيرة. والتي عرفت بعض النظم والأفكار التي انعكست على مبادئ ونظريات قانون العقوبات، وطورت في مراحل تطوره اللاحقة. وهو ما نحاول الإشارة إليه باختصار وبتناول أهم الأفكار التي جاءت بها هذه التطورات، وذلك في الفرعين التاليين.

الفرع الأول
مجتمع الأسرة وقانون العقوبات
        كانت بداية الاهتمام بقانون العقوبات، وتشكل نواته الأولى، عن طريق الأعراف التي تشكلت بخصوص فكرة " العدوان" ، حيث كان كل اعتداء على فرد من أفراد الأسرة يعد كاعتداء على سائر أفرادها، سواء كان اعتداءا داخليا أو خارجيا من فرد أو أفراد من أسر أخرى، في الحالة الأولى يقرر رب الأسرة الجزاء المقرر على الفرد مقابل اعتداءه على أسرته، والذي قد يصل حد النفي من الأسرة أو القتل، وفي حالة الاعتداء الخارجي كان الجزاء عبارة عن ثأر جماعي[29]. وما يمكن قوله عن هذه الفترة من حياة البشرية، أن الجرائم كانت قليلة وعادة ما تنحصر في جرائم الأشخاص فقط، وعلى الخصوص جريمة القتل، وذلك راجع لبساطة الحياة في تلك المجتمعات وقلة الأموال التي يحتمل الاعتداء عليها، مما انعدم معه جرائم الأموال، وكان رد الفعل على الجرائم التي كانت موجودة غريزيا يتمثل في انتقام المجني عليه أو أهله، على الجاني أو أهله، وهو الانتقام الذي  يساوي أو يفوق – في غالب الأحيان- الضرر الذي لحق بهم، مما جعل من حلقات الانتقام تتسلسل وتتاولى حيث كل انتقام يعقبه انتقام مضاد وهكذا، الأمر الذي يترك بصمة واضحة وكبيرة في مجال تطور قانون العقوبات..

الفرع الثاني
مجتمع العشيرة وقانون العقوبات
        بالنظر لكون العشيرة عبارة عن انضمام بعض الأسر لبعضها البعض[30]، خاصة تلك التي تربط بينها روابط النسب، ورثت العشيرة النظام العقابي الذي كان سائدا في مرحلة الأسرة، وطورته نوعا ما بما يلاءم مصالح العشائر الجديدة، خاصة وأن سلطات رب الأسرة في توقيع الجزاء، انتقلت إلى رئيس العشيرة في حال ما إن كان الجاني ينتمي لهذه العشيرة، وحلت فكرة الانتقام الجماعي" بين أسر العشيرة الواحدة، مما هدد أمن العشائر وأحلوا محله فكرة الطرد من العشيرة حتى لا يعرض وحدتها للخطر، واهتدوا أيضا لفكرة نظام القصاص الذي كان له تأثير كبير في الحد من شهوة الانتقام الفردي والمبالغة في الثأر. غير أنه في حالات الاعتداءات الخارجية بقيت الحروب بين العشائر وسيلة لتوقيع الجزاء والانتقام من جناة العشائر الأخرى، وتفكيرا في الحد من ويلات هذه الحروب اهتدت العشائر لفكرة الدية والصلح، الدية وهي مبلغ من المال تدفعه عشيرة المعتدي لعشيرة المعتدى عليه نظير تنازلها عن الثأر، مما قلل من الحروب التي كانت تثار من حين لآخر بين هذه العشائر، وقربت بينها، الأمر الذي جعلها تتحد في نظم اجتماعية أوسع هي نظم القبيلة والمدن[31]. سيما بظهور الديانات التي ساهمت في هذا التوحد والاندماج، وقوت من سلطات الحكام التي اصطبغت بصبغة دينية، الأمر الذي جعل من الجرائم التي يقرها تصطبغ بصبغة دينية أيضا، وتجعل من العقوبة التي تنزل بالجاني، إرضاء للآلهة قبل أن تكون انتقاما أو ثأرا. مما مكن الكهنة ورجال الدين في التجريم والعقاب. ويمكن القول أن هذا التطور يسمح لنا القول بأن سلطات التجريم والعقاب انتقلت من رب الأسرة إلى رب العشيرة إلى رجل الدين أو الكاهن، وأن العقوبة إرضاء للآلهة قبل أن تكون عبارة عن انتقام أو ثأر من الجاني. ومع ظهور الدول عملت على تعديل مضامين التجريم والعقاب بما يبسط هيبتها ويؤكد هيمنها ويفرض سادتها وسلطانها، وكانت وسيلتها الوحيدة في ذلك قانون العقوبات، وقد كان لها ذلك فعلا.
المطلب الثاني
قانون العقوبات ومرحلة ظهور الدولة
        مع البدايات الأولى لظهور الدولة، عملت الأخيرة على الإبقاء على نظامي الصلح والدية، وتعديلها بما يخدم أهدافها ويحافظ على مصالحها، لذا أول ما قامت به أن جعلت منهما نظامين إجباريين، بعدما كانا في المجتمعات القديمة نظامين اختياريين، وفي شق التجريم عملت على التوسع في الجرائم العامة على حساب الجرائم الخاصة، مما مكنها من القضاء على سلطات رؤساء العشائر والقبائل، وقامت من جديد بتعديل النظم التجريمية والعقابية بما يخدم مصالحها الآنية، ويقوي نفوذها ويحقق أهدافها. وعكس المجتمعات القديمة أين كان الاهتمام بالعقوبة أكثر من الاهتمام بالجريمة، فإنه مع ظهور الدولة انعكس الوضع، وبدأ الاهتمام بالجريمة أكثر من العقاب، فبعدما عملت على إحداث الجرائم العامة الماسة بنظام الدولة، ووسعت من نطاقها على حساب الجرائم الخاصة، ربطت الجريمة بنظام وأمن المجتمع – وهي الفكرة السائدة في النظام الجنائية الحديثة- وبما أن الجريمة مساس وتعريض لمصالح الدولة  وسيادتها للخطر، فإن رد الفعل عليها حق للدولة فقط، لها أن تقرر نوعه ومقداره، وبالتالي أصبح النظام العقابي شأن من شؤون السلطة وحدها دون غيرها. كما ظهرت فكرة الردع ووقاية المجتمع من الإجرام، كأهداف للجزاء الجنائي عوض الانتقام والثأر، والردع قد يكون خاص يتمثل في تكفير الجاني عن إثمه، أو عام يتمثل في تخويف وترهيب باقي أفراد المجتمع، ليتأكد بذلك الدفاع عن أمن وسلامة المجتمع، غير أن هذه الأهداف جعلت الدول القديمة تبالغ في قسوة العقوبات، وهنا ظهرت عقوبات الإعدام بكثرة، مع عقوبات أخرى كثيرة تنطوي على الكثير من صنوف التعذيب، مثل الإحراق وتمزيق الأطراف والتغليل بالسلاسل. الأمر الذي جعل القرون الوسطى، التي شهدت نشأة وظهور الدول تمر بمرحلة سواد حالك في المجال العقابي، في الغالب ما يتجاوزه الشراح الأوروبيين، لإخفاء حقيقة الوضع المأساوي في المجتمعات الأوروبية، من جهة، ولتغطية أفضال الشريعة الإسلامية على المجتمعات من جهة ثانية. خاصة وأنها الشريعة التي أنارت هذه الحقبة التاريخية وطورتها وأرست حضارة ظاهرة لا تخفى معالمها. وهو ما يقدونا إلى تناول فكرة أثر الدين على تطوير قانون العقوبات[32]، من خلال فرعين، نتناول في الأول قانون العقوبات والديانة المسيحية، وفي الثاني الشريعة الإسلامية وأثرها في تطوير قانون العقوبات.
الفرع الأول
قانون العقوبات والديانة المسيحية
        ورثت الدول الأوروبية القوانين الجزائية المصبوغة بصبغة دينية، نتيجة انتشار الديانة المسيحية، وهو الوضع الذي استغلته الكنيسة وحاولت الإبقاء عليه وتدعيمه، ومحاولتها السيطرة على أجهزة العدالة بالنظر لكونها صاحبة الاختصاص، باعتبار الجرائم اصطبغت بصبغة دينية، الوضع الذي جعل الكنيسة تنازع الدولة في مسألة الاختصاص القضائي، والتجريم والعقاب، وهنا انقسم قطاع العدالة إلى قسمين، عدالة كنسية يرعاها رجال الدين، وعدالة دنيوية ترعاها الدولة، ونتج عن ذلك صراع طويل ومرير انتهى في نهاية المطاف إلى تغليب دور المحاكم الدنيوية على حساب المحاكم الكنسية، مما زد من تعسف وتحكم أهواء الحكام، وظلت العقوبات تتصف بالقسوة، ابتلى فيها الناس بعدالة لا ترحم، هدفها وهمها الوحيد ردع الشعوب وتخويفهم وبث الرعب فيهم حفاظا على كيان الدولة، ورغم ذلك بقيت الجرائم والعقوبات تتسم بصبغة دينية، وساد اعتقاد في أوروبا أن أي كارثة أو مشكلة تحل بالمجتمع سببها غضب الآلهة عن الجريمة التي أغضبتها، لذا يجب إنزال أشد العقوبات على من يغضب الآلهة، واعتبرت العقوبة في القانون الكنسي تكفير عن ذنوب الجاني وإرضاء للآلهة. ومما زاد الأوضاع تعقيدا، مبالغة القضاة في إرضاء الحكام، وتكريس الطبقية بين الناس وسيادة اللامساواة، ومما أزم الأوضاع أكثر اعتبار الحكام أنفسهم مفوضون في الأرض للحكم باسم الآلهة، فكانت هذه الفترة في أوروبا في الحقيقة من أسوأ الفترات التي عرفتها العدالة الجنائية وقانون العقوبات على الإطلاق، امتدت لنهاية القرون الوسطى، وبالضبط إلى ما قبل الثورة الفرنسية سنة 1789. غير أن الأمر اختلف في الناحية الثانية من العالم بإطلال فجر الشريعة الإسلامية.
الفرع الثاني
أثر الشريعة الإسلامية في تطوير قانون العقوبات
        على عكس الجانب المظلم للعدالة الجنائية وقانون العقوبات السائد في أوروبا في القرون الوسطى، فإن الجهة الأخرى المقابلة كانت تنعم بتطبيق أكثر النظم القانونية الجنائية إحكاما، حيث كانت تطبق الشريعة الإسلامية، التي نرى أنها على عكس التطورات السابقة، اهتمت بالجريمة قبل اهتمامها بالعقوبة، حيث قسمت الجريمة شرعا إلى ثلاثة أقسام مختلفة لكل منها قواعدها وأحكامها، ولكل نوع منها عقوباتها الخاصة، وأصناف الجرائم في الشريعة الإسلامية هي: جرائم الحدود التي حددت على سبيل الحصر في القرآن الكريم، ويعاقب عليها بعقوبة تسمى الحد المقرر كحق لله عز وجل، وهي جرائم قررت لحفظ النفس والنسل والعرض والمال والعقل والدين، لذا قابلتها جرائم:  السرقة، الزنا، القذف، شرب الخمر، الردة، البغي والحرابة. والنوع الثاني من الجرائم، هي جرائم القصاص والدية وهي جرائم قررت حفاظا على مصالح الأفراد، والنوع الثالث، وهو الجرائم التعزيرية التي تعني تأديب على الذنوب التي لم يأتي فيها حد من الحدود، أو القصاص والدية. كما اهتمت الشريعة الإسلامية بفكرة المسؤولية الجنائية وطرق الإثبات وغيرها من الأفكار التي لم تكن معروفة في القانون العقابي في الشق الآخر من العالم.
وما يمكننا قوله عن دور الشريعة الإسلامية، نبرزه باختصار فيما قاله العلامة أحمد عبد الرزاق السنهوري :"  لو وطئت أكنافها وعبدت سبلها لكان لنا في هذا التراث الجليل ما ينفخ روح الاستقلال في فقهنا وفي قضائنا وفي تشريعاتنا، ثم لأشرفنا نطالع العالم بهذا النور الجديد فنضيء به جانبا من جوانب الثقافة العالية في القانون "،  وهي حقيقة لم يقف عندها فقهاء الشريعة الإسلامية فقط وإنما حتى الفقه الأوروبي المقارن، خاصة في المؤتمر الذي عقدته شعبة الحقوق الشرعية من المجتمع الدولي للحقوق المقارنة في كلية الحقوق جامعة باريس في 2 جويلية 1951 بعنوان: " أسبوع الفقه الإسلامي "، حيث تم التأكيد على أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها، كما أن اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات ومن الأصول الحقوقية التي هي مناط الإعجاب، والتي بها يستطيع الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين حاجاتها وفي أثناء مناقشات هذا المؤتمر أبدى نقيب المحامين في باريس آنذاك دهشته بقولــه : " أنا لا أعرف كيف أوفق بين ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي وعدم صلاحيته كأساس تشريعي يفي بحاجات المجتمع الحضري المتطور، وبين ما نسمعه الآن في محاضرات ومناقشات، مما يثبت خلاف ذلك تماما ببراهين النصوص والمبادئ"
        هذا، ويمكننا أن ننبه طلبتنا الأعزاء، أن الاهتمام في هذه المراحل كان منصبا بالأساس على فكرة العقوبة والجزاء، وهو أمر تبينه غالبية الدراسات، في حين أننا نرى الأهم أن يتم التركيز على جانب الجريمة وهو ما أهمل تماما، لكن بدراستنا لمختلف التطورات أمكننا أن نستنتج الملاحظات التالية بخصوص تطور نظرية الجريمة، في مقابل تطور نظرية الجزاء السابقة، فالجرائم في المجتمعات البشرية القيديمة، وبالنظر لبساطة طرق عيشها،لم تكن متعددة بالشكل الحالي، حيث أهم ما عرفته المجتمعات البشرية قديما خاصة في مرحلة الأسرة وبداية تشكل العشائر، هو الجرائم الواقعة على الأشخاص وأهمها جريمة القتل، ثم مع القوة التي بدأت تتخذها المكونات القديمة وتقوية طرق عيشها ووسائل تبادلها، بدأت تظهر الجرائم المالية، وبظهور الدين ظهرت الجرائم التي تشكل اعتداء على الديانات، وبظهور الدولة ونظم الحكم المختلفة ظهر ما يعرف اليوم بالجرائم السياسية.      أما من حيث تكوين البنيان القانوني للجريمة، فلم يكن ينظر في المجتمعات القديمة للجانب النفسي للجريمة أو لمرتكبها، وبمعنى قانوني أدق، لم يكن ينظر للركن المعنوي للجريمة، حيث كانت مجرد فعل مادي يسأل من صدر عنه دون اعتداء بإرادته أو قصده، فالجريمة وفق هذه المجتمعات كانت تتكون من ركن واحد هو ركن مادي.  أما بداية بروز الركن المعنوي للجريمة واتخاذه مكانته كركن أساسي في الجريمة، كان مع ظهور القانون الروماني القديم، لكن دوره كان مقتصرا على تحديد المسؤولية وتقدير العقاب لا كركن بالمعنى القانوني الدقيق، بناء عليه يكتمل البنيان القانوني للجريمة. غير أن هذا الركن اتخذ مكانته الطبيعية إلى جانب الركن المادي، بظهور الديانة المسيحية، حيث تعد الجريمة في نظر الفقه الكنسي أن يكون الجاني أراد الخطيئة واتجهت نيته إليها، لكن مع الشريعة الإسلامية تبلور بطريقة واضحة، ومن بعده المسؤولية الجنائية وموانعها وأسباب الإباحــــة.
أما النقطة الثانية التي من خلالها يمكننا التطرق لتطور قانون العقوبات، هي فكرة مبدأ الشرعية
أو على الأقل مبدأ التجريم والعقاب، حيث أنه في المجتمعات القديمة لم يكن المبدأ معروفا وبالتالي كان التعسف ومبدأ اللامساواة، وكان الأفراد يفاجئون بجرائم لم يكن أمرها مجرما من قبل وتوقع عليهم عقوبات لم ينذروا بها من قبل وعدم المساواة بن الجناة حيث كانت تتحكم في ذلك وضعهم الاجتماعي والطبقي.




المبحث الثاني
قانون العقوبات وظهور المدارس الفقهية
        بالرغم من أن ظهور الدولة لم يأتي بالكثير من الجديد لتطور القانون العقابي، إلا أن الوضع المظلم والحالك الذي عرفته أوروبا في القرون الوسطى، عرف ظهور العديد من التيارات الفكرية الجنائية المنادية للإصلاح، وهي التيارات التي تولدت عنها العديد من المدارس الفقهية الجنائية التي لازال فكرها يدرس لغاية اليوم، وتركت بصماتها الراسخة على قانون العقوبات، بالرغم من أن كل مدرسة من هذه المدارس قامت على أسس فلسفية تختلف تمام على المدارس الأخرى، ورغم هذا الاختلاف، إلا أنها ساهمت في إصلاح تشوه واعوجاج العدالة الجنائية الأوروبية، وأنقذتها من غرقها في الظلمة والفساد الذي كانت تعرفه، وخلصتها من القوانين العرفية والمنشورات الملكية التي كانت تكرس التعسف والتحكم والحكم وفق أهواء الحكام والملوك، وتقنن اللامساواة والطبقية، وكان ذلك نتيجة لإشعال مشاعر الفلاسفة والمفكرين التي حركت أقلامهم لتشعل كتاباتهم بوادر الثورة على الأوضاع، والمناداة بقانون أكثر إنسانية ينبذ عم المساواة والتفرقة وتحكم القضاة واستبداد الحكام، سيما في ظل تشبع المجتمعات الأوروبية آنذاك بفلسفة العقد  الاجتماعي، للفقيه جون جاك روسو التي أوضح مضامينها  في كتابه العقد الاجتماعي، وفلسفة الفقيه مونتسكيو بظهور كتابه روح القوانين سنة 1748 الذي أول ما أكد فيه هو نسبية قانون العقوبات وضرورة اختلافه باختلاف المجتمعات والعصور، كما هاجم بشدة النتائج المترتبة عن الانتقام الجماعي وبصفة خاصة قسوة العقوبات، الأمر الذي شجع على إيجاد مناخ فكري جنائي نادى بقانون عقوبات يراعي روح العصر ورغبة المجتمعات في التغيير والتجديد والإصلاح، وكثرت التيارات الفكرية في أهم الدول الأوروبية، وأهمها إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا، التي شكلت العديد من المدارس الفقهية، التي ساهمت بصفة مباشرة في بلورة القانون الجنائي كنظام متكامل، وأهم هذه المدارس، المدرسة التقليدية الأولى ( المدرسة الكلاسيكية)، والمدرسة التقليدية الحديثة، والمدرسة الوضعية، والعديد من المدارس الوسطية أو التوفيقية، وأخيرا ظهور مدرسة الدفاع الاجتماعي، وعموما يمكن تلخيص هذه الاتجاهات في المدارس التقليدية، ونقيضتها المدرسة الوضعية، وبينما المدارس التوفيقية، وهو الأمر الذي نعالجه من خلال المطالب الثلاثة التالية..
المطلب الأول
المدارس التقليدية
        المدرسة التقليدية من أهم وأولى المدارس الفقهية التي اهتمت بقانون العقوبات وساهمت في تطويره بشكل كبير، خاصة وأنها شهدت العديد من التطورات في حد ذاتها، وهي التطورات التي أسفرت عن ظهور مدرستين تقليديتين، سميت الأولى بالكلاسيكية أو بالتقليدية الأولى أو القديمة، وسميت الثانية بالمدرسة التقليدية الحديثة، وكانت هناك محاولات لإنشاء مدرسة تقليدية ثالثة، غير أن دراستنا ستتركز على المدرستين الأوليتين، في الفرعين التاليين.
الفرع الأول
المدرسة التقليدية الأولى (المدرسة الكلاسيكية)
        نشأت هذه المدرسة في منتصف القرن الثامن عشر[33]، بعد صدور كتاب " الجرائم والعقوبات" للمفكر الإيطالي بيكاريا سنة 1764، الذي ألفه في مجتمع اتسم بقسوة العقوبات والتجريم على الأهواء وانتفاء المساواة في التطبيق تبعا لاختلاف الطبقات، حيث نادى في كتابه بوجوب المساواة والقضاء على الطبقية، والإقلال من قسوة العقوبات، ونادى بمبدأ قانونية الجرائم والعقوبات، وهي الأفكار التي اتبعها في إيطاليا فيلا تيجري، وفي ألمانيا فويرباخ، وفي إنجلترا بنتام، الذي أدخل فكرة المنفعة كأساس لتقدير العقوبة، وأن تكون العقوبة بقدر من الإيذاء والألم للمجرم بقدر يفوق اللذة التي حصل عليها من ارتكاب جريمته، كما ركز على الأثر الرادع للعقوبة، خاصة الردع العام الذي يعد أساس إحجام الناس على ارتكاب الجرائم، وعموما يمكن تلخيص الأسس الفلسفية التي قام عليها فكر المدرسة التقليدية على المبادئ التالية التي كان لها أثر في قانون العقوبات الفرنسي الصادر سنة 1910:
1- إقرار مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات، وإبطال سلطة القاضي في خلق الجرائم، والتقليل من سلطته التقديرية في تحديد العقوبات.
2- أساس المسؤولية الجنائية حرية الاختيار، حيث توجه أوامر ونواهي قانون العقوبات للشخص المميز المدرك لتصرفاته.
3- الحد من قسوة العقوبات، ورأى بيكاريا الذي يعد أول من وضع أسس في فلسفة العقاب ووضع نظرية متكاملة تحدد أساس حق الدولة في العقاب، وانتقد قسوة العقوبات التي رأى أنه لا فائدة منها حيث يعمل الجناة على الإفلات منها، بل فكر في أن العقوبة يجب أن تكون بقدر يفوق ما يحصل عليه الجاني من جريمته، حيث إذا فكر في ارتكاب جريمة وازن بين ما يعود عليه من نفع جراء ارتكابه هذه الجريمة، وما ينزل عليه من عقاب، حيث إن وجد الألم الذي ينزل به جراء العقوبة يفوق النفع الذي يحصل عليه من اقتراف الجريمة امتنع عن ارتكابها، بينما جاك روسو وفي كتابه العقد الاجتماعي، فيرى رد العقوبة إلى أدنى الحدود، حيث أن الشخص لما تنازل عن حريته للجماعة، لم يتنازل إلا عن القدر اللازم لحماية هذه الحرية، وتبنى جيريمي بنتام فكرة المنفعة الاجتماعية أيضا، التي نادى بها بيكاريا، حيث رأى أنه لا فائدة من قسوة العقوبات ما لم تكن تنطوي على مصلحة، وبالتالي نادى هؤلاء، بالمساواة بين الناس في العقاب، والتقليل من قسوة العقوبات والأخذ بفكرة حرية الاختيار كأساس للمسؤولية الجنائية.
الفرع الثاني
المدرسة التقليدية الحديثة
        وهي المدرسة التي قامت على أفكار الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، والتي كان لها أثر كبير على الفكر القانوني الجنائي، حيث نادى بفكرة العدالة المطلقة، وأسس العقوبة على اعتبارات إرضاء الشعور بالعدالة، حيث أن الجاني أنزل شرا بالمجتمع، وإرضاء شعور هذا المجتمع بالعدالة يجب أن يقابله إنزال شر بالجاني، حتى ولم لم تتحقق مصلحة للمجتمع في ذلك، وقد صاغ في ذلك مثالا شهيرا، هو أنه المجتمع الذي يهجر فرد أو يعدمه وبالرغم من أنه افتقد لهذا العضو ولم ينل أية فائدة من ذلك، إلا أن تنفيذ العقوبة تنزل رضاء بالعدالة بهذا المجتمع. وقد تأثر بأفكار هذا المفكر، روسيه وأرتولا وموليه في فرنسا، وكيرار وكرمينيان في إيطاليا، وهوس في بلجيكا، وميترماير في ألمانيا، وتكونت من أفكار الجميع المدرسة التقليدية الحديثة، وجمعوا بين فكرة العدالة التي نادى بها كانت، وفكرة المنعة التي نادى بها بنتام، وأسسوا العقوبة على فكرة العدالة التي تحقق منفعة للمجتمع، حيث لا يعاقب الجاني بعقوبة تتجاوز الحدود التي تتطلبها مصلحة المجتمع، كما انتقد رواد هذه المدرسة فكرة المساواة المطلقة التي لا تأخذ بعين الاعتبار شخصية الجاني وظروفه الشخصية، حيث أدخلوا فكرة الظروف المخففة ونادوا تبعا لذلك بالتوسع بعض الشيء في السلطة التقديرية للقاضي حتى يراعي الظروف الشخصية للجاني[34].
المطلب الثاني
المدرسة الوضعية ( أو الإيطالية)
        المدرسة الوضعية نشأت بإيطاليا مع صدور كتاب " الإنسان المجرم" للطبيب الإيطالي لمبروزو سنة 1876، وتبعه القاضي جارو فالو الذي ألف كتابا عن علم الإجرام، وفيري الذي وضع مبادئ نظريته في رسالة تخرجه من كلية الحقوق، بعنوان " آفاق جديدة في قانون العقوبات"، وكونت آراء الثلاثة المدرسة الوضعية، التي تعد أول محطة حولت الأنظار من الاهتمام بالجريمة كفعل ضار وقع في المجتمع، إلى شخص المجرم باعتباره محدث هذا الفعل الضار، ومصدر الخطورة في العودة مستقبلا للإجرام، وإحداث المزيد من الوقائع الضارة الأخرى بالمجتمع، وبالتالي وجوب أن يهدف رد فعل المجتمع هذه الخطورة الإجرامية، وذلك بتطبيق التدابير الاحترازية للقضاء على الخطورة الكامنة لدى المجرم. خاصة وأنها المدرسة التي نفت بداية " حرية الاختيار" عن الجاني، فهو مدفوعا دائما بعوامل داخلية دفعته لارتكاب الجرائم، سواء كانت هذه العوامل الداخلية، ذات أصل وراثي أو جثماني أو اجتماعي، والتي تدفعه جبرا إلى ارتكاب الجرائم، وبالتالي العقوبة سوف لن يكون لها أثرا رادعا ويجب أن يتجرد مضمونها من فكرة الردع، كون الردع يستلزم التسليم بحرية الإرادة[35]، والجاني ليس حرا بل مدفوعا، بمعنى ليس مخيرا بل مسيرا. وأن الخطورة الإجرامية هذه يجب أن تواجه بتدابير احترازية كفيلة بالقضاء عليها، وإصلاح الجاني أو إقصائه من المجتمع إن تعذر إصلاحه، لذا تمحورت أفكار هذه المدرسة حول المبادئ التالية:
1- ضرورة قيام قانون العقوبات على أسس شخصية، حيث يجب أن يأخذ بعين الاعتبار شخصية الجاني وليس ماديات الجريمة، فالجريمة ليست عبارة عن مظهر مادي خارجي، وإنما انعكاس لخطورة إجرامية كامنة لدى الجاني.
2- إنكار حرية الاختيار، والقول بأن المجرم مسير وليس مخير، فهو مدفوع لارتكاب الجرائم نتيجة خطورته الإجرامية، لذا فمسؤوليته لا تقوم على أساس حرية الاختيار، وإنما على فكرة الخطورة الإجرامية. حيث يرى أنصار هذه المدرسة أنه هناك خطرون وليس مذنبون، والخطر يجب أن يوضع في مكان لا يمكنه من الاعتداء على غيره، لذا يجب تقرير التدابير الاحترازية عوض العقوبات.
3- تصنيف المجرمين تبعا لعوامل الخطورة الإجرامية لديهم، وتقرير تدابير احترازية خاصة بكل طائفة من هذه الطوائف، فالمجرمين يصنفون إلى مجرم بالطبيعة، ومجرم معتاد، ومجرم بالعاطفة، ومجرم بالمصادفة، فالمجرم بالطبيعة والمجرم بالاعتياد مدفوعين إلى ارتكاب الجرائم بعوامل تكوينية، يستحيل شفائها، يتعين اتخاذ تدابير الإبعاد من المجتمع ضدهم، والمجرم المجنون فهو مدفوع إلى الإجرام نتيجة مرض عقلي، يتعين إيداعه إحدى دور الأمراض العقلية، والمجرم بالعاطفة هو المجرم الذي يندفع إلى ارتكاب الجريمة نتيجة عدم توازن في حالته العاطفية، يتعين أن يعوض أضرار الجريمة زيادة على توقيع تدابير احترازية عليه، والمجرم صدفة، وهو الذي دفعته لارتكاب الجريمة عوامل وظروف اجتماعية طارئة، وبالتالي يمكن إصلاحه بتدبير احترازي يعالج الظروف الاجتماعية التي دفعته لارتكاب الجريمة.
4- رد فعل المجتمع يجب أن يكون عبارة عن تدبير احترازي هدفه إما الإصلاح أو الإقصاء من المجتمع، لا على العقوبة الهادفة إلى الردع والقائمة على اعتبارات العدالة.
        وإن كانت أفكار المدرسة الوضعية لم تطبق بالكامل في القوانين والنظم الجنائية، إلا أن بعض أفكارها كانت أساس للعديد من الأفكار القانونية، مثل منح القاضي السلطة التقديرية في تقدير العقوبة الملائمة لشخصية الجاني، وهو ما يسمى مبدأ تفريد العقاب الذي يعد من أهم المبادئ الجنائية المطبقة في كل التشريعات الجزائية الحديثة، وفكرة غرض العقوبة الإصلاحي والعلاجي التي أصبحت محور لسياسات تنفيذ العقوبات في التشريعات الوضعية. 
المطلب الثالث
المدارس التوفيـــقية
        أسفر الجدل الذي حصل بين المدرستين التقليدية والوضعية، إلى ظهور مدارس وسطية أو توفيقية، حاولت التوفيق بين آراء المدرستين، متفادية إسراف المدرسة الوضعية في دراسة المجرم على حساب الجريمة، وإنكار حرية اختياره تماما، وإفراغ العقوبة من معاني الردع تماما وتوجهها نوح الإصلاح والعلاج وحتى الإقصاء، وعلى النقيض من ذلك، مغالاة المدرسة التقليدية في الاهتمام بالجريمة دون المجرم، أي الاهتمام بالفعل دون الفاعل، وحرية إرادته، وإفراغ العقوبة من كل معاني الإصلاح والعلاج والتهذيب، وتوجهها فقط نحو تحقيق العدالة والمساواة والمنفعة الاجتماعية.
        وكانت من أهم المدارس التوفيقية، المدرسة الثالثة التي أنشأها في إيطاليا كارنفالي وأليمينا، والاتحاد الدولي لقانون العقوبات الذي أسسه فان هامل برنس وفون ليست، ونقطة الاشتراك بين هذه المدارس، هي الاعتراف بحرية الإرادة لدى الجاني وإقامة المسؤولية الجنائية على أفكار التمييز والإدراك، وأن أهداف العقوبة متعددة، فهي تهدف إلى تحقيق الردع، كما تسعى إلى إصلاح الجاني وتهذيبه وعلاجه أيضا، لذا يمكن إقرار التدابير الاحترازية إلى جانب العقوبات التقليدية، وبذلك أصبحت الغلبة لأفكار المدارس التوفيقية في التشريعات العقابية الحديثة[36]، بما فيها المشرع الجزائري، الذي أسس المسؤولية الجنائية على حرية الإرادة والتمييز والإدراك، حيث لا تقوم هذه المسؤولية في حالة صغر السن والجنون والإكراه ( المواد من 47 إلى 51 من تقنين العقوبات الجزائري)، ولإقراره للتدابير الأمنية إلى جانب العقوبات ( المواد 19-22 من تقنين العقوبات الجزائري). ومن بين أعهم المدارس التوفيقية، نجد مدرسة الدفاع الاجتماعي، ومدرسة الاتحاد الدولي لقانون العقوبات، الذين سنتناولهما من خلال الفرعين التاليين.
الفرع الأول
مدرسة الدفاع الاجتماعي
الاهتمام بالشخص الجاني عوض الجريمة
        وهي المدرسة التي تأسست على يد الفقيه الإيطالي جراماتيكا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أنشا مركزا للدراسات التي تتمحور حول فكرة أو نظرية " الدفاع الاجتماعي"، وأسس مجلة سميت ب " مجلة مؤتمرات الدفاع الاجتماعي" في إيطاليا سنة 1947، وفي بلجيكا سنة 1949، و1954، ونشرت سنة 1955 برنامجا تضمن الحد الأدنى لسياستها. وهي المدرسة التي تقوم أساسا حول الأفكار التالية:
1- يجب أن يكون هدف قانون العقوبات، حماية المجتمع من مخاطر السلوكات المجرمة، ولا أن تكون وظيفته مجرد القصاص من الجاني وتخويفه وترهيبه بالعقوبات، لذا يجب أن يتم إقرار وسائل أخرى إلى جانب العقوبات التقليدية، وهي تدابير الدفاع الاجتماعي، لتصبح العقوبة تدبيرا للدفاع الاجتماعي، وقانون العقوبات قانونا للدفاع الاجتماعي. وهي بذلك تدافع عن أفراد المجتمع كافة، بما فيهم الجناة ذاتهم، ولا تهتم كثيرا بالبحث في الأساس الفلسفي لمسؤولية الجاني.
2- تتقرر تدابير الدفاع الاجتماعي بدراسة علمية دقيقة تكشف أسباب انحراف الجاني لاختيار التدبير الملائم للتطبيق عليه.
3- إيلاء أهمية كبيرة لمتابعة الجاني ومساعدته بعد إخضاعه لتدابير الدفاع الاجتماعي، وذلك بتقديم الرعاية والمساعدة له للتغلب على الأسباب التي أدت به إلى الانحراف، وبذلك يمكن إعادة الإدماج الاجتماعي للمجرمين كأعضاء صالحين فيه.
4- كما يمكن تطبيق تدابير الدفاع الاجتماعي حتى قبل إقدام الشخص على ارتكاب الجريمة، وذلك من خلال الكشف المبكر عن الأشخاص الذين تتوفر لديهم نفسيا واجتماعيا عناصر يترجح معها ارتكابهم جرائم في المستقبل. بل الأكثر من ذلك، نادى جراماتيكا بالعديد من الوسائل التي يجب أن تبنى عليها السياسة الجنائية، لدرجة أنه انتقدت من زميله مارك آنسل الذي ظل فترة طويلة سكرتيرا عاما للحركة، واعتبر آراء جراماتيكا آراء شخصية متطرفة خاصة وأن الأول نادى بإلغاء قانون العقوبات.
الفرع الثاني
مدرسة الاتحاد الدولي لقانون العقوبات
        وهو الاتحاد الذي تأسس سنة 1880 من قبل مجموعة من الفقهاء أهمهم: أدولف برنز، فون ليست، فان هامل، وأخذوا بأهم الأفكار التوفيقية بين المدارس السابقة، وتركزت فلسفته على دعامتين أساسيتين، هي أن مهمة قانون العقوبات الكفاح ضد الجريمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية، وأن يراعي القانون الجنائي النتائج التي تسفر عنها الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية، وهو ما يدل على الاتجاه العلمي للاتحاد الدولي ورفضهم التام لفكرة التسليم بالحتمية، وطالب هؤلاء الفقهاء رجال القانون بضرورة ألا يغرقوا في الأفكار الفلسفية، بل وجوب التفكير في الشعور الداخلي للفرد بحريته، وهي الأفكار التي أثرت في بعض التشريعات أهمها قانون الدفاع الاجتماعي البلجيكي الصادر سنة 1930، الخاص بالمجرمين الشواذ والعائدين، كما ظهرت حركات فقهية حديثة نتيجة أفكار هذا الاتحاد، أهمها الحركة التي ظهرت في إسبانيا باسم علم الإجرام الحديث.




المبحث الثالث
تطور قانون العقوبات الجزائري
        الجزائر من بين الدول التي عرفت تطورات كبيرة على مستوى قانون العقوبات، خاصة وأنها من الدول الإسلامية التي طبقت أحكام الشريعة الإسلامية في مرحلة معينة من تاريخها، كما عرفت بعض التطورات في الفكر الجنائي نتيجة استعمارها من قبل الاحتلال الفرنسي ولفترة طويلة من الزمن، لتكون أهم المراحل المميزة لتطور قانون العقوبات في الجزائر، ثلاث مراحل، مرحلة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، مرحلة تطبيق القانون الفرنسي، ومرحلة الاستقلال التي شهدت تطبيق قانون عقوبات وطني، وهو ما نتناوله  في المطلب الثلاثة التالية. 
المطلب الأول
مرحلة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية
        عرفت الجزائر تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في الفترة التي أعقبت الفتوحات الإسلامية لشمال إفريقيا، حيث طبقت الشريعة على كل المجالات بما فيها المجال الجزائي، بما فيها شقي التجريم والعقاب، حيث عرفت تقسيم الجرائم وفقا للتقسيم الشرعي لهان جرائم الحدود، جرائم القصاص، والجرائم التعزيرية، وهو ما نبينه في الفروع الثلاثة التالية.
الفرع الأول
جرائــــم الحدود
        جرائم الحدود جرائم محدودو ومبينة على سبيل الحصر بالكتاب ( القرآن الكريم)، والتي يعاقب عليها بعقوبة تسمى " الحد" الذي يعني لغة المنع، أي منع الجاني من معاودة ارتكاب الجريمة، والحد عقوبة قررها الخالق نتيجة الجريمة التي تشكل اعتداء على حق لله عز وجل، سيما وأنه بالاطلاع على هذا النوع من الحدود يبين أنها تهدف لحفظ النفس والنسل والعرض والمال والعقل وحفظ الدين. والأصل أن الحد مقرر كقاعدة بموجب نص قرآني، واستثناء بموجب السنة النبوية الشريفة مثلما هو الشأن بالنسبة لجريمة شرب الخمر، وجريمة الردة، حيث تكفل النص القرآني بتبيان شق التجريم، بينما تكفلت السنة بتبيان الحد المقرر لها كعقوبة. وعقوبة الحد لا تقبل العفو أو التنازل عنها كونها حق مقرر لله عز وجل، وهي مقررة لجرائم تامة لا لمجرد الشروع فيها أو المحاولة، فإن توقفت عند حد الشروع اعتبرت معصية توجب عقوبة تعزيرية لا تطبيق الحد، وما يميز هذا النوع من العقوبات أنها ذات حد واحد لا حدين، كما هو الحال في التشريعات الوضعية الحديثة، وبالتالي فلا سلطة تقديرية للولي في تطبيقها، وباختصار جرائم الحدود سبعة، هي: حد الزنا[37]، حد السرقة[38]، حد القذف[39]، حد البغي[40]، حد الحرابة[41]، حد الردة[42]، حد شرب الخمر[43]، وبالتالي الحدود في الشريعة الإسلامية هي الجلد والقتل والقطع. الجلد في مائة جلدة في الزنا، وثمانون في القذف، وبين الأربعين والثمانين في شرب الخمر، والقطع في السرقة، والقطع على خلاف والصلب في الحرابة، والقتل في الردة.
الفرع الثاني
جرائم القصاص والدية
        وهي جرائم تقع على نفس الإنسان أو ذاته، وبالتالي هي اعتداءات واقعة على الأفراد ويجوز التنازل أو العفو عنها من المجني عليه أو من ذويه عكس جرائم الحدود التي لا يقبل فيها العفو والتنازل، غير أن العفو عنها لا يمنع ولي الأمر العقاب عليها بعقوبة تعزيرية إذا رأى أنه من شأنها تؤدي إلى إفساد في الأرض[44]، وجرائم القصاص والدية هي : القتل العمد، الجناية شبه العمد، القتل الخطأ، الجناية على ما دون النفس عمدا، الجناية على ما دون النفس خطأ، وعقوبتها القصاص أي عقاب الجانب بنفس فعلته، والدية هي دفع مقابل مالي يمثل بدل النفس أو العضو يدفع من الجاني أو ذويه عوضا عن دمه أو عضوه ( طرفه) وتختلف الدية بختلاف المجني عليه قدرا وجنسا كما هناك ما يشبه اليوم العقوبات التبعية وهي الكفارة والحرمان من الوصية أو الميراث، وعموما يمكن القول أن القصاص عقوبة مقررة للجرائم العمدية أما الدية فهي عقوبة مقررة جرائم الخطأ.

الفرع الثالث
الجرائم التـــعزيرية
        التعزير هو تأديب عن ذنوب لم يشرع فيها حد من الحدود، ولا هي من جرائم القصاص والدية، ولم يرد بخصوصها نص لا في القرآن ولا في السنة يقررها كجريمة قائمة أصلا، غير أنه هناك نصوص في القرآن تبين بعض أنواع الجرائم التعزيرية، مثل الرشوة وخيانة الأمانة والسب والربا ودخول البيوت والمساكن....ولكن بصيغة النهي عن مثل هذه الأفعال كونها إفساد في الأرض أو من شانها ن تؤدي إليه، وهي جرائم عكس النوعين السابقين واردة على سبيل المثال لا الحصر، حتى يمكن ترك أمر التجريم عن التعازير لولي الأمر وفق تطورات الحياة الاجتماعية وما يراه مناسبا لأمنها ونظامها وسكينتها، ووفقا لاختلاف الأزمنة والأمكنة والمصالح، لكن بالخضوع للمبادئ والأحكام العامة للشريعة الإسلامية وعدم الخروج عنها.  وطبقت ألأحكام السابقة في الجزائر منذ الفتوحات الإسلامية للبلاد لغاية دخول المحتل سنة 1830 حيث ساد تطبيق قانون عقوبات المستعمر، وبطريقة تختلف حتى عن القانون المطبق في فرنسا، وهو ما نبنه باختصار في المطلب الثاني.
المطلب الثاني
مرحلة تطبيق القانون الفرنسي
        بدخول الاستعمار الفرنسي للبلاد واحتلالها سنة 1830، شرع في تطبيق تشريعاته ومنها قانون العقوبات الفرنسي، وتكرس ذلك فعليا مع صدور أمر سنة 1841 يقضي بتطبيق قانون العقبات الفرنسي على المسائل الجزائي في الجزائر، غير أن هذا التطبيق لم يكن بالطريقة التي يطبق بها في فرنسا، حيث عمد المحتل على إحداث أحكام تمييزية وبعض الجرائم الخاصة الذي لا يعرفها القانون الفرنسي نفسه، وهي جرائم جاءت بصيغة عامة وهادفة لمحاربة حركات التحرر ومعاداة الاستعمار وعنونت ب:" الأفعال المعادية للوجود الفرنسي في الجزائر" ، وعرف تطبيق فكرة المسؤولية الجماعية المنافية لقواعد قانون العقوبات، حيث كانت تعاقب العروش بأكملها بغرامات جماعية عن كل فعل يمس بالاحتلال أو يعارض وجوده.
        ثم تراجع المستعمر عن هذا التمييز سنة 1944 وألغى القوانين التميزية والاستثنائية وأخضع الجزائريين ( الأهالي) لقانون العقوبات وقانون الإجراءات الجزائية الفرنسيين، غير أنه مع اندلاع الحرب التحريرية، تراجع عن ذلك وظهرت من جديد القوانين الاستثنائية والقواعد التمييزية والعنصرية، وعرفت الجزائر عقوبات الاعتقال الإداري والمراقبة البوليسية والعقوبات الجماعية وإقامة المحاكم الاستثنائية وتوسيع اختصاص المحاكم العسكرية بشكل ليس معمولا به في قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي. 
المطلب الثالث
مرحـــلة الاستقلال
        باستقلال الجزائر سنة 1962 عملت الجزائر على سن تشريعات مستقلة، غير أن المسألة استغرقت وقتا بالنظر للوضع الخاص الذي تمر به الدول المستقلة حديثا، حث لم يصدر قانون العقوبات الجزائري إلا سنة 1966[45]، لذا استمر العمل بالقانون الفرنسي ما عدا ما تعارض منه مع السيادة الوطنية، بموجب القانون 62-157 المؤرخ في 31-12-1962 ( المادة الأولى منه)،  في الفترة الممتدة من 05-07-1962 لغاية 15 يونيو 1966 تاريخ دخول تقنين العقوبات الجزائري حيز التنفيذ. لكن دون أن يمنعه ذلك من إصدار بعض التشريعات التي واجه بها بعض الأوضاع الخاصة، كإصداره المرسوم 63-85 المؤرخ في 16-03-193 المتضمن قمع الجرائم المرتكبة ضد التشريع المتعلق باقتناء وحيازة وصنع الأسلحة والذخائر والمتفجرات، والكثير من المراسيم الأخرى التي هدف منها المشرع الحفاظ على الأمن في هذه الفترة الحساسة من تاريخ البلاد[46]. ومع سنة 1966 أصدرت الجزائر قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجزائية[47]، وإن كان المشرع قد استمد غالبية أحكامهما من القانون الفرنسي، مع تضمينه خصوصيات المجتمع الجزائري ومراعاة اعتبارات إتباع الدين الإسلامي في البلاد، وحتى في بعض القواعد الموضوعية الأخرى مثل مسؤولية الشخص المعوي وقواعد الاشتراك والشروع في الجريمة.... وقد عدل قانون العقوبات الجزائري منذ صدوره لغاية سنة 2006 سبعة عشر (17) مرة[48]. وما زلنا نسمع بأنه في طور المراجعة لغاية اليوم. هذا وبعد تناولنا في الباب التمهيدي السابق تحديد أهم معالم قانون العقوبات، سنشرع في دراسة الباب الأول من هذه الدراسة،والمتعلق بالنظرية العامة للجريمة باعتبارها تمثل شق التكليف في القاعدة الجزائية، على أن نتبعه بباب ثاني نخصصه لنظرية المسؤولية الجنائية. تاركين موضوع النظرية العامة للجزاء الجنائي ليكون موضوع لمطبوعة أخرى مستقلة، شأنه شأن مطبوعة قانون الإجراءات الجزائية.

[1] - حيث يمكننا القول بأن نهي الله عز وجل لآدم وزوجه عن التقرب للشجرة بمثابة سلوك مجرم، وأن عدم الالتزام من قبليهما بهذا النهي ارتكاب لهذه الجريمة، وإنزالهما للأرض عقوبة لهذا الفعل، وأن قتل قابيل لأخيه هابيل جريمة، وعقابه كان أنه لم يدر كيف يواري سوءة أخيه، ونشير بأن هذا وجه للتشبيه فقط مع الوضع الحالي لقانون العقوبات، بعيدا عن الأبعاد  الدينية لهذه الوقائع.
[2] - المراد قوله، أن الجريمة فعل وأن مقترفها شخص فاعل، وهناك خلاف فقهي بخصوص أي من العنصرين السابقين له الأولوية على الآخر، فهل يجب التركيز على الفعل، أم على الفاعل، وهنا ظهرت نظريتين أساسيتين، النظرية الشخصية المركزة على الشخص الفاعل، والنظرية الموضوعية المركزة على الفعل ( الجريمة)، ولكل منهما بصماته في كل فكرة        من أفكار القانون الجنائي، الذي أصبح يتأرجح بين الشخصية والموضوعية، وأحيانا يرجح الجانب الموضوعي وفي أحيان  أخرى يركز على الجانب الشخصي.
[3] - وهي التسمية المفضلة من قبل الفقه والتشريع الجزائري، سيما في شق القواعد الموضوعية، غير أنها ليست بالتسمية المعتمدة في لشق الإجرائي، المسمى قانون الإجراءات الجزائية.
وأطلق على هذا الفرع من فروع القانون تسميات متعددة، نذكر منها قانون العقوبات droit pénal  والقانون الجنائي droit criminel والقانون الجزائي droit sanctionnaire، وكل من هذه التسميات قد ترتكز على أحد التقسيمات المهمة لقانون العقوبات، أو على أحد الآثار المترتبة عليه وأهمها الجزاء أو العقوبة، وبالتالي كل تسمية قاصرة على الإحاطة بكل محتويات هذا الفرع من فروع القانون، فضلا على أنها تسميات تهمل تماما فكرة الجريمة، وإن لم تهملها مثل تسمية القانون الجنائي  المستمدة من فكرة " الجناية " فإنها تهمل نوعين آخرين من أنواع الجرائم وهي الجنح والمخالفات
[4] - كما عرف بأنه :" مجموعة من القواعد القانونية تحدد صور السلوك التي تعد جرائم وتبين العقوبات أو التدابير الاحترازية أو الوقائية المقررة إزاءها".
[5] -وهو تعريف ركز على أن دور قانون العقوبات يضع حلولا للظاهرة الإجرامية، غير أنه وإن كان وسيلة لمكافحة الجريمة غير أنه لم يضع حلولا لها، كون المسألة في العادة من صميم اهتمامات علم الإجرام وعلم العقاب، بينما قانون العقوبات يجازي الخروج عن أوامره ونواهيه، التي حتى وإن كانت تهدف إلى ردع الناس عن ارتكاب الجرائم، غير أنه لا يضع حل للظاهرة  الإجرامية. خاصة وأن أصحاب التعريف ذاتهم، وفي شرحهم لهذا التعريف، يركزون على شق التجريم والعقاب.
[6] - قانون رقم 05-04 مؤرخ في 06 فبراير سنة 2005، يتضمن قانون تنظيم السجون وإعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين، الذي ألغى الأمر رقم 72-02 المؤرخ في 10 فبراير سنة 1972 والمتضمن قانون تنظيم السجون وإعادة تربية  المساجين.
[7] - ويمكننا القول، بان قانون العقوبات من الظواهر القانونية اللصيقة بالمجتمعات البشرية المنظمة، ومن مظاهر التعبير عن إرادتها الجماعية المعبرة عن قيمها، باعتباره يرمي لحماية المصلحة العامة وإقرار النظام في المجتمع، من جهة ومن جهة ثانية، صون حريات الأفراد ومصالحهم الخاصة، وهو من بين أقدر فروع القانون على معالجة كل النواحي الأساسية اللازمة للسير الحسن للحياة في أي مجتمع أيا كانت طبيعته ونظام حكمه، باعتبار باقي القوانين الأخرى تنظم جانب من جوانب الحياة الاجتماعية دون غيرها، خاصة وأنه القانون الذي عن طريقه يفرض المشرع إرادته بخصوص تحديد أنواع السلوك التي يرى تجريمها وعن طريقه يحدد الجزاءات المترتبة عن مخالفة هذه الإرادة، وعلى ذلك نجد قواعد قانون العقوبات كقاعدة عامة، تنطوي على شقين أو عنصرين، أحدهما يحدد النص التجريمي، ليتولى الثاني تعيين الجزاء المترتب عن مخالفة الشق الأول، غير أنه كاستثناء لا يشترط ذلك، فقد تتجزأ القاعدة الجنائية بين أكثر من فرع قانوني واحد، فيما يعرف بالقواعد الجنائية المجزئة أو الموزعة، بموجبها يكتفي المشرع بتحديد شق الجزاء في النص الجزائي ويحيل في شق التكليف
 أو التجريم إلى قانون آخر. ويرى بعض الفقه في شق الجزاء بأنه عبارة عن مجرد قاعدة ثانوية في القاعدة الجنائية،  كون شق العقاب لا يطبق على الأشخاص إلا في حال تم خرق الشق الأول المتعلق بالتجريم وتطبيقه بذلك مشروط بمخالفة الشق الأول الذي يغلب عليه طابع النهي مقارنة مع طابع التكليف بالرغم من أن القوانين القديمة كانت تغلب عليها صفة الأمر " لا تقتلوا" أو " لا تسرقوا "  بينما التشريعات الحديثة أصبحت تميل لاستعمال الصيغ العامة المعبرة عن تحديد الفعل سواء كان سلبا أو إيجابا محددا النموذج المكون للجرم والمحدد لأركانه وعناصره، في حين يرى بعض الفقه بأن قانون العقوبات قانون عقابي، فهو في نظرهم لا يجرم بل يعاقب فقط، مما يجعله من طبيعة جزائية بحتة. والحقيقة أن الشقين مرتبطين، بحيث لا جزاء دون ارتكاب جريمة، فالتجريم يستفاد بالضرورة من النص على العقاب حتى وإن لم يكن مستفاد بصفة صريحة بل ضمنيا المشرع لا يتدخل للعقاب ما لم يكن هناك ارتكاب لجرم، الأمر الذي دفع بالبعض إلى القول بأن عنصر التجريم عنصرا مفترضا في القاعدة التي تنص على العقوبة، غير أن الحقيقة أن الشقين يرتبطان ارتباطا منطقيا وزمنيا، ذلك أن التجريم يستتبع بالضرورة الجزاء والعلاقة الزمنية أساسها أن الجزاء يتبع زمنيا الانتهاك الفعلي لعنصر التجريم كون شق العقاب لا يطبق عمليا ما لم يسبقه عنصر التجريم غير أننا نرى بأنه بالرغم من ارتكاب عنصر التجريم إلا أن شق العقاب قد لا يلقى التطبيق كحالات توافر سبب من أسباب الإباحة أو مانع من موانع العقاب أو مانع من وانع المسؤولية.   ويمكن تعريف قانون العقوبات، بأنه مجموعة من القواعد القانونية التي تضعها الدولة بواسطة السلطة التشريعية
 أو من تفوضه هذه السلطة في وضعها، لتحدد بها ما يعتبر من سلوك الإنسان جريمة وتعين فيها ما يترتب عن هذا السلوك من
 آثار جنائية. 
[8] - وإن كنا سوف نرى لاحقا، أن الجريمة لا تعتبر بالضرورة فعلا إيجابيا أو نشاطا، وإنما يمكن أن تقوم بموجب سلوك سلبي أو امتناع عن أمر أمر به القانون، وتسمى الجريمة التي تقوم على أفعال بالجرائم الإيجابية، ويسمى النوع الثاني القائم على  الامتناع بجرائكم الامتناع أو الجرائم السلبية. هو ما سيكون موضوع تفصيل مستقل.
[9] - الذي يعرف بأنه :" مجموعة القواعد القانونية التي تنظم الاختصاص بين الهيئات القضائية، من رفع الدعوى العمومية إلى صدور الأحكام النهائية..."، والتي يرى البعض أنها وحدها كفيلة للردع بالنظر لما تنطوي عليه من وقت ومشقة وتعقيد، تجعل الأفراد يحجمون عن ارتكاب الجرائم، كونها تشكل ثقلا نفسيا على المتهمين، ومن جهة ثانية، تتكفل بحماية حقوق وحريات هــــؤلاء.
وما يمكننا التنبيه إليه، باعتبار المسألة تشكل فكرة جوهرية في نظرنا، أنه من بين أكثر القوانين تأثرا بسياسة الدولة ونظام حكمها، نجد القانون الجنائي – وإن كان غالبية الفقه يحاول دوما القول بأنه إن دخلت السياسة من الباب فيجب أن= =يخرج القانون من النافذة- بالنظر لمساس قواعده بسلوك الإنسان عامة، وبحرياته بصفة خاصة، مما يجعل بالضرورة السياسة الجنائية المتعلقة بالتجريم والعقاب تتأثر بطريقة أو بأخرى بالنظام السياسي السائد في الدولة، خاصة فيما بين نظم الحكم الديمقراطية= =ونظم الحكم الاستبدادية – وفي مقابلها: نظم الحم الليبرالية ونظم الحكم الاشتراكية- وهو ما برهن عليه في الكثير من الأحيان، الساسة والمثقفين والفلاسفة، واعتبروا القانون الجنائي من بين كل فروع القانون الأخرى، تجسيدا للإيديولوجية السياسية السائدة في الدولة، وهو مركز النقاش الفقهي القانوني دوما، وحتى القضائي، خاصة في ظل حقيقة التبادل المعرفي بين الفقه والقضاء منذ القدم وعلى طول مراحل التاريخ. وهنا نجد الفقه يسمي قانون العقوبات، بقانون اللصوص، حيث يرى المشرع دوما أنه يخاطب خارجي الطريق القويم ومصادر الخطر في المجتمع، وعناصر الإشكال لنظم الحكم، وفي مقابل ذلك، نجد قانون الإجراءات الجزائية، يسمى  بقانون الحريات العامة، أو قانون الشرفاء،  باعتباره المظهر الذي تتجسد من خلاله الحماية الدستورية لحقوق وحريات الأفراد والجماعات، وتطبيقا للمبادئ الدستورية المنظمة لمختلف مراحل الدعوى العمومية ووصولها لهدفها النهائي المتمثل في ممارسة الدولة لحقها في العقاب، وحق الفرد في الدفاع عن نفسه.
[10] - في تقنين العقوبات الجزائري، القسم العام تنظمه المواد من 1 إلى 60 مكرر1، والمشكلة للجزء الأول من قانون العقوبات، المعنون ب:" المبادئ العامة"، الذي تضمن الأحكام التمهيدية ضمن ثلاث مواد متعلقة بمبدأ الشرعية الجنائية ( المادة 1) ونطاق سريان القانون الجنائي من حيث الزمان والمكان ( المادتان 2و3)، ثم كتاب أول خصص للعقوبات وتدابير الأمن في المواد من 4 إلى 18، ثم باب أول مكرر جديد يتعلق بالعقوبات المطبقة على الأشخاص المعنوية في المواد من 18 مكرر إلى 18 مكرر 3، ثم الباب الثاني المخصص لتدابير الأمن في المواد من 19 إلى 22، والكتاب الثاني خصص الأفعال والأشخاص الخاضعون للعقوبة، والذي قسم على بابين، خصص الأول للجريمة من المادة 27 40، والثاني خصص لمرتكبي الجريمة في المواد من 41 حتى 60 مكرر1 .
[11] - وهو القسم المشكل لباقي مواد تقنين العقوبات، من المادة 61 حتى 467 مكرر1. وهو القسم الذي في العادة ما يكون عرضة للتعديل،حيث شهد سبعة عشر تعديل منذ صدور تقنين العقوبات الجزائري سنة 1966، من بينها ستة تعديلا فقط مست القسم العام، لذا ففي العادة ما يتميز القسم العام لقانون العقوبات بالثبات والاستقرار مقارنة بالقسم الخاص منه، وحتى مقارنة  بقانون الإجراءات الجزائية.
[12] - الصادر بموجب الأمر رقم 66-155 المؤرخ في 08 يونيو 1966 المتضمن قانون الإجراءات الجزائية المعدل والمتمم.
         ويطلق بعض الفقه على كل من قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية مصطلح القانون الجنائي، وفي حقيقة الأمر القانونان متكاملان، وأن وجود أي منهما شرط لتطبيق الآخر، بل ولا سبيل لتطبيق قانون العقوبات إلا من خلال قانون الإجراءات الجنائية، فقانون العقوبات يحدد الجرائم والعقوبات، وقانون الإجراءات الجنائية هو الذي يبين وسائل التحقق من وقوع الجريمة ومحاكمة مرتكبيها وتوقيع العقوبات عليهم، فقانون العقوبات يصبح مشلولا في غياب قانون الإجراءات الجنائية، وهذا الأخير يفتقر في وجوده لقانون العقوبات. ونجد في العادة الفقه يطلق اسم القواعد الموضوعية على قواعد قانون العقوبات في مقابل قواعد قانون الإجراءات الشكلية أو الإجرائية، غير أن موضوع القاعدة لا يبين دوما طبيعتها، فقانون الإجراءات يحتوي على بعض القواعد الموضوعية، والعكس صحيح، لذا فطبيعة القاعدة القانونية تتحدد بوظيفتها فإن كانت تتعلق بالتجريم والعقاب، فهي قواعد موضوعية، وإن كانت تتعلق بالإجراءات فهي قواعد إجرائية. وهناك مبدأ يقضي أنه :" لا جزاء بغير دعوى" وبالتالي تظهر العلاقة بين القانونين إلى الحد الذي يمكن من القول أنه كل منهما يكمل الآخر، ويستحيل وجوده بدونه، غير أن قانون الإجراءات هو المحرك لقانون العقوبات.
[13] - السياسة الجنائية فرع من فروع العلوم القانونية الحديثة، وهو العلم الذي يعبر عما هو كائن وما يجب أن تكون عليه سياسة التشريع في أي دولة، والسياسة الجنائية هي المرآة الصادقة للأوضاع السائدة في أي مجتمع عبر مراحله المختلفة، وقد عرفت بأنها:" مجموع الوسائل التي من شأنها – إذا استخدمت على نحو معين- تنظيم مكافحة الظاهرة الإجرامية في المجتمع." ، كما عرفت بأنها :" العلم الذي يهتم بتحديد الأفعال التي تقضي المصلحة الاجتماعية العقاب عليها، أو تخرجها من   دائرة العقاب."، ولكل سياسة جنائية محاور أربعة: تشريع، تجريم، عقاب، والتنفيذ العقابي. كما يقصد بعلم السياسة الجنائية، العلم الذي يبحث في أفضل الأساليب العلمية والعملية التي تنتهجها الدولة لمكافحة ظاهرة الجريمة، وقانون العقوبات بذلك يعد أداة من أدوات هذه السياسة، فهو الذي يجرم الأفعال على ضوء نظرة الدولة للجريمة وعلى ضوء المصالح الاجتماعية الجديرة  بالحماية، كما يحقق أهداف السياسة الجنائية من الناحية العقابية
[14] - حيث هناك العديد من الدراسات والنظريات والمدارس، التي اهتمت بتفسير السلوكات الإجرامية، وأثر مختلف العوامل فيها، سواء كانت عوامل داخلية، مثل العوامل الوراثية والعنصر والجنس والسن ومستوى الذكاء، أو كانت عوامل خارجية، من بيئة ومجتمع، وثقافة واقتصاد. 
         كما عرف علم الإجرام، بأنه : العلم الذي يدرس الجريمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية، ومعرفة العوامل المؤدية إليها، سواء كانت عوامل فردية ترجع إلى الجاني، أو عوامل اجتماعية ترجع إلى المجتمع والبيئة، لذا فعلم الإجرام لا يدرس الجريمة باعتبارها ظاهرة قانونية، بل ظاهرة إجرامية لها مكوناتها وأسبابها، والمجرم أساس المشكلة الإجرامية، يقتضي دراسة خلقه الإجرامي الكامن فيه، لذا فهو يستعين بالعديد من الفروع التي تتكامل ويتشكل منها، أهمها علم البيولوجيا الجنائية، علم النفس الجنائي، علم الاجتماع الجنائي...
[15] - خاصة وان البعض يرى أنه هناك نوع من سوء التفاهم بين رجال القانون الجنائي وعلماء الإجرام، كون كل فريق يود أن تكون معاييره هي الأصلح، فعلماء الإجرام يحلمون أن تسود العدالة الجنائية دون قانون ولا قاض، ويرون أن الحكم هو العالم القادر وحده على تشخيص المجرم وعلاجه، وحاولوا وضع إمبريالية علمية أقلقت نوعا ما رجال القانون، باسم  المحافظة على الحريات العامة والكرامة الإنسانية، وحاولوا حفظ حق " إعادة النظر" على عمل علماء الإجرام، ومنعهم من التدخل في الشؤون الجنائية، غير أن كلا الاتجاهين متطرفين، حيث يجب على رجل القانون الاستعانة بأعمال عالم الإجرام العلمية وترجمتها بقواعد قانونية، بناء على ما قدمه رجل القانون لعالم الإجرام من معطيات ومادة أولية بشرية، وبالتالي
 العلاقة بينهم علاقة تعاون متبادل.
 وعلم الإجرام، أو علم الجريمة، هو علم متعدد النظم العلمية أو متعدد المصادر والأبعاد العلمية، فهو يستمد موضوعاته من الكثير من العلوم الأخرى، كعلم النفس والطب وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، ويدرس علم الإجرام الجريمة دراسة علمية تجريبية وكل الموضوعات المتصلة بها، حيث يجمع المعلومات والمعطيات لفهم الجريمة وتحليلها، ويستهدف تكوين معرفة ثابتة وموثوق بها وصادقة حول الجريمة باعتبارها معرفة مستمدة من التجارب العلمية. لذا فهو يتصل بوضع القانون الجنائي  اتصالا وثيقا.
[16] - يرى البعض أن الطب الشرعي والبوليس الفني، علمان يساعدان كثيرا على كشف الجناة ونسبة الجرائم إليهم، كونهما علمان يستعينان بالأساليب العلمية في الكشف، من بصمات وتشريح للجثث والتصوير وتحليل المواد المختلفة، وهما العلمان اللذان حققا تقدما كبيرا بالنظر لاستعانتهما واستفادتهما من التطورات العلمية الحديثة والتكنولوجيا الحديثة، التي كان لها الفضل
                  الكبير في كشف بعض أنواع الجرائم التي كان يستحيل الكشف عنها من قبل لولا تقدم هذه العلوم.
[17] - وإن تركز هذا العلم في البداية على دراسة بصمات الأصابع، فهو اليوم يعرف العديد من أنواع البصمات الأخرى، حيث كشف العلم عن البصمة الوراثية، والبصمة الصوتية، وقزحية العين وما إلى غير ذلك من البصمات الإلكترونية والرقمية التي   سهلت كثيرا في الكشف عن الجرائم بمختلف أنواعها، وطرق ارتكابها، وأيا كان مستوى نرتكبها ووسيلته في ذلك.
[18] - في حقيقة الأمر كل المصالح الجوهرية والأساسية للأفراد والمجتمع تأخذ هذه المكانة باعتراف الدستور بها، لذا فالحق في الحياة والسلامة الجسدية والحفاظ على الحياة الخاصة وأسرارها، والحق في الملكية والسكن والعمل... وإن كانت كلها حقوق معترف بها في القانون الدستوري، فغن الاعتداء عليها نجده مجرما بنصوص عقابية مشكلة للجزء الغالب لهذا القانون،  وهو القسم الخاص منه. وهو الأمر ذاته بالنسبة للحريات، سواء تعلق الأمر بحرية التعبير أو حرية الانتخاب...
[19] - راجع المواد من 61 إلى 64 من قانون العقوبات الجزائري المعنونة بجرائم الخيانة والتجسس.
[20] - المواد من 65 إلى 76 المعنونة ب:" جرائم التعدي الأخرى على الدفاع الوطني أو الاقتصاد الوطني" 
[21] - راجع المواد من 71 إلى 83 والمعنونة ب:" الاعتداءات والمؤامرات والجرائم الأخرى ضد سلطة الدولة وسلامة أرض الوطن"، كما عاقبت المواد من 84 حتى 87 على جنايات التقتيل والتخريب المخلة بالدولة، والمادة 87 مكرر وما بعدها التي تعاقب على الأفعال الموصوفة بأفعال إرهابية أو تخريبية، والمادة 88 وما بعدها التي تعاقب على جنايات المساهمة في حركات
               التمرد، وهي كلها أفعال تمس بالدولة ككيان وبالسلطة ونظام الحكم، بطريق مباشر أو غير مباشر.
[22] - وأهم المراجع في هذا المجال: د/ أحمد فتحي سرور:" القانون الجنائي الدستوري"، دار الشروق، القاهرة، مصر،  2002.
[23] - الاختلاس والغر كانت تجرمه وتعاقب عليه المادة 119 من تقنين العقوبات، والمادة 126 تجرم وتعاقب على جريمة الرشوة، اللتان ألغيتا والكثير من المواد الأخرى ذات العلاقة سنة 2006 بصدور القانون رقم 06-01 المؤرخ في: 20-02-  2006 المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته.
[24] - القانون الدولي الجنائي: ينظم الجرائم الدولية التي تعد انتهاكات للمصالح الدولية ككل، وهي جرائم تتجاوز حدود الدول وتتضمن دوما عنصرا خارجيا (أجنبيا) إما بسبب جنسية مرتكب الجريمة أو جنسية المجني عليه أو بمس مكان ارتكابها، وهو القانون الذي يعبر عهنه البعض بقانون العقوبات عبر الوطني، بدلا من عبارة القانون الجنائي الدولي. وهو ينظم الجرائم ذات البعد الدولي أو ذات الطبيعة الدولية، ومنها الجرائم المنظمة العابرة للحدود الوطنية. وهي طائفة من الجرائم ترتكب في ظروف أكثر تعقيدا من الجرائم العادية التي يحددها القانون الجنائي الوطني، وهو ليس من القوانين الدولية بل من القوانين الداخلية التي تهتم بدراسة مسألة الإجرام الدولي.
بينما القانون الدولي الجنائي يهتم بمكافحة الجرائم التي سميت من قبل البعض بالجرائم العالمية التي اتفقت غالبية التشريعات على العقاب عليها ومكافحتها بشكل تعاوني جماعي، وذلك من خلال اللجوء إلى إبرام الاتفاقيات الدولية واستحداث آليات للتعاون الدولي وعموما تبني سياسة تجريمية موحدة لمواجهتها. وعموما يمكن القول بأن القانون الجنائي الدولي هو القانون الذي يهدف إلى تحقيق المصالح الهامة للمجتمع الدولي بتجريم الانتهاكات التي تمس مصالحه الجديرة بالحماية الجنائية، أهمها حفظ الأمن والسلم الدوليين وحماية حقوق الإنسان. وهو يستمد مصدره من أحكام القانون الدولي العام، أو يستمد وجوده من الاتفاقيات الدولية أو العرف الدولي أو غيره من المصادر، التي تستهدف حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية والتصدي لما يواجه الأسرة الدولية من مشكلات تهدد السلام والأمن العالميين. وخاصة الاتفاقيات التي تعد حسب البعض بأنه ما هي إلا عبارة عن اتفاقيات كاشفة عن قواعد قانونية موجودة، والاتفاقيات أصبح ذات أهمية كبرى في مجال مكافحة الجريمة ومعاملة المجرمين، هذا ما جعل الدمج يسود الفقه فترة طويلة من الزمن بين القانون الدولي الجنائي والقانون الجنائي الدولي سيما في اتحادهما في المصدر.ويرى البعض بان الذاتية والاستقلالية للقانون الدولي الجنائي تجسدت بصفة جلية وواضحة بموجب أحكام محكمة نورمبرغ العسكرية ومحكمة طوكيو، حيث أن الأحداث الدولية التي أسفرت عن تلك المحاكمات شكلت نقطة تحول في القانون الدولي العام الذي شهد ظهور فرع قانوني جديد وهو القانون الدولي الجنائي. وعرف القانون الدولي الجنائي العديد من التعريفات، من بينها أنه :" مجموعة القواعد القانونية التي تتعلق بالعقاب على الجرائم الدولية التي تشكل انتهاكا للقانون الدولي، وتحدد قواعده بموجب اتفاقيات بين الدول، لا داخل مواد التشريع الداخلي لكل دولة." وعموما هو فرع قانوني يهدف إلى حماية المبادئ والأحكام المقررة في القانون الدولي العام، والتي تتابع وتحكم في الجرائم وتحيلها على المحكمة الجنائية الدولية، بالرغم من أنه لا تزال الكثير من الجرائم ذات الطابع الدولي محل نقاش فقهي ما إن كانت تخضع للمحكمة الجنائية الدولية أم لا، مثل جرائم الاتجار بالمخدرات، والجرائم الإرهابية.
بينما يرى البعض أنه لا تفرقة بين القانون الجنائي الدولي والقانون الدولي الجنائي، وإنما هناك قانون جنائي عالمي وهو قانون اتفاقي نابع عن رغبة الدول في التضامن فيمتا بينها والتعاون لمكافحة الإجرام الداخلي، وبموجبه في الجرائم التي ينظمها يحق لكل الدولة القبض والمحاكمة على الشخص المرتكب لمثل هذه الجرائم. أو هو " مجموعة القواعد التي تحكم تنازع القوانين الجنائية من حيث الأشخاص والمكان".
[25] - في حقيقة الأمر الفقه عالج المسألة بشكل اسع وبطريقة مختلفة عن التي تناولناها، وبذلك ظهرت العديد من النظريات التي يكفي المقام لتفصيلها، بل الإشارة لها فقط، فظهرت نظرية التبعية، وهي نظرية الاتجاه التقليدي التي ترى أن طبيعة قانون العقوبات جزائية محضة وظيفته تكمن فقط في التدخل لمد الحماية لفروع القانون الأخرى، وفي ذلك عبر بنتام " إن القانون المدني هو الذي يقرر الحق... والقانون الجنائي هو الذي يأمر بعقاب من ينتهك هذا الحق"، وهناك نظرية الاستقلالية، ومؤداها أن قانون العقوبات مستقل بمبادئه وأفكاره ونظرياته، وكلما تدخل لمد فرع قانوني آخر بالحماية، فإن مفهوم هذه المصلحة ينسلخ من هذا الفرع القانوني ويعطى لها مفهوم جنائي مغاير، وهناك النظرية التوفيقية، التي يرى أنصارها أن قانون العقوبات يضم خليطا من القواعد القانونية، البعض منها يقرر جزاءات على مخالفة القواعد القانونية المنصوص عليها في فروع القانون= =الأخرى، والبعض الآخر يقرر جزاءات خاصة به يحمي بها بعض الالتزامات التي يتضمنها، وهو بذلك تبعيا في بعض جوانبه ومستقلا في بعض الجوانب الأخرى.
[26] - يرى البعض أن جميع القوانين في البداية كانت قوانين جنائية، ومع التطور تم الاستغناء على القوانين الجزائية بقوانين مدنية، ومن هنا جاء مصطلح " المدنية" La civilisation  حيث أن كلما حلت القوانين المدنية محل القوانين الجزائية، فإن ذلك يعني أن المجتمع يتطور نحو الأفضل، مما يجعل من القانون الجنائي قانونا يتضمن قواعد قانونية تتضمن شق الجزاء دون الشق الآخر، المتضمن المصلحة المراد حمايتها، وهي مصلحة منصوص عليها في القوانين الأخرى، والتي يجب أن تفسر في القانون الجنائي وفقا للمفهوم المعطى لها في هذه القوانين، وفقا لذلك، يمكن تقسيم القانون الجنائي عدة تقسيمات، تبعا للمصالح والحقوق التي يحميها، فيمكن تسميته بالقانون الجنائي المدني في الحالات التي يمد فيها القانون المدني بالحماية، كحالات الاعتداء على الملكية أو العقد بالتزوير مثلا، والقانون الجنائي التجاري، في الحالات التي يحمي فيها المصالح التجارية، والقانون الجنائي الإداري والمالي والجبائي.
وإن كنا لا نوافق هذا الرأي، إلا أن الواقع يشهد فعلا تفرع القانون الجنائي إلى العديد من الفروع الأخرى، حيث بدأنا نشهد في الآونة الأخيرة ظهور العديد من المؤلفات الفقهية لفقهاء قانون كبار، مثل القانون الجنائي الدستوري، والقانون الجنائي الدولي، والقانون الجنائي الإداري....
[27] - في حين نجد بعض الفقه يحصرها في ثلاثة وظائف رئيسية، إذ يرى أن قانون العقوبات يؤدي وظيفة جزائية، وأخرى أدبية، وثالثة حماية المجتمع وحقوق المواطنين، فالوظيفة الجزائية تتمثل في كون قانون العقوبات المتميز عن غيره من القوانين بفرضه لجزاءات الهادفة لتحقيق بعض الأغراض الأخلاقية والنفعية، أخلاقيا بمقابلة الجريمة بجزاء لإرضاء الشعور العام بالعدالة، ونفعيا بتحقيق الردع العام والردع الخاص، أما الوظيفة الأدبية فقانون العقوبات يعد تعبير عن القيم والمصلح  الاجتماعية، وكذا حماية حقوق المجتمع والمواطنين
[28] - حتى وإن كان لمفهوم الردع في قانون العقوبات معنى مغاير، إلا أنه يمكننا القول بأن الوظيفة الأساسية لقانون العقوبات هي تبيان المحظورات والممنوعات، وأوامر ونواهي قانون العقوبات في حقيقتها تنطوي على شيء من الإكراه النفسي والمعنوي، والضغط على الإرادة الإنسانية وتصدها وتمنعها من بروز المعطيات الإجرامية لديها، لذا قانون العقوبات في حقيقته يقوم بالتخويف والردع، كما يقوم أيضا بنوع من التربية الاجتماعية، حيث أن التعرف على المحظورات تعني تعرف الفرد على القيم المحترمة في المجتمع، كون القواعد الجنائية في حقيقتها تجريم لبعض الأفعال المخالفة في جانب من الجوانب لهذه القيم، سواء تعلق الأمر بالأمن العام لهذا المجتمع، أو نظامه وآدابه العامة، أو أمنه أو سكينته أو صحته... وما تدخل المشرع لتجريم فعل أو امتناع إلا لأنه عبر عن إرادة المجتمع في عدم تقبله ذلك، الأمر الذي يجعل الفرد يدرك ممنوعات وحرمات المجتمع الذي يعيش به، لذا فوظيفة مثل التربية الاجتماعية والردع والتخويف لا تتحقق إلا بالنصوص الجنائية المكتوبة الصادرة عن الجهة المختصة بإصدارها حسب دستور الدولة ونظام حكمها.
وإن كانت حقيقة أن الإنسان اجتماعي بطبعه، وعليه الامتثال لقيم هذا المجتمع، غير انه لا ينبغي لهذا المجتمع أن يتعسف كثيرا في حرمان الأفراد من حرياتهم واستقلاليتهم، لذا يجب العمل على إقامة نوع من التوازن بين مصلحة المجتمع وبين حقوق وحريات الأفراد، وهما النقيضين – في الحقيقة- الذين يعملان في المجتمع في آن واحد، لذا يجب أن يكون هناك= =حكما يضع الحدود الفاصلة بين هذين المتعارضين، وهو المشرع المعبر عن إرادة الجماعة من جهة، وحامي حريات الأفراد  وحقوقهم من جهة ثانية، لكن في إطار الشرعية الجنائية
[29] - حيث كان الانتقام الوسيلة الأولى للعقوبة في العصور البدائية، وكان أسلوبا مسيطرا على تصرفات الإنسان، ومن بعده التأديب الذي كان ينزله رب الأسرة بالجاني، ويمكن تلخيص هذه المرحلة في الأفكار التالية: العدوان أو الجريمة كان نوعان، خارجي وداخلي، والجزاء تمثل في الانتقام الفردي والجماعي أو الثأر، بخصوص الجريمة: سلطة التقرير لرب الأسرة وهي نوعان الاعتداءات الداخلية والاعتداءات الخارجية، وبخصوص الجزاء، توقيع الجزاء في حال الاعتداءات الداخلية من سلطات رب الأسرة، وفي الاعتداءات الخارجية ساد نظام الثأر الجماعي بين الأسر، بالنظر لقيام العلاقات الأسرية على أساس " رابطة لدم" التي تعد اليوم من أهم أسس للجنسية في القوانين المعاصرة.
[30] - في مرحلة لاحقة من مراحل تطور البشرية تكونت العشائر من مجموعة أسر تعتقد في انتمائها لأصل واحد سواء كان نباتا أو حيوانا كان يطلق عليه مصطلح : التوتم" الذي كان بمثابة إله العشيرة الذي تقدم له القرابين، ومن مجموعة عشائر تكونت القبائل إما على أساس ديني مثلما هو الشأن بالنسبة لتكون العشائر، وإما بسبب الحروب التي كانت تفرز غالب ومغلوب يسيطر فيه الأول على الثاني، ومن مجموعة القبائل تكونت بعدها المدن القديمة كمدينة روما وأثينا واسبرطة التي تحولت في مرحلة لاحقة إلى دول حديثة، وكل على رئس كل عشيرة أو قبيلة أو مدينة رئيس أو حاكم أو أمير يتولى تصريف شؤونها.
[31] - ويمكن تلخيص مبادئ هذه الفترة في: تطوير النظم الأسرية وتحول سلطات توقيع العقاب، الاهتمام بشق الجزاء دون الجريمة، تطور فطرة الانتقام الجماعي، ظهور فكرة القصاص. في الاعتداءات الداخلية، وفكرة الحروب في الاعتداءات الخارجية. قلل منها بفكرة الدية والصلح.
[32] - القول بالدين لا يعني بالضرورة أننا بصدد الكلام عن المسيحية أو الشريعة الإسلامية، بل عن كل الأديان والمعتقدات التي سادت البشرية حتى قبل ظهور هاتين الديانتين، ويمكن القول أن أهم ما لعب دورا هاما في تطوير قانون العقوبات، كان الدين، فعن طريقه تمت تقوية سلطات الحكام وادعائهم أنهم يستمدون مثل هذه السلطات من قبل الإله مباشرة كون الحاكم ممثلا للإله على الأرض، وكانوا يصورون الجريمة على أنها أرواح شريرة تتقمص شخص الجاني وتؤدي إلى إغضاب الآلهة، ومن الضروري لإرضاء الآلهة أن يقوم الجاني بالتكفير عن جريمته وذلك بإنزال العقوبة عليه حتى ترضى الآلهة، واتخذت بذلك العقوبة فكرة الانتقام الديني الذي تحت غطائه ظلت العقوبات تتسم بطابع القسوة والشدة كأسلوب لردع الجناة وإرضاء الآلهة وامتصاص غضبها، ورغم ظهور ديانات سماوية بعد الاعتقادات الدينية القديمة ونزول اليهودية والمسيحية إلا أن الحكام استمروا عن مبادئ مثل هذه الديانات للتنكيل بخصومهم وردع الخراجين هن حكمهم، لتستمر بذلك العقوبات متسمة بالقسوة والشدة.
[33] - يعتبر القرن الثامن عشر، حسب البعض، المرحلة الانتقالية ما بين المجتمعات التقليدية والعصر الحديث، وهو القرن الذي شهد العديد من الثورات الاجتماعية في أوروبا، كما شهد في المجال الجنائي ما سماه هذا الفقه بالثورة الأولى التي تمثلت في المدرسة الكلاسيكية. 
[34] - ويمكن تلخيص أفكار هذه المدرسة في أنه جع أنصارها ما بين فكرتي العدالة والمنفعة الاجتماعية، فالعقوبة لا تكون مشروعة إلا في الحدود التي تجتمع فيها العدالة والمصلحة، ولم يسلموا بين فكرة المساواة المطلقة في فكرة المسؤولية، بل يجب مراعاة ظروف الجناة كل على حدا لتقرير المسؤولية الجنائية، وتأثرت العديد من التشريعات بآراء هذه المدرسة آنذاك، مثل القانون الفرنسي لسنة 1832 التي ألغت العقوبات القاسية وقرر نظم التخفيف وفرق بين الجرائم السياسية والجرائم العادية، كما أخذ بأفكار هذه المدرسة أيضا قانون العقوبات القانون الجنائي الألماني الصادر سنة 1870، وقانون العقوبات الإيطالي لسنة 1889
[35] - حيث رأت هذه المدرسة أن الجريمة ظاهرة تعود أسبابها إما لظروف عضوية ونفسية، أو بيئية أو اجتماعية، والقول بحرية الاختيار هروب من التعمق في دراسة أسباب الجريمة وذلك بإلقاء اللوم على الجاني، وأن ذلك يؤدي إلى الجمود وعدم مواجهة الجريمة باعتبارها نتيجة حتمية لا مناص من وقوعها.لكن فكرة الحتمية التي نادت بها هذه النظرية هي عبارة عن وهم أثبت الواقع عدم صحته
[36] - وهي كلها مبادئ قانونية راسخة اليوم في التشريعات الجنائية المعاصرة، بما فيها التشريع الجزائري.
[37] - الزنا هو وطأ الرجل للمرأة في حرام من دون أن تكون تحل له، فكل وطأ محرم يشكل في الشريعة الإسلامية جريمة الزنا، دون أن تفرق الشريعة بين المتزوج وغير المتزوج عكس القانون الجزائري الوضعي، حيث لا تقوم هذه الجريمة إلا إذا كان أحدهما متزوجا ( المادة 339 تقنين العقوبات الجزائري)، وحد جريمة الزنا في الشريعة الإسلامية هو الجلد مائة جلدة لغير المحصن، والرجم للمحصن، وذلك لقوله عز وجل في الآية الثانية من سورة النور:" الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين"
[38] - السرقة من جرائم الحدود في الشريعة الإسلامية، وبينت حدها الآية 38 من سورة المائدة، وهو قطع اليد، :" والسارق  والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكلا من الله والله عزيز حكيم".
[39] - القذف في لشريعة الإسلامية هو رمي المسلم المحصن بالزنا أو نفي النسب، على عكس القانون الوضعي الذي يمثل الادعاء علنا بواقعة ( المادة 296 قانون العقوبات الجزائري)، وبينت حد هذه الجريمة الآية 4 من سورة النور :" والذين  يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون".
[40] - البغي عموما – وبالرغم من اختلاف الفقه الإسلامي حول تعريفه- فهو الخروج عن طاعة أولي الأمر ظلما وتعديا، أو هو الامتناع عن طاعة السلطان فيغير معصية، وبينت حده الآية 9 من سورة الحجرات:" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يجب المقسطين
[41] - الحرابة مشتقة من لفظ الحرب، بمعنى القتل أو أخذ المال قهرا أو على سبيل المغالبة، ويسمى فاعلها المحارب أو قاطع الطريق، وهي من جرائم الحدود لقوه تعالى في الآيتان 33 و34 من سورة المائدة :" إنما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلف أو ينفوا من ا{ض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم (34)"
[42] - الردة هي إنكار لما علم من الدين، كأن يكفر المسلم صراحة أو بفعل يدل على خروجه من الدين الإسلامي، وهي عموما الرجوع عن الإسلام، وبين الشرع عقوبتها في سورة آل عمران الآية 82 وفي الآية 217 من سورة البقرة، حيث قال عز وجل في الأولى:" ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، وفي الثانية:" ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعملهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحب النار هم فيها خالدون" وقوله صلى الله عليه وسلم :" من بدل دينه فاقتلوه..." وبالتالي الحد هو القتل.
[43] - جريمة الخمر حرمه الشرع قطعا، غير أنه لم يبين عقوبتها أو الحد المقرر لها، لذا قرر النبي صلى الله عليه وسلم الجلد كحد لها، بقوله :" من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه" وثبت أن شارب الخمر جلد أربعون جلدة في عهد أبا بكر، كما ثبت الجلد ثمانون جلدة في عهد عمر رضي اله عنهما.
[44] - يقول عز وجل في الآية 179 من سورة البقرة :" ولكم في القصاص حيواة يأولي الألبـب لعلكم تتقون" وقوله أيضا في الآية 178 من سورة البقرة :" يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، وقوله تعالى في الآية 45 من سورة المائدة:" وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم با أنزل الله فأولئك هم الظلمون"، قله عز وجل في الآية 92 من سورة النساء:" ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما".
[45] - الأمر رقم 66-156 المؤرخ في 08 يونيو 1966 المعدل والمتمم.
[46] - مثل المرسوم 63-399 المؤرخ في 07-10-1963 المتضمن تصنيف العتاد الحربي والأسلحة والذخائر غير المعتبرة كعتاد حربي، والمرسوم رقم 63-441 المؤرخ في: 08-11-1963 المتضمن تنظيم شروط اقتناء وحيازة أسلحة الصيد وذخائرها والتنازل عنها، المرسوم الصادر بتاريخ 18-03-1963 المتعلق بتجريم الأفعال الماسة بالأملاك الشاغرة، قانون القضاء العسكري الصادر بالأمر 71-28...
[47] - الأمر رقم 66-155 المؤرخ في 08 يونيو 1966 المعدل والمتمم.
[48] - أول تعديل كان سنة 69 بموجب الأمر 69-74 المؤرخ في: 16-09-1969، ثم سنة 1973 بموجب الأمر 73-48 المؤرخ في 25-11-1973، ثم ألأمر رقم 75-47 المؤرخ في: 17 يونيو 1975، القانون 78-03 المؤرخ في 11-02-1978، القانون 82-04 المؤرخ في 13-02-1982، القانون 88-26 المؤرخ في 12 يوليو 1988، القانون 89-05 المؤرخ في 25-04-1989، القانون 90-02 المؤرخ في 06-02-1990، القانون 90-15 المؤرخ في 14 يوليو 1990، الأمر التشريعي رقم 95-11 المؤرخ في 25-02-1995، الأمر 96-22 المؤرخ في 09 يوليو 1996، الأمر 97-10 المؤرخ في 06-03-1997، القانون 01-09 المؤرخ في: 26 يونيو 2001، القانون 04-15 المؤرخ في: 10-11-2004، القانون رقم 05-06 المؤرخ في 23-08-2005، القانون 06-01 المؤرخ في 20-02-2006 المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته، القانون 06-23 المؤرخ في 20-12-2006.













الباب الأول
النظرية العامة للجريمة
مقدمــــــة
        الجريمة قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض، حيث وقعت أول جريمة قتل على الأرض والبشرية لا تزال في بدء ولادتها، فالجريمة متواجدة ما وجد بني البشر، حتى ولو عاشت البشرية كلها في المدينة الفاضلة التي تخيلها فلاسفة اليونان، لذا فوجود القانون العقابي حتمية لجميع المجتمعات البشرية، كون الجريمة مرادفة للسلوك الاجتماعي وتابعة لوجود البشر والمجتمع، الأمر الذي جعل من الجريمة موضوعا هامة تحدث فيه الفلاسفة والفقهاء على حد سواء. لكنها فكرة لا تزال لغاية اليوم تثير الجدل والنقاش الفقهي الحاد، سواء فيما يتعلق بتحديد ماهيتها، أو بتكوينها القانوني من حيث الأركان والعناصر والظروف، وذلك راجع بالأساس إلى أن فكرة الجريمة اختلطت حولها المفاهيم الاجتماعية والسلوكية والقانونية، وتعددت المذاهب داخل الدراسة القانونية ذاتها.
        لذا فدراسة النظرية العامة للجريمة، تقتضي منا قبل الخوض في تحليلها وتناول تفاصيل أركانها العامة، تباعا وفقا لما أوردها الفقه، والتمييز بين هذه الأركان وما يشابهها من أفكار وما ثار حولها من جدل فقهي، أن نتناول في فصل أول من هذا الباب، ماهية الجريمة كموضوع أساسي للقاعدة الجنائية الموضوعية، والتي تمثل الشق الأول منها، سواء تمثلت في أمر أو نهي، خاصة وان الشق الثاني من القاعدة المتمثل في الجزاء ما هو إلا أثر يترتب عن مخالفة الشق الأول، حيث لا يمكن الكلام عن هذا الجزاء، إلا في حال عدم الامتثال لشق التجريم، سواء بمخالفة النهي وإتيان سلوك يخالفه، أو بعدم الامتثال للأمر، وعدم إتيان الفعل الذي أمر به قانون العقوبات. وعلى ذلك، سنحاول الشروع في دراسة هذا الباب من خلال فصل تمهيدي  نتناول فيه ماهية الجريمة كموضع أساسي محوري لقانون العقوبات. لنخصص ثلاثة فصول أخرى متتالية لكل ركن من أركانها العامة، وآخر لدراسة أسباب الإباحة يكون تاليا مباشرة للفصل المتعلق بدراسة الركن الشرعي، ونختمه بخامس نبين فيه تصنيف الجرائم أو تقسيماتها. على أساس أن هذا التقسيم
أو التصنيف يرتبط ارتباطا وثيقا بأركان الجريمة، لذا حاولنا تأخيره لغاية استيعابنا لهذه الأركان العامة.



















فصل تمهيدي
مـــاهية الجـــريمة
        بالرغم من كون الجريمة العنصر الأهم في القاعدة الجنائية، باعتبارها الشق الذي يترتب عليه تطبيق الشق الثاني من ذات القاعدة، ومن بعده الاحتكام للقاعدة الإجرائية في وضع القاعدة الموضوعية موضع التنفيذ، وأن السياسة الجنائية في الأصل يكمن اهتمامها بهذا الشق، حيث يجسد نظرة المشرع لما لا يجب أن يسود المجتمع من سلوكات، وانصباب اهتمامه بالدرجة الأولى على بحث النموذج القانوني المجرم، كون الأثر مسألة غير متعبة أساسا، حيث وضع الجزاء المناسب مسألة سهلة نسبية، غير أننا نادرا ما نجد القانون الجنائي أو قانون العقوبات يهتم بوضع تعريف عام للجريمة، كون التعريف الخاص لكل جريمة على حدا موجود في النص الذي يبين ركنها المادي وباقي عناصرها الأخرى، مفضلا ترك المهمة للفقه، خاصة وأن المعروف أن وضع التعاريف ليس من أعمال المشرع بل من مهام الفقه، لدرجة أن قال البعض وضع التعاريف لعبة الفقهاء، ونرى أن مسلك المشرع في ذلك مسلكا سليما كون وضع تعريف قد يقيد حركيته في التجريم والعقاب، ويجعله عرضة للوقوع في التناقضات ما بين أحكام قانون العقوبات الواحد، غير أن ذلك لا يمنعنا من التركيز على أهمية هذا التعريف، كونه الخطوة الأولى للإحاطة بمقومات وخصائص وأركان الجريمة، وكذا التمييز بينها وبين الأفكار المشابهة لها في ميادين القانون الأخرى، أو في الحياة الاجتماعية، كما أن غياب التعريف القانوني الجامع والمانع انعكس على تصنيف أنواع الجرائم ووضع تقسيمات قانونية لها، وجعل الفقه يختلف حول هذه المسألة، مثلما اختلف حول أركان الجريمة وعناصرها، بل وحتى حول عدد هذه الأركان، وهو ما يتوضح لنا من خلال نقاط هذا الفصل، الذي سنحاول أن نتناوله من خلال التعرض لمفهوم الجريمة في حد ذاتها كتصور قانوني وأساس عمل المشرع الجنائي، لنتمكن فيما بعد بالإحاطة بأركانها وعناصرها ومختلف مقوماتها، وذلك من خلال مبحث ثاني نتناول فيه التحليل القانوني لفكرة الجريمة.






















المبحث الأول
مفـــــهوم الجريمة
        سبق القول بأن المشرع لم يهتم بوضع تعريف للجريمة[1]، مفضلا كالعادة ترك المهمة للفقه، الأمر الذي جعل من الموضوع ساحة للجدل والاختلاف الفقهي، وجعل المسألة من أكثر المواضيع الجنائية إثارة للخلاف والجدل، وهو الأمر الذي يميز قانون  العقوبات كلما تعلق الأمر بوضع التعاريف، وقد تبينا ذلك في نقاط البحث السابقة، وسنتبينه لاحقا كلما تعلق الأمر بوضع تعريف لفكرة جنائية من أفكار قانون العقوبات، غير أن ميزة الخلاف الفقهي الجنائي حول وضع التعاريف، هي أنه يمكن من إيجاد نقاط مشتركة خاصة في ظل كثرة المدارس والاتجاهات، من مدارس موضوعية وأخرى شخصية، ومن اهتمام قانوني وآخر علمي، وكذا لاهتمام غالبية العلوم بفكرة الجريمة كسلوك يمكن أن يميز سائر مجالات الحياة، فاهتم بها علماء الإجرام وعلماء العقاب والفقه والقضاء الجنائي، وإن كانت مثل هذه العلوم من العلوم الجنائية المساعدة، فإن فكرة الجريمة أيضا موضوع اهتمام سائر فقهاء الميادين الاجتماعية الأخرى، شأنها شأن أية فكرة اجتماعية. لذا سنحاول من خلال مطلب أول، تبين أهم التعريفات الفقهية لفكرة الجريمة، لنحاول بناء على ذلك تبين أهم خصائصها، في مطلب ثاني، الأمر الذي يمكننا فيما بعد من التمييز بينها وبين الأفكار القانونية المشابهة لها، وذلك في مطلب ثالث.
المطلب الأول
تعريـف الجريــمة
        من أكثر المواضيع التي شغلت الفقه الجنائي، هي محاولته وضع تعريف للجريمة، الأمر الذي انعكس على تعدد هذه التعاريف وتنوعها، إلى حد جعلها في منأى عن الحصر، غير أنه يمكننا رد هذه التعريفات إلى اتجاهين أساسيين، اتجاه اجتماعي ويركز أنصاره على فكرة الجريمة كسلوك اجتماعي ضار بالمجتمع، واتجاه قانوني يركز على اعتبار الجريمة فكرة قانونية مجردة، وهو ما نبينه من خلال الفرعين التاليين.
الفرع الأول
الاتجاه الاجتماعي في تعريف الجريمة
        يميل أنصار هذا الاتجاه في تحليلهم للجريمة ومحاولة وضع تعريف لها، إلى التركيز على جوانبها الاجتماعية، باعتبارها سلوكا اجتماعيا صادرا عن إنسان قبل أن تكون فكرة قانونية، حيث لكل إنسان دوافعه الخاصة في ارتكابه للجريمة وهذه الدوافع تختلف من شخص لآخر، بل تختلف لدى الشخص الواحد من جريمة لأخرى، وبالتالي فإن أي محاولة لوضع تعريف للجريمة يجب أن تنطلق من دراسة وتحليل سلوك الإنسان ودوافعه. وهو اتجاه تبناه أيضا علماء الإجرام، الذين سبق لهم أن توصل بهم الحد للقول بعدم الحاجة لا لقانون العقوبات ولا لقاضي يطبق هذا القانون، بل أن المسألة تحتاج إلى مخابر يتولى فيها العلماء البحث في الجريمة وأسبابها ودوافعها، ووضع العلاج المناسب لها، وبالتالي هو اتجاه إن صلح كعامل مساعد في رسم السياسة الجنائية، فإنه لا يصلح لقانون العقوبات الذي يبنى على أفكار قانونية مجردة.
الفرع الثاني
الاتجاه القانوني في تعريف الجريمة
        على عكس الاتجاه السابق، الذي يركز على الجريمة كسلوك إنساني، فإن أنصار الاتجاه القانوني يركزون في محاولاتهم لوضع تعريف للجريمة على نصوص قانون العقوبات ذاته، باعتبار أن الجريمة تستمد وجودها القانوني من هذه النصوص، وبالتالي تصبح الجريمة فكرة قانونية مجردة أكثر من اعتبارها سلوك إنساني أو اجتماعي، وداخل هذا الاتجاه ذاته، هناك اختلاف فقهي، حيث نجد البعض يركز على الجانب الشكلي للجريمة، في حين يركز البعض الآخر على جوانبها الموضوعية، وبذلك ظهر اتجاهين قانونيين في تعريف الجريمة[2]، أحدهما شكلي والآخر موضوعي. وهو ما نتناوله في النقطتين التاليتين.


أولا: الاتجاه القانوني الشكلي في تعريف الجريمة
        وهو الاتجاه الذي يركز أنصاره في تعريفهم للجريمة، على العلاقة الشكلية الموجودة بين الجريمة في حد ذاتها – أيا كانت طبيعتها- وقانون العقوبات، أو العلاقة ما بين ظاهرة الجريمة والقاعدة الجنائية أو النص الجنائي، وبذلك عرفت أنها:" الواقعة المرتكبة بالمخالفة لقواعد قانون العقوبات والتي يرتب عليها عقوبة جنائية"، أو هي:" فعل أو امتناع يجرمه القانون"، أو :" تصرف موصوف بأنه جريمة بواسطة القانون".
        وبالتالي ركز أنصار الاتجاه الشكلي كثيرا على الركن القانوني للجريمة، أو الركن الشرعي على نحو ما سنراه لاحقا، وأهملوا تماما الشخص الذي ارتكب هذه الجريمة، وطبيعة الفعل ذاته، مما يعني إهمالهم لركنين أساسيين هما الركن المادي للجريمة وركنها المعنوي الآتي دراستهما[3].
ثانيا: الاتجاه القانوني الموضوعي أو المادي في تعريف الجريمة
        يركز أنصار هذا الاتجاه، وعلى عكس الاتجاه السابق، على جوهر الفعل الذي جرمه القانون، ويعتبرونه الواقعة الضارة بمصالح المجتمع الجوهرية، وهي المصالح التي يقوم عليها أمن واستقرار هذا المجتمع، بل يستمد منها كيانه ووجوده، سواء تمثلت في النظام العام أو الآداب العامة أو الصحة أو السكينة العامة، وبالتالي تستمد الجريمة وجودها من وجود المجتمع ذاته، لا من نص القانون مثلما يرى أنصار الاتجاه القانوني الشكلي، وعرفت الجريمة تبعا لهذا الاتجاه، بأنها:" الواقعة الضارة بكيان المجتمع وأمنه". وبالتالي أهمل أنصار هذا الاتجاه الركن القانوني للجريمة، كما أهملوا أيضا ركنها المعنوي المتمثل في شخصية مرتكب هذه الواقعة الضارة، وبالتالي إن كان أنصار الاتجاه الشكلي قد أهملوا الركنين المادي والمعنوي وركزوا فقط على الركن القانوني، فإن أنصار الاتجاه الموضوعي أهملوا الركنيين القانوني والمعنوي وركزوا فقط على الركن المادي في الجريمة[4].
        وبالتالي، يمكننا القول، بأن كل اتجاه عاجز لوحده أن يعطي تعريف يلم بكل جوانب الجريمة، كما أنه بإعمال الاتجاهين معا، نبقى عاجزين عن الإلمام بذلك، حيث يبقى ينقصنا الركن المعنوي في الجريمة الذي يكون بالتركيز على شخصية مرتكبها، وإن كان الاتجاهين الأولين يمكنان من تعريف الجريمة أنها الواقعة التي ترتكب إضرار بمصالح المجتمع ويرتب عليها قانون العقوبات جزاءا جنائيا، إلا انه يجب إضافة الركن المعنوي المتمثل عن إتيان هذه الواقعة من طرف مقترفها عن وعي وإدراك وحرية اختيار، على اعتبار الجريمة فينظرنا نص وفعل وفاعل، أي أن تكون واقعة إرادية سواء تمثلت في فعل أو امتناع.  وإن كان كل ما سبق لم يف بعد بالمطلوب، وهو إعطاء تعريف جامع ومانع للجريمة، إلا أنها محاولات تبقى كافية لتبين لنا خصائص هذا الفعل أو الامتناع التي تجعل منه جريمة، وتمكن من تمييزها عن باقي الأفكار القانونية المشابه لها. وهو ما نتبينه من خلال الفرع الثاني.
المطلب الثاني
خصـــائص الجريمة
        من التعريفات السابقة، يمكن القول بأن الجريمة، كسلوك إنساني، أو كفكرة قانونية أو اجتماعية، تتميز بالعديد من الخصائص التي تميزها عن الأفكار المشابهة لها، أو القريبة منها، من أهم هذه الخصائص، أنها سلوك إنساني قبل كل شيء، وأن يكون هذا السلوك غير مشروع، وعدم المشروعية هذه تستمد من تجريمه من قبل قانون العقوبات، وأثرها العقاب عليه، حيث أن العقاب أثر لعدم مشروعية الفعل، وأن يمثل هذا السلوك إضرارا بالمصالح الجوهرية للمجتمع، بخرقها عن طريق الإضرار بها، أو بتهديها بخطر.
الفرع الأول
الجريمة سلوك مادي إنساني معاقب عليه
        يمكن أن نستنتج من هذه الخاصية وحدها العديد من الخصائص الفرعية الأخرى، فهي أولا وقبل كل شيء سلوك، فحتى تعد الواقعة جريمة يجب أن تنطوي على قدر معين من السلوك، سواء قل أو كثر، وسواء تمثل في فعل إيجابي أو في سلوك سلبي، حيث أن الجريمة تقوم بالفعل كما تقوم بالامتناع، ونكون بصدد الفعل الإيجابي عند مخالفة نواهي قانون العقوبات، ونكون بصدد السلوك السلبي عند عدم إتيان أوامر قانون العقوبات، أو القيام بالأمر على نحو مخالف لما تطلبه القانون، وبالتالي اعتبار الجريمة سلوك يقودنا لمبدأ هام يقوم عليه قانون العقوبات، وهو مبدأ مادية الجرائم، حيث أن القانون الجنائي لا يحفل ولا يعبأ بالنوايا مهما كانت شريرة، ولا سلطان له على الضمائر وما تحدث به الأنفس. هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، يجب أن يكون هذا السلوك المادي، سلوكا إنسانيا، صادر عن إنسان يتمتع بالتمييز والقدرة على الاختيار، حتى يمكن مسائلته قانونا – وإن كان يمكن مسائلة الشخص المعنوي، فإن ذلك في أحوال ضيقة تمثل استثناء وأثارت العديد من الجدل الفقهي الذي حسم في شق منه ولا يزال يثير الكثير من الجدل في نواحي كثيرة منه- حيث أن قانون العقوبات كقاعدة يخاطب الشخص الطبيعي البالغ العاقل المميز المختار، سواء اتخذت هذه الإرادة صرة العمد أو الخطأ، وزيادة عن ذلك، يجب أن تنتفي أسباب الإباحة في الفعل. وهو ما يجسد فكرة الركن المعنوي للجريمة. وكذا تجسيد لفكرة المسؤولية الجنائية. وزيادة على اعتبار الجريمة سلوك مادي صادر عن إنسان، وأن يكون هذا الإنسان واعي ومدرك ومختار، يجب أن يجد مصدر تجريمه في نصوص قانون العقوبات، الذي يعد الوسيلة الوحيدة للتجريم والعقاب، وهو ما يجسد فكرة قانونية الجرائم والعقوبات،
أو مبدأ الشرعية الجنائية. وإن كانت الخصائص السابقة قد جسدت فعليا أركان الجريمة الثلاث الأساسية، فإنه هناك خاصية أخرى تجسد خصوصية الجريمة وتميزها عن غيرها من صور المخالفات المنصوص عليها في الفروع القانونية ألأخرى، وهي أن يكون الفعل المادي الصادر عن الإنسان المسؤول جنائيا، يخرق
أو يهدد المصالح الجوهرية أو الأساسية للمجتمع. وهي الخاصية الثانية، التي نتناولها في النقطة الموالية.
الفرع الثاني
الجريمة خرق أو تهديد لمصالح وقيم المجتمع الجوهرية
        من أهم ما يمز الجريمة عن صور المخالفات القانونية الأخرى، المنصوص عليها في فروع القانون المختلفة غير القانون الجنائي، أنها سلوك يصل في جسامته إلى حد الإخلال بمصالح وقيم المجتمع الأساسية، كنظامه وأمنه وصحته وسكينته وآدابه وطمأنينته، وحقوق وحريات أفراده، وهي المسألة التي تبرر للمشرع الجنائي التدخل بالتجريم الذي يعد استثناء عن قاعدة أساسية أصلية هي أنه الأصل في الأشياء الإباحة، وسواء شكل هذا الإخلال تعديا فعليا أو مجرد تهديد كحالات الشروع[5]. هذا وبعد أن حددنا بعض التعريفات التي أعطيت للجريمة ومكنتنا من تحديد أهم خصائصها، يتوجب علينا أن نميزها عما يشابهها من صور المخالفات القانونية الأخرى، وأهمها الجريمة المدنية والجريمة التأديبية.
المطلب الثالث
تمييز الجريمة عن صور المخالفات القانونية المشابهة
        يميز الفقه الجريمة الجنائية عن بعض صور المخالفات الأخرى، على أساس أنه يوجد تشابه بين هذه الأفكار، ومن أهمها المخالفة المدنية والمخالفة التأديبية، ويسميهما الجريمة المدنية والجريمة التأديبية، وإن كنا نرى أن لفظ " الجريمة" لا ينصرف إلا إلى الأفعال المجرمة بموجب قانون العقوبات، وما باقي الصور الأخرى سوى مجرد مخالفات لا تترتب عليها ذات النتائج التي تترتب على الجريمة بالمفهوم القانوني الجنائي الصحيح.
الفرع الأول
الجريمة الجنائية والجريمة التأديبية
        الجريمة الجنائية، على النحو الذي تقدم، تعد واقعة مضرة بالمصلحة العامة أو بالمصالح الجوهرية أو الأساسية للمجتمع، في حين الجريمة التأديبية تمس مصلحة فئة معينة من الأشخاص، أو مصلحة هيئة معينة، أو الوظيفة العامة، مخالفا بذلك اللوائح والنظم والقوانين الأساسية التي تنظم هذه الهيئات أو النقابات
 أو الجمعيات أو المهن. فالجريمة التأديبية مساس بأخلاق أو آداب أو قيم أو أعراف جهة معينة أو فئة معينة من فئات المجتمع، فتطبق على الشخص العقوبات المقررة لهذه المخالفات بحسب درجتها، والتي تكون محددة مسبقا مثل الإنذار أو الخصم من الراتب أو الإنزال في الرتبة أو الفصل أو حتى الحرمان من ممارسة المهنة بصفة مؤقتة أو دائمة. وهي تختلف عن الجريمة الجنائية من حيث المصدر والنتيجة والجزاء.فمصدر الجريمة الجنائية مثلما سبق القول هو النص الجنائي المكتوب، بينما مصدر الجريمة التأديبية فهو كل مسلك يشكل إضرارا بالمصالح الجماعية للطائفة التي ينتمي إليها الشخص، وهي مسالك غير محددة في العادة مسبقا على سبيل الحصر، ومن حيث النتيجة، فإن الجريمة التأديبية أضيق نطاقا من الجريمة الجنائية، فالأولى لا تمس إلا مصالح الطائفة أو الهيئة التي ينتمي إليها المخالف، بينما تمس الثانية مصالح المجتمع بأسره، وعلى اختلاف طوائفه. ومن حيث الجزاء تتسع أكثر شقة التباين بين كل من الجريمتين سواء من حيث الجهة التي توقع الجزاء أو من حيث طبيعة هذا الأخير
الفرع الثاني
الجريمة الجنائية والجريمة المدنية
        يختلفان من جوانب عديدة، سواء تعلقت بالأركان أو الآثار، فبالنظر لللأركان أهم عنصر للاختلاف أن الجريمة الجنائية تخضع لمبدأ الشرعية الجنائية، في حين الجريمة المدنية مبدأ الشرعية أو التحديد المسبق للخطأ غير وارد، إذ أي ضرر يسبب للشخص يعد مرتكبه ملزما بالتعويض، وهو ما لا يمكن حصره مسبقا من قبل المشرع على عكس الجرائم الجنائية، كما أن العقوبة في الجريمة الجنائية محددة سلفا، على خلاف التعويض في الجريمة المدنية الذي يخضع لقيمة الضرر الذي أصاب الشخص ولتقدير القاضي. على ضوء طلبات الشخص المضرور ودفاع الشخص المسبب للضرر. كما أنه بالنسبة للركن المادي، فالجريمة الجنائية يمكن تصور قيامها بدون وجود أي ضرر يذكر، مثل جرائم الشروع أو حمل الأسلحة بدون ترخيص – وإن  كنا نرى الضرر في هذه الجريمة مخالفة نظم الدولة في التعامل بهذا النوع الخطير من الوسائل- في حين في الجرائم المدنية يجب حصول ضرر معين. وعموما يختلفن من حيث المصدر والنتيجة الجزاء، فمن حيث المصدر تجد الجريمة المدنية مصدرها في كل فعل يسبب ضررا للغير، وهي بذلك أفعال غير قابلة للحصر، أما مصدر الجريمة الجنائية هو نص قانون العقوبات وحده دون غيره من المصادر الأخرى، ومن حيث النتيجة فكل جريمة مدنية إلا وتسبب ضررا يكون معيارا للقاضي في تحديد وتقدير التعويض المستحق للشخص المضار، في حين يمكن أن تقوم الجريمة الجنائية دون أن تسبب أي ضرر للغير، سيما في الجرائم الشكلية. ومن حيث الجزاء، فهو في الجريمة المدنية مجرد التعويض، ويستفيد منه الشخص المضار، بينما الجزاء في الجريمة الجنائية هو العقوبة أو تدابير الأمن التي لا توقع لصالح المجني عليه، ولا يستفيد منها إطلاقا بصفة شخصية، وإنما توقع باسم ولصالح المجتمع، ولكن لا يجب الخلط في ذلك مع الدعوى المدنية التي تقام بالتبعية للدعوى العمومية.
        والجريمة الجنائية وإن كانت مستقلة تماما عن الجريمة المدنية، غير أن ذلك لا يمنع من القول بأن الفعل الواحد قد يشكل الجريمتين معا في الكثير من الأحيان، وهو ما يبرره وجود الدعوى المدنية التبعية الملازمة في غالب الأحيان للدعوى العمومية، على نحو ما هو مبين في قانون الإجراءات الجزائية. غير أن المسألة السابقة طرحت خلافا فقهيا حادا من زاوية أخرى، وهي المتعلقة بوحدة الخطأين المدني والجزائي،
 أو بازدواجيته، وهو ما نرى تفصيله عند دراسة الركن المعنوي للجريمة في صورة الخطأ.













المبحث الثاني
التحليل القانوني للجريمة
        التحليل القانوني للجريمة في حقيقة الأمر يتطلب تبيان أركانها وعناصرها، وكذا تبيان مختلف تقسيماتها، خاصة وانه من خلال تناول ماهية الجريمة تبين لنا أنها تتحلل إلى العديد من الأركان والعناصر، كما أنها تختلف من حيث طبيعتها وأنواعها، لذا سنحاول وباختصار أن نتناول التحليل القانون للجريمة من خلال مطلب، لنتناول في الثاني تقسيمات الجريمة، وهنا نشير فقط بأننا سنتناول التقسيم المستند لنص القانون دون التقسيمات الفقهية المستندة لرأي الفقه، كونها تقسيمات وتصنيفات مستندة لأركان الجريمة ولا يمكننا استيعابها على حين تناول هذه الأركان بالدراسة. 
المطلب الأول
البنيان القانوني الجريمة
ينتقد بعض الفقه فكرة تجزئة الجريمة إلى أركان، حيث يرى أن الجريمة وحدة واحدة إما أن تقع كاملة أو لا تقع بالمرة، فهي ليست كلا مكون من أجزاء أو أركان منفصلة عن بعضها البعض ومستقل كل منها عن الآخر، كما أن الخلاف في مرات أخرى انصب على حقيقة وجود الركن الشرعي أو الركن القانوني، حيث يرى جانب من الفقه أن القول بوجود الركن الشرعي للجريمة يتعارض والمنطق القانوني السليم، حيث النص الجنائي هو الذي أوجد الجريمة أو خلقها، والخالق لا يمكن أن يكون جزءا مما خلق، فالنص سبب والجريمة مسبب عنه. غير أن الجريمة واقعة قانونية حرص الفقه الجنائي منذ القدم على اعتبارها واقعة مركبة ومعقدة يجب تحليل عناصرها ودراسة كل عنصر على حدا، وبالرغم من الخلاف الحاد الذي دار حول عدد هذه العناصر، إلا أن الفقه استقر في نهاية المطاف على تصور ثلاثي لأركان الجريمة، وهي الأركان التي لا يمكن للجريمة أيا كان نوعها أن تقوم بدونها، بحيث تخلف ركن منها أو أكثر يؤدي إلى عدم قيام الجريمة أصلا. غير أن إجماع الفقه حول عدد أركان الجريمة، لم يمنع خلافهم حول طبيعة هذه الأركان، فمنهم من صنفها إلى أركان جوهرية يتوقف قيام الجريمة على توفرها، وأخرى ثانوية لا تؤثر في قيام الجريمة، بل في تحديد نوع العقاب أو درجته، ومنهم من صنفها إلى أركان عامة وأخرى خاصة، العامة وهي التي تشترك فيها كافة الجرائم أيا كان نوعها وطبيعتها، والخاصة وهي تلك الأركان التي يتطلبها المشرع بصدد كل جريمة على حدا. غير أن الواقع العملي والقانوني كشف بأن البناء القانوني لأي جريمة لا يكتمل إلا بتوافر سائر أركانها، سواء كانت عامة أو خاصة، أو حتى كانت أركانا مفترضة، الأمر الذي يقتضي منا تناول هذا الخلاف باختصار في الفروع التالية. حيث نخصص الأول لفكرة البنيان القانوني للجريمة، لنميز في الثاني بين أركانها.
الفرع الأول
التطور التاريخي للتناول الفقهي لمضمون البنيان القانوني للجريمة
        تقوم الجريمة على أركان وشروط يلزم توفرها جميعا حتى يكتمل البنيان القانوني للجريمة، ورغم ذلك قد يتطلب الأمر بعض الظروف التي يترتب عليها تغيير في قدر العقاب المستحق، سواء كان نحو التخفيف أو نحو التشديد، لذا فمسألة دراسة البنيان القانوني للجريمة يتطلب دراسة، يتطلب دراسة التناول الفقهي لمسألة البنيان القانوني للجريمة . حيث أن مصطلحات مثل أركان أو عناصر الجريمة لا يرجع إلى زمن بعيد، حيث كان الفقه خاصة الفرنسي منه في ظل النظام الجنائي القديم ما قبل التقنين يسعى إلى استظهار القواعد الجنائية غير المكتوبة دون الاهتمام بصياغة النظريات والمبادئ، كما لم يظهر أيضا تعبير أركان أو عناصر الجريمة في أعقاب الثورة الفرنسية، حيث وقفت المؤلفات الفقهية بعدها عند حد إلقاء الضوء فقط على بعض المبادئ الأساسية في قانون العقوبات، غير أن ذلك لم يمنع من بداية إشارتهم لبعض الأفكار التي بدأت فيما بعد تشكل عناصر للجريمة مثل فكرة الفعل ( السلوك المشكل للركن المادي ) وفكرة العمد ( الركن المعنوي فيما بعد)، وأنه باجتماع الفعل مع العمد تقوم الجريمة. غير أنه مرحلة التقنين التي شهدتها فرنسا وإن كان فيها قد ركز المشرع الفرنسي بدوره على الفكرتين السابقتين، فكرة الفعل وفكرة العمد، خاصة في تقنين 1791 الذي عرف التقسيم الثلاثي للجرائم، وفي مطلع القرن التاسع عشر استخدم المستشار باريس BARRIS رئيس الغرفة الجنائية بمحكمة النقض الفرنسية - الفترة من 1806 إلى 1824- في تعليماته، عبارات عناصر الجريمة، حيث جاء في إحداها :" كل جريمة تتكون من عنصرين : فعل يتمثل في الماديات، وعمد يقود إلى هذا الفعل ويحدد الجانب المعنوي فيه " وكان ذلك إيذانا لبداية استعمال العنصر المادي والعنصر المعنوي. ثم جاءت مرحلة أخرى بدأت مسألة التطور التاريخي لبنيان الجريمة يأخذ أبعادا جديدة، حيث استخدم في هذه المرحلة فقيهين هما " شوفو وهيلي " تعبير عناصر الجريمة في إطار التحليل القانوني لمقومات الجريمة، سيما في مجال قانون العقوبات الخاص، غير أنهم استعملوا عبارات مترادفة تدل على نفس المعنى وهذه المترادفات هي : " العنصر "، " الشرط"، " الواقعة"، لكن لم يساهم ذلك كثيرا في وضع نظرية عامة لعناصر الجريمة كفكرة عامة، بل أعمالهم تركزت على القسم الخاص في كل جريمة على حدا، ولزم الأمر لكي تتأصل الأركان العامة للجريمة أن يمر الفكر الفقهي الجنائي بمرحلتين:  مرحلة التوجه نحو البحث في المسائل النظرية المكونة للجريمة كنظرية عامة في القانون الجنائي، متبعين في ذلك أسلوب التحليل والتأصيل ومبتعدين عن أسلوب الشرح والتفسير، واستعمل سنة 1851 الفقيه فيكتور مولينييه عبارات المستشار باريس من جديد مقررا :" إن كل واقعة مجرمة ومعاقب عليها قانونا تتألف من عنصرين: عنصر مادي يتمثل في الأعمال الخارجية، وعنصر معنوي مرجعه الفاعل ويعد أساسا لأدانته، غير أن هذا الفقيه لم يعالج الركن المعنوي في إطار عناصر الجريمة بل من حيث الأشخاص، وبذلك كان أول من قسم النظرية العامة للقانون الجنائي إلى قسمين قسم الجريمة وقسم المجرم.
        أما المرحلة الثانية، فيها تم ضم العناصر المادية مع العناصر المعنوية إلى بعضها البعض لتتشكل العناصر العامة للبنيان القانوني للجريمة من طرف الفقيه الفرنسي TREBUTIEN الذي استعمل عبارة العناصر التكوينية ELEMENTS CONSTITUTIFS للجريمة في بابين واستعمل في الباب الثالث الواقعة المادية كعنصر أول للجريمة، وفي الباب الرابع الإرادة الآثمة كعنصر ثاني للجريمة، لكن رغم ذلك ترددت كتابات الفقهاء بين استعمال الركن المادي للجريمة للتعبير عن الجريمة أما العنصر المعنوي كتعبير عن المجرم، غير أنه مع الفقهي إدموند فيلي عاد وحصر كل الجوانب المادية والمعنوية تحت عنوان واحد وهو " الجريمة" ، وهو ما اتبعه جارو وبعض الفقه الفرنسي فيما بعد، وإن كان جارو قد أضاف بعض العناصر الأخرى للجريمة، وبالتالي يمكن القول بأن البنيان القانوني مر في تكوينه بين النظرية أو النهج التقليدي الذي يقسم عناصر الجريمة إلى العناصر التكوينية المادية والمعنوية، ونهج وضعي ودون أن يهمل تماما النهج التقليدي من حيث العناصر، غير أنه قسم الموضوعات الهامة لقانون العقوبات إلى الجريمة والمجرم. في حين أن أهم تطور عرفه البنيان القانوني للجريمة، هو أنها تقوم على أركان وعناصر وشروط، من هذه الأركان ما هو عام وما هو خاص، بالإضافة إلى بعض العناصر والشروط الأخرى، التي نتناولها في الفرعين التاليين.
الفرع الثاني
الأركان العامة والأركان الخاصة للجريمة
يرى غالبية الفقه أن الجريمة تقوم على جملة من الأركان، منها العامة ومنها الخاصة، أو الجوهرية والثانوية. الأركان العامة تعد الهيكل المشترك لكل الجرائم، في حين الأركان الخاصة هي تلك التي تميز كل جريمة عما عداها من جرائم أخرى، أو بمعنى آخر هي ذات الأركان العامة منظور إليها بخصوص جريمة معينة، أو هي العناصر الخاصة التي تدخل في تكوين الأركان العامة، ويرى بعض الفقه أنه لتقريب الصورة يمكن القول أن الأركان العامة هي لقب الشخص أو إسم العائلة والأركان الخاصة هي الاسم الذي يميز كل فرد عن باقي أفراد العائلة، ويرى بعض الفقه تسمية الأركان العامة والأركان الخاصة، بالأركان الجوهرية والأركان الثانوية، الأولى وهي ترتبط الجريمة بوجودها وأن تخلفها يمنع من قيام الجريمة، في حين الثانوية تخلفها لا يمنع من قيام الجريمة، وإنما أثرها يقتصر على تحديد نوع العقاب أو درجته، وهو ما ينكره البعض، حيث يرى أن الركن لا يقبل التقسيم إلى أساسي وثانوي، بل هو جوهري في كل أحواله وإلا ما كان ليكون ركنا، لذا فمصطلح الركن لا ينصرف إلى للأركان التي تقوم عليها الجريمة، وما يطلق عليه الأركان الثانوية ما هو في حقيقته سوى ظروف لتشديد أو تخفيف العقوبات، وهو موقف الفقه التقليدي. لكن أيا كان الخلاف الفقهي، من مجموع الأركان العامة والخاصة تكتسب الجريمة اسمهما وتميزها عن غيرها، ومحور الاهتمام في النظرية العامة هو الأركان العامة، في حين تلقى الأركان الخاصة اهتمام الفقه الجنائي عند دراسة القسم الخاص لقانون العقوبات.
غير أن الإشكال الفقهي ينصب حول عدد هذه الأركان، ففي حين يرى الفقه التقليدي أن الجريمة تقوم على ركنين، الركن المادي الركن المعنوي، إذ لا بد لكل جريمة سلوك معين يشكل الركن المادي وارتباط ذلك بالخطأ في مفهومه الواسع بإرادة الجاني، ليكون للجريمة وجه موضوعي يتمثل في الركن المادي ووجه شخصي يتمثل في الركن المعنوي لها. فإن غالبية الفقه ترى بأنه للجريمة ثلاثة أركان عامة، حيث يضيفون للركنين السابقين الركن الشرعي أو الركن القانوني، بالرغم مما أثاره هذا الركن من خلاف، سنبينه عند دراسة الركن الشرعي للجريمة.
الفرع الثاني
الشروط أو الأركان المفترضة للجريمة
منذ زمن حاول الفقه أن يبين أنه هناك داخل البنيان القانوني للجريمة مقومات غير تلك المتألفة منها أركانها، وقيل أنه بمقارنة الأركان الخاصة للجريمة بالأركان العامة نجد بعض المقومات التي يتعذر ردها للأركان العامة للجريمة وهي في الغالب مقومات مقررة في قوانين غير جنائية، ويلزم توافرها زمنيا ومنطقيا قبل ارتكاب الفعل، وأن تخلفها يؤدي حتما لعدم اكتمال البنيان القانوني للجريمة وعدم تطابق الفعل مع النموذج التشريعي المنصوص عليه في القاعدة الجنائية، مثل  ملكية الغير للمال في جريمة السرقة، وقيام إحدى العقود المدنية المشترطة في جريمة خيانة الأمانة، وصفة الموظف في جريمة الرشوة والاختلاس وصفة المواطن في الخيانة، وصفة الأجنبي في التجسس[6]....وهي كلها مقومات يفترض توفرها مسبقا وهي ما كانت سببا في ظهور فكرة " الافتراض" ، وسميت " العناصر المفترضة" أو " الجانب المفترض في الجريمة " "الأركان المفترضة" أو " الشروط المفترضة في الجريمة"، وهي  تلك التي عرفت بأنها:" مجموعة المراكز القانونية والواقعية التي تسبق في وجودها قيام الجريمة "[7]، كما عرفت بأنها: مراكز قانونية تحميها القاعدة الجنائية، وأن الركن هو اعتداء على هذا المركز وبذلك الشرط في حد ذاته لا يمثل أي عدوان بل بالركن يتحقق العدوان، كونه سابق في وجوده عن تحقق أركان الجريمة الأخرى وهو في الأصل أجنبي عن سلوك الجاني، غير أن المكان الأصيل لدراسة الأركان الخاصة والأركان المفترضة هو القسم الخاص لقانون العقوبات، حيث كل نص تجريمي يبين ما يشترطه من هذه الأنواع من الأركان، والتي تختلف بالضرورة من جريمة لأخرى، وإن تشابهت فذلك بفعل الصفة، غير أن الأركان العامة، هي موضوع دراسة القسم العام، كونها أركان تجمع بين كافة أنواع الجرائم، أيا كانت طبيعتها ونوعها وتكييفها، وإن كانت هناك بعض الاستثناءات فهي أمور شاذة تحفظ ولا يقاس عليها. وهذه الأركان الثلاثة هي، الركن الشرعي أو القانوني، الركن المادي والركن المعنوي.
        ونشير بأنه كثيرا ما تدق لدى الفقه مسألة التفرقة بين أركان الجريمة والشروط الموضوعية للعقاب، ومنهم من يلحق هذه الشروط بالأركان، باعتبارها داخلة في البنيان القانوني للجريمة لأنه كل شخص يرتكب جريمة، فبالضرورة يستحق العقاب، غير أن البعض يراه أمرا مستقلا ومستقبل غير محقق الوقوع منفصل عن السلوك الإجرامي إذ هي شروط لازمة لاستحقاق العقاب لا لوجود الجريمة قانونا، وأن الجريمة تتحقق قانونا قبل تحقق هذه الشروط. كما يخرج من نطاق النظام القانوني للجريمة القيود الواردة على حق النيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية، كونها قيود إجرائية تقع على النيابة العامة فتقيد حقها في تحريك الدعوى العمومية، ولا تمس وقوع الجريمة قانونا، ولا علاقة لها بالمكونات القانونية أو المادية للجريمة.
المطلب الثاني
التصنيفات القانونية للجريمة
        أعطى الفقه الجنائي العديد من التقسيمات للجرائم، وصنفها العديد من التصنيفات، بحسب المعيار المعتمد من قبل الفقه، الذي لا يخرج في العادة عن محاولة تصنيفها أو تقسيمها بناء على ركن من أركانها، بحيث نجد للجريمة العديد من التقسيمات بالنظر إلى ركنها المادي، حيث قسمت على جرائم إيجابية وأخرى سلبية بحسب نوع السلوك الذي يأتيه الجاني، وجرائم وقتية وأخرى مستمرة بحسب الوقت الذي يأخذه هذا السلوك، وإلى جرائم مركبة وأخرى ذات أفعال متتابعة بحسب الشكل الذي يأخذه السلوك، وإلى جرائم بسيطة وجرائم اعتياد بحسب عدد المرات التي يتكرر فيها الفعل، وقسمت الجريمة بحسب ركنه المعنوي إلى جرائم عمدية وجرائم غير عمدية، أو جرائم قصد وجرائم خطا، وأخرى متعدية القصد.. غير أنها تقسيمات وتصنيفات تستند بالأساس إلى أركان الجريمة التي لم نتطرق بعد لدراستها، الأمر الذي يصعب من فهم واستيعاب هذه التقسيمات، فإننا نرجئ الحديث عنها إلى غاية التفرغ من دراسة كامل أركان الجريمة، ونكتفي في هذا المقام بدراسة التقسيم المستند لنص القانون، والمسمى بالتقسيم القانوني الذي تبنته غالبية التشريعات، حيث عمدت على تقسيم الجريمة ثلاثة أنواع، لذا سمي أيضا بالتقسيم الثلاثي. كما سنحاول الإشارة إلى تقسيم موضوعي آخر ( وهو قانوني أيضا) يتمثل في التمييز بين الجريمة العادية والجريمة السياسية.
الفرع الأول
التقسيم القانوني ( الثلاثي ) للجريمة
        وهو تقسيم يرتبط ارتباطا وثيقا بنص القانون، أين اعتمدت غالبية التشريعات على تقسيم الجرائم تقسيما ثلاثيا، إلى جنايات، جنح ومخالفات، ومعيار التقسيم يستند على معيار جسامة الجريمة وخطورتها، وهي الخطورة الذي ستمد بدورها من العقوبة المقررة للجريمة، بالرغم مما أثاره هذا التقسيم من خلاف فقهي جعلت بعض التشريعات تشذ عن القاعدة، متبنية إما تقسيما ثنائيا أو رباعيا[8]، بالنظر للانتقادات التي وجهت لهذا المعيار والصعوبات التي أثارها تطبيقه. لذا سنحاول تناول أساس هذا التقسيم في نقطة، وتبيان آثاره في الثانية، لنحاول أن نتبين الانتقادات التي وجهت إليه والصعوبات التي يثيرها في أخرى.
أولا: أساس التقسيم الثلاثي
سبق القول بأن أساس هذا التقسيم هو نص قانون العقوبات ذاته، غير أنه تقسيم يجد أساسه التاريخي في غير أنه تقسيم يجد أساسه تاريخيا في لفظ الجناية Crime جاء من اللاتينية من مصطلح Cernere المأخوذة من Crible  التي تعني غربال ومن فعل غربل Cribler، كما أنه في الرومانية Crimen تعني الاتهام العام بالجرائم الخطيرة، لذا يجب غربلة ومراجعة كل أوجه الاتهام الموجهة ضد المتهم، وكلمة جنحة Délit  جاءت من المصطلح اللاتيني  Délinquere وبالفرنسية Délinquance  التي تعني ترك أو جنح عن الطريق السوي، وفي القانون الفرنسي القديم كان التمييز قائما بين المجرمين الخطرين المحترفين، مثل قطاع الطرق، وبين المجرمين الأقل خطرا، والمجرمين الذي يخالفون أوامر وتعليمات الشرطة المحلية، مما حذا بالتشريع الفرنسي القديم، إلى تبني التقسيم الثلاثي للجرائم، في محاولة منه لإخضاع ثلاثة أنواع من المجرمين لثلاثة أنظمة قانونية مختلفة، المجرمين الذين يرتكبون جرائم خطيرة تدعو بما لا يدع مجال للشك في عدم توبتهم، والمجرمين الأقل خطورة القابلين للإصلاح وهنا ظهر مصطلح Correction  أوcorrectionnelle، ومن بعدهم المجرمين الأقل شأنا، وهو التقسيم الذي تبعته الكثير من التشريعات الوضعية المعاصرة. ومن بينها المشرع الجزائري الذي تبناه في نص المادة 27 من تقنين العقوبات، واستمد معيار العقوبة من نص المادة 5 من ذات القانون، وهو أمر ننتقده بشدة من الناحية المنهجية حيث نصت المادة 27 من قانون العقوبات الجزائري على أنه:" تقسم الجرائم تبعا لخطورتها إلى جنايات وجنح ومخالفات، وتطبق عليها العقوبات المقررة للجنايات أو الجنح أو المخالفات."[9]. وتجسيد معيار الخطورة يرجع في استعمال النص عبارة " تبعا لخطورتها"، وفي الوقت الذي كان يفترض أن نجد ما يدل ويبين هذه الخطورة في المواد اللاحقة، غير أن المشرع فرض علينا الرجوع والعودة إلى نص المادة 5 في المبادئ العامة والأحكام التمهيدية، عند النص على العقوبات المطبقة على الأشخاص الطبيعية[10]. وعلى ذلك يمكن القول أن الجرائم هي : الجنايات والجنح والمخالفات، ومسألة تمييز الجنايات عن باقي الجرائم       أنها وحدها التي خصص لها ثلاث أنواع من العقوبات الأصلية دون غيرها من الجنح والمخالفات التي تتميز بنوعين فقط من العقوبات الأصلية، كما أن الجنايات تتميز بعقوبة الإعدام والسجن المؤبد دون باقي الأنواع الأخرى، كما أن تقييد الحرية فيها وحدها يسمى سجنا بينما يسمى حبسا في الجنح والمخالفات، الغرامة قبل تعديل سنة 2006 كانت تميز الجنح والمخالفات دون الجنايات، إلا أن المشرع الجزائري أضاف بموجب هذا التعديل المادة 5 مكرر التي أجازت القضاء بالغرامة في السجن المؤقت، وبمفهوم المخالفة لا يجوز القضاء بالغرامة في حالة الحكم بالإعدام أو المؤبد، بل في حالة السجن من 5 سنوات إلى عشرين سنة سجن.بينما التمييز بين الجنح والمخالفات، صعب مقارنة بتمييز الجنايات عن الجنح والمخالفات التي تعد مسألة سهلة نسبيا، غير أن اتحاد الجنح والمخالفات في نوع وجنس العقوبات الأصلية، يجعل مسألة التمييز أعقد نوعا ما، حيث كلاهما يتضمنان الحبس والغرامة، وهنا معيار مدة الحبس وقيمة الغرامة هو الفاصل ومعيار التحديد، حيث الحد الأقصى لعقوبة الحبس في المخالفات شهران، في حين في الجنح خمس سنوات، والحد الأقصى للغرامة في المخالفات هو 20 ألف دج، 
ثانيا : الانتقادات الموجهة للتقسيم القانوني ( الثلاثي)
        بالرغم من بساطة ووضح التقسيم القانوني الذي يتبنى تقسيم الجرائم على جنايات وجنح ومخالفات، إلا أنه لم يسلم من النقد، من حيث أنه قسيم غير منطقي وسطحي، ويفتقر لإلى أساس علمي، وهي أهم الانتقادات التي وجهت له. فقيل أنه تقسيم غير منطقي، كونه يرتب تحديد نوع الجريمة بناء على العقوبة المقررة لها،  في حين أن المنطق يقتضي أن ترتب العقوبة على نوع الجريمة وجسامتها. غير أنه تم الرد على هذا الانتقاد، أنه غير سليم، حيث أن المشرع قبل وضعه العقوبات، استعرض أولا الأفعال وقدر جسامتها، ومن ثم وضع العقوبات التي تناسب جسامة الجريمة، حيث أنه من غير الصحيح تصور المشرع أنه وضع العقوبات أولا ثم رتب عليها أنواع الجرائم. كما قيل انه تقسيم يفتقر لأساس علمي، كونه تقسيم يستند إلى الأثر المترتب عن الجريمة دون أن يأخذ في الاعتبار طبيعة الجريمة، ولا أي أساس علمي في ذلك. وهو الانتقاد الذي مع التسليم بصحته، إلا أن بساطة المعيار والسهولة العملية في تطبيقه تستدعي التغاضي عن هذا النقد. وقيل أيضا أنه تقسيم سطحي،  حيث يرى البعض، أن التقسيم القانوني أو الثلاثي للجريمة، تقسيم سطحي، كونه يفرق بين الجنايات والجنح، في حين أن الجنايات وأغلب الجنح يتفقان في القصد الجنائي، كما قد تصبح الجنح في حال توفر بعض الظروف المشددة جنايات، والجنايات تصبح جنحا إذا كانت هناك ظروف مخففة، زيادة عما تخلقه التسمية من صعوبات كبيرة في التطبيق، لذا فهو تقسيم سطحي. وهو النقد الذي نرى وجهاته إلى حد بعيد، لكن ليس فقط في حالات توفر ظروف التشديد
 أو التخفيف، بل أيضا في العديد من الأوضاع القانونية في قانون العقوبات، وحتى في قانون الإجراءات الجزائية، حيث نادرا ما يفرق المشرع الجزائري تفرقة لها وزنها ما بين الجنايات والجنح، بالإضافة إلى الصعوبات التي يثيرها تطبيق عقوبات غير المحددة بنص المادة 5، وهو ما نبينه عند دراسة الصعوبات التي يثيرها التقسيم الثلاثي للجرائم.
ثالثا: النتائج المترتبة على التقسيم القانوني أو الثلاثي للجريمة
        بالرغم من الانتقادات التي وجهت للتقسيم القانوني أو الثلاثي للجريمة، إلا أنها لم تنل من أهميته، وبقي من أهم التقسيمات المعتمدة في غالبية التشريعات العقابية في العالم، ورتب عليه المشرع الجنائي أهمية قانونية بالغة، سواء على الصعيد الموضوعي المتمثل في قواعد قانون العقوبات، أو على الصعيد الإجرائي المتمثل في قواعد قانون الإجراءات الجزائية، في القانون الجزائري وغيره من القوانين الجنائية المقارنة- مع بعض الاختلافات بين هذه النظم موضوعيا وإجرائيا-. وهو ما نبينه في النقطتين التاليتين، حيث نخصص الأولى للنتائج القانونية للتقسيم القانوني على الصعيد الموضوعي، لنتناول في الثانية نتائجه القانونية على الصعيد الإجرائي.
1- النتائج القانونية للتقسيم القانوني على الصعيد الموضوعي
        للتقسيم القانوني للجرائم، أو التقسيم الثلاثي نتائج قانونية بالغة على الصعيد الموضوعي، المتمثل في أحكم قانون العقوبات الجزائري، حيث هناك العديد من الأوضاع القانونية في قانون العقوبات تطبق على نوع من أنواع الجرائم دون الأنواع الأخرى، غير أننا نؤكد مسبقا أن مثل هذه الأوضاع غالبا ما تخص الجنايات والجنح معا، دون المخالفات، وهو ما يقودنا للعودة إلى وجاهة النقد الثالث الذي وجه للتقسيم الثلاثي، من كونه تقسيم سطحي، حيث أنه هناك شبه كبير بين الجنايات والجنح. الأمر الذي يجعلنا بطريقة نظرية نجعل منه تقسيما ثنائيا، حيث تتبع الجنح الجنايات دوما وتستثنى المخالفات في هذه الأوضاع الموضوعية، وأهمها ما يتعلق بالشروع والمساهمة الجنائية وظروف التخفيف والتشديد من عود وأعذار وما إلى غير ذلك، وحتى بالنسبة لبعض الجرائم، وهو ما نبينه في النقاط التالية.
أ- جريمة المحاولة أو الشروع:
        المشرع الجزائري ومثله الكثير من المشرعين لا يعاقبون على جريمة المحاولة أو الشروع إلا بخصوص الجنايات والجنح دون المخالفات، بل في القانون الجزائري لا شروع في الجنح إلا بنص خاص تطبيقا للمادة 31 من قانون العقوبات الجزائري، وبالتالي كل الجنايات يتصور الشروع فيها تطبيقا للمادة 30 من ق ع ج، في حين الجنح بموجب نص خاص وفقا للفقرة الأولى من المادة 31، في حين لا شروع إطلاقا في مجال المخالفات، تطبيقا للفقرة الثانية من المادة 31 ق ع ج[11].
ب- المساهمة الجنائية أو الاشتراك:
        في الفقه وكقاعدة عامة – وإن كانت المسألة قد أثارت نوعا من الجدل الفقهي ستكون لنا عودة له في دراسة المساهمة الجنائية-  لا مساهمة أو اشتراك في المخالفات، على عكس الجنايات والجنح، فهذه الأخيرة وحدها مما يرتب المشرع على تعدد فاعليها أيا كان صورتهم أثارا قانونية، غير أنه وعلى عكس الفقه، فإن المشرع الجزائري فصل في مسألة انه لا اشتراك أو مساهمة في ارتكاب المخالفات، وهو ما بينه نص المادة 44 من قانون العقوبات الجزائري، التي نصت على معاقبة الشريك في الجناية أو الجنحة دون المخالفات[12].
ج- جريمة الاتفاق الجنائي ( تكوين جمعية أشرار):
        في العادة ما يتخوف المشرع الجنائي سواء في الجزائر أو غيرها من الدول، من ظاهرة التعدد الشخصي في ارتكاب الجريمة، أو بعبارة أخرى من ظاهرة الإجرام الجماعي، وهو الأمر الذي جعله يخرج عن القواعد العامة ويعاقب على بعض الجرائم التي لم يشرع في تنفيذها بعد، خروجا على القواعد العامة التي تقضي بألا جريمة دون فعل مادي، وذلك في الجرائم المسماة الاتفاق الجنائي أو تكوين جمعية أشرار، حيث مجرد تأليف الاتفاق أو الجمعية يعد جريمة معاقب عليها قانونا، بغض النظر عن ارتكابها لجرائم من عدمه، وهي الجريمة التي بينها المشرع الجزائري في نصي المادتين 176 و 177 من قانون العقوبات[13]، اللتان عدلتا سنة 2006 ، حيث قبل هذا التعديل كان يعاقب على تكوين جمعية الأشرار في الجنايات فقط في حين بعد التعديل أصبح يعاقب عليها في مجال الجنح أيضا، لكن بشروط، وهو ما يؤكد مرة أخرى وجاهة النقد القائل بالتشابه الكبير بين الجنايات والجنح. 
د- تطبيق النص الجنائي:
        تظهر أهمية التقسيم القانوني للجرائم أيضا في مجال تطبيق النص الجنائي، سيما ما يتعلق بجانب المكان، أي تطبيقه من حيث المكان، إذ غالبية المبادئ المساندة لمبدأ الإقليمية أو التي تعد استثناء عليه، مثل مبدأ الشخصية ومبدأ العينية، وحتى مبدأ العالمية، وكذا امتداد النص للتطبيق على السفن والطائرات يتعلق بالجنايات والجنح دون المخالفات، وهو ما بينته بالخصوص المواد 582، 583، 590، من قانون الإجراءات الجزائية، ولا يفهم من هذه النصوص أن المسألة إجرائية لا تتعلق بهذا الموضع من البحث، بل تتعلق بمسألة تطبيق النص الجنائي من حيث المكان والأشخاص، وهي مسألة موضوعية بحتة.
ه- وقف تنفيذ العقوبة:
        وقف تنفيذ العقوبات من النظم القانونية الممنوحة للقضاة يفيدون بها بعض الأشخاص بالرغم من إدانتهم، وذلك بجعل العقوبة النفاذة موقوفة النفاذ، وهو نظام يطبق في مجال الجنايات والجنح دون المخالفات، وإن كان تضمنته قواعد الإجراءات الجزائية مثل الماد 592 إلا أنه مسألة موضوعية تتعلق بشق الجزاء.
و- الظروف المخففة:
        الظروف المخففة المتمثلة في سلطة القاضي بالنزول عن الحد المقرر قانونا للجريمة من عقوبات، نظام كان يطبق فقط في مجال الجنايات والجنح دون المخالفات، وهو أمر معمول به في غالبية التشريعات العقابية المقارنة، غير أنه بتعديل المادة 53 سنة 2006 وإدراج العديد من المواد الجديدة أصبح بالإمكان منح الظروف المخففة حتى في مجال المخالفات، وهو ما بينته المادة 53 مكرر 6 من هذا التعديل[14].
ي- ظروف التشديد ( ظرف العود):
        غالبية التشريعات الجنائية تجعل من ظرف العود، كظرف مشدد للعقوبة، مطبقا فقط في مجال الجنايات والجنح، غير أنه في القانون الجزائري – مثلما فعل مع ظروف التخفيف- جعل من ظرف العود مطبقا أيضا في مجال المخالفات، وهو ما كان مبينا بنص المادة 58 من قانون العقوبات التي ألغيت بموجب تعديل سنة 2006، غير أنه لا يزال منصوص عليه في المادة 445 التي عدلت بدورها سنة 2006[15]، وفي المادة 465 من ذات القانون المعدلة أيضا بموجب نفس التعديل[16].
ز- المصادرة:
        غالبية الدول تجعل من المصادرة عقوبة لا تطبق إلا تكميلية لا تطبق إلا في مجال الجنايات والجنح دون المخالفات، غير أنه في قانون العقوبات الجزائري، يمكن القضاء بالمصادرة حتى في مواد المخالفات، وذلك وفقا للمادة 15 مكرر 1 فقرة أخيرة من قانون العقوبات الجزائري المعدلة بموجبها سنة 2006.
2- النتائج القانونية للتقسيم القانوني على الصعيد الإجرائي
مثلما تترتب العديد من النتائج القانونية على الصعيد الموضوعي عن التقسيم القانوني، فإن ذات التقسيم يرتب العديد من النتائج القانونية على الصعيد الإجرائي، وهي نتائج أكثر أهمية وأثرا، خاصة وأنها تتعلق بمسائل تخص الاختصاص وسير الدعوى وكيفية البحث والتحري والتحقيق فيها، وبخصوص الأحكام ذاتها وطرق الطعن فيها... وهي مسائل يمكن القول أنه يتعذر على الإلمام بها في دراسة الشق الموضوعي.
أ- الاختصاص النوعي:
        بحسب التقسيم الثلاثي يتوزع الاختصاص النوعي، حيث تنظر الجنايات أمام محكمة الجنايات المنعقدة بمقر المجلس في دورات محددة قانونا، في حين تنظر الجنح والمخالفات من قبل الأقسام الجزائية بالمحاكم.
ب- التحقيق والبحث والتحري
        في العادة ما تولي جهات الضبطية القضائية المختصة بالبحث والتحري في الجرائم نشاطاتها على الجنايات وعلى الجنح بصفة أقل، ونادرا بخصوص المخالفات، كما أن التحقيق الذي يجريه قاضي التحقيق وجوبي في الجنايات، واستثنائي في الجنح حيث لا يحقق فيها قاضي التحقيق إلا بطلب النيابة العامة، ونادرا ما يكون هناك تحقيق في المخالفات.
ج- تقادم الدعوى العمومية:
        تنقضي الدعوى العمومية في مواد الجنايات بمرور 10 سنوات، وفي مواد الجنح بمرور ثلاث سنوات، وفي مواد المخالفات بمرور سنتين ( المواد 8، 9، 10 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري).
د- تقادم العقوبة:
        تتقادم العقوبة المحكوم بها في مواد الجنايات بمرور 20 سنة، وفي الجنح بمرور 5 سنوات وفي مواد المخالفات بمرور سنتين ( المواد 613، 614، 615 قانون الإجراءات الجزائية الجزائري).
        هذا ونشير بأنه هناك العديد من الاختلافات الإجرائية المتبعة بخصوص الأنواع الثلاثة السابقة من أنواع الجرائم، والتي ارتأينا أن لا نتناولها تفصيلا، حيث أن تناولها يقتضي شرحها، وأن هذا الشرح يقود على دراسة مادة قانون الإجراءات الجزائية على حساب مادة القانون الجنائي العام.
ثالثا: الصعوبات التي تعترض التقسيم الثلاثي
        يثير التقسيم الثلاثي للجرائم بعض الصعوبات أثناء التطبيق، خاصة في الحالات التي يقضي فيها القاضي بعقوبة ير التي قضى بها المشرع، ممارسة في ذلك سلطته التقديرية كالتشديد في حالة العود،
و التخفيف في حالة إفادة المحكوم عليه بظروف التخفيف، أو في الحالات التي يقضي فيها المشرع بعقوبة تطبيق أصلا على نوع آخر من الجرائم، ففي مثل هذه الحالات يطرح إشكال يتعلق بمدى تغير الوصف القانوني للجريمة تبعا لتغير العقوبة المقضي بها قضاء أو شرعا، وإن كانت الإجابة عن السؤال السابق قد أثارت العديد من الجدل الفقهي في الدول الأخرى، إلا أن المشرع فصل في المسألة بموجب نصي المادتين 28 و 29 من تقنين العقوبات الجزائري.
حيث قضت المادة 28:" لا يتغير نوع الجريمة إذا أصدر القاضي فيها حكما يطبق أصلا على نوع آخر منها نتيجة لظرف مخفف للعقوبة أو نتيجة لحالة العود التي يكون عليها المحكوم عليه."، حيث أن القاضي وهو يمارس سلطته التقديرية في تطبيق العقوبات، وقضى بعقوبة أشد في حال توفر ظروف التشديد مثل حالة العود مثلا، أو قضى بعقوبة أخف كتوفر ظروف التخفيف، فإن وصف الجريمة المقرر بالنص لا يتغير[17]. أما ووفقا للمادة 29 التي نصت على أنه:" يتغير نوع الجريمة إذا نص القانون على عقوبة تطبق أصلا على نوع آخر أشد منها نتيجة لظروف مشددة."، فإن تدخل المشرع بالتشديد أو التخفيف يترتب عليه تغير في وصف الجريمة[18].

الفرع الثاني
الجريمة العادية والجريمة السياسية
(تقسيم الجرائم على عادية وسياسية)

        بالإضافة إلى التقسيم الثلاثي للجريمة الذي يعد تقسيما قانونيا، فإن الجريمة وفقا للنصوص القانونية أيضا تفرق إلى جرائم سياسية وجرائم عادية أو جرائم القانون العام وهي التفرقة المعروفة حتى لدى الرأي العام غير المتخصص قانونا، كونه تفرقة قديمة من جهة، ولاعتبارها من ضرورات الحياة العامة من جهة ثانية، حيث رجل الشارع أيا كانت قناعته وتوجهاته، فهو يفرق بين المجرم العادي والمجرم السياسي، سواء كان يشفق عليه ويتعاطف معه أو العكس، وسواء كان يتبنى أفكاره أو يعارضها، لذا المشرع وفي كل مكان من العالم، ومنذ القدم يعامل المجرم السياسي معاملة خاصة، سواء كانت تميل للرأفة أو للتشديد والقسوة بحسب الأحوال السياسية السائدة في البلد، والمختلفة من مكان لآخر ومن زمان لآخر، غير أنه من وجهة النظر القانونية البحتة، فإن التفرقة بين الجرائم العادية والجرائم السياسية تعترضه صعوبات جمة، لانعدام المعيار الواضح الذي بإعماله يمكن التفرقة بين النوعين من أنواع الجرائم، وكذا خضوع الفكرة نفسها للمسائل السياسية المتغيرة بطبيعتها، وما تفرضه المعطيات السياسية في هذا الشأن، وهو الأمر المعروف على طول مراحل الزمن والتطور البشري، لذا حاول كل من علماء الإجرام وفقهاء القانون إيجاد معايير اختلفت حولها وجهات النظر بالنظر لحساسية الموضوع. وإن كانت الجريمة السياسية قد عرفت منذ أن عرف الإنسان السلطة، لا كتعبير سياسي وإنما كقوة ضاغطة، أيا كان شكل هذه السلطة، سلطة الدولة أو رب الأسرة أو رئيس العشيرة أو القبيلة، ومهما تبدل شكل هذه السلطة عبر العصور والأزمنة، خاصة وان كل فعل أو عدوان كان يمس كيان ودعائم السلطة يرد بكل قوة وبطش، ودون رحمة أو رأفة، خاصة عندما تم تأسيس مشروعية السلطة على نظرية الحق الإلهي، حيث عد الاعتداء على السلطة اعتداء يغضب الآلهة، وردع الشخص تكفير عن ذنبه وإرضاء لهذه الآلهة، لذا يجب سحق المعتدي والقضاء عليه. لذا الجريمة السياسية قديمة قدم النشاط الإنساني وتمتد بجذورها إلى جذور سلطة الدولة[19]، وكان سبب وجودها التنازع على السلطة بين الأفراد حتى قبل ظهور الدولة، لتتطور بعد ذلك وتأخذ العديد من الصور والأشكال، تبعا لتطور الحضارة الإنسانية. وقد كشفت القوانين المكتشفة في بلاد الرافدين ووادي النيل وبلاد الفرس والهند والصين واليابان، بأن الجريمة السياسية كانت معروفة في هذه العصور، حيث كانت تتمثل في الجرائم التي تمثل اعتداء على سلطة الملوك والفراعنة أو تحط من كرامتهم أو تمس ولو من بعيد بألوهيتهم التي فرضوها على الناس وزعموا أنهم يستمدون سلطتهم من الآلهة، ومن عصاهم فقد عصى هذه الآلهة، كما عرفت حتى في مجتمع القبيلة في شخص رجل القبيلة الممثل لكيانها، وكان معيار التمييز بين الجرائم السياسية والجرائم العادية هو جسامة العقوبات المقررة للنوع الأول[20]. وفي مطلع القرن التاسع عشر انتشرت الحركات التحررية في أوروبا، وأخذت المنظمات السياسية تتشكل في كل مكان لقلب الأنظمة الاستبدادية المتحكمة، وتكررت الانقلابات السياسية في البلد الواحد بصور مفاجئة وسرية، وبذلك أخذ الشعور الشعبي يفرق بين المجرم الذي ينقاد لدوافعه الدنيئة وذلك الذي يسعى لتحقيق هدف قومي أو سياسي شريف، وهو الأمر الذي قد يجعل من مجرم الأمس هو حاكم اليوم، والعكس بالعكس، وهنا بدا الاتجاه نحو معاملة المجرم السياسي معاملة خاصة وأخذ الرأفة في عقابه. وزاد الاهتمام بالجرائم السياسية وقمع مرتكبيها بعد الحرب العالمية الأولى، عند ظهور أنظمة الحكم الفاشية والنازية والشيوعية، أين عملت هذه الأنظمة بكل ما أوتيت من قوة لمحاربة المعارضة السياسية وقمعها، وتم قلب المفاهيم التحررية والحضارية والتطورية والإنسانية التي خلفها القرن الماضي، والتي جعلت من القانون الجنائي لا يتأثر بالسياسة، فتغير الأمر وصار هذا القانون مرآة تعكس الأفكار السياسية والاجتماعية والاقتصادية للأفكار النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، وتم التشديد في عقوبات الجرائم السياسية وإنشاء محاكم خاصة بها وإطلاق حرية القاضي في العقاب عليها وتم التوسع في مفهوم هذا النوع من الجرائم ومن أمثلة ذلك أن قانون العقوبات السوفييتي أصبح يشمل 105 جريمة سياسية مقابل 43 جريمة عادية فقط. لذا فالأمر يتطلب منا أن نتناول مفهوم الجريمة السياسية باختصار في نقطة، لنتناول في الثانية أنواعها، وفي الثالثة أهمية تمييز الجريمة السياسية عن الجريمة العادية.
أولا: مفهوم الجريمة السياسية 
        لاقت دراسة فكرة الجريمة السياسية جهودا فقهية معتبرة وضخمة سعيا وراء إيجاد مفهوم قانوني حاسم لها، لكنها فشلت في مجملها، وذلك بالنظر لمصطلح " السياسة " التي لا تعني مفهوما ثابتا ولا تفصح عن محتوى مستقر، حيث يرى بعض الفقه أنها ليست مادة وإنما لون، ولا تصلح لأن تكون معيارا أو صفة أو نوعا، وإنما هي مفهوم متقلب ومتبدل تتبدل وفقا لتغير وتبدل الأوضاع والظروف والأشخاص والمصالح، ولا يمكن أن تكون أساسا لنظرية معينة، في حين من صفات المفاهيم القانونية الثبات والاستقرار، الأمر الذي جعل التشريعات تتورع عن وضع تعريف قانوني للجرائم السياسية وتركت الأمر للفقه.  ومع غزو الإجرام السياسي، يرجع الفضل في استعمال هذا المصطلح إلى الوزير والمؤرخ والكاتب الفرنسي GUIZOT في كتابيه " المتآمرون والقضاء السياسي" و" الإعدام في المواد السياسية" المنشورين على التوالي سنتي 1821 و1822. غير أن وضع تعريف قانوني دقيق للجريمة السياسية بقي أمر متعذر نسبيا، لدرجة يرى البعض أنه ليس هناك أمل في وضع تعريف ثابت ومستقر للجريمة السياسية. لذا نجد الفقه قد حاول وضع معايير تمكن من الاستناد عليها في وضع تعريف للجريمة السياسية، غير أن هذه المعايير بدورها مثل كل منه حقبة زمنية معينة بما يسودها من ظروف سياسية وما استقر فيها من أوضاع اجتماعية، ولعل أهم المعايير كان المعيار الشخصي والمعيار الموضوعي، ومثلما هو الأمر في كل مرة هناك من أخذ من كل معيار ووضع معيارا ثالثا مختلطا أو مزدوجا ما بين المعيارين السابقين.
1- المعيار الشخصي:
        ويعد من أقدم المعايير التي استند عليها في وضع تعريف للجريمة السياسية، الذي يركز على الغاية أو الباعث الذي يحرك الفاعل لارتكاب الجريمة، فإذا كان هذا الباعث سياسيا أو كانت الغاية التي يهدف إليها غاية سياسية، عدت الجريمة حينئذ جريمة سياسية، أيا كان الفعل الإجرامي وأيا كان الحق المعتدى عليه، وما عدا ذلك فهي جريمة غير سياسية أو جريمة عادية، وعرف الدافع أنه: العلة المباشرة لارتكاب الجرم
 أو الهدف الأخير أو القصد النهائي من ارتكاب الجرم[21]. وبالتالي، وفقا لهذا الاتجاه، المجرم السياسي هو المجرم صاحب دوافع نبيلة وأهداف راقية، خلافا للمجرم العادي الذي يندفع للجريمة بدافع أناني وأهداف دنيئة وبربرية، حيث أننا نجد المجرم السياسي يندفع لجريمته لأجل تحقيق النفع أو الصالح العام، ولذلك يوصف إجرامه، أنه إجرام تطوري وتقدمي يتم بدافع الغيرة والإيثار، وهو بذلك يدفع بعجلة التاريخ إلى الأمام، عكس المجرم العادي الذي يوقفها، فالمجرم السياسي يهدف إلى تمهيد الطريق للارتقاء بالذات الإنسانية ، وهو بذلك يسبق التاريخ، حيث لو ترك الأمر لوحده لحدث تلقائيا، لأنه لكل نظام سياسي أو اجتماعي مرحلة لا يصلح إلا لها. لذا يرى البعض بأنه يجب النظر إلى شعور الشعب وما إن كان قد حركه دافع المجرم السياسي.
غير أن هذا الاتجاه لم يسلم من النقد، حيث قيل أن الدافع ذو طبيعة نفسية، لذا فمسألة إثباته مسألة صعبة، وبالتالي فمن الأفضل الأخذ به كظرف للتشديد آو التخفيف، لا كركن للجريمة. وأن الأخذ بالدوافع دون المعايير المادية لا يوفر حماية فعالة لمصالح المجتمع. وأن الأخذ بالدافع يجعل كل مجرم يدفع بأن دافعه من الجريمة سياسيا، حتى ولو كانت جريمته عادية. مما يوسع من نطاق الجرائم السياسية، حيث تشمل جرائم بعيدة كل بعد عن المعنى السياسي سوى لأنها ارتكبت لغرض سياسي. لذا ظهر المعيار الموضوعي في أعقاب هذه الانتقادات.
2- المعيار الموضوعي:
        وهو المعيار الذي ظهر في ظروف كانت قد ظهرت فيها الأنظمة الاشتراكية، وسادت فيها الحركات السياسية والصراعات الطبقية، التي حاولت قلب الأنظمة السياسية القائمة، مستغلة في ذلك المعيار السابق المركز على الباعث السياسي كباعث نبيل في محاولة للترفق بها إذا فشلت في تحقيق أهدافها، مما ضاعف من حجم بؤرة الإجرام السياسي ، وعمت الفوضى في أوربا وربوع العالم كله أيا كان شكل النظام، وهي الظروف التي مهدت أيضا لقيام الحربين العالميتين، لذا بدأت الحكومات تكافح الجريمة السياسية بكل ما أوتيت من قوة، فأخذت الجرائم السياسية مكانتها في خريطة قانون العقوبات كأخطر الجرائم، وهجرت التشريعات الجنائية المعيار الشخصي، وبدأت تأخذ بمعيار جديد هو المعيار المادي أو الموضوعي، الذي صور في ثلاثة أسئلة: هل وقع الضرر على الدولة مباشرة؟، هل وقع على حقوقها السياسية أو الاجتماعية؟، وهل المقصود من عقاب المجرم حماية النظام السياسي أو الاجتماعي؟، ووفقا لهذا المعنى، تعد جرائم سياسية، كل الأعمال التي يقصد منها الاعتداء على نظام الدولة أو مؤسساتها العامة، أو تعطيل وظيفة السلطة العامة فيها، سواء أصابت مصالحها السياسية أو أصابت حقوق الأفراد السياسية، ومن ثم تعد طبيعة الحق المعتدى عليه هي التي تحدد معيار التمييز بين الجرائم السياسية والجرائم الأخرى العادية. وبهذا ضاق نطاق الجرائم السياسية إلى حد بعيد، حيث لم تعد الجريمة سياسية لمجرد أن دافع أو باعث مقترفها دافعا سياسيا، بل لأن الحق المعتدى عليه حق سياسي يشكل اعتداء على الدولة ذاتها، وأن هدف العقاب يكمن في حماية النظام السياسي أو الاجتماعي، وهو المعيار الذي أخذ به المشرع الفرنسي فقها وقضاء.
        وبالتالي تعد جريمة سياسية وفقا للمعيار الموضوعي، كل اعتداء على المؤسسات العامة في الدولة والنظم الدستورية والاعتداء على الحقوق السياسية، وأخذ بهذا المعيار الفقيه الفرنسي جارو Garraud الذي عرف الجريمة السياسية وفقا لهذا المعيار، بأنها: " الجريمة التي تفضي على وجه الحصر إلى تقويض النظام السياسي أو تعديله أو الإخلال به"، حتى ولو كان الحق المعتدى عليه من الحقوق السياسية الفردية كحق الانتخاب وممارسة الواجبات العامة كدفع الضرائب والاشتراك في أعمال المجالس المحلية، وكل ما يقع على الحقوق السياسية للأفراد.
        ويبدو من الوهلة الأولى أن المعيار الموضوعي أفضل من المعيار الشخصي، غير أن ذلك لم يمنع من أن توجه إليه العديد من الانتقادات، نذكر منها: إهماله للجانب الشخصي للمجرم، وبالتالي مساواته بين مجرم دوافعه نبيلة وآخر دوافعه دنيئة، بالرغم مما ينطوي عليه ذلك من إجحاف. وبالتالي هي نظرية شديدة الوطأة على الخصوم السياسيين لأنها ترمي إلى حماية النظام القائم دون النظر إلى دوافع المجرم السياسي. وبالتالي هي نظرية تأخذ مصلحة الدولة ونظام الحكم دون الحالة الروحية للمجرم، وهو ما يفسح المجال للحكام للاستبداد والتعسف في استعمال السلطات الممنوحة لهم، في سبيل الانتقام والثأر من خصومهم السياسيين. وهو معيار ضيق من نطاق الجرائم السياسية حيث حصرها في الاعتداءات الحاصلة على النظام السياسي دون الاعتداءات الحاصلة على الحقوق المالية والاقتصادية. وأنها نظرية لا تنظر للإجرام السياسي إلا من ناحية ركنها المادي دون ركنها المعنوي، ولا تعبأ بنبل الباعث، مما أدى إلى نتائج شاذة، حيث أن العميل الذي يبيع وطنه بالخيانة والتجسس يستفيد من المزايا المقررة للمجرم السياسي، فيصبح الخائن كالقيادي الثائر، وهنا ظهر معيار مختلط أو مزدوج يجمع بين محاسن كل اتجاه ويتجنب مساوئهما مثلما هو الأمر دوما.
3- المعيار المزدوج أو المختلط:
        أمام الانتقادات التي وجهت لكل من المعيار الشخصي والمعيار الموضوعي، هجرت التشريعات المعاصرة مسألة الأخذ بمعيار دون الآخر، حيث لم تأخذ بالمعيار الشخصي فقط المعتني بحماية الحقوق والحريات الفردية، ولا بالمعيار الموضوعي لإفراطه في حماية المصالح الاجتماعية على حساب المصالح والحقوق والحريات الفردية، بل جمعت مزايا كلا المعيارين، وهجرت كل ما يعيبهما، وقامت بذلك بالموازنة بين حماية مصالح المجتمع وحماية الحقوق والحريات الفردية. حيث يرى البعض في تقديره للمسألة، أن طغيان الاتجاه الفردي فوضى، وطغيان الاتجاه الاجتماعي استبداد[22].
        غير أنه بعيدا عن المعايير السابقة، عرف المؤتمر الدولي لتوحيد القوانين العقابية المنعقد في كوبنهاجن سنة 1935 الجرائم السياسية، بأنها كل جريمة ترتكب اعتداء على نظام الدولة السياسي وحقوق المواطنين السياسية[23]. وهناك من الفقه من يعتبر جرائم سياسية تلك الجرائم الماسة فقط بأمن الدولة الداخلي كالدستور والسلطات الثلاث في الدولة دون الاعتداءات المخلة بأمن الدولة الخارجي التي يسميها في هذه الحالة بالجرائم الوطنية.  وعرفها البعض، معبرا عن الفقه الإنجليزي، أنها الجريمة التي تلازم الاضطراب السياسي وتشكل جزءا منه، والبعض عرفها ، بأنها الجريمة التي ترتكب وتكون السياسة هي الغرض
 أو الدافع لها– نرى انه تعريف يستند إلى المعيار الشخصي لا المزدوج-، في حين عرفها البعض، أنها: الأعمال التي يقصد منها بطرق جنائية تعديل أو تحرير أو هدم أو قلب النظام السياسي وإثارة اضطرابات سياسية أو كراهية لنظام الحكم، في حين يرى البعض الآخر، أن الجريمة السياسية هي تلك الأفعال المحرمة التي تصطدم مع النظام السياسي للدولة، سواء من جهة الخارج أو من جهة الداخل[24].
                والمشرع الجزائري، شأنه شأن سائر التشريعات الأخرى لم يرد تعريفا للجرائم السياسية، بل لم يشر أصلا لهذه التسمية، غير أنه نص على أهمها تحت عنوان " الجنايات والجنح ضد أمن الدولة"، دون أن يخصص عقوبات خاصة بها، بل أنه شدد من عقوبتها حيث أن غالبية عقوبات الإعدام والسجن المؤبد محصورة بهذا الباب مع هذا النوع من الجرائم المسماة ضد أمن الدولة، وإن كانت المادة 69 من دستور 96 قضت بعدم جواز تسليم لاجئ سياسي يتمتع قانونا بحق اللجوء دون أن تسميه مجرما، وفي قانون الإجراءات الجزائية وفي نص المادة 698 حظ تسليم المجرمين في الجنايات والجنح ذات الصبغة السياسية، أو في الحالات التي يتبين منها أن التسليم مطلوب لغرض سياسي، وهو النص الذي بموجبه نتمكن من القول بأن المشرع الجزائري يميز بين المجرم العادي والمجرم السياسي في مسألة التسليم فقط. وأن معيار الدستور هو معيار شخصي، بينما في قانون الإجراءات التزم بمسألة طبيعة الجريمة من كونها ذات صبغة سياسية وهو ما يجعلنا نرى أن المشرع الجزائري في نص هذه المادة تبنى المعيار الموضوعي.
ثانيا: أنواع الجرائم السياسية
        الوضع السياسي والاجتماعي ونظام الحكم في كل دولة هو الذي يحدد أنوع الجرائم السياسية، وذلك طبقا لمتطلبات حاجاته في مواجهة هذا النوع من الجرائم، وتبعا للظروف التي يمر بها أيضا، لذا تقسم الجرائم السياسية في العادة إلى جرائم سياسية ماسة بأمن الدولة الداخلي وأخرى ماسة بأمن الدولة الخارجي، وهناك من قسمها إلى جرائم سياسية خالصة وأخرى نسبية وأخرى مختلطة، فالجريمة السياسية الخالصة، هي تلك الجريمة الماسة بأمن الدولة الداخلي، أو تلك الواقعة على الدستور، وعلى السلطات الثلاث في الدولة، وأما الجرائم السياسية النسبية، فهي تلك الجرائم التي تقع في آن واحد على مصلحة الدولة ومصالح الأفراد، وهي في الأصل جرائم عادية ترتبط بالجرائم السياسية ارتباطا وثيقا وينتج عن هذا الارتباط إما تعدد جرائم مادي أو حقيقي وإما تعدد جرائم معنوي أو صوري. وأما الجرائم السياسية المختلطة، فهي جرائم الاغتيال السياسي كونها عبارة عن قتل عادي لغاية سياسية، جرائم فوضوية بغرض وضع المجتمع في موضوع يحتاج فيه إلى وجود الدولة، وكذا الإرهاب وتزوير النقد لأغراض سياسية.
ثالثا: الفائدة القانونية من تحديد الجرائم السياسية
        إن الفائدة القانونية أو النتائج القانونية المترتبة عن تقسيم الجرائم إلى سياسية وعادية، يتمثل فقط في إبراز موقف الآراء المنادية بضرورة ووجوب معاملة المجرم السياسي بنظرة مغايرة عن تلك المعروفة والمعمول بها في مجال الجرائم العادية، لذا سنركز أكثر على الأفكار التي ترى في المجرم السياسي شخص غير سائر المجرمين العاديين، وما ترتب عن ذلك من نتائج انعكست على التجريم والعقاب في هذا النوع من الجرائم، المسماة سياسية.
        ونشأت فكرة التمييز بين الجرائم السياسية الجرائم العادية، في القانون الفرنسي لسنة 1810 حيث أظهر تخفيفا اتجاه الجريمة السياسية، وقدمت العديد من الدراسات في فرنسا تخص دراسة شخصية المجرم السياسي، حيث بينت اختلافات عميقة في شخصية كل من المجرم السياسي والمجرم العادي، ولذلك صدر في فرنسا قانون 28-04-1832 لإنشاء نوع خاص من العقوبات للمجرم السياسي، وألغى دستور 1848 عقوبة الإعدام بخصوص الجريمة السياسية، وأصبحت عقوبة الجريمة السياسية هي النفي البسيط والنفي إلى قلعة والإبعاد والتجريد من الحقوق السياسية. 
1-فبخصوص شخصية المجرم:
 يمكن القول أنه ببروز ظاهرة الإجرام السياسي، وشيوعه في المجتمعات وشرعت الدراسات في تحليله والبحث في أسبابه وكيفية معاملته، ظهرت اتجاهات ترى وجوب التفريق بين شخصية المجرم السياسي والمجرم العادي، حيث رأى أنصار المدرسة الموضوعية، أن المجرم السياسي غير المجرم العادي، حيث أن الأخير تنطوي أفعاله على الغش والحيلة والخديعة، ويصدر إجرامه بدوافع دنيئة وأنانية، مستهدفا إيذاء الوجود الإنساني ومنافيا كل القيم الإنسانية الأصلية ويعبر دوما عن ارتداد إلى الحالة البدائية وشريعة الغاب السائدة بها، في حين أن الإجرام السياسي هو إجرام تطوري تقدمي ينتج عن دوافع الغيرة والإيثار، وبواعث الإصلاح الاجتماعي والرغبة في دفع عجلة التاريخ إلى الأمام، والارتقاء بالذات الإنسانية وبمصالح الجماعة، وهو ليس بإجرام حقيقي وإنما إجرام موهوم أو مزعوم، إذ أنه لا يستهدف سوى المساس بالنظام السياسي أو الاجتماعي القائم وتعديله أو تبديله أو السير به قدما، وفي هذا الصدد رأى غارفالو إدخال الجرائم السياسية في عداد الجرائم الاصطناعية التي لا تمس مشاعر الاستقامة الموجودة بصدر كل إنسان، أما فير رأى بأنه لا يجب أن تصبح النصوص الجنائية مجرد أداة في يد السلطة السياسية، في إشارة منه إلى عدم العقاب على الجرائم السياسية، وأما لمبروزو، فيرى أن الإجرام السياسي هو لون من ألوان الإجرام المتطور الذي يدفع الحياة السياسية والاجتماعية إلى الأمام، بالرغم مما يتسم به لمبروزو من تشدد اتجاه المجرمين.       ويرى علماء الإجرام المحدثون، أن المجرم السياسي يمثل النموذج الحي الصادق وهو المجرم العقائدي الذي يجب أن ينظر إليه كنموذج قائم بذاته، حيث يتميز عن سواه في شعوره الصادق العميق، لأن فعله أملاه عليه ضميره ويعتبره جزء من رسالته التي التزم القيام بها، مرتكزا في ذلك على سلسلة القيم التي ترتكز عليها القواعد القانونية النافذة، لذا يجب معاملة إجرامه معاملة خاصة.
        غير أنه يجب ألا ننخدع إلى هذا الحد وراء دوافع الإجرام السياسي ومجرميه، فهؤلاء أيضا قد تحركهم دوافع الأنانية والحيلة والمكر والخداع والغش، سالكين هذا النوع من الإجرام، رغبة في الوصول إلى تحقيق دوافعهم الأنانية تحت مظلة وجوب الرأفة بهم في حال أفشلت عملياتهم،  وقد اثبت الواقع قيام العديد من حركات التمرد والحروب وكان ظاهرها يوحي على بواعثها السياسية، وأما مضمونها كان مجرد محاولة جماعات معينة للسيطرة على الحكم وبسط نفوذهم على السلطة والشعب، أو لتحقيق مآرب خاصة تنطوي على الغش والكذب والخداع، بل وأكثر من ذلك، لتغطية جرائم فظيعة يرتكبونها أو في محاولة للوصول على السلطة حتى يتسنى لهم بسط حمايتهم على شبكاتهم الإجرامية وهو هدف شبكات المافيا اليوم المتاجرة بالمخدرات والممتهنة للإجرام المنظم.        لذا نجد الدول ورغبة منها في تقوية أركانها سعت إلى مقاومة التيارات الاجتماعية وحركات التحرر التي بدأت تنشط في المستعمرات في بداية القرن العشرين، وتغيرت النظرة إلى الجرائم السياسية، وأخرج من نطاقها ما سمي بالجرائم الإرهابية والجرائم الاجتماعية وجرائم التجسس والخيانة وكل ما يمس أمن الدولة من جهة الخارج.وهو ما تنبهت له فعلا بعض التشريعات، حيث أنه مع طغيان اعتبارات مصالح الدولة، مع المذهب الفردي الذي ساد القرن التاسع عشر، لم يبق موقف القانون من الجريمة السياسية موقف المتساهل والعاطف، بل هبت التشريعات خاصة في القرن العشرين إلى تبني التشدد التغليظ في عقاب المجرمين السياسيين، ونادى تيار فقهي جنائي بأنه ليس من العدل أن يراعى الباعث في الجرائم السياسية وحدها دون غيرها ويهمل في باقي الجرائم الأخرى أين يسود مبدأ أن القانون لا يعتد بالبواعث، وأن المبالغة في المسألة يجعل من دراسة شخصية المجرم موضوعا ثالثا يضاف إلى دراسة الجريمة والعقوبة.

2- من حيث المعالمة العقابية:
        ونعني بالمعاملة العقابية العقوبة وما له علاقة بها، وبالخصوص المزايا التي يتمتع بها المجرم السياسي في هذا الشأن، مقارنة مع باقي أصناف المجرمين الآخرين، حيث يسود مبدأ وجوب أخذ الدافع الشريف ظرفا في تقدير عقوبة مخففة على المجرم السياسي، خاصة وأنه مجرم اليوم قد يكون حاكم الغد،وأن جريمته جريمة مثقفين، ويجب أن يمنع في إجرامه عقوبات الإعدام أو الأشغال الشاقة أو أن يحرم من حقوقه السياسية أو المدنية أو الثقافية وألا تنتزع جنسيته ولا مصادرة أمواله، ولا أن ينفى إلى الخارج، حيث أن قاعدة عدم تسليم المجرمين أضحت قاعدة مستقرة في الفكر الجنائي المعاصر، واحتلت مكانته على خريطة المبادئ الدستورية بوصفها حقا من الحقوق الأساسية، ولا أن تسري أحكام العود في حقه، حيث لا يمكن احتساب الجريمة السياسية السابقة كعود، كما يجب أن يحظى المجرم السياسي في الغالب بقرارات العفو الشامل حتى في الدول التي لم تأخذ بمفهوم الجريمة السياسية، وأما بخصوص المعاملة في السجن، فعادة ما يعامل السجين السياسي معاملة خاصة، حيث يحبس في أماكن بعيد عن باقي المجرمين العاديين، وله الحق في طلب الطعام من خارج السجن، وله طلب الجرائد والكتب... وارتداء  ملابس عادية وعدم إخضاعه للتشغيل. غير انه هناك اتجاه عكس السابق، ينادي بالتشدد مع المجرمين السياسيين، حيث يصح قلب كل ما نادى به الاتجاه السابق.
        هذا وبعد أن انتهينا من التحليل القانوني للجريمة، وبينا ماهيتها وخصائصها وقمنا بتمييزها عما يشابهها من أفكار قانونية أخرى يطلق عليها أحيانا وصف الجريمة، وبينا أن أي جريمة يجب وأن تقوم على ثلاثة أركان عامة وجوهرية أو أساسية، هي الركن القانوني أو الشرعي، والركن المادي، والركن المعنوي، سنحاول الآن أن نتناول كل ركن من هذه الأركان العامة في فصل مستقل، على أن نتناول في فصل مستقل كل التقسيمات والتصنيفات التي أعطيت للجريمة بناء على الركنين المادي والمعنوي دون الركن القانوني حيث سبق تناول أهم التقسيمات المستندة لهذا الركن. 
الفرع الثالث
الجريمة العادية والجريمة العسكرية

        مثلما تقسم الجريمة استنادا للركن المعنوي تقسيما ثلاثيا، وتتم تفرقة الجريمة العادية عن الجريمة السياسية، فإنه هناك تقسيم آخر يستند أيضا لنصوص القانون أو للركن الشرعي، وهو تقسيم الجريمة إلى جريمة عادية وجريمة عسكرية، وهو موضوع دراستنا في هذا الفرع. ويمكن القول عموما، وقبل تناول مفهوم الجريمة العسكرية ومعيار التمييز بينها وبين الجريمة العادية، أنها تلك الجرائم التي تشكل اعتداء على المصالح العسكرية المحمية بقانون القضاء العسكري.
أولا: مفهوم الجريمة العسكرية
        الجريمة العادية هي تلك التي تقع بالمخالفة لنص جنائي يجرم الفعل ويعاقب عله، سواء ورد هذا النص في صلب قانون العقوبات أو في القوانين المكملة له، أما الجريمة العسكرية، فهي بحسب الأصل تلك التي تقع من شخص يتمتع بالصفة العسكرية بالمخالفة للواجبات العسكرية أو النظام العسكري ككل، وهي بذلك لا تختلف كثيرا عن الجرائم العادية، سوى في انعقاد النظر في الجرائم العسكرية لقضاء استثنائي هو القضاء العسكري، والجريمة العسكرية في جوهرها صورة تقترب من الجريمة التأديبية، وربما تميزت عنها  فقط بجسامتها بالنظر لأهمية وخصوصية النظام العسكري، وبخطورة الجزاءات المقررة لها، ويميز بعض الفقه، بين الجريمة العسكرية في مفهومها الحقيقي والتي يرى أنها وحدها التي تبرر تطبيق أحكام القانون العسكري وبين الجريمة العسكرية حكما، بالرغم من أنه في الحالتين ينعقد الاختصاص للقضاء العسكري.


1- مفهوم الجريمة العسكرية الحقيقي:
        حتى نكون بصدد جريمة عسكرية، يجب أن يكون فاعلها متمتعا بالصفة العسكرية وأن يكون الفعل الواقع يشكل مخالفة للنظام العسكري عموما، وهنا قد نكون بصدد جريمة عسكرية بحتة وهي تلك التي يجرمها فقط القانون العسكري دون أن يكون لها نظيرا في أي قانون آخر، مثل جريمة التهرب من الخدمة العسكرية وعدم تنفيذ الأوامر العسكرية، وهناك نوع آخر يسمى ب " الجرائم العسكرية المختلطة " وهي تلك التي يشترك في تجريمها قانون الأحكام العسكرية وقانون العقوبات، مثل جرائم السرقة والاختلاس.. وهي جرائم بحسب الفقه تعد من اختصاص القضاء العسكري لكنها في حقيقتها تعد جرائم عادية، ورجح الاختصاص فيها للقضاء العسكري دون القضاء العادي ترجيحا للقانون الخاص على القانون العام كوننا بصدد تنازع اختصاص، بل يرى البعض أن المحكمة العسكرية هي التي ترجح اختصاصها على اختصاص المحاكم العادية ما لم يقيد القانون العسكري ذاته اختصاص المحاكم العسكرية.
2- مفهوم الجريمة العسكرية الحكمي:
        وهو مفهوم حسب البعض مسوغ فقط لعقد الاختصاص للقضاء العسكري ليس إلا، بالرغم من أن الجريمة ليست في حقيقتها جريمة عسكرية أو تخضع للأحكام الموضوعية للقانون العسكري، وإنما جرائم عادية منصوص عليها في قانون العقوبات وواقعة من شخص يتمتع بالصفة العسكرية بسبب تأدية مهامهم،
 أو أن تكون من جرائم المساهمة الجنائية والمرتبطة بجريمة عسكرية ارتكبها عسكري، أو أن تكون جريمة عادية حسب الأصل غير أن المشرع قدر أنها تمثل اعتداء على مصلحة عسكرية وفقا لقانون الأحكام العسكرية، أو جرائم عادية تقع ضد أشخاص يتمتعون بالصفة العسكرية أثناء تأدية مهامهم أو بسببها.
ثانيا: النتائج المترتبة عن التمييز بين الجرائم العادية والجرائم العسكرية
        تختلف الجرائم العسكرية عن الجرائم العادية من النواحي الموضوعية وكذا من النواحي الإجرائية وهو ما نبينه في النقطتين التاليتين:
1- من الناحية الموضوعية :
        تخضع الجرائم العادية للأحكام الموضوعية المنصوص عليها في قانون العقوبات، بينما تسري على الجرائم العسكرية الأحكام الموضوعية المنصوص عليها في النظام العسكري تجريما وعقابا، كما أن مبدأ الشرعية الجنائية غير معمول به بصفة مماثلة لتلك المعروف بها في قانون العقوبات، حيث غالبا ما تعد نصوص القانون العسكري واسعة تستوعب العديد من السلوكات على نحو يستوعب أفعال غير محصورة مسبقا، كما أن الجزاءات تختلف ما بين ما هو منصوص عليه في قانون العقوباتوما هو منصوص عليه في القانون العسكري، مثل جريمة الطرد من الخدمة العسكرية وتنزيل الرتبة والحرمان من الأقدمية، وأن الحكم في جريمة عسكرية لا يشكل ظرف عود في الجريمة العادية.
2- من الناحية الإجرائية:               
        ينعقد الاختصاص في نظر الجرائم العادية للمحاكم الجنائية العادية، بينما ينعقد الاختصاص في الجرائم العسكرية للجهات القضائية العسكرية، وتبعا لذلك تختلف المراحل التي يمكن أن تتم عبرها مرحلة المحاكمة منذ الاستدلال إلى غاية المحاكمة فيها مرورا بالتحقيق وتنفيذ العقوبات ...غير أن أهم مسألة تكمن في حظر تسليم المجرمين العسكريين مثلما تقتضيه أغلب الاتفاقيات الدولية في هذا الصدد وهو أمر مسلم به فقها استنادا لعرف دولي مستقر.






الفصل الأول
الركن الشرعي أو القانوني للجريمة
مبدأ الشرعية الجنائية
Le principe de la légalité criminelle

        إنه لمن قبيل المسلمات أن الدولة كنظام من صنع البشر قامت لتحقيق الخير لجموع البشر الذين ينتمون إليها، ولتحقيق ذلك، قامت بوضع مجموعة أسس فلسفية تحكم تصرف الإنسان في حياته وتكون بمثابة دليل للعمل يحدد له جوانب الخطأ من الصواب، كما قامت بالبحث عن نقطة توازن معقولة بين نقيضين يعملان في المجتمع في آن واحد، وهما الرغبة في تدعيم السلطة لكي يتسنى ويتيسر للحكام أداء المهام المنوطة بهم، ومن جهة ثانية، الرغبة في تدعيم حريات الأفراد والجماعات
        وأيا كان الخلاف بين النظريات والفلسفات المتصارعة في هذا الشأن، فإنه هناك قدر من الوظائف المسندة للدولة متفق عليه، لأنه يعد من أركان وجود الدولة، ووسيلتها في مواجهة العدوان الخارجي والمحافظة على النظام الداخلي، وهو أول واجب صاحب نشأة الدولة واعتبر عنصرا من عناصر وجودها. وأسند تحقيق هذه الوظائف إلى سلطات ثلاثة محددة ظهرت في مرحلة من مراحل تطور الدولة، حينما اشتد الصراع بين الفكر والسلطة، وهي السلطة التشريعية التي أسندت إليها مهمة سن القوانين بالقدر الذي يحفظ وجود الدولة ويضمن استمرارها، وسلطة قضائية، ووظيفتها الأساسية تطبيق هذه القوانين في إطار مبدأ المساواة وبالقدر التي تحفظ فيه الحريات الفردية، المسألة التي لأجلها نالت استقلاليتها، وأخيرا، سلطة تنفيذية أنيط بها ممارسة المهام السياسية في الدولة، وبالشكل الذي تحفظ به وجود واستمرار هذه الأخيرة. ووجدت هذه السلطة، القانون الجنائي المجال الأنسب الذي يحفظ لها ذلك، بالنظر لما تتسم به قواعده من صرامة وما تتصف به من حزم، بالنظر لما ينطوي عليه من جزاءات تنال في الغالب من حقوق الإنسان الأساسية، أهمها حقه في الحياة والحرية والتملك.
        وإن كان قد سبقت الإشارة إلى أن بعض الفقه انتقد بشدة فكرة اعتبار النص القانوني ركنا من أركان الجريمة، في حين هو خالقها ومصدر وجودها، ولا يمكن للعقل أن يتصور اعتبار الخالق عنصرا فيما خلق، لذا اتجه بعض الفقه إلى اعتبار الركن القانوني هو " الصفة غير المشروعة للفعل"، التي إن لم تتوفر ليس لنا حاجة للبحث عن الأركان الأخرى، حيث هو الركن الذي بموجبه تتحدد الأركان الأخرى، حيث يبين السلوكات والتصرفات المجرمة، وبذلك يكون قد حدد الركن المادي للجريمة، كما يبين العلاقة النفسية بين هذا الفعل ومرتكبه، وبذلك يكون قد حدد الركن المعنوي للجريمة، وبذلك يعد النص القانوني مصدر الصفة غير المشروعة للفعل والمبين للنموذج القانوني لها، كما يرصد لها الجزاء المناسب من جهة نظر قانون العقوبات، أو القوانين المكملة له.
        لذا أضحى الركن الشرعي عبارة عن فكرة قانونية ومبدأ قانوني ثابت من مبادئ القانون الجنائي، وأضحى من مسلمات الفقه الجنائي المعاصر، التي تقوم عليه سائر الأفكار والمبادئ الجنائية الأخرى، بالرغم مما تميز به من طريقة في الظهور وتطور عبر العصور وأسس قام عليها ونتائج رتبها جعلت منه يستقر في غالبية القوانين الجنائية الحديثة، ويرتقي إلى مصاف المبادئ الدستورية التي تقوم عليها جل النظام الديمقراطية في العالم، بل ومن مقومات دولة القانون المعاصرة. ومؤدى المبدأ، أن يحدد المشرع سلفا الأفعال المعتبرة جرائم من بين السلوكات التي يقوم بها الإنسان، فيحدد النموذج القانوني لكل جريمة وكذا الجزاء المقرر لها، مما يضمن حقوق وحريات الأفراد في مواجهة السلطة العامة، كما يحمي في ذات الوقت المصلحة العامة، من خلال إسناد سلطة التشريع للمشرع وحده دون غيره، مما يكفل عدم اعتداء السلطات على اختصاصات بعضها البعض، وانفراد المشرع بالاختصاص في مسائل الحقوق والحريات التي لا مساس بها أكثر من المجال الجنائي. لذا فدراسة هذا المبدأ تقتضي منا تناول ظهور المبدأ وتطوره تاريخيا، لنتناول في الثاني ماهية هذا المبدأ والنتائج القانونية المترتبة عليه. ونخصص مبحثا ثالثا لأسباب الإباحة باعتبارها تمثل أسباب تعود بالشخص لخارج مجال التجريم غير المحكوم بمبدأ الشرعية الجنائية.

المبحث الأول
ظهور مبدأ الشرعية الجنائية وتطوره
        للإلمام بمدلول مبدأ الشرعية الجنائية، يتعين البحث في الظروف التاريخية التي مهدت لظهوره، ومكنته من احتلال المكانة والقيمة الدستورية والقانونية التي يحتلها اليوم، وكذا البحث في الأسس والمبادئ الفلسفية التي قام عليها. حتى يتسنى لنا بعد ذلك استيعاب ماهيته وما يرتبه من نتائج، لذلك سنتناول هذا المبحث من خلال مطلبين، نخصص الأول لظهور المبدأ وتطوره التاريخي، لنخصص الثاني لماهية المبدأ والنتائج القانونية المترتبة عليه. 
المطلب الأول
ظهور مبدأ الشرعية الجنائية وتطوره التاريخي
        مبدأ الشرعية الجنائية لم يظهر بظهور قانون العقوبات، كما أنه لم يتطور بذات الطريقة، كونه ظهر في مرحلة متأخرة من مراحل تطور هذا القانون، وهي المراحل المتعددة التي تضرب بجذورها في أغوار تاريخ البشرية، وهو الأمر الذي جعلت هذا القانون يعاني من ويلات التعسف والتحكم والاستبداد لفترة زمنية طويلة، غير أن الأمر إن كان كذلك بخصوص التشريعات الوضعية الأوروبية فالأمر مختلف بخصوص الشريعة الإسلامية التي عرفت المبدأ منذ القرن السادس ميلادي. لذا سنحاول أن نتناول ظهور المبدأ في فرع، لنتناول في الثاني تطوره التاريخي، ونخصص الثالث لتبيان أسسه الفلسفية.
الفرع الأول
ظهور مبدأ الشرعية الجنائية
        يرجع البعض – وهو كثيرون-  تاريخ المبدأ وأول ظهور له إلى فلاسفة عصر التنوير والنهضة في أوربا، في القرن الثامن عشر، غير أن الحقيقة هو أنه مبدأ ظهر قبل ذلك بكثير، حيث عرفته الشريعة الإسلامية في الوقت الذي كانت فيه أمم أوروبا غارقة في الظلام وتعاني من تحكم وتعسف السلطات، وحتى وإن عرفته بعض التشريعات الغابرة ما قبل الميلاد، مثل شريعة حمورابي، إلا أنه سوى بلورة لقيم السلطة آنذاك[25]. وفي الشريعة الإسلامية قد دلت على المبدأ العديد من الآيات القرآنية الكريمة، مثل قوله عز وجل في الآية 15 من ســورة الإسراء :" وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"، وقوله عز وجل في الآية 59 من سورة القصص :" وما كان لربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا"، وقوله أيضا في الآية 165 من سورة النساء: " لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل"، وقوله عزل وجل في الآية 38 من سورة الأنفال :" قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف"، وفي الآية 95 من سورة المائدة :" عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه". وأما في أوروبا، سادت فترة طويلة من الزمن كانت فيها إرادة الحاكم وأهوائه هي القانون وذلك في ظل نظام مستبد، فلم يوجد آنذاك مبدأ يعبر عن سيادة القانون، مما أثر الفلاسفة والمفكرين على السلطة القضائية، التي كانت تحاكم وتجرم بناء على رسائل الملوك والحكام وفي غياب أية نصوص قانونية، مما وسع من دائرة التجريم وهز ميزان العدالة تحت وطأة التعسف والجور والطغيان، وجسامة وشدة العقوبات ووحشية تنفيذها، مما كان له أثر بالغ في ثورة ما يسمى " بثورة الحريات الكبرى" التي ثارت ضد هذا الجور والطغيان فأشعلت كتاباتهم الثورة الفرنسية سنة 1789 . غير كان قد سبقهم في ذلك "مونتسكيو" الذي يعد  أول ما ندد بالظلم والطغيان في كتابه الخالد " روح القوانين" حيث نادى بمبدأ الفصل بين السلطات لوضع حد لاعتداء السلطة القضائية على اختصاصات السلطة التشريعية، التي كانت تقرر الجرائم والعقوبات وفقا لأهوائها، وأكد على ضرورة " الشرعية النصية" لأجل وضع سياج منيع على الحقوق والحريات. ومن بعده بيكاريا في كتابه " الجرائم والعقوبات"، المنشور سنة 1764 مستندا على فلسفة روسو التي قررها بكتابه العقد الاجتماعي، كما لخص كل من أفكار مونتسكيو وجون جاك روسو وأبرز في كتابه قيمة مبدأ الشرعية باعتباره الوسيلة الفعالة لتخليص القانون الجنائي من تحكم القضاة وتعسف الحكام، ورأى بأن السبيل لتخليص الأفراد من طغيان القضاة وتعسفهم في مجال التجريم والعقاب هو القانون، حيث لا يؤاخذ الشخص إلا عن جريمة يكون قد حددها النص مسبقا وبين عقوبتها ومقدارها، كما اشتق بيكاريا من نظرية العقد الاجتماعي أيضا " مبدأ المصلحة الاجتماعية أساس لمشروعية العقاب" وبذلك: تجرم الأفعال التي تعد عدوانا على المجتمع فقط، وأن يكون الجزاء متناسبا مع الضرر. وبالتالي يكون مبدأ الشرعية الجنائية أول من نادى به مونتسكيو ومن بعده روسو وبيكاريا، واهم عامل دفع لذلك كان التعسف والاستبداد الذي كان سائدا في أوروبا في هذه الحقبة الزمنية.
الفرع الثاني
التطور التاريخي لمبدأ الشرعية الجنائية
        المبادئ التي نادى به كل مونسكيو وروسو وبيكاريا كانت سببا في ظهور مبدأ الشرعية الجنائية إلى الوجود، بصيغته الأولى، لذا امتد في التطور المتسع والمتسارع وعرف طريقه إلى مجتمعات وحضارات أخرى، وكانت أهمها وثائق الثورة الفرنسية، لكن وقبل ذلك كان المحامي العام السيد سيفران في خطابه أمام البرلمان سنة 1766 في قرونوبل قد قدم خطابا أهم ما جاء فيه :" أن القوانين أو القواعد الجنائية يجب أن تعطي للقاضي لوحة مدققة عن الجرائم والجزاءات، بحيث يتعين على القاضي فقط اختيار الجزاء المحدد" وتأكد المبدأ بعد ذلك في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أصدر في أعقاب الثورة الفرنسية في المادة 5 منه التي نصت على انه :" لا يمنع الفرد عن إتيان ما هو غير محظور بنص القانون"، وقضت المادة 8 منه بأنه :" لا يعاقب الشخص إلا طبقا لقانون محدد وصادر قبل ارتكاب الفعل، ثم أكده بعد ذلك دستور الثورة الفرنسية لسنة 1791 وبعده دستور 1793 ودخل المبدأ منذ ذلك الوقت المجال التشريعي[26]. وأخذ القانون الإنجليزي بمبدأ الشرعية الجنائية منذ صدور ميثاق هنري الأول، ثم تضمنه دستور كلاريندون وأكده بعد ذلك العهد الأعظم الذي قرر سمو قواعد القانون في إنجلترا والذي أصدره الملك جون سنة 1215، حيث نصت المادة 29 منه على أنه: " لا يمكن إنزال عقاب ما بأي إنسان حر إلا بمحاكمة قانونية من أنداده طبقا لقانون البلاد"،     وأكد عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 في المواد 9، 10 و11، كما تضمنه أكثر من 50 اتفاقية أو إعلان يتعلق بحقوق الإنسان والحريات الفردية، ليستقر بعدها في غالبية الدساتير والقوانين الجزائية، بوصفه ضمانة أساسية للحقوق والحريات، وصار ركيزة دستورية هامة، وقد نصت عليه غالبية الدساتير الجزائرية، ففي دستور 1976 تضمنته المادتان 45 و169 ، والمواد 43، 44، 131، 133 من دستور 1989، والمادة 46 من دستور 96 المعدل والمتمم، كما نصت عليه المادة الأولى من قانون العقوبات الجزائري، من كون لا جريمة ولا عقوبة ولا تدابير أمن بغير قانون، وقضت المادتان 2 و3 على مبدأين من يعدان نتيجتين من نتائجه وهما مبدأ عدم الرجعية ومبدأ الإقليمية. ونص المشرع الفرنسي على المبدأ في نص المادة 111-3 بأنه :" لا يعاقب أحد على جناية أو جنحة ما لم تكن أركانها معرفة بقانون، كما لا يعاقب شخص على مخالفة ما لم تكن أركانها محددة بمقتضى اللائحة"، ورأى جانب من الفقه الفرنسي أن المكان الطبيعي للنص على مبدأ الشرعية الجنائية هو الدستور، وأن النص عليه في التقنين العقابي ما هو إلا من التزيد الذي لا مبرر له، ولا لزوم له، بل وتأباه فنون الصياغة القانونية والبلاغة التشريعية، كونه مبدأ يحرص على حماية الحريات الفردية، وان مكان النص على هذه الحريات هو الدستور لذا يجب رفع مبدأ الشرعية الجنائية إلى مصاف المبادئ الدستورية، وأن إيراد المبدأ في الدستور يغني عن ترديده في قانون العقوبات. وقبل أن نتقل من فكرة الظهور والتطور، نشير بان هذا التطور مكن من استنتاج الأسس الفلسفية لهذا المبدأ الدستوري الجنائي الهام، وهي الأسس التي نتناولها في الفرع الثالث التالي.
الفرع الثالث
الأسس الفلسفية لمبدأ الشرعية الجنائية
        مبدأ الشرعية الجنائية وجد نتيجة صراع مرير وطويل ضد التعسف والتحكم والطغيان واستبداد الحكام وتعسف السلطات، وبني على العديد من الأسس الفلسفية التي دفعت به إلى الوجود، حيث يعد اثر من آثار العقد الاجتماعي، وثمرة من ثمار مبدأ الفصل بين السلطات، أساسه المسؤولية الأخلاقية وقوامه مبدأ العدالة. فهو أثر من آثار العقد الاجتماعي، حيث أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بهذه النظرية التي جاء بها جون جاك روسو، كون العقاب يعد أيضا محصلة تنازل كل فرد عن جزء من حقه الخاص في الدفاع عن نفسه، لتتولاه السلطة العامة نيابة عنه، وهو المعنى الشكلي لمبدأ الشرعية الجنائية. وهو ثمرة من ثمار مبدأ الفصل بين السلطات، الذي نادى به الفيلسوف الفرنسي مونسكيو، حيث مؤدى الفصل بين السلطات أن تحصر مصادر التجريم والعقاب في القانون الذي تصدره السلطة التشريعية، والذي لا تملك السلطة القضائية إزاءه إلا التطبيق[27]. وأساس مبدأ الشرعية الجنائية المسؤولية الأخلاقية، حيث مسؤولية الشخص تتحدد بناء على الذنب والخطأ المنسوب إليه، والصادر عنه بناء على الإدراك وحرية الاختيار، حيث جوهر الخطيئة إدراك عدم مشروعية الفعل ثم إرادة ارتكابه، وهو ما يقتضي أن تكون عدم مشروعية الفعل قد حددتها النصوص العقابية مسبقا، وأنه حتى تتحدد مسؤولية الشخص الجنائية وتقوم، ينبغي توفر الاختيار الحر بين المحظور والمباح من الأفعال، لذا يجب أن يعرف الإنسان سلفا ما هو محظور عليه. وقوام مبدأ الشرعية الجنائية، مبدأ العدالة الذي يعد من الركائز الأساسية لقيام دولة القانون، وهو ما يؤكد فعلا أن مبدأ الشرعية الجنائية أثر من آثار العقد الاجتماعي وثمرة من ثمار مبدأ الفصل بين السلطات، أساسه المسؤولية الأخلاقية وقوامه مبدأ العدالة، ومرتبط ارتباطا وثيقا بمبدأ سيادة القانون[28]. غير أنه في الشريعة الإسلامية يعد اسمي منه في التشريعات الوضعية، كونه يقوم على قاعدتين أساسيتين، هما  " لا حكم لأحكام العقلاء قبل ورود النص"، وقاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة".
المطلب الثاني
مفهوم الشرعية الجنائية
        لمبدأ الشرعية الجنائية معنى ومدلول وعناصر، وأقسام سنحاول أن نتبينها باختصار في النقاط التالية، حيث نبين المقصود منه، وعناصره، وذلك بالقدر الذي نحتاجه لباقي نقاط دراستنا فقط.
الفرع الأول
المقصود بمبدأ الشرعية الجنائية
        الأصل أن يقصد بمبدأ الشرعية الركن الشرعي للجريمة – وهو ما نحن بصدد دراسته- كما انه يفهم منها مبدأ المشروعية، لذا وجب علينا أن نفرق بين الشرعية والمشروعية في نقطة، لنتناول في الثانية تعريف مبدأ الشريعة الجنائية. إذ في الكثير من الأحيان يستخدم المصطلحين للدلالة على نفس المعنى، غير أنه هناك اختلافات بين المصطلحين، حيث أن الشرعية تعني تنصرف في المجال الجنائي إلى معاني قانونية، تتمثل في حصر مصادر التجريم والعقاب في نصوص قانونية محددة، وهي بذلك تتعلق بالنص الجنائي وبالعناصر الشكلية والموضوعية التي تضمن شروط صحة النص. كما يقصد بالشرعية تلك المبادئ التي تكفل احترام حقوق الإنسان وإقامة التوازن بينها وبين المصلحة العامة، والتي يتعين على الدولة التقيد بها عند ممارستها لصلاحياته العامة. بينما يقصد بالمشروعيـــــة، انتفاء التعارض بين الواقعة القانونية وبين نصوص التجريم والعقاب، وبالأحرى انتفاء التعارض بين النصوص والمصالح والأموال المشمولة بحماية هذه النصوص، فهي بذلك تنصرف إلى أسباب الإباحة، حيث لا يوصف الفعل بعدم المشروعية إذا توفرت شروط تطبيق سبب من أسباب الإباحة التي بينها القانون، فالمشروعية تتعلق بالفعل، في حين أن الشرعية تتعلق بالنص. ويرى البعض، في هذا المعنى، أن مبدأ الشرعية الجنائية في حقيقة الأمر ما هو إلا جانبا واحدا من مبدأ أكثر شمولا، وواجب التطبيق على أي نشاط تقوم به الدولة، الذي يجسد دولة القانون ويفرقها عن الدولة البوليسية. حيث يتوجب على كل السلطات في الدولة احترام القانون والعمل في إطاره، والالتزام بأحكامه في قيامها بمهامها، وعادة ما يقال الشرعية الإدارية للدلالة على هذا المعنى – عمل سلطات الدولة في نطاق القوانين-، تميزا عن مبدأ شرعية الجرائم والعقاب الحاكم للقانون العقابي. غير أنه وبعيدا عما سبق، سنحاول أن نبين تعريف مبدأ الشرعية ومضمونه وتحديد عناصره وتبيان أقسامه في النقاط التالية. 
أولا: تعريف مبدأ الشرعية الجنائية
        أعطيت العديد من التعاريف لمبدأ الشرعية الجنائية، حيث اختلفت باختلاف الزوايا التي ينظر منها إليه، فاليونانيون قد عبروا عن هذا المبدأ بأنه " الترابط السياسي الذي يضع كل مواطن مكانه في المجتمع"، في حين عبر عنه المجتمع الدولي لرجال القانون المنعقد في نيودلهي سنة 1959 بأنه :" اصطلاح يرمز إلى المثل والخبرة العلمية القانونية التي يجمع عليها رجال القانون في جزء كبير من العالم"، ورأى المؤتمورن أن المبدأ يقوم أو يعتمد على عنصرين أساسيين، هما أنه مهما كان فحوى القانون، فإن كل سلطة في الدولة هي نتاج القانون وتعمل وفقه، والثاني، افتراض أن القانون نفسه يعتمد على مبدأ سام هو احترام حقوق الإنسان،  واستخلص المؤتمرون تعريفا ليمدا الشرعية في أنه : " ذلك الذي يعبر عن القواعد والنظم والإجراءات الأساسية لحماية الفرد في مواجهة السلطة، ولتمكينه من التمتع بكرامته الإنسانية"، كما عرف بالعديد من التعاريف التي يمكننا أن نجملها فيما يلي: " نص التجريم الواجب التطبيق على الفعل"، " النص القانوني الذي يبين الفعل المكون للجريمة ويحدد العقاب الذي يفرضه على مرتكبها"، وهناك من قال بأن الشرعية بإيجاز، تأسيس الجرائم على اعتبارات من مصلحة المجموع واحترام الحريات الفردية، وهناك من قال أنه: سيادة القانون وخضوع الجميع له حكاما ومحكومين[29]، وسيادة القانون في مجال التجريم والعقاب يعني وجوب حصر الجرائم والعقوبات في القانون المكتوب، وذلك بتحديد الأفعال التي تعد جرائم وبيان أركانها، من جهة، ثم العقوبات المقرر لها ونوعها ومدتها، من جهة أخرى.وهناك من عرفه، أن الشرعية الجنائية تقضي وجوب وجود نصوص قانونية صادرة عن سلطة مختصة لضبط سياسة التجريم والجزاء والمتابعة الجزائية[30].  
ثانيا: مضمون الشرعية الجنائية
        القانون الجنائي بمختلف فروعه يخضع لمبدأ الشرعية، منذ تجريم الواقعة ووقوعها مرورا بمحاكمة الشخص وتوقيع العقوبة عليه وتنفيذها، وفي كل هذه المراحل يخضع القانون المسائل التي تمس بالشخص وحريته وكرامته سواء تعلق الأمر بالتجريم أو العقاب أو الإجراءات أو التنفيذ العقابي تكون النصوص خاضعة لمبدأ الشرعية الجنائية[31]. ومقتضى مبدأ الشرعية الجنائية، أن تراعيه السلطات الثلاث في الدولة في كل تصرفاتها وأعمالها القانونية، فمن جهة القاضي لا يملك تجريم فعل لم يرد نص بتجريمه أو توقيع عقوبة لم يرد بها نص أو استنتجها عن طريق القياس، ومن ناحية ثانية، فسلطة التجريم والعقاب من اختصاص السلطة التشريعية، وهي وحدها صاحبة الاختصاص، وأن تكون النصوص التي تضعها محددة ولا نصرف إلى الماضي، ولا تملك السلطة التنفيذية ممارسة هذا الاختصاص دون تفويض،  وفي الحدود الضيقة التي بينها القانون لهذا التفويض. فمبدأ الشرعية الجنائية يفرض نفسه على المشرع مثلما يفرض نفسه على القاضي، فالأول يحتكر سلطة التجريم والعقاب، بينما الثاني يقع عليه عبء التطبيق السليم لهذه النصوص، احتراما للإرادة العامة، على أن تكون النصوص الجنائية  واضحة وضوحا كاملا بما يسمح للقاضي بتطبيقها السليم دون خطأ، حيث إذا جاء النص مبهما أو غامضا، فإن ذلك يمنح القاضي سلطة تحكمية التي أريد القضاء عليها بموجب هذا المبدأ، لذا فالشرعية تستعبد فكرة النصوص التي تشمل ما يسمى بالحالات
أو النماذج المفتوحة Types ouverts وهي النصوص الذي ما أريد تطبيقها نجد بأنه يدخل تحت نطاقها العديد من الحالات المتشابهة، كالنص " كل فعل ضار بالشعب" أو " كل تصرف يمس المصلحة العامة أو من شأنه المساس بالأمن العام أو النظام القائم"، وفي مجال الإجراءات على المشرع البحث عن توازن مرضي بين حقوق الاتهام وحقوق الدفاع، لأن القانون يحمي الحقوق الفردية بقدر حمايته للمصلحة العامة، أو مصلحة المجتمع، ووجود هيئات قضائية قانونية مشكلة قبل ارتكاب الجريمة، حيث يقتضي المبدأ أن يعرف الشخص المحكمة المختصة مسبقا بمقدار معرفته بالجريمة والعقوبة، وافتراض البراءة، ووقوع عبء الإثبات على النيابة العامة، وعلانية الجلسات حتى يتسنى للرأي العام مراقبة استقلالية السلطة القضائية، واستقلالها عن السلطة التنفيذية. 
الفرع الثاني
أقسام الشرعية الجنائية
        في حقيقة الأمر الشرعية الجنائية جزء من الشرعية العامة، لكن مساسها بالحقوق والحريات هو الذي جعلها تبرز على غيرها من أقسام الشرعية الأخرى في الدولة، حيث كلما أطلق لفظ الشرعية، انصرفت الأذهان إلى الشرعية الجنائية مباشرة، وتعني الشرعية الجنائية، شرعية التجريم والعقاب وشرعية المتابعة الجزائية، وهي بذلك تتكون من قسمين رئيسيين، هما الشرعية الموضوعية وتشمل شرعية التجريم والعقاب، والقسم الثاني ويتمثل في الشرعية الإجرائية التي تختص بالإجراءات الواجبة في متابعة الجاني منذ وقوع الجريمة لغاية الحكم عليه نهائيا بحكم نهائي بات حائز لقوة الشيء المقضي به، ويضيف البعض شرعية التنفيذ العقابي.
أولا:  الشرعية الموضوعية( شرعية التجريم والعقاب)
        وهي الحلقة الأولى أو القسم الأول من أقسام الشرعية الجنائية، وهو ما يعبر عنه بلا جريمة ولا عقوبة ولا تدبير أمن بغير نص، مما معناه حصر مصادر التجريم والعقاب في النص التشريعي الصادر عن السلطة المختصة بذلك وفقا للأحكام الدستورية في الدولة، وهو ما نص عليه المشرع الجزائري في نص المادة الأولى من تقنين العقوبات، وفي العادة ما يقصد بالشرعية الجنائية هذا القسم دون سائر الأقسام الأخرى. وبالتالي مقتضى هذا القسم من أقسام الشرعية الجنائية، حماية الإنسان من خطر التجريم والعقاب بغير الأداة التشريعية المعبرة عن إرادة الشعب، وزيادة على ذلك أن يكون هذا القانون قبل ارتكاب الفعل، ودون أن يطبق بأثر رجعي، معبرا عن ذلك بعدم رجعية النصوص الجنائية كقاعدة عامة، وحظر القياس على القاضي، في مجال التجريم والعقاب، وإن كان يجوز ذلك في غير مسألتي التجريم والعقاب، سيما فيما يخدم مصلحة المتهم، وكذا إلزام القاضي بمبدأ التفسير الضيق وذلك بإتباع قواعد خاصة في التفسير الكاشف فقط عن إرادة المشرع عند وضع النص. وإن سمح للسلطة التنفيذية بالتجريم في بعض المجالات فإن ذلك يعد استثناء ولاعتبارات تقدرها السلطة التشريعية ذاتها وفي الحدود الضيقة التي بينها الدستور ووفق الضوابط التي حددها – هي الأمور التي نتبينها أكثر عن تناولنا لنتائج مبدأ الشرعية-. غير أن الشرعية الموضوعية تبقى حلقة من حلقات الشرعية الجنائية، لا تكفي وحدها لحماية حرية الإنسان في حالات القبض عليه أو حبسه أو اتخاذ إجراءات المتابعة ضده، أو محاكمته، ومن هنا يبدو قصور القسم الأول للشرعية الجنائية، طالما كان من الممكن المساس بحرية المتهم بغير قانون وبعيدا عن قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، خاصة في حالة إهدار قرينة البراءة وإلزام الشخص على إثبات براءته مع الوضع الذي يفترض الإدانة، لذا كان يجب تكملة الحلقة السابقة، بحلقة أخرى أكثر أهمية، وهي الشرعية الإجرائية.
ثانيا:  الشرعية الإجرائية
        وهي أن تكون الجهات والأجهزة والإجراءات التي تتبعها هذه الأخيرة مقررة بموجب نصوص قانونية، وهي الحلقة التي تكفل احترام الحرية الشخصية للمتهم، وافتراض براءته في كل إجراء من الإجراءات التي تتخذ ضده، وبذلك تكون الشرعية الإجرائية امتداد طبيعي لشرعية الجرائم والعقوبات، بل في الواقع أكثرها أهمية وأعظمها شأنا، فهي الإطار الذي لا يمكن تطبيق القاعدة الموضوعية إلا من خلاله، وتقوم الشرعية الإجرائية أساسا على افتراض براءة المتهم، وألا يتخذ ضده أية إجراء إلا بنص في قانون الإجراءات الجنائية، والثالث يتمثل في ضرورة إشراف القضاء على كل الإجراءات المتخذة ضده باعتبار القضاء الحارس الطبيعي للحقوق والحريات[32]. حيث أن قرينة البراءة لا تسقط إلا بحكم بإدانة المتهم، وهنا فقط يصبح أمر المساس بحريته أمرا مشروعا بحكم القانون، غير أن ذلك لا يعد حقا مطلقا، بل يجب أن يتحدد نطاقه وفقا للهدف من الجزاء الجنائي، ومن هنا تظهر أهمية الحلقة الثالثة من حلقات الشرعية الجنائية، وهي شرعية التنفيذ العقابي.
ثالثا: شرعية التنفيذ العقابي
        شرعية التنفيذ العقابي تعد الحلقة الثالثة من حلقات الشرعية الجنائية، حيث تقتضي أن يجري تنفيذ الحكم الصادر ضد المتهم وفقا للكيفيات التي حددها القانون، تحت رقابة وإشراف القضاء، خاصة في ظل الاهتمام المتزايد بهذه المرحلة الذي بدا مع مدرسة الدفاع الاجتماعي، وتبلور مع منظمة الأمم المتحدة التي قامت بإصدار القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة المساجين، التي بينت بدقة المبادئ التي تحكم مرحلة التنفيذ العقابي، مما يعد شرعية لهذا التنفيذ، وبالتالي يمكننا القول أن هذه الحلقة لم تبق مجرد مبدأ دستوري بل ارتقت لمرتبة المبادئ الدولية مع صدور قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة توصي الدول بضرورة العمل بالقواعد النموذجية الدنيا السابقة، وهو القرار رقم 2858- في 20-12- 1971، والقرار 32/8 في 06-11-1974 وهي القواعد التي عنيت الدول بإدراجها في قوانينها، باعتبار القانون الأداة التشريعية الصالحة للشرعية الجنائية، وهو ما قام به المشرع الجزائري في قانون تنظيم السجون، خاصة القانون الأخير قانون تنظيم السجون وإعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين رقم 05-04 المؤرخ في 06-02-2005. وتقوم شرعية التنفيذ العقابي على ضرورة تحديد أساليب التنفيذ وضماناته وأهدافه المنصوص عليها بالقانون المعبر عن إرادة الشعب والذي سمح بالمساس بحرية الشخص أو حياته، وأن يكون تنفيذ العقوبة خاضعا لإشراف قاضي يطلق عليه قاضي تنفيذ العقوبات.



[1] - غير أن هذا لا يمنع من القول، بأنه هناك قلة من القوانين الجنائية قد اهتمت بوضع تعريف للجريمة، مثلما هو الشأن بالنسبة لقانون العقوبات الإسباني لسنة 1928 أين عرفت المادة الأولى منه الجريمة بأنها: عمل أو امتناع عن عمل إرادي يعاقب عليه القانون"، وقانون العقوبات المغربي لسنة 1963 الذي عرف الجريمة بأنها: " عمل أو امتناع مخالف لقانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه"، فإن باقي القوانين الأخرى لن تول المسألة اهتماما، مما جعل من مسألة تعريف الجريمة مسألة فقهية. والسبب في ترك المشرع المهمة للفقه، سببه مثلما يرى البعض، أن وضع التعاريف هي لعبة الفقهاء، ومن جهة ثانية حتى لا يتورط المشرع في وضع تعريف قد لا يكون لا بالجامع ولا بالمانع مما يجعله مقصرا قانونا، ويجعله يقلل من تطبيق القواعد والأسس التي وضعها المشرع بعد ذلك في القانون.
[2] - وإن كان هناك من يرى بأن التعريفات القانونية للجريمة تجعلنا نسميها ب:"الجريمة المقننة"وهي تشمل كل التعريفات الفقهية المستمدة لوجهة نظر قانونية، وهي السلوكات سواء كانت أوامر أو نواهي نصت عليها القاعدة الجنائية، أما الجريمة غير المقننة، فهي كل مخالفة لصحيح الأمور وأعرافها وفقا للأعراف والبيئة، سواء نص عليها المشرع أم لم ينص، وبذلك يكون مفهومها أوسع من مفهوم الجريمة المقننة، وهناك نوع ثالث وهي :" الجريمة الحية"، ويقصد بها تلك الجريمة التي وقعت بالفعل وفقا للنموذج القانوني، حيث لم تبق مجرد نص بل قام بها الجاني فعلا، والجريمة النظرية هي الجريمة المقننة وفقا لوجودها القانوني لا الواقعي أي التي لم ترتكب بعد، بل وفق تصور المشرع لها.
[3] - وهو موقف تقليدي للفقه الفرنسي، الذي يركز على الركن الشخصي أي المعنوي، وبموجب هذا الاتجاه فقط يمكن التمييز بين الشخص المسؤول والشخص غير المسؤول جنائيا، واعتبر هذا الاتجاه الركن المعنوي بأنه ركن البغي أو العدوان، مثل= =بلانيول ومانيول الذين عرفوا الجريمة أنها:" خرق القانون الذي سنته الدولة من أجل سلامة المواطنين بواسطة عمل خارجي للإنسان إيجابي أو سلبي وليس مباحا بواسطة القيام بالواجب أو استعمال الحق، ومعاقبا عليه من قبل القانون الجنائي".
[4] - الاتجاه الموضوعي في تعريف الجريمة أو في غيره من نقاط البحث القادمة، وهو الاتجاه الألماني، الذي يعرف الجريمة تعريف موضوعي محض، وباختصار يعرفونها بأنها: " الخرق المادي لأحكام القانون الجنائي"، ويستبعدون تماما العنصر الشخصي المتمثل في مرتكب هذه الجريمة، والمهم لديهم انه هناك جريمة وقعت بغض النظر عن شخصية مرتكبها، ويركزون فقط على الركنين المادي والقانوني. وهو بالتالي اتجاه يقودنا لفكرة " موضوعية الجريمة L’objectivité de l’infraction " الذي يعني النظرة للجريمة كواقعة من الوقائع المدنية، مما يخرجنا من إطار القانون الجنائي، إلى النظر إلى الجريمة بنظر فقهاء القانون الخاص، أو فقهاء القانون المدني، كونه يهمل أهم عنصر يركز عليه القانون الجنائي أكثر من أي قانون آخر وهو شخصية الجاني وما يكمن لديه من مقدار للخطورة الإجرامية، وسبق القول بأن أهم ما يعطي للقانون الجنائي ذاتيته انه يهتم بعنصر العمد والخطأ وهي مسائل شخصية وليست وقائع مادية ينظر إليها بنظرة موضوعية مجردة، حيث يركز على الماديات ويهل تماما المسائل الشخصية، حيث لا  اهتمام لدى أنصاره بالإرادة والإثم والبغي والعدوان.. وإن كان لأنصار هذه المدرسة فضل كبير في نظرية الشروع، وظهور فكرة الجرائم المادية، ويرون بأن الركن المعنوي مجال دراسته مختلف تماما، وهو لا يتعلق بالأفعال والوقائع المادية التي تعد أساس ومحور قانون العقوبات، إذ المشرع لم يتدخل لتجريم فعل من الأفعال إلا بالنظر لخطورته وأثاره الضارة على المصالح الاجتماعية، خاصة وأن التجريم يتم بنظرة عامة مجردة دون أخذ بعين الاعتبار للشخص الفاعل الذي يكون مجهولا  عند وضع النصوص الجنائية، وهو أمر وجيه نسبيا في نظرنا. لكن ذلك لا يجب أن يجعلنا ننسى بأنه، وفقا للمنطق القانوني، بأن الجريمة وإن كان معاقبا عليها، فهي لأنها تمثل عرضا من أعراض الإرادة الآثمة والتفكير الآثم، الأمر الذي يقود لعدم إهمال الجانب الشخصي تماما،  إذ هذا الجانب يجب أن يبقى نصب الأعين عند دراسة الجريـــــــمة.
[5] - في الحقيقة المشرع حكما يعتبر الفعل تهديدا بالمصالح الجوهرية للمجتمع، وهي الخاصية المرتبطة بسابقتها والتي تضفي على الجريمة كفكرة قانونية حقيقتها الاجتماعية، حيث الجريمة في حقيقتها لا تعد مساس أو تهديد بالمساس بقيم جوهرية خالدة للمجتمع، بل بما يراه المشرع حكما أنها كذلك كونه سبق القول بنسبية الجريمة، فالتطور قد ينقلب على هذه القيم، فالتطور الحاصل مثلا في المجتمع الأوروبي انقلب على " قيم العفة" حيث كانت جريمة الزنا أمرا مجرما في هذه المجتمعات، غير أن قيمة التحرر تغلبت على قيمة العفة، ودخل قيم التحرر من القيم الجوهرية للمجتمع وأخرجت قيمة العفة، وهو الأمر دوما في مجال التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، التي أثبتت كلها حركة الخروج والدخول من النظم القيمية للمجتمع، هذه الأخيرة التي أضحت بدورها في حركة تطور مستمرة، لذا فالمشرع عند تقريره قيمة معينة ما فإنه يكون متحكما لا حكما مما قد يؤدي إلى شعور الأفراد الإحساس بصدقية تأثيم هذه الأفعال ويؤثر سلبا في نهاية الأمر على أداء القاعدة الجنائية وعلى وظيفة الردع التي يسعى لتحقيقها الجزاء الجنائي، وقد أدرك الفقيه الإيطالي جاروفالو منذ زمن بعيد هذه الحقيقة، وذلك بتقسيمه الجرائم إلى طائفتين أساسيتين هي طائفة الجرائم الطبيعية وطائفة الجرائم الاصطناعية
[6] - وقد تتعلق بصفة المجني عليه، كالقاصر في جريمة الاعتداء على قاصر أو خطفه، وصفة الميت في جريمة الاعتداء على حرمة الموتى، كما قد تتعلق بزمان أو مكان ارتكاب الجريمة، كزمن الحرب، والطريق العام، والمكان العمومي...في جرائم  السكر العلني والقذف والفعل العلني المخل بالحياء... أو زمن الحرب في بعض الجرائم..."،
[7] - ويرى بعض الفقه أن الشروط المفترضة، هي أوضاع قانونية أو واقعية سابقة على وجود الجريمة، في حين يرى البعض أن الرأي السابق غير صحيح من حيث اعتبارها أركان بل هي ظروف متعلقة بالركن المادي للجريمة، أحيانا تقوم به الجريمة وأحيانا به يمكن تحديد نوعها، كصفة الطبيب في جريمة الإجهاض. وهي بذلك لا تعد من عناصرها ومحل دراستها النظرية العامة للجزاء. ويرى البعض أن الشروط المفترضة بالرغم من أنها من المكونات القانونية للجريمة، فهي لا تعد من مكوناتها المادية  بل هي سابقة على الوقوع المادي للجريمة، فهي بذلك تخضع للقواعد غير الجنائية على عكس الركن المادي للجريمة.
 [8] - وهو التقسيم الذي تأخذ به أغلب التشريعات الجنائية، أساسه اختلاف الجرائم بحسب جسامتها، وهي الجسامة التي تكشف عنها العقوبة المقررة للجريمة، وهي الجسامة التي تتحدد بناء لاعتبارات تتعلق في العادة بالركن المادي أو الركن المعنوي أو الركن الوصفي. ونجد غالبية التشريعات قد نهجت هذا النهج، الذي يعد في حقيقته نهجا فرنسيا في الأساس، والذي يقسم الجرائم على جناياتCrimes ، وجنحDélits ، ومخالفاتContraventions ، وبعض التشريعات فضلت التقسيم الثنائي إلى  جنح ومخالفات فقط، مثل القانون الجنائي الإسباني والإيطالي لسنة 1930، والقانون النرويجي والهولندي والبرتغالي.
[9] - حيث أن نص المادة 27 هو الذي بين هذا المعيار، في حين شرح المعيار ورد بالمادة 5 من تقنين العقوبات، ومنهجيا كان يجب تبيان التقسيم قبل تحليل الخطورة أو الجسامة الواردة في المادة 5.
[10] - المادة 5 ( القانون رقم 06-23 المؤرخ في 20 ديسمبر 2006) :" العقوبات الأصلية في مادة الجنايات هي:1) الإعدام،2) السجن المؤبد،3) السجن المؤقت لمدة تتراوح بين خمس (5) سنوات وعشرين (20) سنة.العقوبات الأصلية في مادة الجنح هي: 1) الحبس مدة تتجاوز شهرين إلى خمس سنوات ما عدا الحالات التي يقرر فيها القانون حدودا أخرى،
2) الغرامة التي تتجاوز 20.000 دج. العقوبات الأصلية في مادة المخالفات هي:1) الحبس من يوم واحد على الأقل إلى شهرين على الأكثر،2) الغرامة من 2000 دج إلى 20.000 دج."ونشير أنه قبل سنة 2006 كان تطبيق عقوبة السجن يحول دون توقيع عقوبة الغرامة معها، غير أن المشرع الجزائري أدرج في هذا التعديل نص المادة 5 مكرر سمحت بالجمع بين العقوبتين، حيث نجد المادة 5 مكرر ( القانون رقم 06-23 المؤرخ في 20 ديسمبر 2006) :" إن عقوبات السجن المؤقت لا تمنع الحكم بعقوبة الغرامة ."
[11] - حيث نصت المادة 30 على أنه: " كل المحاولات لارتكاب جناية تبتدئ بالشروع في التنفيذ أو بأفعال لا لبس فيها تؤدي مباشرة إلى ارتكابها...." في حين نصت المادة 31 على أنه: " المحاولة في الجنحة لا يعاقب عليها إلا بناء على نص صريح في القانون. والمحاولة في المخالفة لا يعاقب عليها إطلاقا".
[12] - ونصت المادة على أنه :" يعاقب الشريك في جناية أو جنحة بالعقوبة المقررة للجناية أو الجنحة... ولا يعاقب على الاشتراك في المخالفة على الإطلاق."
[13] - حيث نصت المادة 176 ( القانون رقم 15-04 المؤرخ في: 10-11-2004) من ق ع ج على أنه: " كل جمعية  أو اتفاق مهما كانت مدته وعدد أعضائه تشكل أو تألف بغرض الأعداد لجناية أو أكثر، أو لجنحة أو أكثر، معاقب عليها بخمس سنوات حبس على الأقل، ضد الأشخاص أو الأملاك تكون جمعية أشرار، وتقوم هذه الجريمة بمجرد التصميم المشترك على القيام بالفعل." في حين بينت المادة 177 من ذات القانون المعدلة بموجب المادة 60 من القانون رقم 06-23 المؤرخ في: 20-12-2006 العقوبات المقررة لهذه الجريمة.
[14] - التي نصت على أنه:" في حالة منح الظروف المخففة في مواد المخالفات، فإن العقوبات المقررة قانونا بالنسبة للشخص الطبيعي لا يجوز تخفيضها عن حدها الأدنى.."
[15] - التي نصت على أنه:" يعاقب العائد في مادة المخالفات المنصوص عليها في هذا الباب بالحبس مدة قد تصل إلى أربعة أشهر وبغرامة قد تصل إلى 40.000 دج."
[16] - حيث نصت على أنه:" يعاقب العائد في مادة المخالفات المنصوص عليها في هذا الباب بما يأتي..."
[17] - فمثلا إذا أفاد القاضي شخص متهم بالسرقة الموصوفة وهي جناية عقوبتها خمس سنوات سجن فما فوق، بظروف التخفيف وقضى عليه بعقوبة ثلاث سنوات، فيجب أن تكون سجنا والجريمة جناية، حيث لا يمكنه تغيير وصف الجناية إلى جنحة على اعتبار أنه قضى بعقوبة تطبق أصلا على الجنح.
[18] - مثل الحالات التي يرتأى فيها المشرع تشديد عقوبة الجنحة وتوقيع عقبات الجناية عليها، فإن ذلك يغير من وصف الجريمة، مثل التشديد في عقوبة جنحة السرقة التي تتحول في هذه الحالة إلى جناية السرقة الموصوفة.
[19] - حيث يرى البعض أن الإجرام السياسي قديم قدم السلطة، لذا فهي عرفت منذ أقدم العصور التي بدأت فيها تتبلور الفكرة  الأولى للدولة، لذا رأى البعض أنها من أعمق المآسي التي عرفها التاريخ والإنسان. 
[20] - وقد عرفت أوروبا في العهد الملكي والعصر الكنسي شهدت أوروبا في هذه الحقبة من الزمن أهم الشواهد المرعبة على معاقبة المجرم السياسي، ولم تتغير العقوبة على المجرم السياسي حتى بعد الثورة الفرنسية التي بزغ معها فجر الأمل حيث ظل يعاقب بالإعدام، بالرغم من حلول الدولة محل الذات الملكية، ولم تلغ عقوبة الإعدام إلى مع الجمهورية الفرنسية الثانية عام
       1848، غير أن التشديد زادت حدته ما بين الحربين العالميتين، خاصة مع وصول الأحزاب المتطرفة إلى الحكم.
[21] - على الرغم من أن أنصار هذه المدرسة ذاتهم اختلفوا حول المصدر حيث منهم من اعتمد على الباعث أو الدافع، ومنهم من اشترط الفرض أو الغاية، وهناك من جمع بينهما، غير أنهم يتفقون في النهاية على الاعتماد بالدرجة الأولى والخيرة على نفسية المجرم وحالته الروحية.
[22] - ولا يدرج البعض المعيار المختلط كمعيار ثالث، بل يسميه المعيار السياسي، الذي يبنى على نوعية نظام الحكم والمعتقدات السياسية السائدة فيه، ومدى استقرار النظام فوفقا لهذه المتغيرات تتغير طبيعة المجرم السياسي، فهو عنصر ضروري للتطور في النظم الديمقراطية وعنصر خطر في الأنظمة الفردية الاستبدادية، وبواعثه تكون مبعث التخفيف في عقابه في النظم الديمقراطية، وبالعكس من ذلك في النظم الديكتاتورية..
[23] - حيث عرفت بأنها:
« Sont des délits politiques , les infractions dirigées contre l’organisation et le fonctionnement de l’Etat, Ainsi celles qui sont dirigées contre le droit qui en résultent pour les citoyens » 
[24] - كم عرفت أنها: الفعل غير المشروع الذي يرمي به مباشرة أو بطريق غير مباشر إلى تغيير الوضع السياسي في الدولة، وتتميز عن الجريمة السياسية في أن الباعث إليها يكون سياسيا[24]، وهو اتجاه تبنى المعيار الشخصي أيضا.
كما عرفت :" الجريمة السياسية عمل سياسي يحرمه القانون، فهي صورة للنشاط السياسي الذي استعجل صاحبه طريق القانون، فحملته العجلة في تحقيق أهدافه أو الميل إلى العنف في مواجهة الخصوم على أن يستبدل بالأسلوب الذي يرخص له القانون أسلوبا يحظره، ويخلص من ذلك أن الأصل في الجريمة السياسية أن تتجه إلى العدوان على الحقوق السياسية للدولة، وأن تحمل على ارتكابها دوافع سياسية تتصل بتوجيه النشاط السياسي للدولة على نحو معين
[25] - يرى البعض أن مبدأ الشرعية الجنائية لم يظهر إلا مع اللحظة التي تحددت فيها سلطات الدولة، وانفصلت كل منه عن الأخرى، ففي عهد الملكية المطلقة كانت أوامر الملك هي القانون وله مطلق الإرادة في مجال التجريم والعقاب، وفي القرون الوسطى انتقلت هذه السلطة للقضاة وظل الحال كذلك حتى اشتد نقد الفلاسفة والكتاب لهذا الوضع. 
[26] - يرى البعض أن مبدأ الشرعية الجنائية لم يكن معروفا قبل الثورة الفرنسية، وإن كان عرف في مراحل معينة من التاريخ، إلا انه لم يكن بالشكل الحالي، ويرى هذا الاتجاه أن الأمر يختلف بخصوص الإجراءات، حيث لم تترك إطلاقا للتحكم والأهواء، حيث كان هناك مبدأ فقهي قديم سائد، يعبر :" العدالة لا شيء غير الشكلية".
[27] - حيث يرى البعض بأن مبدأ الشرعية الجنائية يتدخل بشكل أو بآخر بمبدأ الفصل بين السلطات، ، حيث إن منح القاضي اختصاص التجريم والعقاب نكون قد سلبنا المشرع اختصاصه، كونه ممثل الإرادة العامة ووحده المختص بتقييد الحقوق والحريات، وأن المشرع وحده الذي تنازل له الأفراد على مقدار معين لتقرير ذلك نيابة عنهم، عن طريق القانون الجنائي الذي يعد المصر الوحيد للتجريم والعقاب.
[28] - إن كانت هذه هي نظرتنا وتلخيصنا لفلسفة مبدأ الشرعية، فإن بعض الفقه يرى أن المبدأ يقوم على دعامتين أساسيتين، هما حماية الحرية الشخصية وحماية المصلحة العامة، حيث قام المبدأ أصلا لحماية الحريات الشخصية من صنوف التعسف والتحكم الاستبداد الذي عانت منه ردحا طويلا من الزمن، حيث مثل هذا المبدأ يكفل الأمن والطمأنينة للأشخاص بتوضيحه المحظور من المباح مسبقا، حتى يتم تفادي عنصر المفاجأة الذي كان سائدا في القدم، وفيما يتعلق بالمصلحة العامة، فمبدأ الشرعية الجنائية بما يقرره من مبدأ انفراد التشريع في مسائل التجريم والعقاب والإجراءات وكل ما يتعلق بالحقوق والحريات الشخصية، يعبر عن فعلية ممارسة ممثلي الشعب الاختصاص في مجال الحريات والحقوق، وفي هذا قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر، أنه :" القيم الجوهرية التي يصدر القانون الجنائي لحمايتها، لا يمكن بلورتها إلا من خلال السلطة التشريعية التي انتخبها المواطنون لتمثيلهم، وأن تعبيرها عن إرادتهم يقتضيها أن تكون بيدها سلطة التقرير في شأن تحديد الأفعال التي يجوز تأثيمها وعقوباتها لضمان مشروعيتها."، وهو الأمر الذي يقود في النهاية في تنمية الروح الاجتماعية وتحقيق التماسك الاجتماعي وبما يحفظ أيضا ثقة الشعب في دولته وفي الأخير تحقيق الأمن القانوني الذي يعد أساس الاستقرار في المجتمع.
[29] - ومبد الشرعية الجنائية يعد تجسيدا لدولة القانون، التي يمكن تلخيص معناها بما قررته المحكمة الدستورية العليا في مصر في قولها: " الدولة القانونية هي التي تتقيد في كافة مظاهر نشاطها – أيا كانت طبيعة سلطاتها- بقواعد قانونية تعلو عليها وتكون بذاتها ضابطا لأعمالها وتصرفاتها في أشكال مختلفة، ذلك أن ممارسة السلطة لم تعد امتيازا شخصيا لأحد، ولكنها تباشر نيابة عن الجماعة ولصالحها... فدولة القانون هي التي يتوافر لكل مواطن في كنفها الضمانة الأولية لحماية حقوقه وحرياته، ولتنظيم السلطة وممارستها في إطار من المشروعية، وهي ضمانات يدعمها القضاء من خلال استقلاله وحصانته،
 لتصبح القاعدة القانونية محورا لكل سلطة، ورادعا ضد العدوان.
[30] - غالبية الفقه الجنائي يعرف مبدأ الشرعية الجنائية، بأنه:" نص التجريم الواجب التطبيق على الفعل"، أو هو : النص الجنائي الذي يضفي على الفعل أو الامتناع الصفة غير المشروعة، إذ أن السلوك لا يكتسب وصفه كجريمة، إلا منذ أن تقرر له ذلك بموجب نص قانوني جزائي. غير أن هذا التعريف انتقد بشدة، من حيث أنه من غير المعقول، حسب بعض الفقه، أن يكون النص القانوني ركنا في الجريمة في حين هو خالقها ومصدر وجودها، ولا يمكن للعقل تصور اعتبار الخالق مجرد عنصر فيما خلق، وهو الانتقاد الذي دفع ببعض الفقه إلى إعطاء مدلول آخر للركن الشرعي، واعتباره " الصفة غير المشروعة للفعل"، التي إن لم تتوفر له لا حاجة لنا للبحث عن الأركان الأخرى، حيث أنه الركن الذي بموجبه يحدد المشرع التصرفات والسلوكات، سواء كانت أفعالا أو امتناعات التي يقدر عدم مشروعيتها، وبذلك يكون قد حدد الركن المادي للجريمة، كما انه بموجبه تحدد العلقاة بين هذه التصرفات والشخص المجرم ونفسيته وإرادته اتجاهها، وبذلك يكون المشرع قد حدد الركن المعنوي للجريمة، وبذلك يكون النص مصدر للصفة غير المشروعة للفعل، المبين في قانون العقوبات والقوانين المكملة له، مبينا النموذج القانوني الذي ينبغي أن يكون عليه الفعل أو الامتناع حتى يعد مجرما، أو تصميمه وبناءه القانوني، وكذا الجزاء الجنائي المقرر له قانونا. وبذلك لا يكون النص خالقا للجريمة وإنما مبينا للتصميم أو النموذج الذي يجب أن يتخذه السلوك حتى يعد جريمة. خاصة وأننا نرى أن الفعل أو السلوك سابق في وجوده عن النص، وبالتالي المشرع لم يخلق الفعل، بل بين الحالات التي يكون  فيها إتيانه غير مشروع، كون الأصل في الأشياء الإباحة، والاستثناء التجريم.
[31] - ويرى البعض أن الكثير من الدراسات الفقهية يفهم منها أن مبدأ الشرعية الجنائية، ينطبق فقط على القانون الجنائي الموضوعي في مفهومه الضيق stricto sensu، دون التركيز على القانون الإجرائي، أي قانون الإجراءات الجزائية، وهو مفهوم خاطئ يرجع بالأساس لمسألة دراسة مبدأ الشرعية الجنائية في إطار دراسة القانون الجنائي الموضوعي، لذا يرى هذا الاتجاه أن نقول " لا جريمة ولا عقوبة ولا إجراءات جنائية إلا بناء على قانون"، ونرى نحن، أن يمتد الأمر حتى مرحلة
          التنفيذ العقابي، ليكون المبدأ يعبر على أنه لا جريمة ولا جزاء ولا إجراء ولا تنفيذ إلا بنص قانوني.
[32] - لذا نجد الفقه يرى بأن قانون العقوبات هو قانون اللصوص، بينما قانون الإجراءات الجزائية هو قانون الشرفاء أو قانون الحقوق والحريات.



الفرع الثالث
الانتقادات الموجهة لمبدأ الشرعية الجنائية:
        في الحقيقة، مبدأ الشرعية الجنائية لم يكن محل انتقادات في القرن التاسع عشر، أو على الأقل خلال جزء كبير منه، غير أنه تم البدء بتوجيه الانتقادات له مع ظهور المدرسة الوضعية الإيطالية، والمدارس اللاحقة لها، غير أن هذه الانتقادات لم تنل من قيمة وأهمية المبدأ، بوجود الرأي الغالب في الفقه في جانب المدافعين عنه، الأمر الذي كرسه كمبدأ قانوني ودستوري ودولي، وهو ما نبينه باختصار في النقطتين التاليتين.
أولا: معارضي مبدأ الشرعية الجنائية
من بين الانتقادات التي وجهت له، أنه أخذ على المبدأ عدم قدرته على إعطاء تعريف دقيق ومرض للجرائم، حيث هناك العديد من الأفعال التي تعد لا اجتماعية  ولا أخلاقية ولا يستطيع المشرع الإحاطة بها، وحصرها من خلال نصوصه، مما يجعل الكثير من المجرمين يفلتون من العقاب، لذا يرى البعض الإفلات من المبدأ أو على الأقل إعطاء سلطة واسعة للقاضي في تفسير النصوص والقياس عليها. كما أخذ عليه، إهماله لشخصية الجاني، كونه هناك الكثير من الأشخاص الخطرين الذي يجب الحجز عليهم حتى قبل ارتكابهم للجرائم. وهناك العديد من الأشخاص لا يمكن القضاء على الخطورة الإجرامية لديهم حتى بعد انقضاء مدة عقوبتهم، ومع هذا النوع لا يستطيع لا المشرع ولا القاضي التحديد المسبق لمدة العقوبة الواجبة التطبيق عليهم، إذ ذلك مرهونا بزوال حالة الخطورة الإجرامية لديهم. وهي الانتقادات التي كان لها صدى عميق على التشريعات الجنائية النازية والشيوعية لغاية سنة 1958، حيث استبعد تطبيق المبدأ نهائيا، وجزئيا في التشريع الإيطالي الفاشي.
ثانيا: أنصار مبدأ الشرعية الجنائية
الانتقادات السابقة، أقلقت كثيرا أنصار مبدأ الشرعية، ودفعهم لعقد العديد من المؤتمرات الدولية للدفاع عنه، مثل المؤتمر الدولي للقانون الجنائي المنعقد في باريس سنة 1937، والمؤتمر الدولي للقانون الجنائي الذي انعقد في لاهاي في أوت من سنة 1937 كذلك. وتم الرد على الانتقادات السابقة، حيث رأوا أن إلغائه أو التقييد منه، يعيدنا إلى عهد استبدادية القضاة، بل إلى أخطر من ذلك، حيث أنه في تلك العصور كانت هناك على الأقل بعض المعايير للقضاة ونوع من الضمير يمكنهم من التوفيق بين مصالح المجتمع ومصلحة المتهم على الأقل، في حين اليوم لا يراعي القضاة إلا المعايير السياسية التي تغلبت على مصالح الأفراد، مثلما حدث مع الشيوعية والفاشية وكل الأنظمة الديكتاتورية، وأما بخصوص الاستناد لحالة الخطورة للقول بمعاقبة الأشخاص بمجرد ظهورها لديهم، فتم الرد بالقول: من الذي يحدد هذه الخطورة، فإذا قلنا القاضي فإننا عدنا لعهد التحكم والأهواء، وإن قلنا المشرع فذلك يعني عودة لمبدأ الشرعية الجنائية، كما أنه لا يمكن التسليم بالنقد القائل بأن المبدأ يهمل شخصية الجاني، وذلك بالنظر لما يوفره مبدأ تفريد العقوبة المعمول به في جل الأنظمة العقابية، الذي يخفف من حدة مبدأ الشرعية الجنائية، بإعطاء نوع من الحرية للقاضي في مراعاة شخصية الجاني عن طريق وضع حدين للعقوبة يختار بينهما القاضي، وفقا لشخصية الجاني وظروف ارتكابه للجريمة وحالته. وكذا إقرار نظام التشديد في العقوبة والتخفيف فيها.










المبحث الثاني
النتائج المترتبة على مبدأ الشرعية الجنائية
        يرى الفقه أنه تترتب على مبدأ الشرعية الجنائية ثلاثة مبادئ أساسية هي: انفراد التشريع في تحديد الجرائم والعقوبات، والتزام التفسير الضيق للقواعد الجنائية، وعدم رجعية القاعدة الجنائية للتطبيق على ما حدث في الماضي من وقائع. غير أنه يمكننا القول باختصار، أن مبدأ الشرعية الجنائية في شقه الموضوعي ،يقتضي في نظرنا، أنه لا جريمة ولا جزاء إلا بنص قانوني صادر عن السلطة المختصة بإصداره وفقا للقانون، وأن يكون هذا النص ساريا من حيث الزمان والمكان، وزيادة عن ذلك ألا يمون الشخص خاضعا لسبب من أسباب الإباحة، وهو رأي يمليه علينا وضع تقنين العقوبات الجزائري الذي تناول مبدأ الشرعية الجنائية في المادة الأولى وأردفه بالمادتين 2 و3 المتعلقتين بسريان النص الجنائي زمانا ومكانا. لذا سنحاول أن نبين هذا المبحث من خلال ثلاثة مطالب، نخصص الأول للنتائج القانونية العامة لمبدأ الشرعية الجنائية، في حين الثاني نخصصه لسريان النص الجنائي من حيث الزمان كونه الإطار الذي يبين أهم نتائج مبدأ الشرعية المتمثلة في عدم رجعية القوانين الجنائية، على أن نخصص الثالث لسريان النص الجنائي من حيث المكان. ونرجئ البحث عن أسباب الإباحة إلى مبحث ثالث مستقل، على اعتبار أسباب الإباحة تخرجنا من نطاق التجريم وتعيدنا على نطاق الإباحة التي لا يحكمه مبدأ الشرعية الجنائية.
المطلب الأول
النتائج القانونية العامة لمبدأ الشرعية
النتائج القانونية العامة التي يرتبها مبدأ الشرعية الجنائية، هي انفراد التشريع بمجال التجريم والعقاب، أي أن يكون النص الجنائي المكتوب الصادر عن السلطة المختصة بإصداره وفقا للدستور وحده المختص بسن قوانين تتعلق بالتجريم والعقاب، وأنه يحظر على القاضي اللجوء إلى التفسير الواسع أو القياس في هذا المجال بالذات، وهو ما نبينه في الفروع الثلاثة التالية.
الفرع الأول
انفراد التشريع بالتجريم والعقاب
        مبدأ الشرعية الجنائية يقوم أساسا على فكرة العقد الاجتماعي ومبدأ الفصل بين السلطات، وان المجال الخطير المتمثل بكل ما يمس بحقوق وحريات الأفراد يجب أن تمارسه السلطة التشريعية التي تمثل الشعب، خاصة وأن هذه السيادة جاءت بعد صراع مرير بين السلطة والفرد، وهو الصراع الذي انتقل بعدها ما بين الحكومة والبرلمان، لغاية انتصار البرلمان واستئثاره بمسائل التشريع وإصدار القوانين، وأضحى سيادة القانون من مبادئ قيام دولة القانون، غير أن الوضع الحالي في جل الدول والأنظمة، اشتراك كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية في إصدار القواعد القانونية، حيث تصدر السلطة التشريعية القوانين بينما تختص السلطة التنفيذية في إصدار اللوائح، غير أن ذلك لا ينال من مبدأ انفراد التشريع، كون القواعد التشريعية التي تصدرها السلطة التشريعية يجب أن تخضع للدستور، واللوائح التي تصدرها السلطة التنفيذية يجب أن تخضع للدستور ولقواعد السلطة التشريعية وقوانينها، وأن تدرج القواعد القانونية سمة من سمات الشرعية الجنائية. وهو موقف كل من فقهاء العصر الحديث ودول النظم الديمقراطية، وقد عبر المجلس الدستوري الفرنسي عن ذلك في عبارة قصيرة أوردها في قرار صادر عنه سنة 1973، جاء فيه أن سلب الحرية يتعلق بالمشرع. بينما أكدت المحكمة الدستورية العليا في مصر، أنه :" الدستور لم يعقد للسلطة التنفيذية اختصاصا ما بتنظيم شيء مما يمس الحقوق التي كفلها الدستور، وان هذا التنظيم يتعين أن تتولاه السلطة التشريعية بما تصدره من قوانين، فلا يجوز لها أن تسلبه من اختصاصاها وتحيل الأمر برمته إلى السلطة التنفيذية دون أن تقديها في ذلك بضوابط عامة وأسس رئيسية تلتزم بالعمل في إطارها.".
وانفراد التشريع بالتجريم والعقاب وفقا لما يقضي به مبدأ الشرعية الجنائية، يعني اختصاص المشرع وحده بمعالجة المسائل التي تدخل في اختصاصه، دون أن تزاحمه في ذلك السلطة التنفيذية بما تملكه من سلطة التشريع عن طريق اللوائح، غير انه يمكنها عن طريق اللوائح تنظيم وتنفيذ ما أقره من المشرع من قواعد عامة، ومن المسائل التي تدخل في اختصاص المشرع وحده كل ما يتعلق بتنظيم ممارسة الحقوق والحريات ورسم حدودها، فلا تملك السلطة التنفيذية التدخل في هذا المجال دون إذن من المشرع[1].ولأن التشريع يعد صادرا من أقدرا السلطات على استجلاء جوانب الصالح العام، والتعبير عن مقتضياته، كون السلطة التشريعية تعبر عن إرادة الشعب، هو فقط الذي يمكن أن يضمن التوازن بين الحقوق والحريات الفردية وبين مقتضيات المصلحة العامة، لذا فإن منطقة الحقوق والحريات محرمة على غير المشرع، متروكة له وحده باعتباره ممثلا للشعب، ويمارس انفراده هذا طبقا للدستور، وأن يفعل ذلك بالكيفية التي حددها الدستور – القواعد القانونية- ولا يمكن أن تشاركه السلطة التنفيذية في ذلك، إلا في الحدود التي ينص عليها التشريع طبقا للدستور.
الفرع الثاني
إتباع قواعد خاصة في تفسير النصوص الجنائية
        يقصد بالتفسير تلك العملية الذهنية التي يمكن عن طريقها التوصل إلى المعنى الحقيقي للنص القانوني، حتى يتسنى للقاضي تطبيق النص على الوقائع المعروضة عليه للفصل فيها، خاصة في الحالة التي تكون فيها النصوص غامضة وتحتمل التأويل أو تثير اللبس، لذا يتعين على القاضي البحث عن المعنى الذي أراده المشرع من خلال وضعه لهذا النص، والتفسير عملية قضائية تخص كل النصوص القانونية لا الجزائية فقط، حيث كل نص يحتاج إلى استجلاء معناه ومحتواه، لدرجة أن بعض الفقه رأى انه: لا قضاء بدون تفسير. غير أن القواعد الجنائية، وبالنظر لمساسها بحقوق وحريات الأفراد، نجد الدستور قد خصها بقواعد معينة يجب أن يتم إتباعها في حالة إرادة تفسيرها، خاصة وان الإخلال بمثل هذه القواعد يخل بمبدأ الشرعية الجنائية ذاته. لذا فكيفية تفسير النصوص الجنائية التي بطبيعتها تعد نصوصا عامة ومجردة، تكون بحاولة تطبيقها على الوقائع التي تحدث بالنظر لكل واقعة على حدة، فالمشرع إن كان يضع النصوص الجنائية، فالقاضي هو الذي يقع عليه إثبات تطبيقها، لذا فمن الواجب عليه النظر فيما إن كانت الواقعة التي حدثت تندرج تحت النص الذي سنه المشرع. والتفسير هو البحث عن المعنى الحقيقي للنص العام المجرد، بحيث يمكن تطبيقه على الوقائع المادية، وهو شأن كل قاعدة جنائية حتى ولو لم يكن يشوبها غموض أو إبهام، حيث كل قاعدة جنائية لا بد لها من تفسير وشرح[2]. وتقيدا بمبدأ الشرعية الجنائية، وتحقيقا للعدالة الجنائية، فإن تفسير النصوص الجنائية بمختلف أنواعها تخضع لبعض القواعد الخاصة، حتى لا يكون التفسير اعتداء على مبدأ الشرعية الجنائية وبالتالي اعتداء على الحقوق والحريات. لذا يرى غالبية الفقه، بأن القاضي في تفسيره النصوص الجنائية يجب أن يتبع أسلوب التفسير الضيق أو الحرفي، وأنصار هذا الاتجاه وصلوا حتى دعوة إسناد عملية التفسير للسلطة التشريعية حتى لا يتحول القاضي إلى مشرع[3]، وهو تبرير يجد سنده في العصر الذي وجد فيه المبدأ، حيث ظهرت المدرسة الكلاسيكية كرد فعل عن التحكم والتعسف الذي كان يمارسه القضاة آنذاك، لكن يرى البعض أن هذا الأمر وهم ولا يستند لأي أساس قانوني سوى على العامل الزمني الذي نشأ فيه مبدأ الشرعية الجنائية، خاصة وان القاضي وهو يفسر النصوص الجنائية، لا يعطي رأيه الشخصي وإنما يبحث عن المعنى الحقيقي للقانون، وعن المعنى الموضوعي للنص كما أراده المشرع، ومن جهة ثانية، إلزام القاضي بالتفسير الضيق يفترض قانونا أن تكون النصوص الجنائية الصادرة عن المشرع دقيقة شكلا ومضمونا، وهو غير الموجود في الواقع، إذ كثيرا ما تتصف النصوص الجنائية بعدم الدقة، وينطوي في بعض الحيان على بعض المتناقضات الظاهرية، ثم أن إرادة المشرع التي ضمنها النص، ليست مبدأ جامدا محكومة بالوقائع الاجتماعية السائدة وقت صياغة النص، بل هي إرادة متطورة بتطور الوقائع الاجتماعية التي تعد بلورة لإرادة المشرع، أو المصلحة تبلور إرادة المشرع وتبعا لها يتحدد نطاق تطبيق نصوصه، والقانون لم يصنعه المشرع ليومه فقط، بل صنع للمستقبل، وعلى هذا النحو ترك أمر التفسير لأجل تحديد معنى النصوص القانونية في ضوء التحولات والتغيرات الاجتماعية، والقاضي في ذلك ملزم دائما بالإرادة المفترضة للمشرع افتراضا منطقيا في ضوء الوقائع الاجتماعية الجديدة، مع احترامه للصيغة التي استعملها المشرع في صياغة النصوص احتراما لمسألة الاستقرار القانوني، خاصة وان القانون في الكثير من الأحيان يبنى على أفكار متحركة ومتطورة بطبيعتها، كأفكار النظام العامة والآداب العامة، ومسالة الاختراعات العلمية والتطورات التكنولوجية، ومفهوم المنقول والعقار... وبالتالي القاضي في تفسيره للنصوص الجنائية، يجب أن يبحث عن إرادة المشرع من خلال الصيغة التي عبر من خلالها عن هذه الإرادة، وأن يراعي مجمل الأحكام الدستورية المتعلقة بالمسألة حتى يكون تفسير القاضي مطابقا للدستور.
الفرع الثالث
حظر القياس في المسائل الجزائية
        القياس هو :" إلحاق واقعة غير منصوص علي حكمها بواقعة أخرى منصوص على حكمها لاشتراك الواقعتين في علة الحكم"، ذلك أن الحكم يتبع علته وجودا وعدما، في حين يتوسع بعض الفقه في تعريف القياس، بحيث لا يقاس فقط على واقعة بعينها منصوص على حكمها، ولكن على النظام القانوني في مجمله، ووفقا لذلك هناك نوعين من القياس، قياس شرعي Analogie légale وقياس قانوني Analogie juridique. القياس الشرعي،        وهو قياس واقعة لم يرد نص بحكمها على واقعة أخرى منصوص عليها، لاشتراك الواقعتين في نفس العلة، فيطبق على الواقعة غير المنصوص على حكمها نفس حكم الواقعة المنصوص عليها. وأما القياس القانوني، هو أن تلحق واقعة غير منصوص على حكمها ليس بواقعة أخرى بعينها، ولكن بمجمل المبادئ العامة وروح القوانين،  وتدخل في هذا الاعتبار، المعطيات الأخلاقية والدينية والاجتماعية، وهو الذي كان معمولا به في العصر السابق على الثورة الفرنسية، واختفى في القرن التاسع عشر مع ظهور مبدأ الشرعية الجنائية، لكنه عاد للظهور ثانية في القرن العشرين مع ظهور الفقه الجنائي الحديث والمذاهب السياسية الاستبدادية، فرأى أنصار المذهب الوضعي أن ضرورات الدفاع الاجتماعي ضد الظاهرة الإجرامية تقتضي الأخذ بالقياس، وأثر كذلك المذهب الماركسي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار إلا بالمصلحة متناسيا حرية الفرد.
        وإن كان القياس عموما يعد وسيلة من الوسائل التي تستهدف استكمال النقص الذي يشوب النصوص القانونية، وذلك عن طريق إيجاد حل لمسألة لم ينظمها القانون عن طريق استعارة الحل من مسألة مماثلة وضع لها المشرع حلا، فإنه في المجال الجنائي القياس غير جائز بناء على مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، حيث يبعد القياس ضمنيا، حيث تقييد الحقوق والحريات بيد المشرع وحده مما ينزع من القاضي مكنة اللجوء للقياس في هذه المسائل، حتى ولو كان النص قاصرا أو القانون مشوب بقصور أو بثغرات، كون مسألة التجريم والعقاب تمس بالحقوق والحريات الفردية، التي يعد أمر التشريع فيها من اختصاص المشرع وحده دون أن يزاحمه في ذلك احد. وإن أمكنت مزاحمته أحيانا وفي بعض الاستثناءات، من قبل السلطة التنفيذية بما تملكه من اختصاص التشريع سيما في مجال المخالفات، فإن ذلك محكوم بنصوص الدستور، وفي نطاق القواعد العامة للقانون الصادر عن السلطة التشريعية، لكن مسألة القياس تجريما وعقابا، مسألة مستبعدة تماما. خاصة وأن القياس مهمة مناطة بالقاضي الذي لا يملك إزاء النصوص العقابية سوى التطبيق. دون خلق الجرائم والعقوبات عن طريق القياس.
        غير انه تجدر الإشارة، إلى أن القياس المحظور، هو القياس في مجال التجريم والعقاب، بالنظر لما تنطوي عليه المسألة من تقييد ومساس بحريات الأشخاص وحقوقهم، سواء تعلق الأمر بخلق جريمة جديدة
 أو ظرف تشديد جديد أو عقوبة جديدة، غير أن النصوص التي تخدم صالح المتهم يجوز فيها القياس، كأسباب الإباحة وموانع المسؤولية أو موانع العقاب، أو الأعذار القانونية المعفية أو المخففة، ففي هذه الحالات يعد القياس استصحاب على الأصل العام، المتمثل في أن الأصل في الأشياء الإباحة، وإن كان القياس ممنوع في التجريم والعقاب كونه قياس عن استثناء، فإن القياس في الأصل يجوز. خاصة وان القياس في مثل هذه الحالات يخدم الحريات والحقوق ولا يمس بها أو يقيدها، ومبدأ الشرعية يقتضي حظر القياس خوفا من الإفتتات على هذه الحقوق والحريات، وما عدا ذلك فهو جائز[4]. وإن غابت بعض الأحكام القضائية في الجزائر التي تؤكد عن المسألة، فإنه محكمة النقض الفرنسية أكدت بجواز القياس متى كان في صالح المتهم، حيث سبق وان قاس المشرع الفرنسي على جريمة السرقة بين الأزواج والأصول والفروع التي لا توجب سوى التعويض المدني، على جريمة النصب وخيانة الأمانة، قبل أن تتجسد كنصوص في تقنين العقوبات ونقل المشرع الجزائري المسألة على قانونا العقابي[5]. كما اعتبر المشرع الفرنسي حالة الضرورة من أسباب الإباحة عن طريق القياس على باقي أسباب الإباحة بالرغم من عدم وجود نص يقرر ذلك، غير أنه بخصوص هذه المسألة، فإن المشرع الجزائري لم يتبناها. غير أن المشرع الفرنسي وفي قانون عقوباته الجديد لسنة 1992 والذي دخل حيز النفاذ سنة 1994 أدخل حال الضرورة ضمن أسباب الإباحة بموجب نص المادة 122-7.
المطلب الثاني
تطبيق النص الجنائي من حيث الزمان
عدم الرجعية كأثر من آثار مبدأ الشرعية الجنائية
        من قبيل المسلمات أن النصوص القانونية بما فيها ذات الطابع الجنائي ليست بالنصوص الأبدية، بل خاضع للتعديل والإلغاء تبعا لإرادة المشرع في مواجهة ظاهرة الإجرام، والقاعدة القانونية المعروفة عادة، أن النص القانوني لا يطبق على ما حدث من وقائع قبل دخوله حيز النفاذ ولا بعد أن تم إلغاءه، بل يحكم فقط الوقائع والتصرفات التي حدثت في مرحلة سريانه أو فترة نفاذه، والنص الجنائي تحكمه قاعدة عامة معروفة في جل الأنظمة القانونية وهي القاعدة التي تعد مكملة لمبدأ الشرعية الجنائية، أو نتيجة من نتائجه أو أثر من آثاره، وهي قاعدة عدم رجعية النص الجنائي للتطبيق على الماضي، أو قاعدة الأثر المباشر والفوري للنصوص الجنائية، غير أنه مثلما هو الشأن بالنسبة لكل قاعدة، فإنه يرد عليها استثناء، وهذا الاستثناء في المجال الجنائي يعد في حد ذاته مبدءا لم تعرف له فروع القانون الأخرى نظيرا، ألا وهو مبدأ " رجعية القانون الأصلح للمتهم"، أو ما عبر عنه المشرع " بالقانون الأقل شدة". وبذلك تكون المادة الثانية من قانون العقوبات قد تضمنت القاعدة العامة المتمثلة في عدم رجعية النصوص الجنائية، وذلك في الفقرة الأولى منها، في حين تضمنت الفقرة الثانية منها الاستثناء الذي قلنا انه مبدءا في حد ذاته، وهو رجعية القانون الأصلح للمتهم، :" لا يسري قانون العقوبات على الماضي إلا ما كان منه أقل شدة".
الفرع الأول
قاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية
        تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية الذي يقضي بأن تكون عملية التجريم والعقاب بموجب النصوص التشريعية المكتوبة، الصادرة عن السلطة المختصة بذلك احتراما لمبدأ الفصل بين السلطات، وتطبيقا لدولة القانون، وتحقيقا لمبدأ سمو هذا القانون، فإن كل ذلك، وحتى المنطق يقضي أن يكون هذا القانون موجودا، أي أن يكون النص سابقا عن الواقعة التي اقترفها الجاني، كون مبدأ الشرعية يقتضي ضمنيا تخيير الشخص بين ما هو مباح وما هو محظور، فعلى الأقل المحظور يجب أن يكون مبينا مسبقا. لذا فالمنطق يقتضي أن كل قانون لا يحكم إلا الوقائع التي حدثت في ظل نفاذه وسريانه، ولا يمتد تطبيقه على ما وقع أو حدث من وقائع سابقة عن نشره وترتيب آثار سريانه[6]، وفي الحقيقة القاعدة لا يختص بها القانون الجنائي وحده، بل هي قاعدة معروفة في كل القوانين الأخرى، بمختلف أقسامها وفروعها، غير أن اختصاص هذه الأقسام والفروع وعدم مساسها بالحقوق والحريات الفردية لم يجعل من عدم الرجعية مسألة تنال الاهتمام مثل الاهتمام الذي لاقته في المجال الجنائي، وبالتالي تقضي القاعدة أن القانون يحكم فقط الأفعال التي تكون لاحقة أو على الأقل معاصرة للحظة سريانه، دون تلك التي حصلت قبل ذلك، ولحظة سريان القانون قد يكون بالنص صراحة على هذا التاريخ، أو وفقا للقواعد العامة في سريان النصوص القانونية، وذلك في خلال 24 ساعة من نشره في الجريدة الرسمية أو من وصول هذه الأخيرة للمناطق البعيدة أو التي كانت تشهد ظروفا استثنائية حالت دون وصول الجريدة الرسمية في وقتها.
        وبالتالي تعد قاعدة عدم الرجعية، أو قاعدة الأثر الفوري أو الأثر المباشر لقانون العقوبات، من القواعد الأساسية المكملة لمبدأ الشرعية الجنائية، والتي تقضي وتهدف إلى عدم مفاجأة الأشخاص بتجريم أفعال كانت مباحة وقت ارتكابها، غير أنه للقاعدة استثناء نصت عليه الفقرة الثانية من تقنين العقوبات الجزائري، وهي قاعدة رجعية القانون الأقل شدة – على حسب تعبير المشرع الجزائري- أو قاعدة القانون الأصلح للمتهم حسب التسمية التي يطلقها الفقه الجنائي. وهي الاستثناء الذي يعد في حقيقته مبدءا في قانون العقوبات، الذي نتناوله في النقطة الموالية.



الفرع الثاني
القانون الأصلح للمتهم (القانون الأقل شدة)
        إن كانت قاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية، قاعدة تعرفها غالبية الفروع القانونية الأخرى، فإن قاعدة رجعية القانون الأقل شدة، وفقا لتعبير المشرع الجزائري، أو القانون الأصلح للمتهم وفقا لتعبير فقهاء القانون الجنائي، تعد في نظرنا قاعدة جنائية خالصة، يختص بها قانون العقوبات دون غيره من فروع القانون الأخرى، التي إن أراد المشرع سريانها على الماضي نص على ذلك صراحة، في حين أنها في المجال الجنائي تعد مسألة قانونية، القاضي ملزم بإعمالها دون الحاجة للنص عليها، وذلك أن صلاحية القانون للمتهم بأي وجه من الأوجه يعد عودة نحو الأصل وهو البراءة، وبالتالي الأصل لا يحتاج على نص بل يقتضيه المنطق[7]. غير أنه لتطبيق فكرة القانون الأصلح للمتهم شروط وضوابط ومعايير يتعين تناولها في النقاط التالية.
أولا: شروط تطبيق القانون الأصلح للمتهم
        ليستفيد المتهم من القانون الأصلح للمتهم يجب أن نشير إلى بعض المسائل الهامة، فالقول بهذا الاستثناء يعني بالضرورة انه يوجد هناك قانونان، القانون القديم وهو الذي في ظله ارتكب المتهم جريمته، وقانون جديد صدر قبل أن يصدر حكم نهائي بات في القضية، وإلا لولا صدور هذا القانون الجديد لما طرحت مسألة القانون الأصلح للمتهم على بساط البحث، ومن ثم يجب أن يكون هذا القانون يحمل ما يوحي أنه أصلح للمتهم، إذ إذا كان أسوأ فلا مجال لتطبيقه أصلا، وبالتالي يمكن تلخيص شروط تطبيق القانون الأصلح للمتهم في الشرطين التاليين: أن يكون القانون الجديد قد صدر قبل صدور حكم نهائي بات في القضية، وأن يكون القانون الجديد أقل شدة أو أصلح للمتهم من وجهة نظر القانون لا من وجهة نظر المتهم. وهو ما نبينه في نقطتين مستقلتين، غير أننا ننبه بأن هناك شرط ثالثا ضمني لا نحاول تفصيله، على اعتبار أنه شرط بديهي، وهو أن نكون فعلا أمام تنازع للقوانين أي أن يصدر قانون جديد قبل صدور حكم نهائي بات على الشخص، لأننا إن كنا أمام قانون واحد فهو الواجب التطبيق سواء كان شديدا أو كان في مصلحة المتهم.
1- أن يكون القانون الجديد أقل شدة للمتهم ( أو أصلح للمتهم):
        وهي أن يكون القانون الجديد الذي صدر ليزاحم القانون القديم الذي حدثت في ظله الجريمة أصلح للمتهم، وبالتالي فالمسألة تتعلق بتنازع القوانين، وعلى القاضي أن يختار منهما أي قانون يحقق مصلحة المتهم بإعمال معايير وضوابط قانونية تمكنه من الحكم على صلاحية القانون، حيث الأمر غير متروك لتقدير المتهم ولا لاختياراته، إذ ما قد يراه المتهم في صالحه، قد لا يكون كذلك من وجهة نظر القانون، كما أن مسألة اختيار القانون الأصلح للمتهم مسألة موضوعية يستقل بتقديرها قاضي الحكم في ظل الظروف المحيطة بالقضية وشخصية الجاني[8]، إذ لهذه الأخيرة دور كبير في تحديد القانون الأصلح للمتهم، سيما في الحالات الغامضة التي أثارت الكثير من الجدل في الفقه حول تحديد صلاح القانون للمتهم، لذا وجدت الكثير من الأسس والضوابط الموضوعية المستندة أحيانا لبعض الظروف الشخصية، التي من شأنها تمكين القاضي من إجراء مقارنة قانونية بين القانونين وتحديد أيهما أصلح لحالة المتهم في ظل ظروفه التي ارتكب فيها الجريمة.
أ- الضوابط المعمول بها لتحديد القانون الأصلح للمتهم:
        سبق وأن رأينا انه من خصائص القاعدة أو النص الجنائي أنه يتألف من شقين أساسيين، شق التجريم وشق الجزاء، وأن الأولوية للشق الأول على الثاني، كون الأخير ما هو إلا أثر مترتب عن اقتراف شق التجريم المتضمن النهي أو الأمر، وأن توقيع الجزاء تحصيل حاصل، لذا فمسألة تنازع القوانين من حيث الزمان، والبحث في أي منهما أصلح للمتهم، قد ينظر فيه لشق التجريم، كما قد ينظر فيه لشق الجزاء، ووفقا للقانون الأولوية دوما لشق التجريم على شق الجزاء، أي أولوية شق التجريم على شق الجزاء إعمالا للمادتين 27 و5 من قانون العقوبات الجزائري[9]، وتنازع القانونيين قد يكون من حيث شق التجريم وقد يكون من حيث شق العقاب، أي أن التعديل الذي مسه القانون الجديد قد يتعلق بأي منهما، وقد يكون متعلقا بكلا الشقين، لذا أوجد الفقه والقضاء معايير تساعد القاضي بخصوص الشق الأول – شق التجريم- وأخرى تعينه في المقارنة بخصوص شق الجزاء.
أ/1-الضوابط المستمدة من الأحكام الخاصة بالتجريم 
        تطبيقا للمادة 27 من تقنين العقوبات الجزائري، التي قسمت الجرائم إلى جنايات ثم جنح ثم مخالفات، وبالنظر للمادة 5 من ذات القانون التي بينت العقوبات الأصلية لكل من هذه الأنواع، فإن القاضي ملزم بإتباع الترتيب الوارد بهذه المواد، وبذلك يكون القانون الجديد أصلح للمتهم في الحالات التي نعطي عليها أمثلة في النقاط التالية، مع العلم أن المسألة تنأى عن الحصر، كون شق التجريم ترتبط به العديد من الأفكار المتعلقة بالإباحة والمسؤولية وموانعها والنظريات المعمول بها بخصوص الشروع والاشتراك والمساهمة، وما إلى غير ذلك من أفكار، غير أن أهم الحالات التي يمكن الحكم فيها على القانون أنه أصلح للمتهم نذكر:
- حالة إباحة القانون الجديد للفعل الذي كان مجرما بالقانون القديم، وهي من أهم الحالات التي يمكن فيها للمتهم الاستفادة من القانون الجديد حتى ولو كان صدر عليه حكم نهائي بات، أي دون انتظار تحقق الشرط الثاني لتطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم.
- إضافة القانون الجديد للنص القديم سبب من أسباب الإباحة أو مانع من موانع المسؤولية يستفيد منه المتهم في الظروف المحيطة بالجريمة، أو إضافة مانع من موانع العقاب – وإن كان هذا الشق يتعلق بالجزاء لا بشق التجريم-
- إضافة النص الجديد للجريمة ركنا لم يكن مشترط في النص القديم، ويستفيد من هذه الإضافة المتهم، أي تخلف في حقه الركن الجديد الذي اشترطه النص الجديد.
- إعادة تكييف الفعل من الوصف الأشد إلى الوصف الأخف، كأن كان الفعل جناية وأصبح جنحة، أو كان جنحة وأصبح مخالفة. وذلك بغض النظر عن مدة العقوبة.
- إلغاء فكرة العقاب على الشروع في الجريمة، إذ كان النص القديم يعاقب على الشروع في الجنحة وألغاه النص الجديد، وكان المتهم في وضع المتابعة لأجل الشروع في الجريمة وفقا للنص القديم.
        هذا ونشير أن الحالات السابقة تعد من بين الحالات الأكثر ووضحا، ولا يعني سردها بأنها الوحيدة، فأمر القانون الأصلح للمتهم قد يتعلق بكافة أفكر القانون الجنائي، والإلمام بها يتعين التفرغ من دراسة القانون بأكمله 
أ/2 - الضوابط المستمدة من الأحكام الخاصة بالجزاء
        وهي الحالات التي يكون فيها التعديل الوارد بالنص الجديد متعلقا بشق الجزاء، دون الشق المتعلق بالتجريم، وهي الحالات التي تنأى بدورها عن الحصر وتتعلق بكامل نظرية الجزاء الجنائي، غير أوضح الحالات التي درج الفقه على إعطاءها سنوضحها، غير أننا نؤكد بأن القاضي ملزم في تحديد القانون الأصلح للمتهم بنظرة المشرع العامة وترتيبه للجزاءات وأنواعها وقيمتها ومدتها، لا بما يراه المتهم انه أنسب وأصلح له، لذا فالترتيب الوارد بالمادة 5 من تقنين العقوبات الجزائري ملزم للقاضي وإن كان في الغالب لا يخدم مصلحة المتهم. ومن أهم ما درج الفقه على إعطاءه من حالات وأمثلة نذكر.
- حالات تخفيف النص الجديد للعقوبة، ويجب مراعاة التخفيف المتدرج المنصوص عليه في المادة 5 من قانون العقوبات الجزائري، حيث نجد الإعدام، المؤبد، السجن المؤقت من خمس سنوات إلى عشرين سنة، الحبس من شهرين إلى خمس سنوات، الغرامة التي تتجاوز 20.000 دج، الحبس من يوم إلى شهرين، الغرامة من 2000 دج إلى 20.000 دج[10].
- في حالة اتحاد العقوبة في الجنس والنوع، فالقانون الأصلح هو الذي ينقص من المدة، كان كانت العقوبة في كلا القانونين السجن أو الحبس، فإن القانون الأصلح الذي ينقص من المدة، وإن كانت العقوبة الغرامة في كلا القانونيين، فإن القانون الأصلح هو الذي ينقص من مقدارها.
- كما يعد القانون الصلح للمتهم، القانون الذي ينقص من عدد العقوبات، كأن كانا عقوبتين فجعلهما واحدة،
 أو كانت إجباريتين فأعطى الخيار للقاضي.
- إذا جاء القانون الجديد بوقف التنفيذ، أو أضاف مانع من موانع العقاب، أو عذر مخفف سواء كان قضائي أو قانوني.
- إلغاء القانون الجديد للعقوبات التبعية أو التكميلية بعدما كان القانون القديم يتضمنها.
- غير أنه هناك إشكال، يتمثل في كون العقوبات في غالبية التشريعات مبنية على نظام الحدين، حد أدنى وحد أقصى وللقاضي السلطة التقديرية في الحكم بينهما، أو حتى النزول عن الحد الأدنى إعمالا لظروف التخفيف ( المادة 53 من قانون العقوبات وما بعدها من مواد مكررة)، وهنا يكون أي قانون أنزل أحد الحدين سواء كان الأدنى أو الأقصى هو الأصلح للمتهم، وأي منهما رفع هذين الحدين هو الأسوأ، غير أن الإشكال يكمن في الحالة التي يعدل فيها الحدين، وهنا لا إشكال في الذي ينزل بهما معا، فهو دوما الأصلح، كما أنه لا إشكال بخصوص القانون الذي يصعد بهما معا فهو دوما الأسوأ، لكن الإشكال في الذي يرفع من أحدهما وينزل من الآخر، كالرفع من الحد الأدنى والنزول بالحد الأقصى، أو العكس، فهنا ثار جدل فقهي انتهى واستقر في نهاية المطاف أن القاضي ينظر فيه إلى حالة المتهم، فإن كانت ظروفه الشخصية تستحق التخفيف فالقانون الذي ينزل بالحد الأدنى أصلح له حتى وإن رفع من الحد الأقصى، وذلك لكونه جدير بالحد الأدنى، مهما زاد الحد الأقصى،  وإن كانت ظروفه الشخصية تقود للتشديد كان يكون عائدا فالقانون الذي ينزل بالحد الأقصى هو الصلح له حتى وإن رفع من الحد الأدنى كونه جدير بالحد الأقصى.
كما يثور الإشكال حول القانون الذي يجمع بعض القواعد التي تعد في صالح المتهم، والبعض الآخر منها في ضد مصلحته، فهنا الحل يكمن في البحث عما إذا كان القانون قابل للتجزئة من عدمها، والقابلية للتجزئة تعني إمكانية تطبيق بعض قواعده في معزل عن الأخرى، على عكس القانون الذي يتضمن قواعد تعد كل واحد لا يقبل التجزئة، مثل القانون الذي يجعل العقوبة التكميلية التي كانت وجوبية وجعلها جوازية، مع رفعه لمدتها، فهنا يجب النظر لظروف القضية على حدا، فإن كانت ظروف الجاني تقتضي التخفيف اعتبر القانون الجديد أصلحا له بالرغم من كونه رفع من مدة العقوبة التكميلية كونه أجدر بتطبيق ظروف التخفيف، والعكس غير صحيح، لذا فمسألة تقدير القانون الأصلح للمتهم، في القوانين القابلة للتجزئة بناء على العلاقة المنطقية بين مختلف النصوص القانونية، والسياسة الجنائية، وفي ضوء اعتبارات شخصية ينظر فيها لشخصية الجاني، وليس بنظرة موضوعية مجردة، وبناء على ذلك يقدر القاضي القانون، ويمتنع عليه تطبيق القانون الشد بأثر رجعي، عكس القانون الأصلح.
وهناك إشكالية أكثر تعقيدا، تتمثل في تنازع ثلاثة قوانين، خاصة إذا ارتكبت جريمة في ظل قانون أشد، ثم صدر قبل الحكم النهائي قانون أقل شدة، وقبل صدور حكم نهائي في القضية صدر قانون ثالث أشد من سابقه وفي ظله سيحاكم المتهم، فأي قانون من بين هذه القوانين الثلاثة سيطبق؟، السائد فقها وقضاء، هو تطبيق القانون الثاني الذي يعد الأصلح للمتهم، خاصة وأن عدم صدور حكم على المتهم في ظل هذا القانون مرده تأخر الإجراءات والمحاكمة، وهي مسألة لا دخل للمتهم فيها، لذا لا يجب أن نحمله عبء تأخر الإجراءات وبطء المحاكم في إصدار الأحكام، إلا أنه بالرغم من وجاهة هذا الرأي ومنطقيته، إلا أن الفقه يرى الأخذ بوجهة النظر هذه بحذر وتحفظ، كون التنازع في الأصل يقوم بين قانونين لا أكثر، وهما القانون الذي حدثت في ظله الواقعة المتابع الشخص من أجلها، والقانون الساري وقت المحاكمة، لذا فليس للمتهم المطالبة بالقانون الثاني- الوسط- لأنه وضع المتهم في ظل سريان هذا القانون لم يتغير، حيث لم يرتكب في ظله الجريمة، كما أنه لا يحاكم في ظله.
        كما أن إشكال بطء الإجراءات قد يتسبب في بعض الأوضاع غير المنطقية، حيث أن مسألة التنازع بين القوانين وقاعدة تطبيق القانون الأصلح للمتهم، تثير إشكال في الحالة التي ترتكب فيها جريمتين من نفس النوع، من شخصين، في حين يكون قد صدر على أحدهما حكم نهائي بات حائز لقوة الشيء المقضي فيه، وفي هذه الحالة ينتفي ركن هام من أركان تطبيق القانون الأصلح للمتهم، في حين تأخرت مع الآخر الإجراءات، ولم يصدر ضده حكم نهائي، وبالتالي صدر قانون جديد يعد أصلحا له، ففي هذه الحالة سيستفيد منه، مما يخلق وضعين قانونيين شاذين، حيث يسرى على واقعتين من نفس النوع حدثتا في ذات الوقت قانونيين مختلفين، مما يؤدي إلى الحكم على المتهمين بعقوبتين مختلفتين، إحداهما أشد من الأخرى،  أو أن يدان أحدهما ويبرأ الآخر، خاصة لو أن القانون الجديد قد أباح الفعل، وهنا يرى البعض أنه لا سبيل إلى إصلاح هذا الوضع، إلا عن طريق إجراء العفو، وهو إجراء في جوهره وطبيعته يختلف عن مسألة التخفيف من العقوبة أو إلغائها أو إباحة الفعل. لذا نجد بعض التشريعات تضمنت معالجة لهذه المسألة، وذلك بإعادة النظر في القضية ككل، مثل القانون الدنمركي في المادة الثالثة من تقنين عقوباته، والمادة 24 من قانون العقوبات الإسباني، والمادة 6 من قانون العقوبات البرتغالي، والمادة 2 من قانون العقوبات البولندي، وهو الاتجاه الذي تبناه المؤتمر الدولي للقانون الجنائي المنعقد في برلين سنة 1935.
2- ألا يكون قد صدر حكم نهائي بات في القضية
        الشرط الثاني لتطبيق القانون الأصلح للمتهم، بعد توفر الشرط الأول المتمثل في تزاحم قانونين، هو ألا يكون قد صدر في القضية حكم نهائي بات، والحكم النهائي البات هو الحكم الذي لا يقبل أي طريق من طرق الطعن، سواء العادية أو غير العادية، وهو أمر بديهي ومنطقي، حيث لا يجب أن يتم المساس بقرارات العدالة النهائية احتراما للأوضاع والمراكز القانونية التي خلقتها، واحتراما لمبدأ حجية الشيء المقضي به المعمول بها في القانون أي كان نوعه، وفي المجال الجنائي تجنبا لمحاكمة الشخص عن الفعل الواحد مرتين.
        غير أن هذا الشرط، وكما سبقت الإشارة، لا يمس بالحالة التي يباح فيها فعل كان مجرما بموجب قانون قديم عدل أو ألغي، بالرغم من أن الموضوع قد أثار خلافا وجدلا فقهيا حادا، إلا أنه استقر في نهاية المطاف، على إفادة المتهم بالقانون الذي جاء بالإباحة، بحجة أنه لا فائدة من العقاب على فعل أصبح مباحا في نظر المجتمع، غير أن غالبية الدول العربية تضمنت قوانينها العقابية حلا قانونيا صريحا للمسألة، تبنت فيه الرأي السابق، ومن أمثلتها المادة 5/3 من تقنين العقوبات المصري، والمادة 2 من تقنين العقوبات اللبناني، والمادة 2 من تقنين العقوبات السوري، على عكس المشرع الجزائري الذي لم يضمن قانونه نصا خاصا بالمسألة أسوة بالمشرع الفرنسي.
ثانيا: الاستثناءات الواردة على قاعدة رجعية القانون الأصلح للمتهم
        إن كانت قاعدة رجعية القوانين الأصلح للمتهم في المجال الجنائي، تمثل استثناء على قاعدة عدم رجعية القوانين، فهذا الاستثناء ترد عليه استثناءات – بمعنى العودة للقاعدة- وهي أنه لا رجعية للقوانين الإجرائية والمحددة المدة حتى ولو كانت أصلح للمتهم.  كون القوانين الإجرائية قوانين تنظم مرفق العدالة ولا خيار للمتهم ولا فائدة له في التنظيم، والمسألة تخص الدولة لا الأفراد، والقوانين المحددة المدة التي يسنها المشرع لمواجهة ظروف وحالات مؤقتة تقتضي طبيعتها وظروفها ذلك، لا يمكن تقييدها باستثناء الرجعية كون ذلك يفقدها الهدف الذي لأجله سنها المشرع، وتكون سببا لتهرب الأفراد ومناورته لغاية انتهاء مدة القانون للاستفادة بفكرة القانون الأصلح للمتهم. وهو ما نوضحه في النقطتين التاليتين.
1- القوانين المؤقتة أو المحددة المدة(Les lois temporaires)
         وهي القوانين التي يصدرها المشرع لمواجهة فترات استثنائية معينة أو أوضاعا محددة، وهي مستثناة من رجعية القانون الأصلح للمتهم، حتى ولو لم يكن قد صدر ضده حكم نهائي حائز لقوة الشيء المقضي به،  والقول بخلاف ذلك يفقد هذه القوانين معناها والهدف الذي كان يتوخى منها. غير أن ما تجدر الإشارة إليه، هو أن القوانين المؤقتة تختلف عن القوانين الاستثنائية  Les lois exceptionnellesأو القوانين الظرفية Lois de circonstances  حيث أنها قوانين فعلا مؤقتة بطبيعتها، غير أنها سنت لمواجهة ظروف معينة دون أن تحدد مدة معينة للعمل بها، بل ذلك مرهون بالمدة التي يستغرقها الظرف الذي سنت لأجله، وهو الظرف الذي في العادة ما يكون سياسيا أو اقتصاديا، حيث لا ينتهي العمل بها إلا بصدور قانون يلغي العمل بها، على عكس القوانين المؤقتة التي تتضمن تاريخ سريانها، وهنا يرى الغالبية تطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم، حيث لا يمكن اتهام الشخص بتحايله اتجاهها رغبة منه في كسب الوقت حتى إلغائها، كونه لا يعلم بتاريخ إلغائها، على عكس القوانين المؤقتة التي يعمل فيها المتهم ذكائه ويتحايل على القوانين حتى ينتهي العمل بها استفادة من قاعدة القانون الصلح للمتهم، لذا حرم منها في غالبية القوانين الجنائية.
2- القوانين الإجرائية:
  تثار مسألة تنازع القوانين الإجرائية من حيث الزمان، وهي القوانين التي يحكمها مبدأ الأثر
 أو السريان الفوري، غير أن المبدأ تعترضه بعض الصعوبات العملية في التطبيق، ويرى فقهاء القرن التاسع عشر أن كل إجراء يجب أن يكتمل في ظل القانون الذي شرع أثناء سريانه، وبالبعض يرى المقارنة بين القوانين الإجرائية وتطبيق الأصلح منها مثلما هو الشأن بالنسبة للقوانين الجنائية الموضوعية، غير أن غالبية الفقه يرى وجوب التطبيق الفوري للقوانين الإجرائية دون رجعية، ولا مجال لإعمال مبدأ القانون الأصلح للمتهم بخصوص هذا النوع من القوانين، كونها قوانين صدرت لأجل المصلحة العامة، ومن أجل مصلحة المتهم أيضا وبالتالي يفترض فيه انه أفضل من سابقه من حيث التنظيم القضائي وإظهار الحقيقة بكل جوانبها، وأن القوانين الإجرائية لا تعد حقا مكتسبا يطالب بالاحتفاظ بها، غير أن ذلك أثار جدلا فقهيا، وهو الجدل الذي لم يكن بسهولة وضع هذا الحل الذي تتفق عليه غالبية القوانين. لذا رأى البعض بأنه يجب أن يكون هناك معيار تبنى عليه مسألة التفرقة بخصوص التطبيق الفوري للقوانين الإجرائية، سيما الوقائع التي خضعت لحكم ابتدائي، حيث يرى البعض أن يكون هذا الحكم معيارا للتمييز، حيث يطبق القانون الجديد إن لم يكن قد صدر حكم ابتدائي في القضية، وإن كان قد صدر فيها حكما ابتدائيا فيجب اتباع الإجراءات في ظل القانون القديم تجنبا لكثرة المصروفات وحفاظا على الحقوق التي يكون قد اكتسبها المتهم من خلال هذا الحكم. كما أن طرق الطعن في الأحكام القضائية، يحكمها القانون الذي صدرت في ظله، كونه القانون الذي يكشف عن طبيعة هذا الحكم ونوعه ومدى قابليته للطعن من عدمه ونوعية هذا الطعن، ومواعيده، والأشخاص الذين يجوز لهم ذلك وأسباب بناء الطعن، حيث يظل الشخص خاضعا لطرق الطعن التي كان منصوصا عليها في القانون الذي صدر في ظله الحكم، حتى وإن كان القانون الجديد قد ألغاها.
        كما أن نصوص التقادم تثير بعض الخصوصية بالنظر للطبيعة الخاصة لهذه النصوص، سواء تعلقت بتقادم الجريمة أو الدعوى أو العقوبة، كونها نصوص يمكن القول أنها ذات طبيعة موضوعية، وبذلك يمكن إخضاعها لقاعدة القانون الأصلح للمتهم، حيث القانون الذي يزيد من مدة التقادم يعد الأصلح أو الذي يرسي التقادم بعدما كان النص القديم لا يخضع الفعل للتقادم في أي جانب من جوانبه. وإن اعتبرت النصوص المتعلقة بالتقادم، من النصوص الإجرائية، فهنا يسري عليها ما سري على النصوص الإجرائية من حيث قاعدة الأثر الفوري لها، أم هناك حل خاص يجب اعتماده نظرا للطبيعة الخاصة المتعلقة بالتقادم؟.في الواقع حدث نقاش فقهي حاد بخصوص هذه المسألة، ولم يتفق الفقه إلا على نقطة واحدة، وهي أن القانون الجديد لا يطبق على تقادم اكتملت مدته وفتح باب التقادم من جديد،كون ذلك يتعارض ومبدأ عدم الرجعية، بينما بخصوص التقادم الذي لم يكتمل، اعتبره القضاء الفرنسي من القوانين الموضوعية التي تخضع للقانون الأصلح للمتهم، غير أنه سرعانما تراجع القضاء وجعله من القوانين الإجرائية التي تخضع للتنفيذ الفوري دون رجعية[11].غير أن المسألة لم تتوقف عند هذا الحد، بل ظهرت أفكار فقهية أخرى، تصب في غالبها في اتجاه جعل هذه القوانين المتعلقة بالتقادم تخضع لما تخضع له سائر القوانين الإجرائية.
ثالثا: مسألة تحديد تاريخ ارتكاب الجريمة
        مسألة تنازع القوانين من حيث الزمن، واختيار الأصلح منهما للتطبيق على المتهم، تقتضي تحديد تاريخ ارتكاب الجريمة ووقته، حيث معرفة تاريخ وقوعها وما إن كان في ظل سريان القانون القديم
أو سريان القانون الجديد من شأنه أن يحسم كل خلاف، خاصة إن كنا نعلم أن بعض الجرائم ترتكب في وقت قصير من الزمن، والبعض الآخر تتراخى عبر الوقت، حيث يستغرق الركن المادي للجريمة في هذا النوع وقتا من الزمن، قد يطول وقد يقصر، بحيث قد ترتكب بعض الأفعال في ظل القانون القديم، وبعضها الآخر في ظل القانون الجديد، فهنا يثور تساؤل حول أي القانونيين يطبق؟ ومن الطبيعي القول بأن القانون الواجب التطبيق، هو القانون الذي حدث في ظله الركن المادي للجريمة، وبالتالي وقت وقوع هذا الركن هو المحدد للقانون الواجب التطبيق، حيث يكون القانون الساري المفعول وقت وقوعه، لكن الإشكال أن السلوك قد يقع في ظل قانون وتحدث النتيجة في ظل قانون آخر جديد، فهل يجب أن نأخذ بعين الاعتبار زمن اقتراف الفعل أو زمن تحقق النتيجة؟.  هنا ظهرت ثلاثة آراء فقهية، الأول يرى أن العبرة بتاريخ اقتراف السلوك الإجرامي، وبالتالي القانون الواجب التطبيق هو القانون الساري وقت إتيان السلوك، والبعض الثاني يرى أن العبرة بتحقق النتيجة، وبالتالي القانون الواجب التطبيق هو القانون الساري المفعول وقت تحقق هذه النتيجة، والرأي الثالث يأخذ بالاتجاهين السابقين معا، حيث يجب أن نقارن ما بين القانونيين أيهما أصلح للمتهم ويطبق، ونرى أنه الرأي الأصوب كون الجريمة اكتمال وتحقق في ضوء القانونيين، ونكون بصدد تنازع نبحث فيه عن القانون الصلح للمتهم. غير أن البعض، يرى الأخذ بالرأي الأول لأن الجريمة في نظره يكتمل ارتكابها عند اقتراف السلوك المادي، ولا عبرة بالنتائج، فالفعال يسأل عنه بغض النظر عن حدوث النتيجة خاصة في الجرائم العمدية.
        وبخصوص الجرائم المستمرة التي لا يرتكب فيها الفعل المادي دفعة واحدة بل يأخذ وقت من الزمن فيه قد يعدل القانون أو يصدر قانون آخر يثير مسألة تنازع القوانين من حيث الزمان، والاستمرار قد يكون متتابع كانتحال الألقاب أو الصفات، وهنا لإرادة الجاني دور في حالة الاستمرار، وهناك جرائم مستمرة دائمة كجريمة تزييف النقود، أو تقليد الأختام، وفيها الآثار وحدها المستمرة وليس الركن المادي الذي حدث دفعة واحدة، ويعامل هذا النوع من الجرائم معاملة الجرائم الوقتية. أما النوع الأول المتمثل في الجرائم المستمرة المتتابعة، حيث تختلف عن سابقتها، إذ فيها الفعل المادي لا يرتكب دفعة واحدة، وإنما يرتكب باستمرار حيث كل لحظة تمر تعد الجريمة مرتكبة فيها برمتها، حيث في هذه الحالة يكفي أن تستمر الجريمة ولو للحظة واحدة بعد صدور القانون الجديد ليطبق حتى ولو كان اشد بالنسبة للمتهم، وهناك إشكال آخر بخصوص هذه الحالة، يتمثل في حالة اشتراط القانون لفترة من الزمن كعنصر أساسي في السلوك، مثل الإهمال العائلي والامتناع عن دفع النفقة المقررة قضاء، حيث يشترط الإهمال أو الامتناع أن يتم لفترة من الزمن، قدرها المشرع في هاتين الجريمتين بشهرين، فالرأي الراجح فيها أن يطبق القانون الجديد في الحالة التي تتم فيها المدة هذه في ظله، حيث يشترط أن تمر فترة الشهرين في ظل القانون الجديد حتى تعد الجريمة مرتكبة في ظله.
        وفي جرائم الاعتياد، التي تفترض تكرار الفعل الواحد أكثر من مرة، فما حكم الفعل إذا ارتكب عدد من المرات في ظل القانون القديم، ومرة واحدة في ظل القانون الجديد، ففي رأي الفقه لا يأخذ بعين الاعتبار إلا حالات التكرار التي ارتكبت في ظل القانون الجديد، واعتبار الحالات الواقعة قبل صدوره كأن لم تكن ولا تأخذ بعين الاعتبار في تكوين حالة التكرار أو الاعتياد. وإن كانت أحكام القضاء تظهر عكس ذلك، حيث يرى القضاء أن القانون في مثل هذه الجريمة يعاقب على حالة الخطورة الكامنة لدى الجاني، وأن الفعل الأخير في الحقيقة هو الذي يبين هذه الخطورة الإجرامية، وبالتالي يمكن اعتبار أن الفعل الأخير هو الذي كون حالة الاعتياد وبالتالي هو الذي كشف عن الخطورة الإجرامية لدى الجاني التي تستحق العقوبة.
        وفي حالة العود، غالبية الفقه يرى أن الحكم الصادر في ظل القانون القديم لا يعد سابقة كوننا نرتب آثار قانونية عن قانون لم يعد معمولا به، كما تثار مسألة وقت ارتكاب الجريمة بخصوص حالة تعدد الجرائم، سواء كان تعدد صوري أو تعدد حقيقي، الذي سمى أيضا بالتتابع الإجرامي أو الجرائم المتتابعة، كالسرقة على عدة دفعات...
المطلب الثالث
نطاق تطبيق النص الجنائي من حيث المكان
تنازع القوانين الجنائية من حيث المكان
        إن كانت فكرة تنازع القوانين الجنائية من حيث الزمان تخص قانونيين صادرين من نفس المشرع، داخل البلد الواحد، فإن تنازع القوانين الجنائية من حيث المكان تتعلق بقوانين مختلفة لدول مختلفة، فالجريمة كمشروع يمكن أن يمتد تنفيذه لأكثر من إقليم واحد، وتسهر على ذلك عصابات إجرامية من جنسيات مختلفة، وقد تمس الجريمة الواحدة بمصالح العديد من الدول، لذا كان يتعين تحديد نطاق تطبيق القانون الجنائي للدولة، باعتباره قانون يجسد سيادتها، وهي السيادة التي تتجسد أولا على إقليم الدولة ومواطنيها، وفي بعض الأحيان تتبع هؤلاء إلى خارج هذا الإقليم، وفي أحيان أخرى فكرة الإقليم ذاتها في القانون الجنائي ذات مدلول مختلف عما تعارف عليه الناس وفقا للقانون الدستوري والقانون الدولي.
        لهذه الأسباب – ولأسباب كثيرة أخرى متعددة- فإن مسألة تحديد نطاق السريان المكاني للنص الجنائي، تتحدد باختصار بتطبيق أربعة مبادئ أساسية تأخذ بها غالبية التشريعات الجنائية المعاصرة، وإن كان بعضها ليس بصفة صريحة مثل مبدأ العالمية- من بين هذه المبادئ ما هو أصلي تنعقد له الأولوية على سائر المبادئ الأخرى، كمبدأ الإقليمية،  ومنها ما هو احتياطي كمبدأ الشخصية والعينية اللذان لا يعدان من المبادئ التي تكمل مبدأ الإقليمية وتسد النقائص التي يواجهها تطبيق هذا الأخير، ومنها ما يجسد فكرة التعاون الدولي، وتدويل مواجهة ظاهرة الإجرام، مثلما هو الشأن بالنسبة لمبدأ العالمية. لذا وعلى عكس البعض، الذي يرى أن مبدأ الإقليمية القاعدة ويفرده بنقطة، ويشمل باقي المبادئ في نقطة أخرى باعتبارها استثناءات له، فإننا سنحاول أن نبين كل مبدأ من هذه المبادئ في نقطة مستقلة، باعتبارها تتكامل فيما بينها بما يضمن مكافحة الجريمة ومتابعة مرتكبيها وضبطهم ومحاكمتهم على نحو فعال. غير أننا سنتناول مبدأ الإقليمية في فرع مستقل، لنتناول في فرع آخر المبادئ الأخرى المكملة له، والتي يسميها البعض مبادئ احتياطية، وسبق لنا نحن، أن قلنا انها مبادئ تتعاون وتتكامل فيما بينها.
الفرع الأول
المبـــدأ الأصلي( مبدأ إقليمية النص الجنائي)
        يعني مبدأ إقليمية تطبيق النص الجنائي، أن قانون العقوبات يسري على كل الجرائم أيا كان نوعها التي ترتكب على إقليم الجمهورية، وأيا كانت جنسية مرتكبها أو المرتكبة عليه[12]، وطنيا أو أجنبيا، ولهذا المبدأ بعض المبررات التاريخية التي جعلت منه من أقدم المبادئ – وإن كان البعض يرى أن الأقدم هو مبدأ الشخصية وذلك صحيح في نظرنا- كما ينطوي على العديد من المبررات السيادية المتعلقة بسيادة الدولة على إقليمها، بالإضافة لما له من فوائد عملية في إثبات الجرائم ومتابعة مرتكبيها ومحاكمتهم محاكمة فعالة تحقق أفكار الردع العام والخاص، كل ذلك انعكس على طريق تطبيق هذا المبدأ، حيث تمت معاملة بعض الأوضاع أو بالأحرى بعض المركبات معاملة الإقليم، بالرغم من اختلافها التام عنه، مثلما هو الشأن بالنسبة للطائرات والسفن، كما أنه وبالرغم من أولية وأصالة وسيادة مبدأ الإقليمية، إلا أنه ترد عليه بعض الاستثناءات التي تمليها القوانين والأعراف الدولية، سواء كانت سياسية أو دبلوماسية أو قنصلية، وبعض الأحكام الدستورية الأخرى، مما جعل من بعض الجرائم المرتكبة على الإقليم الوطني غير خاضعة للقانون الوطني، وهو ما اصطلح في معالجته باستثناءات مبدأ الإقليمية، وهي المسائل التي نوضحها في النقاط التالية.
أولا: معنى ومبررات مبدأ الإقليمية                
يقصد بمبدأ إقليمية النص الجنائي، تطبيق التشريع الوطني الجنائي على كافة الجرائم المرتكبة على إقليم الدولة الجزائرية، بصرف النظر عن جنسية مرتكبها أو المرتكبة عليه،  وبغض النظر عن المصلحة
أو الحق المعتدى عليه، سواء كانت مصلحة أو حق وطني أو أجنبي، لذا يرى البعض أنه للمبدأ شقين
أو وجهين، أحدها سلبي ويتمثل في انحسار تطبيق القانون الوطني خارج الإقليم، والآخر إيجابي يتمثل في تطبيق القانون الجنائي الوطني على إقليم الدولة دون مزاحمة من أي تشريع أجنبي آخر. وقد تضمنت المادة 3 من تقنين العقوبات الجزائري النص على مبدأ إقليمية النص الجنائي، بنصها على:" يطبق قانون العقوبات على كافة الجرائم التي ترتكب في أراضي الجمهورية.كما يطبق على الجرائم التي ترتكب في الخارج إذا كانت تدخل في اختصاص المحاكم الجزائية الجزائرية طبقا لأحكام قانون الإجراءات الجنائية"[13].
أما المبررات التي جعلت من غالبية التشريعات الجنائية تأخذ بمبدأ إقليمية النص الجنائي، فإننا نذكر أهمها في النقاط التالية[14]:
1- يعد مبدأ إقليمية تطبيق النص الجنائي، مظهر من مظاهر ممارسة الدولة لسيادتها على إقليمها، وبالتالي تطبيق قانونها على كل ما يقع عليه من أفعال رأت تجريمها، أيا كان مرتكبها أو المرتكبة عليه، وأيا كانت المصلحة المتعدى عليها وطنية أو أجنبية.
2- مبدأ إقليمية النص الجنائي يقود إلى تطبيق قانون مكان ارتكاب الجريمة، ويقضي باختصاص المحاكم الجنائية بنظر الدعوى، وهو أنسب مكان لمحاكمة المتهم، حيث فيه تتوفر أدلة الإثبات، وبه غالبا ما يوجد المتهم.
3- محاكمة المتهم في المكان الذي ارتكب فيه جريمته، وتوقيع الجزاء عليه في هذا المكان، يرسخ فكرة الردع العام الذي يسعى لتحقيقه الجزاء الجنائي.
4- كما أنه من مصلحة المتهم تطبيق قانون البلد الذي ارتكب فيه جريمته، لافتراض علمه بهذا القانون، مما يحقق أغراض مبدأ الشرعية الجنائية ويحقق العدالة من خلال عدم مفاجئة المتهم بقوانين يجهلها.

        لذا فالقانون الجنائي الجزائري يطبق على كافة إقليم الجمهورية الجزائرية، وفقا لما هو متعارف عليه في أحكام القانون الدولي العام[15]، ووفقا لنص المادة 12 من دستور 1996 المعدل والمتمم التي بينت معنى الإقليم، وإن كان القانون الجنائي يعطي له مدلولا آخرا، حيث نصت هذه المادة على أنه:" تمارس سيادة الدولة – ونلاحظ أن المادة عبرت عن الموضوع بالسيادة ولا تتعلق فقط بالقانون الجنائي- على مجالها البري ومجالها الجوي، وعلى مياهها، كما تمارس الدولة حقها السيد الذي يقره القانون الدولي على كل منطقة من مختلف مناطق المجال البحري التي ترجع إليها.". وزيادة على ما ذكر بالهامش أدناه حول الإقليم، فيمكن أن نضيف أن قوانين العقوبات لا تهتم ببيان نطاق إقليم الدولة، بل تفرض سلفا أن هذه الفكرة معروفة ومحددة بواسطة القانون الدولي، والإقليم في العادة يشمل الإقليم البري الذي تحدده الاتفاقيات الدولية، ويشمل المياه التي تحت جوف الأرض والأنهار والقنوات التي تمر به سواء كانت أنهارا وطنية أو دولية، وأما الإقليم البحري فبينته اتفاقية سنة 1958 المتعلقة بالبحر الإقليمي التي بينت في مادتها الأولى على أن سيادة الدولة تمتد خارج إقليمها البري ومياهها الداخلية إلى حزام من البحر ملاصق لشواطئها يسمى البحر الإقليمي، وبخصوص الإقليم الجوي وقعت اتفاقية باريس سنة 1919 مبينة أنه لكل دولة سيادة كاملة وانفرادية على طبقات الهواء التي تعلو إقليمها البري وبحرها الإقليمي وحتى مستعمراتها – كون الاتفاقية وقعت وقت الحركات الاستعمارية- وأكدت على ذلك من جديد اتفاقية شيكاغو سنة 1944 التي اعتبرت مادتها الأولى الهواء عنصرا تابعا لإقليم الدولة، غير أنه مبدأ اهتز أمام التطور العلمي مما أدى إلى التفكير في تحديد الإقليم الهوائي بارتفاع محدد، لذا أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 19-12-1966 في دورتها 21 القرار رقم 3222 بالموافقة على مشروع اتفاقية تنظم استعمال واستغلال الدول للطبقات العليا في الجو بما فيها القمر والكواكب الأخرى، ونصت هذه الاتفاقية في مادتها 11 على أن طبقات الجو العليا تخرج عن سيادة كل دولة، غير أنها اتفاقية لم تحدد المسافة التي تكون بين الفضاء الجوي وطبقات الجو العليا.
ثانيا:  تحديد مكان وقوع الجريمة
        من المتفق عليه قانونا أن مكان وقوع الجريمة يتحدد بالمكان الذي يقع فيه ركنها المادي سواء اجتمعت أركانه الثلاثة وهنا لا إشكال، لكن من المتصور أن تتوزع هذه العناصر على أكثر من إقليم واحد فهنا يثار الإشكال حول تحديد أي منها يكون مكانا لوقوع الجريمة، هنا السائد أن قوانين كل الدول التي توزعت عليها الجريمة يكون مختصا بنظر الجريمة، وهو الوضع أيضا في الجرائم المستمرة حيث يكون قانون كل إقليم قامت فيه حالة الاستمرار مختصا بنظر الجريمة، غير أن جرائم الامتناع تعد مرتكبة في الإقليم الذي حصل فيه الامتناع وكان من الواجب أن يقوم فيه الجاني بما هو مطلوب منه قانونا، كما أنه يعد إقليم ارتكبت فيه الجريمة الإقليم الذي حدثت فيه النتيجة الإجرامية- أو لآثار المباشرة للفعل - حيث أنه إذا أرسل شخص صندوق متفجرات لشخص آخر فتحه فانفجرت عليه وسافر لبلد آخر للعلاج وتوفي هناك يكون مختصا بلد العلاج أيضا بالإضافة للبلدين الآخرين. الأول هو بلد السلوك والثالث بلد النتيجة والثاني بلد علاقة السببية[16]. لكن لا عبرة بالنتائج الحاصلة بعد حدوث النتيجة وإن كانت تشكل جريمة مستقلة فيتحدد الاختصاص بمكان وقوع هذه الجريمة، مثل إخفاء متحصلات السرقة أو إخفاء الجثة التي يعتد بها قانونا ولا الأعمال التحضيرية غير المعاقب عليها. 
        غير أن الإشكال يكمن في حالة الشروع في الجريمة، وهنا يرى بعض الفقه أن الاختصاص ينعقد للدولة التي شرع في التنفيذ فيها وكذا للدولة التي كان من المفترض حصول النتيجة فيها، في حين يرى جانب آخر من الفقه، منتقدا الرأي الأول أنه لا يجب أن ينعقد الاختصاص لقانون الدولة التي كان يفترض حدوث النتيجة بها، وهو رأي نؤيده كثيرا خاصة وإن كنا نرى أن المجني عليه قد لا يكون عالما أصلا بأنه كان عرضة لجريمة شرع في ارتكابها عليه، كما أنه يثور الإشكال بخصوص المساهمة الجنائية، والتي على نحو ما سنرى تنقسم إلى مساهمة جنائية أصلية ومساهمة جنائية تبعية، ففي الأولى يكون كل الجناة فاعلين أصليين، وهو ما لا يثير أي إشكال حسب البعض إذا ما وقعت الجريمة على إقليم الدولة، لكننا نرى أنه في حالة التحريض قد نكون بصدد مساهمة جنائية أصلية حيث يعد الفاعل الأصلي كل من المحرض والمنفذ، وبالتالي إن كان التحريض في بلد والتنفيذ في بلد آخر فإننا نرى اختصاص قانون كل من البلدين ونفس الشيء بالنسبة للفاعل المعنوي.       غير أنه في حالة المساهمة الجنائية التبعية، أين نكون بصدد فعل أصلي وآخر فعل الاشتراك، ونرى أن غالبية القوانين تتبع عمل الشريك بعمل الفاعل الأصلي حيث يرى أنه إذا وقع الفعل الأصلي أو جزء منه في إقليم دولة ما فإن قانونها يمتد للتطبيق على فعل الاشتراك، وأن قانون الدولة التي وقع فيها فقط فعل الاشتراك لا ينطبق تماما، ونؤيد هذا الرأي كون أفعال الاشتراك لا عقاب عليها في حد ذاتها كونها أفعال مباحة تنجذب إلى دائرة التجريم بالنظر لفعل الفاعل الأصلي. 
ثالثا: الامتداد الحكمي لفكرة الإقليم 
        سبق القول، أن المشرع الجزائري، عامل السفن والطائرات معاملة خاصة، في الحالات التي ترتكب عليها جرائم، وعالجهما ضمن إطار مبدأ الإقليمية – وإن كان ذلك في قانون الإجراءات الجزائية- وذلك ضمن المادتين 590 و591، مبينا اختصاص القانون الجزائري بخصوص الجرائم التي ترتكب على متن السفن والطائرات، وحالات وشروط ذلك، مفرقا بين تلك الجزائرية والأجنبية – سواء بخصوص الطائرات أو السفن- أخذا ببعض الحدود التي يمكن تبريرها أحيانا، وأخرى يعجز الشخص عن تفسيرها بعد مقارنة المادتين معا بما تتضمنه من أحوال.
1- بالنسبة للسفــن:
        نصت المادة 590 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري على أنه: " تختص الجهات القضائية الجزائرية بالنظر في الجنايات والجنح التي ترتكب في عرض البحر على بواخر تحمل الراية الجزائرية آيا كانت جنسية مرتكبيها.    وكذلك الشأن بالنسبة للجنايات والجنح التي ترتكب في ميناء بحرية جزائرية على ظهر باخرة تجارية أجنبية."، من هذه المادة، يتضح بأن المشرع الجزائري، فرق ما بين السفن الوطنية والسفن الأجنبية، وبخصوص الأخيرة فرق بين السفن الأجنبية الحربية والسفن الأجنبية المدنية، واستعمل عبارة السفن التجارية التي نرى ووجوب استبدالها بالمدنية.
أ- بالنسبة للسفن الجزائرية:
        متى كانت السفينة جزائرية، فإن قانون العقوبات الجزائري يكون مختصا في حال توفر الشروط التالية مجتمعة[17]، وأن تخلف شرط من هذه الشروط يقود لعدم تطبيقه، وهي:
1- أن تكون السفينة تحمل الراية الجزائرية.
2- أن تكون الجريمة جناية أو جنحة، وبالتالي تستبعد المخالفات.
3- أن يكون مكان ارتكاب هذه الجناية أو الجنحة والباخرة في أعالي البحار، كون هذه المنطقة غير خاضعة لأية سلطة، لأنه لو ارتكبت الجناية أو الجنحة في المياه الإقليمية أو موانئ الجزائر، فاختصاص للقانون الجزائري يكون بموجب المادة 3 من قانون العقوبات، لا بموجب المادة 590 من قانون الإجراءات الجزائية، وإن ارتكبت في مياه إقليمية أجنبية يكون الاختصاص لقانون هذه الدولة تطبيقا لمبدأ إقليميتها. 
4- لا عبرة بجنسية الجاني أو المجني عليه، ولا بالمصلحة أو الحق الذي مست به الجناية أو الجنحة.
ب- بالنسبة للسفن الأجنبية:                
استعمل المشرع الجزائري بخصوص السفن الأجنبية مصطلح " السفن التجارية" تمييزا لها عن السفن الحربية، هذه الأخيرة التي تعامل معاملة خاصة، وكان عليه أن يستعمل مصطلح " السفن المدنية" كون التجارية قد يفهم منه سفن البضائع دون سفن الأشخاص أو السفن السياحية... وحتى يكون القانون الجزائري مختصا بنظر الجرائم المرتكبة على السفن الأجنبية ما عدا الحربية منها، يجب أن تتوفر الشروط المنصوص عليها في الفقرة الثانية من الماد 590 من قانون الإجراءات الجزائية، وهي:
1 – حسب المادة 590 أن تكون السفينة الأجنبية تجارية، أي ليست حربية – وهو المغزى من الشرط- والسفينة الأجنبية هي التي تحمل جنسية أو راية دولة أخرى.
2- أن يكون الفعل يشكل جناية أو جنحة، وبالتالي تستبعد المخالفات.
3- أنه لا عبرة بجنسية الجاني أو المجني عليه، ولا بالمصلحة التي تم الاعتداء عليها، كون المادة لم تشترط ذلك. 
4- أن يكون مكان تواجد السفينة الأجنبية ميناء بحرية جزائرية، وهو ما يفهم منه أن تكون راسية، ونحن نتساءل عن عدم النص على المياه الإقليمية الوطنية باعتبارها من اختصاص قانوننا، على الأقل مثلما نزع المشرع اختصاصنا لما تكون بواخرنا في المياه الإقليمية لدول أخرى، فينزع اختصاص قانون هذه الدول لما تكون بواخرها في مياهنا الإقليمية....غير أن الأمر يمكن مواجهته بالمادة 3 التي تشكل القاعدة العامة متى كانت الباخرة الأجنبية بالمياه الإقليمية الوطنية.
2- بالنسبة للطائرات:
        مثلما فعل المشرع الجزائري بالنسبة للسفن، فإنه فعل بالنسبة للطائرات، حيث يتعلق الأمر بالطائرات المدنية دون الحربية، وفرق فيها بين الطائرات الجزائرية والطائرات الأجنبية، وكل منها يجب أن تستجمع جملة من الشروط حتى يكون القانون الجزائري مختصا، وذلك ما بينته المادة 591 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري، التي نصت على أنه: " تختص الجهات القضائية الجزائرية بنظر الجنايات والجنح التي ترتكب على متن طائرات جزائرية أيا كانت جنسية مرتكب الجريمة. كما أنها تختص أيضا بنظر الجنايات
أو الجنح التي ترتكب على متن طائرات أجنبية إذا كان الجاني آو المجني عليه جزائري الجنسية أو إذا هبطت الطائرة بالجزائر بعد وقوع الجناية أو الجنحة. وتختص بنظرها المحاكم التي وقع بدائرتها هبوط الطائرة في حالة القبض على الجاني وقت هبوطها أو مكان القبض على الجاني في حالة ما إذا كان مرتكب الجريمة قد قبض عليه في الجزائر فيما بعد."
أ- بالنسبة للطائرات الجزائرية:
        حتى يكون القانون الجزائري مختصا بالتطبيق على الطائرات الجزائرية يجب أن تتوفر الشروط التالية:
1- أن تكون الطائرة جزائرية، أي حاملة للراية الجزائرية، 
2- أن يكون الفعل المرتكب يشكل جناية أو جنحة، وبالتالي لا عبرة بالمخالفات.
3- لا عبرة بجنسية الجاني، وبالضرورة إذن لا عبرة بجنسية المجني عليه، ولا بمكان ارتكاب الجريمة، فالقانون الجزائري يتبع طائراتنا أينما حلت حتى في قلب عواصم الدول الأخرى، على عكس ما فعله المشرع بخصوص البواخر.
ب- بالنسبة للطائرات الأجنبية:
        يكون قانون العقوبات مختص بالتطبيق على الجرائم المرتكبة على الطائرات المدنية الأجنبية، إذا توفرت الشروط التالية مجتمعة:
1- أن تكون الطائرة أجنبية أي حاملة لجنسية دولة أخرى.
2- أن يكون الفعل بالضرورة يشكل جناية أو جنحة وتستبعد المخالفات.
3- أن يكون الجاني أو المجني عليه جزائريا، أو هبوط الطائرة بالجزائر بعد ارتكاب الجريمة حتى وإن لم يكن الجاني أو المجني عليه جزائريا[18].
        وتكون المحكمة التي يتواجد بنطاق اختصاصها مكان هبوط الطائرة بالمحاكمة، أو مكان القبض عليه إن تم القبض عليه لاحقا.
ثالثا: الاستثناءات الواردة على مبدأ الإقليمية:
        بالرغم من أن مبدأ إقليمية النص الجنائي يقتضي أن تخضع كل الجرائم المرتكبة على إقليم الجمهورية الجزائرية للقانون الجنائي الجزائري، أيا كانت جنسية الجاني أو المجني عليه، وبغض النظر عن المصلحة أو الحق المعتدى عليه، غير أنه إعمالا لبعض الأحكام الدستورية والأعراف الدبلوماسية وبعض قواعد القانون الدولي العام، وما تتضمنه من أعراف واتفاقيات دولية، فإنه ترد بعض الاستثناءات على مبدأ إقليمية النص الجنائي، التي تستبعد الجرائم التي يرتكبها بعض الأشخاص من الخضوع لقانون العقوبات الجزائري[19]، إذ ارتكبها مثل هؤلاء الأشخاص أثناء أو بمناسبة تأدية مهامهم، ومن بين هؤلاء الأشخاص نذكر:
1- رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الجزائريين:
        تستثني غالبية القوانين الجنائية، بما فيها قانون العقوبات الجزائري جرائم رئيس الجمهورية التي يرتكبها أثناء ممارسته لمهامه الرئاسية أو بمناسبتها، وذلك طبقا للأعراف الدستورية، ولا يمكن محاكمته عنها إلا بعد زوال صفة الرئاسة عنه، غير أن ما تجدر الإشارة إليه أن الدستور الجزائري لسنة 1996 المعدل والمتمم، تضمن حكما لم تكن تعرفه الدساتير السابقة، وهو الحكم الذي جاءت به المادة 158 منه: التي نصت على أنه:" تؤسس محكمة عليا للدولة تختص بمحاكمة رئيس الجمهورية عن الأفعال التي يمكن وصفها بالخيانة العظمى، ورئيس الحكومة عن الجنايات والجنح التي يرتكبانها بمناسبة تأدية مهامهما..."[20].
        وقضت هذه المادة أن كيفية تشكيل المحكمة وعملها وسيرها وتنظيمها، سيبين عن طريق الأحكام التنظيمية، غير أنه ولحد الساعة لم يصدر أي نص يبين ذلك. مما يجعلها من النص مجرد نص نظري.
2- أعضاء المجالس النيابية العليا: ( البرلمان ومجلس الأمة في الجزائر[21])
        ونقصد بالمجالس النيابة العليا، تمييزا لها عن المجالس الشعبية الإقليمية أو المحلية، مثل المجالس الشعبية الولائية والمجالس الشعبية البلدية، ونجد كل الدول تقرر الحصانة لأعضاء السلطة التشريعية[22]، ولا يعني ذلك نزع الصفة التجريمية عن الفعل المعاقب عليه الذي يرتكبونه، وإنما متابعتهم لا تتم إلا بإتباع إجراءات دستورية خاصة،  وهو ما بينته المواد 109، 110، 111 من دستور 1996 المعدل والمتمم، حيث تضمنت المادة 109 مبدأ الحصانة البرلمانية، بنصها :" الحصانة البرلمانية معترف بها للنواب ولأعضاء مجلس الأمة مدة نيابتهم ومهمتهم البرلمانية، لا يمكن أن يتابعوا أو يوقفوا، وعلى العموم لا يمكن أن ترفع عليهم أية دعوى مدنية أو جزائية أو يسلط عليهم أي ضغط، بسبب ما عبروا عنه من آراء وما تلفظوا به من كلام أو بسبب تصويتهم خلال ممارسة مهامهم البرلمانية."[23]. وهنا فعلا استثناء بخصوص نوع محدد من الجرائم. كونها مادة أرست فكرة الحصانة البرلمانية المعترف بها لنواب السلطة التشريعية، خاصة المتعلقة بمهامهم الرئيسية وهي مناقشة القوانين والتصويت عليها، غير أن المادة 110 من دستور 1996 المعدل والمتمم ركزت على فكرة المتابعة الجزائية عن الجنايات والجنح، وفكرة التنازل عن الحصانة البرلمانية، أو رفعها، بينما بنت المادة 111 حالة تلبس النائب بارتكاب جناية أو جنحة.
        فقضت المادة 110 بأنه :" لا يجوز الشروع في متابعة أي نائب – المقصود نواب الغرفة السفلى-
أو عضو مجلس الأمة بسبب جناية أو جنحة إلا بتنازل صريح منه أو بإذن حسب الحالة من المجلس الشعبي الوطني أو مجلس الأمة الذي يقرر رفع الحصانة عنه بأغلبية أعضائه."، وبالتالي يمكن للنائب سواء كان نائبا في الغرفة السفلى، أو عضو من أعضاء مجلس الأمة في حال اتهامه بارتكاب جناية أو جنحة، أن يتنازل صراحة عن حصانته البرلمانية، والمقصود بعبارة " صراحة" أنه تنازل مكتوب تضمنه النيابة العامة ملف القضية، أو برفع الحصانة عليه من قبل أغلبية باقي الأعضاء، وفي هذه الحالة تجوز متابعته كأي شخص من الأشخاص، غير أن ما تجدر الإشارة إليه، أن المادة 110 لم تبين الموقف من الحالة التي يرتكب فيها عضو البرلمان أو عضو مجلس الأمة لمخالفة، فهل عدم ذكر هذا النوع من الجرائم يعني عدم المسائلة عنها أصلا، أم تجوز فيها المتابعة دون الإجراءات السابقة.        في حين بينت المادة 111 حالة تلبس عضو البرلمان أو عضو مجلس الأمة بارتكاب جناية أو جنحة[24]، حيث قضت أنه :" في حالة تلبس أحد النواب أو أحد أعضاء مجلس الأمة بجنحة أو جناية يمكن توقيفه ويخطر بذلك مكتب المجلس الشعبي الوطني أو مكتب مجلس الأمة حسب الحالة فورا. يمكن المكتب المخطر أن يطلب إيقاف المتابعة وإطلاق سراح النائب أو عضو المجلس الأمة على أن يعمل فيما بعد بأحكام المادة 110 أعلاه.".


3- رؤساء الدول الأجنبية:
        تستثنى وفقا للعرف الدولي الجرائم التي يرتكبها رؤساء الدول الأجنبية أو ملوكها أو أمراءها في أقاليم الدول الأجنبية. وذلك على اعتبار رؤساء الدول الأجنبية يمثلون دولا ذات سيادة وقد جرى العرف الدولي على عدم إخضاعهم لسيادة دولة أجنبية أخرى يتواجدون على إقليمها، ويمتد الاستثناء إلى الجرائم التي يرتكبونها بمناسبة ممارسة مهامهم أو بممارسة حياتهم الشخصية، كما تمتد الحصانة لتشمل حسب البعض كل أفراد أسرتهم وحاشيتهم، وسبق لنا القول بأن قانون العقوبات تعبير عن سيادة الدولة وبالتالي نرى أنه في حال إخضاع رئيس دولة لقانون عقوبات دولة أخرى يكون قد تم إخضاعه لسيادة هذه الدولة. ورئيس الدولة يقصد به حاكم الدولة وفقا للنظام السياسي الذي يسودها، فقد يكون ملكا أو أميرا أو سلطانا أو رئيس جمهورية أو عضو مع غيره في مجلس رئاسي يدير الدولة أو قائد ثورة أو حركة تحرر معترف بها أو زعيما روحيا لدولة ذات نظام حكم ديني، وهي الحصانة التي تمتد حتى أعضاء الوفد المرافق له وأفراد عائلته[25]. ولا عبرة في كون زيارته رسمية أو خاصة أو حتى ولو كانت تحت اسم مستعار إذ يكفي في الحالة الأخيرة أن يكشف عن شخصيته في حال محاولة توقيفه[26].
4- رجال السلك السياسي الأجنبي:
        رؤساء الحكومات والوزراء وكتاب الدولة ورجال المنظمات الدولية يتمتعون بحصانة قضائية مستمدة من المعاهدات الدولية والقوانين الأساسية للمنظمات التي يتبعونها تعفيهم من كل مسائلة جنائية عن الجرائم التي يرتكبونها في الدول التي يقيمون فيها في مهام رسمية.
5- رجال السلك الدبلوماسي والقنصلي:
        وهم لا يسألون أيضا عن الجرائم التي يرتكبونها في الدول التي يمثلون فيها دولهم. طبقا لاتفاقية فيينا المؤرخة في 24-04-1963 المتعلقة بالعلاقات القنصلية، والتي تمنح حصانة للموظفين القنصليين وموظفي الهيئات الدولية بالنسبة للجرائم التي تتعلق بقيامهم بوظائفهم أو بسببها، وأما الجرائم التي ترتكب خارج إطار الوظيفة تعقد الاختصاص لقانون البلد الذي يتواجدون به. وفي تبرير الحصانة قيل أن الممثل السياسي ووظيفته شيء واحد، حيث يتلاشى الشخص في وظيفته، فإذا عاقبناه فنحن نعاقب من خلاله الدولة التي يمثلها، وبالتالي نمس بسيادتها، ومن الحصانة السابقة قررت أيضا حصانة مباني السفارات والقنصليات، لكن ذلك لا يعني أنها ملاذ للمجرمين حيث ارتكاب جريمة داخل السفارة أو خارجها والفرار إليها، لا يمنع من تسليم الشخص لسلطات البلد، حتى ولو كان من رعايا الدولة التي تمثلها السفارة أو القنصلية ولا يعني ذلك تسليم رعايا الدولة، حيث لا تعد هذه المباني خارج الإقليم. وبخصوص الحصانة يجب القول أنه يحق للسلطات المحلية عندما يرتكب الممثل السياسي جريمة من الجرائم القيام بطرده باعتباره شخصا لم يعد مرغوبا فيه في البلد، كما يحق لبلده الأصلي معاقبته على جرائمه التي ارتكبها في بلد عمله، وبذلك لا يكون في معزل عن العقاب بأي حال من الأحوال، كما أن الحصانة شخصية وتتعلق بشق العقاب لا شق التجريم، بمعنى عدم العقاب لتوفر الحصانة لا يعني أن الفعل مباح، أو الصفة تعد سبب من أسباب الإباحة، وإنما هي مانع من موانع العقاب في مثل هذه الحالات، لذا فالأشخاص المساهمين مع صاحب الحصانة يمكن متابعتهم وعقباهم متى كنوا لا يتمتعون بالحصانة، سواء كانوا من المواطنين أو من الأجانب تطبيقا لمبدأ الإقليمية، كما أن حق الدفاع المشروع مقرر للمعتدى عليهم حتى ضد أصحاب الحصانة. كما أنه هناك اتفاقية فيينا لسنة 1961 وتشمل أعضاء السلك الدبلوماسي والبعثات السياسية الخاصة وممثلو المنظمات الدولية أو الإقليمية بصرف النظر عن درجاتهم وألقابهم ويستوي أن تتعلق الجرائم بممارسة مهامهم أو بمناسبة متابعة شؤون حياتهم الخاصة ، أما فيما يخص الخدم فتقتصر الحصانة على ما يصدر منهم من جرائم بمناسبة ممارستهم لمهامهم شريطة ألا يكونوا من رعايا الدولة التي توجد بها مقر البعثة أو المنظمة أو السفارة[27].
6- رجال القوات الأجنبية المرابطة في التراب الوطني:
        ويستمدون حصانتهم بخصوص عدم متابعتهم عن الجرائم التي يرتكبونها في الدول التي يرابطون فيها. وهي مقررة للقوات الموجودة بأرض الدولة بترخيص منها، مثل قوات الطوارئ الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، أو قوات وطنية لدولة أخرى، وهي الحصانة التي يتمتع بها أفراد هذه القوات بمناسبة ما يقع منهم من جرائم بمناسبة تأديتهم لمهامهم، أو داخل المناطق المخصصة لهم.
        وعلى العموم، الحصانة أو الإعفاء من المتابعة الجزائية وفقا للقانون الجزائري لا يغني عن إخطار الجهات الرسمية التي يتبعها الشخص مرتكب الجريمة والمتمتع بالحصانة الدبلوماسية، التي في العادة ما تتابعهم تأديبيا  وقد يتجاوز الأمر لحد تعويض ضحاياهم مدنيا، وتبقى كل معاهدة أو قانون أساسي للمنظمة، وكذا الأعراف الدبلوماسية أو مبدأ المعاملة بالمثل تحدد طرق وكيفيات ذلك.
الفرع الثاني
المبادئ المكملة لمبدأ الإقليمية
على عكس العصور السابقة، أضحت الحدود تشكل محاسن للعصابات الإجرامية وليست عوائق، خاصة مع تقدم المواصلات وتحول العالم على قرية صغيرة، وتدويل الجريمة، فأصبحت الحدود عائقا بالنسبة للسلطات في بحثها وتعقبها للمجرمين، وازدياد حركات الهجرة التي تصعب من عمليات التكيف مع قوانين الدول التي يستقر بها هؤلاء المهاجرين، كما أنهم انفصلوا عن جذورهم ولا يستطيعون التكيف مع الحياة الجديدة بسهولة، ولا يستطيعون التكيف مع مجتمع جديد وحياة جديدة وعادات وتقاليد جديدة زيادة على حواجز اللغة والثقافة وحتى الدين، فانفصالهم عن حياة اعتادوا عليها وعايشوها يحدث لهم نوع من الصراع بين القيم القديمة والقيم الجديدة المستحدثة فتضعف مقاومتهم شيئا فشيئا، كما أنه للحربين العالميتين والحروب الإقليمية الأخرى دور كبير في بروز ظاهرة العنف والإرهاب الذي لم يعد مقتصرا فقط على الأفراد والمنظمات، بل شملت حتى الدول، وهي كلها مسائل لفتت الانتباه إلى ضرورة توسع دائرة القانون الجنائي لمحاربة هذا النوع من الإجرام، وهو ما جعل مبدأ الإقليمية وحده غير كاف لمواجهة الظاهرة الإجرامية، وكان لزاما عليه الاستعانة ببعض المبادئ الأخرى المكملة، والتي نتناولها في النقاط التالية.
أولا: مبدأ الشخصية الجنائية                
        مبدأ الشخصية الجنائية أسبق في الظهور من مبدأ الإقليمية، حيث كان يعد الأصل فيما مضى، كون النص الجنائي كان يتبع رعايا الدولة أسينما حلوا، سيما في ظل فكرة الإقليم لم تكن قد تجسدت بعد بالشكل المعروف اليوم، لكن مع ظهور الدولة وارتكاز سيادتها على فكرة الحدود الإقليمية، انحصر نطاق تطبيق مبدأ الشخصية الجنائية فاسحا المجال أمام مبدأ الإقليمية ليصبح المبدأ الرئيسي الحاكم لسريان النص الجنائي. ويعرف مبدأ الشخصية الجنائية بأنه تطبيق النص الجنائي على كل جاني يحمل جنسية الدولة أينما حل وأينما وجد، وأيا كان الإقليم الذي ارتكب عليه جنايته، وبعبارة أكثر اختصارا، هو وجوب تطبيق القانون الجنائي لكل دولة على الحاملين لجنسيتها أينما حلوا[28]. ونص المشرع الجزائري على مبدأ الشخصية الجنائية في المادتين 582 و583 من قانون الإجراءات الجزائية، مفرقا بين الفعل الذي يرتكبه الجزائري بالخارج وما إن كان جناية أو جنحة، وهو الأمر الذي يقودنا لتناول المبدأ من خلال نقطتين تبعا للتمييز السابق.
1- الجنايات ومبدأ الشخصية الجنائية
        وهو شق من مبدأ الشخصية الجنائي الذي يركز على الرعية التي ترتكب فعلا يوصف بالجناية في الخارج، وقد تضمنه المادة 582 من قانون الإجراءات الجزائري[29]، التي أوردت جملة من الشروط إذا ما توفرت مجتمعة طبق على هذا الجاني القانون الجزائري بالرغم من أنه ارتكب جنايته بالخارج، وهذه الشروط هي:
- أن يكون الفعل الذي ارتكبه الشخص في الخارج يوصف بأنه جناية وفقا للقانون الجزائري، ويتضح من النص أنه لا عبرة للتكييف المعطى له من قبل تشريع القطر الذي وقعت عليه، سواء كان جناية أو جنحة،
 أو فعل مباح أصلا وهو أمر ننتقده بشدة[30].
- أن يكون الجاني يحمل الجنسية الجزائرية، أو أن يكون قد اكتسبها بعد ارتكابه الجريمة[31].
- أن يكون ارتكاب الجناية قد تم خارج الإقليم الجزائري، لأنه لو كانت عليه لطبق مبدأ الإقليمية وفقا للمادة 3 من قانون العقوبات.
- أن يعود هذا الجاني الجزائري إلى أرض الوطن سواء جبرا أو طواعية، لأنه وفقا لهذه المادة لا يمكن أن يحاكم غيابيا.
- ألا يكون الجاني قد حوكم في الخارج عن هذه الجناية، وألا يكون قد قضى عقوبتها في حال كان قد حوكم عنها، أو سقطت عنه هذه العقوبة بالتقادم أو حصل على عفو عنها في دولة ارتكابها.
2- الجنح ومبدأ الشخصية الجنائية
        وهو مبدأ يخص الجزائري الذي يرتكب خارج الإقليم الجزائري فعلا يوصف بأنه جنحة سواء في نظر القانون الجزائري أو في نظر القطر الذي ارتكبت فيه، فهنا يكون خاضعا للقانون الجزائري بشروط يجب أن تتوفر جملة واحدة، وهي شروط بينتها المادة 583 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري[32]، وهــي: 
- أن يكون الفعل الذي اقترفه الجزائري يوصف بأنه جنحة، سواء في القانون الجزائري أو في القانون الأجنبي المطبق على الإقليم الذي ارتكبت فيه[33]
- أن ترتكب هذه الجنحة في الخارج.
- أن يكون مرتكبها جزائريا وقت اقترافها أو اكتـــسب الجنسية الجزائرية بعد ذلك وفقا للمادة 584 من ق إ ج ج .
- أن يعود الجاني للجزائر أو يسلم غليها، حيث لا يجوز محاكمته غيابيا.
- ألا يكون قد حكم عليه في الخارج أو قضى عقوبته أو تقادمت أو حصل على عفو عنها.
- وزيادة على ذلك، إن كانت الجنحة ضد الأفراد، يجب تقديم شكوى من الشخص المضرور أو بلاغ من سلطات القطر الذي ارتكبت فيه الجنحة حتى يمكن للنيابة العامة تحريك الدعوى العمومية.
        وفي حالتي مبدأ الشخصية تجري المتابعة بناء على طلب النيابة العامة لمحل إقامة الجاني بالجرزائر أو محل القبض عليه، وذلك ما تضمنته المادة 587 من قانون الإجراءات الجزائية التي نصت على أنه : " تجري المتابعة بناء على طلب النيابة العامة لمحل إقامة المتهم أو مكان آخر محل إقامة معروف له أو مكان القبض عليه."
ثالثا: مبدأ العينية ( مبدأ الذاتية)
وهو المبدأ المكمل الثاني لمبدأ الإقليمية بعد مبدأ الشخصية، وسمي بمبدأ العينية أو الذاتية لأنه يمس بمصالح الدولة ذاتها أو بعينها لا بمصالح أفرادها، سواء كانوا جناة أو مجني عليهم، وأنه يطبق خصيصا على الأجانب دون حاملي جنسية الدولة، لأنه هؤلاء يخضعون لمبدأ الشخصية، وعموما، نقصد بهذا المبدأ تطبيق القانون الوطني الجزائري على كافة الجرائم المرتكبة بالخارج – لا بأرض الوطن، لأنه في هذه الحالة الخيرة نطبق مبدأ الإقليمية- والتي تمس بالمصالح الأساسية للدولة المرتبطة بسيادتها واقتصادها والثقة المولاة في نقودها، وأن الضحية في هذا النوع من الجرائم هي الدولة ذاتها، وبهذا المبدأ تكون تمارس نوعا من الدفاع الشرعي عن مصالحها، كما يعد – المبدأ- تعبيرا عن بسط الدولة لسلطانها التشريعي على كل الجرائم التي تمس بهيبتها ومصالحها، ولكن في الحالات التي لا تلقى فيها هذه الجرائم اهتمام من سلطات القطر الذي ارتكبت فيه. وهو الأمر الذي دفع بالمشرع الجزائري على غرار غالبية التشريعات الجنائية المعاصرة للنص على هذا المبدأ في المادة 588 من قانون الإجراءات الجزائية[34]، وهو النص الذي لا يطبق إلا إذا توفرت الشروط التالية مجتمعة: 
1- أن يكون الجاني أجنبيا، لأنه لو كان جزائريا لطبق مبدأ الشخصية سواء بموجب المادة 582 إذا كان الفعل يشكل جناية، أو المادة 583 إذا كان الفعل يشكل جنحة.
2- أن ترتكب الجريمة في الخارج، لأنه لو ارتكبت في الوطن فيطبق مبدأ الإقليمية.
3- على أن توصف الجريمة على أنه جناية أو جنحة.
4- أن تكون هذه الجريمة ماسة بالسلامة الوطنية[35]، أو أن تكون تزييفا للنقود أو الأوراق المصرفية المتداولة في الجزائر وقت ارتكاب الجريمة[36].
5- أن تحصل الجزائر على تسليمه لها أو أن يلقى القبض عليه في الجزائر. إذ لا يجب أن يحاكم غيابيا.
ثالثا: مبدأ العالمية  Universalité de la répression
        ويقصد بهذا المبدأ- بالرغم من عدم النص عليه صراحة في القانون الجزائري- سريان القانون الجنائي الوطني على كافة الجرائم ذات الطابع العالمي أو الدولي متى ضبط الجاني أو ألقي عليه القبض في الجزائر، حيث لا يمكن محاكمته غيابيا، أيا كانت جنسية هذا الشخص، على ألا يكون جزائريا، لأنه في هذه الحالة يطبق مبدأ الشخصية،  وأيا كانت جنسية المجني عليه، وأيا كان مكان ارتكاب الجريمة، بشرط ألا يكون الجزائر لأنه في هذه الحالة يطبق القانون الجزائري على أساس مبدأ الإقليمية لا مبدأ العالمية، وبشرط ألا تطلب دولة أخرى تسليمه لها باعتباره من رعاياها أو أن الجريمة مست بها بمبدأ من المبادئ السابقة، حيث في هذه الحالة تصبح الأولى بمحاكمته. ويبرر هذا المبدأ رغبة الدول في التعاون من أجل مكافحة نوع معين من الجرائم التي تهم المجتمع الدولي[37]، والتي تشكل عدوانا على مصلحة مشتركة بين الدول، كجرائم القرصنة والاتجار في الرقيق أو في المخدرات... وقد تجسد من خلال اتفاقيات قد تلزم الدول المنضمة لها أن تدرج المبدأ في قانونها الداخلي مثلما هو الشأن بالنسبة لاتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 المتعلقة بجرائم الحرب وغيرها من الانتهاكات الواردة بهذه الاتفاقية 



[1] - وقد قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر في هذا الصدد في حكم لها مؤرخ في: 02-01-1999 في القضية رقم 31 للسنة 17 قضائية دستورية، أنه:" الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق هو إطلاقها، باعتبار أن جوهر تلك السلطة هو المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم التشريعي، موازنا بينها، مرجحا ما يراه أنسبها لفحواها، وأحراها بتحقيق الأغراض التي يتوخاها، وأكفلها لأكثر المصالح وزنا في مجال إنفاذها، وليس ثمة قيد على ممارسة المشرع لسلطته هذه، ما لم يكن الدستور قد فرض في شأن ممارستها ضوابط محددة".
[2] - والتفسير أنواع تختلف باختلاف الجهة القائمة به، فهناك تفسير تشريعي الذي يقوم به المشرع نفسه وهو ما يسمى ب:" التفسير الصحيح" حيث يأخذ قوة القانون، وتفسير قضائي، وهو الذي يقوم به القضاة، بصدد تطبيقهم النصوص الموضوعية على الوقائع المعروضة عليهم، وهو غير ملزم إلا في حدود القضية التي صدر فيها بالنسبة لأطرافها والمحكمة التي قامت به، وتفسير فقهي وهو شروح فقهاء القانون، وهو يعد في حقيقته عرض لوجهات النظر وله أهمية كبرى في إثراء الفكر القانوني، كما يساعد القضاة في التفسير.
وللتفسير مناهج، منها المنهج الحرفي Littéral  أو المنهج التقليدي أو الضيق، الذي يرتبط به المفسر ارتباطا وثيقا بالنص، وجعل النص يغلب على روح القانون، وهو أضيق أنواع التفسير، والمعتمد كثيرا حتى عبر بأنه " لا اجتهاد مع النص"، وهو المنهج الذي نادى به بيكاريا القائل " القضاة لا يجب عليهم أن يفسروا القانون لسبب وحيد هو أنهم ليسوا مشرعين"، ويقول مونتسكيو في هذا الشأن :" القاضي هو عبارة عن الفم الذي ينطق به القانون"، و" أن الحكم القضائي هو
عبارة عن النص المحدد للقانون" .
وهناك المنهج الغائي Téléologique الباحث في الغاية أو الهدف من القانون، معتمدا على الإرادة الصريحة
أو المفترضة للمشرع الجنائي، حيث القاضي في تفسيره للنصوص يجب أن يعكس وجهة نظر المشرع الحقيقية، ويرى البعض أن تفسير تقريري من خلاله نقرر إرادة المشرع، وهو المنهج المعتمد حاليا في أغلب الأنظمة القانونية كونه يتفق مع الفكر القانوني والثقافي العام ويتناسب أكثر مع تطور الحياة الاجتماعية المعاصرة. وهناك المنهج القياسي Analogique  حيث لا
يقصد به عند بعض الفقه القياس فقط وإنما القياس على النظام القانوني ككل.
[3] - وهو موقف الفقيه بيكاريا في كتابه الجرائم والعقوبات.
[4] - غير أنه هناك اتجاه فقهي يرى عدم جواز القياس حتى بالنسبة للقواعد الأصلح لمتهم، حيث يرون أن القواعد التي تتضمن سببا من أسباب الإباحة أو مانع من موانع المسؤولية أو مانع من موانع العقاب، لا تعتبر قواعد قائمة بذاتها، وإنما تدخل كجزء مكمل للقواعد التجريمية وتحد من تطبيق تلك القواعد، وتعكس نطاق تطبيقها، وبالتالي منع القياس بالنسبة لقواعد التجريم والعقاب لا بد أن يطال النصوص التي تقرر إعفاء من الإعفاءات.
[5] - في القانون الجزائري المادة 368 و 369 الخاصة بالسرقة بين الأزواج والفروع والأصول،  وكذا المادة 373 المتعلقة بالنصب، والمادة 377 المتعلقة بخيانة الأمانة. غير أن المشرع المصري لم يجعلها من موانع العقاب، بل جعلها من الجرائم المقيدة بقيد الشكوى، وذلك ما تضمنته المادة 312 من تقنين العقوبات المصري.
[6] - حيث أنه من المسلمات أن القواعد القانونية الجنائية لا تنشأ لكي تبقى سارية المفعول إلى الأبد، إذ هي قواعد تمر بمراحل تشبه مراحل حياة الإنسان، من ولادة وحياة وموت، فيولد القانون بإصداره ويحيا بتطبيقه ويموت بإلغائه، وبمقتضى هذه المسلمة، تتعاقب القوانين في الزمان فينتهي سريان بعضها بالإلغاء ليبدأ سريان بعضها الآخر إلى زمن قد يقصر وقد يطول، حسب إرادة المشرع، وهو التعاقب الذي ينشا عنه تنازع بين أحكام القانون الملغى والقانون النافذ، بخصوص بعض المسائل التي تتوالى على تنظيمها تلك القواعد.
هي مسألة تعالج في حقيقة الأمر ضمن مسألة " تنازع القوانين الجنائية من حيث الزمان" Conflit des lois pénales dans le temps أو يعبر عنها البعض بمسألة القانون الجنائي المرحلي Droit pénale transitoire  خاصة وان مبدأ عدم الرجعية مبدأ غير مطلق كونه ترد عليه استثناءات على النحو الذي سنتناوله. وهي     من أهم المبادئ التي يقوم عليها القانون الجنائي الحديث، في غالبية الدول، سيما ذات التوجه الديمقراطي، وهي من النتائج المترتبة عن مبدأ الشرعية الجنائية، بل مبدأ من المبادئ التي توازيه، حيث أن مقتضى مبدأ الشرعية الجنائية أن يكون الأفراد المخاطبين بالقاعدة الجنائية على بينة بما هو محظور عليهم مسبقا، وهو ما يعني أن أفعالهم جاءت لاحقة للنص لا العكس، وأن القول برجعية النص يخل بل يهدم تماما مضمون الشرعية ذاتها.ومبدأ عدم الرجعية يقيد السلطة التشريعية ذاتها، حيث لا تملك هذه الأخيرة أن تجرم وتعاقب على أفعال سبق إتيانها قبل النص، وأن القول بخلاف ذلك يعد اعتداءا على حريات وحقوق الأشخاص من قبل السلطة التشريعية  ذاتها، التي خولها مبدأ الشرعية الجنائية السهر على هذه الحقوق، ودون مبدأ الرجعية تكون هي المعتدية.
[7] - وفي تأسيس هذا الاستثناء، ومحاولة إيجاد سند أو أساس فلسفي أو قانوني اختلف الفقه – مثلما جرت عليه العادة لدى فقهاء القانون الجنائي، فمن الفقه من يرى أن تقرير مثل هذا الاستثناء يجد أساسه في اعتبارات إنسانية، بينما رد البعض أن الأصح أن الاستثناء يجد سنده في مبدأ الشرعية الجنائية، حيث يجب أن تراعي النصوص الجنائي ما يرعى الحقوق الشخصية ويرأف بها. وقضت المحكمة الدستورية العليا في مصر، أن رجعية القانون الأصلح للمتهم نتيجة حتمية لقاعدة عدم رجعية القوانين الجنائية.
[8] - يرى الفقه أن مسألة تحديد القانون الصلح للمتهم، تتحدد بناء على أسس أو معايير موضوعية بحتة، أو بناء على ضوابط قانونية يتقيد بها القاضي، فالقاضي وهو يفاضل بين أكثر من قانون ويبحث في أي منهما أصلح للمتهم، لا يعمل رأيه الشخصي، ولا يخضع لطلبات المتهم بتطبيق قانون دون الآخر بحجة انه يرى فيه انه الأصلح له، كما أن مسألة القانون الأصلح للتهم لا تقاس بالعمومية والتجريد والحكم على القانون برمته، بل بالنظر لكل قضية على حدا ولظروف كل جاني دون غيره، فما يعد قانونا أصلحا في قضية قد لا يعد كذلك في قضية أخرى، وما يعد قانونا أصلحا لهذا المتهم، قد لا يعد كذلك بالنسبة لمتهم آخر ارتكب ذات الجرم. الواقعية تعني النظر لكل جريمة على حدا بناء على أركانها وظروفها وملابساتها، وشخصية مقترفها، فالقانون الواحد قد يعد أصلحا لمتهم بالنظر لظروفه الشخصية، وأسوأ لآخر بناء على ذات الظروف، فالقانون القديم مثلا إذا كان ينص على إيقاف التنفيذ وجاء آخر جديد ألغى وقف التنفيذ وأنقص العقوبة، فالقانون الجديد أصلح لشخص مسبوق، لكنه أسوأ لشخص غير مسبوق لأنه كان يستحق وقف العقوبة، وبالتالي القانون القديم هو الأصلح له. وبالتالي فمسألة تطبيق القانون الصلح للمتهم هي مسألة مقارنة بين قانونين متنازعين، فيما يخص الشدة، حيث يجب أن يحدد القانون
الصلح للمتهم، سواء تعلقت الشدة بشق التجريم أو تعلقت بشق العقاب.
[9] - ومعنى ذلك أنه إذا حدث تنازع بين قانونين، أحدهما كان يعاقب على الفعل باعبتراه جناية عقوبتها خمس سنوات سجن، وصدر قاتنون جديد يجعل من العقوبة جنحة لكن عقوبتها 6 سنوات حبس، فالقانون الجديد أصلح كونه جنح الفعل والجنحة أقل
شدة من الجنائية بغض النظر عن شق العقاب، بالرغم من ان مدة الحبس أطول من مدة السجن.
[10] - قد يظهر أن عقوبة الحبس المتعلقة بالمخالفات المتمثلة في الحبس من يوم واحد إلى شهرين أخف من عقوبة الغرامة التي تتجاوز 20.000 دج، وأن الشخص لو خير بينها لاختار الغرامة أضعاف مضاعفة عوض الحبس ولو ليوم واحد\، غير أن هذا الترتيب المشرع هو الذي أورده، وبالتالي القاضي ملزم بتطبيقه والمتهم غير مخير بخصوصه، كون عقوبة الغرامة التي تتجاوز 20.000 دج هي عقوبة جنحة، وعقوبة الحبس من يوم إلى شهرين هي عقوبة مخالفة، وبالتالي الأخيرة أخف من الأولى من وجهة نظر المشرع، والقاضي ملم بتطبيقها.
= غير أن محكمة النقض الفرنسية قضت في إحدى قراراتها، أن عقوبة الحبس دوما اشد من عقوبة الغرامة حتى ولو صدرت في مادة المخالفات. وليس للحكم نظير في القضاء الجزائري، لذا يعمل بالترتيب الوارد بالمادة 5. حتى وإن كان يظهر
انه لا يخدم مصلحة المتهم.
[11] - حيث أنه من الصعوبات العملية، الحالة التي تكون فيها الجريمة على سبيل المثال تتقادم بمضي خمس سنوات وفي نهاية السنة الرابعة أوقف المتهم وأدين، لكن قبل أن يصبح الحكم نهائيا، صدر قانون جديد يجعل من مدة التقادم في هذه الجريمة ثلاث سنوات، ففي هذه الحالة وتطبيقا للقانون الصلح للمتهم الذي يطبق فيها في أي حالة كانت عليها الدعوى ما لم يصدر حكما
              باتا، أن نحكم بتقادم الجريمة بالرغم من الحكم بالإدانة كان مطابقا للقانون الذي صدر في ظله.
[12] - الأجنبي حتى يحاكم في الجزائر على جريمة اقترفها بالجزائر، يجب أن يثبت بأنه لم يحاكم عنها في الخارج أو أن يثبت في حال محاكمته عنها في الخارج أنه قضى عقوبتها أو سقطت عنه بالتقادم، وذلك تطبيقا للمادة المادة 589 من ق إ ج ج =التي نصت على أنه: "لا يجوز مباشرة إجراء أية متابعة من أجل جناية أو جنحة اقترفت في الجزائر ضد أجنبي يكون قد أثبت أنه قد حوكم نهائيا من أجل هذه الجناية أو الجنحة في الخارج وأن يثبت في حالة الإدانة أنه قضى العقوبة أو تقادمت
أو صدرعفو عنها ." 
[13] - نرى أن صياغة المادة تنقصها بعض الدقة، حيث كان يتعين على المشرع الجزائري أن يضيف عبارة جزائري لكلمة قانون العقوبات، وتضاف عبارة الجزائرية لعبارة أراضي الجمهورية.
كما كان يتعين على المشرع الجزائري الإشارة صراحة لباقي المبادئ الأخرى في الفقرة الثانية، كون المسألة موضوعية وليست إجرائية، فهي تتعلق بتطبيق النص من حيث المكان. وهو من صميم اهتمامات القانون الموضوعي لا
الإجرائي.
[14] - نحن تناولنا المبررات بهذا الشكل تسهيلا لاستيعابها، غير أن الفقه في غالبيته يبني مبررات المبدأ على ثلاثة زوايا أو ثلاثة اعتبارات، أولا : الاعتبار الدولي وهو أن قانون العقوبات القانون المعبر عن سيادة الدولة على إقليمها واعتبارات السيادة تتعارض وتطبيق تشريع جنائي لدولة ما على إقليم دولة أخرى، ثانيا: الاعتبار العقابي وهو أن تطبيق مبدأ الإقليمية يحقق الغرض من العقوبة المتمثل في تحقيق الردع العام الذي يعد هدفا أساسيا للعقوبة، ومن المناسب أن نعاقب على الجريمة المرتكبة في أقرب مكان لوقوعها كونها أخلت بالنظام العام في هذا المكان بالذات، وخلقت فيه اضطرابا اجتماعيا فلا بد أن يحاكم الجاني ويعاقب في هذا المكان وتنفذ فيه العقوبة حتى يكون عبرة مما يحقق التخويف والردع الذي يهدف إليه القانون الجنائي، ثالثا: الاعتبار الإجرائي وهو مبدأ يؤدي لحسن سير العدالة وتسهيل إجراءات البحث والتحري، كما أن القاضي الوطني يفترض فيه العلم بقانون بلده وجهله بالقانون الأجنبي، مما يسهل عملية الإجراءات الجنائية، من تحقيقات وبحث وتحري ومحاكمة، وتسهيل الإثبات، حيث في هذا المكان تتوفر أدلة الإثبات والشهود ويمكن سماع أقوال المجني عليه، الأمر الذي يصعب إن كان التحقيق والمحاكمة يجري بعيدا عن المكان الذي وقعت فيها الجريمة، فيحقق مبدأ الإقليمية بذلك اقتصاد في الجهد والوقت.
[15] - إقليم الدولة وفقا للقانون الدولي العام، هو أولا: الإقليم الأرضي، وهو مساحة اليابسة التي تحدها الحدود السياسية للدولة وكذا ما يوجد تحت هذه المساحة من طبقات، وسواء كانت هذه الأرض متصلة أو منفصلة مثلما هو الحال بالنسبة للدول التي تتكون من عدة جزر، ويشمل كل ذلك السهول والوديان والهضاب والمرتفعات والبحيرات وكذا ما في باطن الأرض من مواد طبيعية، كما لا يمنع أن يكون إقليم الدولة الواحدة في عدة قارات، ويضاف إلى ذلك المياه الإقليمية المتمثلة في ذلك الجزء الواقع بين الساحل وبين خط وهمي مواز لذلك الساحل، والإقليم الجوي الذي يشمل كل ما يعلو الإقليم الأرضي والمائي.ثانيا : الإقليم المائي أو البحري للدولة، ويشمل مساحات الماء الداخلية من أنهار وطنية وأجزاء تابعة للدولة من الأنهار الدولية والبحيرات والبحار المغلقة والقنوات والمضايق والخلجان والموانئ البحرية، والبحر الإقليمي الملاصق لشواطئ الدولة، ودرجت العادة أن تحدد كل دولة بصفة منفردة مياهها الإقليمية. ثالثا: الإقليم الجوي، ويشمل كل طبقات الهواء التي تعلو الإقليم الأرضي والمائي دون طبقات الجو العليا والأجرام السماوية التي تخضع لاتفاقية دولية تسمى الاتفاقية الخاصة بتنظيم استغلال واستعمال الدولة للطبقات العليا في الجو الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في مشروعها في : 19/12/1966.
بينما المفهوم الجنائي للإقليم، يشمل بالإضافة إلى ما سبق، الإقليم الحكمي الذي يعني  امتداد الإقٌليم للطائرات والسفن وبخصوصه، هناك اتفاقية جنيف الموقعة سمة 1958 قسمت السفن إلى سفن عامة وأخرى خاصة، ومن قبيل السفن العامة السفن الحربية وما في حكمها كالسفن المقلة للوفود الرسمية وسفن التموين، وتتمتع السفن العامة بحصانة عامة في أعالي البحار ولا تخضع لأي اختصاص إلا لاختصاص الدولة التي ترفع علمها ( المادة 9 من اتفاقية جنيف)، كما تسري ذات الحماية والحصانة إذا كانت هذه السفن مبحرة أو راسية في المياه الإقليمية لدولة أخرى، بشرط أن تحترم قوانين الدول الأخرى وإلا حق طردها ( المادة 3 من اتفاقية جنيف)، أما السفن الخاصة كالسفن التجارية وسفن الصيد وما في حكمها، فإن الاختصاص ينعقد للدولة التي تحمل السفينة علمها، إلا في الحالات التي حددتها النصوص القانونية ( مثلما هو الأمر بالنسبة للمادتين 590 و591 ق إ ج ج ). أما بخصوص الطائرات، نظمتها اتفاقية طوكيو لسنة 1963، ويسري ذات الفرق الذي رأيناه بخصوص السفن العامة والسفن الخاصة على الطائرات، حيث القاعدة أن الجرائم التي ترتكب على متن الطائرات من اختصاص قانون= =الدولة التي تحمل الطائرة علمها، سواء كانت داخل حدود إقليمها أو خارجه. ما عدا الاستثناءات المبينة بنصوص قانون الإجراءات الجزائية.
[16] -  وإن كان في الحقيقة الإشكال أثار العديد من الخلافات الفقهية، حيث ظهرت نظرية السلوك التي يرى أنصارها أن العبرة بالمكان الذي حدث فيه السلوك ولا عبرة بالنتائج، ونظرية النتيجة وعكس الاتجاه الأول يرى أنصارها أن العبرة بالمكان الذي حدثت فيه النتيجة التي بدونها لا يكون للجريمة وجود، ونظرية ثالثة تسمى النظرية المختلطة، التي تعتد بمكان كل من السلوك والنتيجة، حيث يختص القانون الذي ارتكبت فيه الجريمة كلها أو جزء منها، وهو اتجاه يقترب من آخر يرى أن مكان ارتكاب الجريمة هو المكان الذي وقع فيه الجزء المميز و الرئيسي أو الأساسي الذي أخذ به المشرع الفرنسي في نص المادة 693 من قانون إجراءاته  والمشرع الجزائري في نص المادة 586 من قانون الإجراءات.
[17] - وهي شروط نرى أنها وجيهة ومعقولة وواجه بها المشرع فكرة عدم إفلات الجناة من العقاب، ولا يجب أن يفهم من عبارة " أعالي البحار" أنه أهمل الأماكن الأخرى، بل أن المياه الإقليمية محكومة بالقاعدة العامة التي تضمنتها المادة 3 من تقنين العقوبات، والمياه الإقليمية الأجنبية محكومة بمبدأ الإقليمية المنصوص عليه في قانون الدولة التي تتبعها هذه الأقاليم، لتبقى أعالي البحار المكان الوحيد غير الخاضع لسلطة أي قانون، وواجهه المشرع الجزائري بنص المادة 590/1 من قانون
         الإجراءات الجزائية، لكن الإشكال هو الذي سنبينه بعد حين، عند تناولنا للفقرة الثانية من ذات المادة.
[18] - نرى أنه كان على المشرع الجزائري أن يستعمل حرف " الواو" بين اشتراط الجنسية للجاني أو المجني عليه، وهبوطها بالجزائر، لأنه بالشكل الذي هي عليه المادة يختص القانون الجزائري بمجرد هبوط الطائرة بالجزائر حتى ولو لم يكن الجاني أو المجني عليه جزائريا، وهو وضع صعب لفرض تطبيق القانون الجزائري، كما انه صعب إذا كان الجاني أو المجني عليه  جزائريا والطائرة أجنبية ولم تحط بالجزائر، فهنا كيف للقانون الجزائري أن يتتبع هذه الطائرة خارج الإقليم الوطني.
[19] - وتتمثل غالبية هذه الاستثناءات في حصانة مقتضاها عدم تطبيق قانون العقوبات لبلد ما على بعض الجرائم بالرغم من ارتكابها على إقليم الدولة، وذلك تحقيقا لبعض الاعتبارات المعينة، الحصانة Immunité هي حماية شخص أو فئة معينة أو تقرير امتياز معين، لضمان أداء وظائف معينة على الوجه الأكمل وتزول الحصانة بانتهاء المهمة أو الوظيفة، وهناك حصانة داخلية تختلف باختلاف النظام الداخلي للدولة وفلسفة التشريع فيها، وحصانات مقررة وفقا للقانون الدولي، المعتمدة عن طرق اتفاقية فيينا المؤرخة في 18-04-1961  وتشمل رؤساء الدول الأجنبية وأفراد أسرتهم وحاشيتهم المرافقة لهم وكذلك الممثلين الدبلوماسيين للدول الأجنبية وزوجاتهم وأولادهم والعاملين معهم إذا كانوا من غير رعايا الدولة العاملين بها، وتشمل الحصانة جميع الجرائم التي يرتكبونها سواء تعلقت بأعمال وظيفتهم أو لم تتعلق.
[20] - ونلاحظ على صياغة هذه المادة أنه يسودها بعض الغموض، خاصة باختصاص هذه المحكمة في الجرائم التي يرتكبها رئيس الجمهورية، حيث يفهم من الفقرة الأولى منها أنها تختص فقط بالأفعال التي توصف بالخيانة العظمى، في حين الفقرة الثانية يفهم منها اختصاصها أيضا بنظر الجنايات والجنح التي يرتكبها كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وهو الوزير الأول في التعديل الدستوري الأخير. ويظهر أن المادة ميزت أولا أفعال الخيانة العظمى بالنظر لخطورتها، ثم ضمنت الفقرة الثانية باقي الجنايات والجنح التي يمكن أن يرتكبها رئيس الجمهورية أثناء تأدية مهامه.
وأفعال الخيانة العظمى، هي أفعال التعاون مع العدو ضد السلامة الأمنية والاقتصادية للوطن، أو الأفعال التي تشكل مساسا بالوحدة الترابية له. ونحن لا نرى بأن وضع رئيس الجمهورية في الجزائر هو استثناء على مبدأ إقليمية النص الجنائي، بل هو معاملة إجرائية من نوع خاص، لأن الاستثناء يعني عدم الخضوع أصلا للقانون الوطني، في حين أنه في هذه الحالة
            نرى أنه يخضع للقانون الجزائري لكن أمام جهة قضائية غير الجهات القضائية التي تحاكم سائر الأفراد.
[21] - والمقصود السلطة التشريعية أيا كانت تسميتها في الدول الأخرى، مثل الكونغرس ومجلس الشيوخ في الولايات المتحدة  الأمريكية، والكريملن في روسيا، أو مجلس اللوردات في إنجلترا، أو مجالس الملك في المملكات....
[22] - حول مفهوم الحصانة البرلمانية، يمكن القول أنها وضع خاص مقرر للحيلولة دون خضوع أعضاء الهيئة التشريعية لقانون العقوبات الوطني بالخصوص – في غالبية دول العالم- بخصوص الجرائم القولية أو الكتابية التي تتعلق بتأدية مهامهم النيابية، من قذف وسب وإفشاء أسرار أو بلاغات كاذبة أو إهانة السلطات، وذلك لتمكينهم من أداء مهامهم النيابية في حرية كاملة سيما في الجوانب المتعلقة بمراقبة عمل السلطة التنفيذية، دون خوف من تعقبهم أو ملاحقتهم قضائيا، كون سيف الملاحقة والعقاب حتى ولو كان نظريا من شأنه أن يحد واقعيا من حرية هؤلاء، ويدفعهم للتردد قبل توجيه أي نقد للسلطة التنفيذية، وهي حصانة لصيقة بصفة النائب يتمتع بها طيلة فترة نيابته، لكن يجب أن ترتبط بما يصدر عنه بمناسبة تأدية مهامه، وهنا كل ما يشترط أن يحصل الإذن من الهيئة التشريعية، في الجرائم غير المتعلقة بالمهام الوظيفية النيابية
[23] - إن كانت مسألة الحصانة البرلمانية مسألة مفهومة، خاصة وأن غالبية الدول تعترف بها لأعضاء السلطة التشريعية، وهي الحصانة التي قررت في حقيقة الأمر لأجل هدف إبعاد النواب عن كل أنواع الضغوطات بمناسبة مناقشة القوانين وسياسات الحكومة العامة وغيرها من المهام التي تدخل ضمن مهام السلطة التشريعية، وبالتبعية تقييد تحريك الدعاوى العمومية لإجراءات خاصة تبعد النائب أن يكون عرضة للمتابعات الكيدية، سيما في الدول التي تعرف التعددية الحزبية، وما قد يقود إليه ذلك من متابعات تعسفية لنيل الخصوم من بعضهم البعض، إلا أن مسألة حظر رفع الدعاوى المدنية عليهم أمر يبقى غير مفهوم، خاصة وأن عضو البرلمان مواطن يتعامل مع باقي المواطنين كبائع وكمشتري ومستأجر ومؤجر ودائن ومدين، فكيف نمنع تحريك الدعاوى المدنية ضده طيلة مهملته النيابية وأثر ذلك على تقادم حقوق الغير...
[24] - التلبس بالجنايات والجنح بينت حالاته وأحكامه وإجراءاته المادة 41 وما بعدها من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري، حيث قضت المادة السابقة أنه:" توصف الجناية أو الجنحة بأنها في حالة تلبس إذا كانت مرتكبة في الحال أو عقب ارتكابها.
كما تعتبر الجناية أو الجنحة متلبسا بها إذا كان الشخص المشتبه في ارتكابه إياها في وقت قريب جدا من وقت وقوع الجريمة قد تبعه العامة بصياح أو وجدت في حيازته أشياء أو وجدت في حيازته أشياء أو وجدت أثار أو دلائل تدعو إلى افتراض مساهمته في الجناية أو الجنحة.
وتتسم بصفة التلبس كل جناية أو جنحة وقعت ولو في غير الظروف المنصوص عليها في الفقرتين السابقتين، إذا كانت قد ارتكبت في منزل أو كشف صاحب المنزل عنها عقب وقوعها وبادر في الحال باستدعاء أحد ضباط الشرطة القضائية
لإثباتها.".
[25] - ويرى البعض أن الحصانة الرئاسية تمتد لزوج الرئيس، أما باقي الأعضاء فهم يتمتعون بحصانة دبلوماسية بشرط إبلاغ القائمة المتعلقة بأسمائهم قبل الزيارة لسلطات الدولة المعنية بالزيارة.
[26] - قد حدث سنة 1873 أن ملك هولندا كان في زيارة لسويسرا وهو متخف فارتكب مخالفة حكم عليه بغرامة وأثناء التنفيذ عليه كشف عن شخصيته فلم ينفذ الحكم عليه، كما حدث سنة 1997 أن قرر القضاء الأمريكي منع المحاكمة عن سلطان بروناي بتهمة إقدامه على احتجاز ملكة جمال أمريكا في قصره.
[27] - ويمكن التنازل عن الحصانة ويلاحق الدبلوماسي، وقد حدث في فرنسا وأن قام سفير دولة الزائير في فرنسا جريمة قتل خطا أودت بحياة طفلين، وحالت الحصانة دون ملاحقته أمام القضاء الفرنسي في مرحلة أولى، لكن وأمام الغضب الكبير الذي أبداه الرأي العام الفرنسي، اضطرت دولة زائير إلى استدعاء سفيرها وقرر بعدها رئيس جمهورية هذه الدولة التنازل عن الحصانة الدبلوماسية، وعاد السفير لفرنسا وسلم نفسه بإرادته إلى السلطات الفرنسية أين حوكم وقضي عليه بثلاث سنوات، وبالتالي لا يجوز للسفير التنازل بإرادته عن الحصانة ما لم تجزه دولته
[28] - يفرق بعض الفقه بخصوص مبدأ الشخصية الجنائية بين شقه الإيجابي وشقه السلبي، وذلك لأن قوانين دول هؤلاء الفقهاء تبني المبدأ على زاوية النظر ما إن كان الشخص جانيا أو مجنيا عليه، في الحالة الأولى يكون إيجابيا وفي الحالة الثانية يكون  سليا، وهو الوضع غير المعمول به في القانون الجزائري الذي لا يولي أهمية إلا للشخص الجاني.
[29] - التي نصت على أنه:" كل واقعة موصوفة بأنها جناية معاقب عليها من القانون الجزائري ارتكبها جزائري خارج إقليم الجمهورية يجوز أن تتابع ويحكم فيها في الجزائر. غير أنه لا يجوز أن تجري المتابعة أو المحاكمة إلا إذا عاد الجاني إلى الجزائر ولم يثبت أنه حكم عليه نهائيا في الخارج وأن يثبت في حالة الحكم بالإدانة أنه قضى العقوبة أو سقطت عنه بالتقادم أو حصل على العفو عنها"، وقد أكد على ذلك قرار صادر عن المحكمة العليا في 21-01-1969 :" تخول المادة 582 المحاكم الجزائرية الاختصاص لمتابعة كل واقعة موصوفة بأنها جناية في القانون الجزائري والحكم فيها إذا ارتكبها جزائري خارج إقليم الجمهورية."
[30] - كيف للمشرع الجزائري التدخل بعقاب شخص جزائري عن فعل يسمح به قانون الدولة التي يتواجد بها، وقد يكون يأذن به، لا لأمر سوى لأنه الفعل موصوف في القانون الجزائري بأنه جناية، وهذا الشخص قد يكون مولود لأب جزائري في الخارج، ولم ير في حياته الجزائر، لذا كان على الأقل أن يضيف المشرع الجزائري شرط ن يكون الفعل موصوف كذلك في هذا القانون بأنه جناية أو على الأقل جنحة.
[31] - وذلك حتى لا يكون حمل الجنسية الجزائرية لأجل ملاذا للمجرمين، وهو شرط نصت عليه المادة 584 من قانون الإجراءات الجزائية التي قضت انه:" " يجوز أن تجري المتابعة أو يصدر الحكم في الحالات المنصوص عليها آنفا في المادتين 582 و583 حتى ولو لم يكن المتهم قد اكتسب الجنسية الجزائرية إلا بعد ارتكابه الجناية أو الجنحة.".
[32] - التي نصت على أنه:" كل واقعة موصوفة بأنها جنحة سواء في نظر القانون الجزائري أم في نظر تشريع القطر الذي ارتكبت فيه يجوز المتابعة من أجلها والحكم فيها في الجزائر إذا كان مرتكبها جزائري.
ولا يجوز أن تجري المحاكمة أو يصدر الحكم إلا بالشروط المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة 582.
وعلاوة على ذلك فلا يجوز أن تجري المتابعة في حالة ما إذا كانت الجنحة مرتكبة ضد احد الأفراد إلا بناء على طلب النيابة العامة بعد إخطارها بشكوى من الشخص المضرور أو ببلاغ من سلطات القطر الذي ارتكبت الجريمة فيه"
وأكد على ذلك قرار صادر عن المحكمة العليا في -07-1981 :" كل واقعة موصوفة بأنها جنحة في نظر القانون الجزائري أو في نظر تشريع القطر الذي ارتكبت فيه يجوز المتابعة من أجلها والحكم فيها في الجزائر إذا كان مرتكبها جزائريا ولم يبرر هذا ألخير أنه حوكم نهائيا عليها أو في حالة صدور عقوبة ضده أن هذه العقوبة نفذت عليه أو أنها تقادمت أو صدر 
في شأنها إجراء بالعفو."
[33] - وهنا نشير بأنه إن كان الفعل يشكل جناية في القانون الجزائري وجنحة في القانون الأجنبي طبقت المادة 582 لا المادة 583، غير أن الانتقاد الذي يمكن توجيهه هذه المرة، هو ن المشرع اكتفى بوصف الجنحة في أحد القانونين فقط، مما يعني أن الفعل إذا كان مباحا في الجزائر ومجرم في الخارج طبق النص، والعكس صحيح، وهنا نعود لذات النقد الذي قدمناه بخصوص الجنايات، ونقول ما دخل القانون الجزائري للعقاب على فعل مباح في الخارج لا لشيء سوى لأنه مجنح في الجزائر؟ وما دخل القانون الجزائري للعقاب على فعل مباح في الجزائر ومجنح في الخارج؟؟؟؟؟.
وإن كان الفعل يوصف على أنه جناية في القانون الجزائري، وجنحة ف القانون الأجنبي طبق نص المادة 582 لا
         نص المدة 583
[34] - التي نصت على أنه:" " كل أجنبي ارتكب خارج الإقليم الجزائري بصفة فاعل أصلي أو شريك جناية أو جنحة ضد سلامة الدولة الجزائرية أو تزييف النقود أو أوراق مصرفية وطنية متداولة قانونا بالجزائر تجوز متابعته ومحاكمته وفقا لأحكام القانون الجزائري إذا ألقي القبض عليه في الجزائر أو حصلت الحكومة على تسليمه لها.".
[35] - مصطلح المساس بالسلامة الوطنية مصطلح واسع جدا، حيث يفهم منه كل الجرائم المتعلقة بأمن الدولة ووحدتها الترابية وحماية اقتصادها، المنصوص عليها من المادة 61 حتى 96 من تقنين العقوبات الجزائري.
[36] - لا عقاب على تزييف النقود التي خرجت من نطاق التداول، حيث أضحت لا قيمة اقتصادية ولا قانونية لهان وبالتالي فهي ليست بحاجة لفرض حماية جنائية عليها، وبخصوص تزوير وتزييف النقود في القانون الجزائري راجع المادة 197 وما يليها من تقنين العقوبات.
[37] - ويرجع الأصل التاريخي للمبدأ للفقيه جوستنيان وإن كان يرى الفقه أن أول من صاغ المبدأ في مطلع القرن السابع عشر كان جروسيوس في التزام الدولة التي تقبض على الجاني إما بعقابه أو تسليمه








الفصل الثاني
أسباب الإباحة أو أسباب التبرير

        سبق لنا القول في تعريفنا لمبدأ الشرعية الجنائية، أنه مبدأ يقتضي ألا جريمة ولا جزاء إلا بنص قانوني مكتوب صادر عن سلطة مختصة بإصداره طبقا لأحكام الدستور، وأن يكون هذا النص ساريا من حيث الزمان والمكان، وفقا لما تم تبيانه في الفصل الأول، وبالإضافة إلى ذلك، يجب ألا يكون قد توفر لدى مرتكب الفعل سبب من أسباب الإباحة التي تنفي عن الفعل صفة اللامشروعية التي يقتضيها مبدأ الشرعية الجنائية، وتؤدي إلى صيرورته مباحا، وذلك بالرغم من تطابقه مع النموذج التشريعي للجريمة، لذا فهذه الأسباب يمكن القول باختصار أنها عبارة عن حالات تتوفر في أحوال معينة يقدرها المشرع ويقرر بمقتضاها إخراج الفعل من دائرة التجريم إلى دائرة الإباحة. الأمر الذي يقتضي منا تناول ماهية هذه الأسباب
 أو الحالات، وتبيان تقسيماتها وآثارها، وتمييزها عما يشابهها من أفكار، وذلك في مبحث، لنتناول في الثاني أسباب الإباحة، سبب بسبب، وفقا لما تضمنه قانون العقوبات الجزائري، ونضيف إليه بعض الأسباب الأخرى التي تأخذ بها بعض الأنظمة الجنائية في القانون المقارن. وأهمها رضاء المجني عليه وحالة الضرورة.



























المبحث الأول
ماهية أسباب الإباحة وآثارها القانونية
        أسباب الإباحة أو أسباب التبرير، عبارة عن ظروف موضوعية عينة لصيقة بماديات الجريمة، أي بالركن المادي للجريمة، ولا علاقة لها إطلاقا بشخصية الجاني ونفسيته، بمعنى اقتران أسباب الإباحة بالركن المادي للجريمة، لا بالركن المعنوي لها، وهي إذا ما توافرت أخرجت الفعل من دائرة التجريم إلى دائرة الإباحة، أي تؤدي إلى صيرورة الفعل مباحا بعدما كان مجرما، وأسباب الإباحة على عدة أنواع، بحسب التقسيمات المختلفة التي أوردها الفقه، غير أن المشرع حصرها بعددها وموضوعها وجوهرها، وتتشابه مع العديد من الأفكار الجنائية المشابهة لها، غير أنها تختلف عنها، وأهم ما تختلف فيه عن هذه الأفكار من حيث الآثار القانونية المترتبة عليها، وهي المسائل التي سنحاول توضيحها في المطالب التالية.
المطلب الأول
معنى أسباب الإباحة وتقسيماتها
        تحديد المعنى الدقيق لأسباب الإباحة أو أسباب أو حالات التبرير، يقتضي منا تناول المقصود بها، ومن ثم تمييزها عما يشابهها من أفكار، وكذا تحديد أهم آثارها القانونية ومختلف التقسيمات التي أعطيت لها، وذلك في الفروع التالية.
الفرع الأول
المقصود بأسباب الإباحة
        أسباب الإباحة عبارة عن ظروف موضوعية عينية حددها المشرع، وجعل من أهم آثارها نفي الصفة التجريمية عن الفعل بعدما كان مجرما، أي نفي الصفة غير المشروعة عن الفعل بالرغم من تطابقه مع النموذج التشريعي للجريمة التي تضمنها النص العقابي، لذا يمكن تعريفها بأنها: الحالات التي ترفع عن الفعل صفة الجريمة وتجعله مباحا بالرغم من تطابقه مع الواقعة المجرمة بنص القانون، وذلك لأن القانون ذاته هو الذي سمح بارتكاب هذا الفعل في ظل توفر مثل هذه الظروف، كونها ظروف إذا ما اقترنت بالفعل جردته من معنى العنوان – والعدوان هو سبب التجريم بداية-، لذا يمكن اعتبار أسباب الإباحة عبارة عن قيود ترد على النص التجريمي فتعطل مفعوله، وتخرج الواقعة المتضمنة في النص من دائرة التجريم إلى دائرة الإباحة. أي تجعل من الفعل مشروعا بعدما كان يتصف بعدم المشروعية. وبالتالي إن كان الأصل في الأفعال الإباحة، والاستثناء التجريم، فأسباب الإباحة استثناء على هذا الاستثناء ( التجريم)، وبالتالي هي العودة إلى الأصل، أي الأصل في الأشياء الإباحة. وبالنظر لما يترتب عن أسباب الإباحة من آثار، كان يتعين علينا تناول مصدرها، قبل مسألة تمييزها عما يشابهها من أفكار. وذلك في النقطتين التاليتين.
أولا: مصادر أسباب الإباحة 
        بالنظر لما يترتب على أسباب الإباحة من آثار قانونية، وأهمها تقييد النص التجريمي بالرغم من قيمته وأهميته وأهدافه، فالمنطق يوجب أن يكون المشرع هو المحدد والمقدر للظروف التي يعتبرها سببا من أسباب الإباحة، ما دام هو الذي حدد الأفعال التي تشكل جرائم، لذا فمن المنطقي أن تكون أسباب الإباحة محددة على سبيل الحصر في قانون العقوبات، غير أن هذا الحصر يتعلق بموضوعها لا بمصدرها، إذ سبق القول عند دراسة نتائج مبدأ الشرعية الجنائية، أنه تستثنى هذه القواعد العامة ( مثل حظر التفسير والقياس وأحادية المصدر) في حال تعلق الأمر بمصلحة المتهم، إذ يجوز بالتالي أن يكون مصدر الإباحة غير قانون العقوبات، وذلك لا يخل بقولنا بوجوب أن تكون محددة حصرا بموضوعها، كما يجوز اللجوء إلى القياس في مجال أسباب الإباحة، وكذا التفسير الواسع لها، إذ مبدأ الشرعية الجنائية يقضي بأن يكون القانون المصدر الوحيد، ويحظر القياس والتفسير الواسع في مسائل التجريم والعقاب، لا في المجالات التي تخدم صالح المتهم، كأسباب الإباحة وموانع المسؤولية وموانع العقاب. لذا فأسباب الإباحة يمكن أن تجد مصدرها في الشريعة الإسلامية أو العرف أو فروع القانون غير الجنائية، أو مبادئ العدالة وأحكام القانون الطبيعي، على أن ترد بموضوعها إلى حالة من الحالات التي تضمنها قانون العقوبات، وذلك ما يتضح عند دراستنا لهذه الأسباب تباعا.
ثانيا: تمييز أسباب الإباحة عما يشابهها من أفكار جنائية
        مفهوم أسباب الإباحة وما تمت إليه الإشارة من آثارها – بطريقة عرضية- تجعلها تشتبه بالعديد من الأفكار الأخرى التي يتضمنها القانون الجنائي، وأهمها موانع المسؤولية وموانع العقاب، وأحيانا بعض الموانع الإجرائية، غير أن قولنا أن أسباب الإباحة عبارة عن ظروف موضوعية لصيقة بالركن المادي للجريمة، وغير ذات علاقة بشخصية الجاني ونفسيته، يجعلها تختلف اختلافا كبيرا عن موانع المسؤولية وموانع العقاب، كما تختلف عن الموانع الإجرائية المتعلقة بقانون الإجراءات، في حين أسباب الإباحة أسباب متعلقة بالقنون الموضوعي المتمثل في قانون العقوبات، وهو ما نبينه من خلال النقاط الثلاثة التالية، وذلك باختصار، على اعتبار أن هذه الموانع سيحين موضع دراستها بالقدر والتفصيل اللازم للموضوع.
1- أسباب الإباحة وموانع المسؤولية:
        موانع المسؤولية عبارة عن حالات بتوفرها تتأثر أهلية الشخص أو قدرته على الاختيار والإدراك، على اعتبار المسؤولية الجنائية تقوم على التمييز والقدرة على الاختيار والحرية فيه، وبالتالي كلما زالت هذه المكنات كان الشخص غير مسؤول جنائيا، كصغر السن أو الجنون أو الإكراه المسلط عليه، وهو ما بينه المشرع الجزائري في المواد من 47 إلى 51 من تقنين العقوبات. وهو ما يبين بوضوح بأن موانع المسؤولية، عبارة عن عوامل داخلية شخصية تتعلق بشخصية الجاني لا بالركن المادي للجريمة[1]، على عكس أسباب الإباحة التي تتعلق بالركن المادي للجريمة. هذا من جهة.     ومن جهة ثانية، أسباب الإباحة تنصب على النص فتعطل مفعوله، مما يحول دون قيام الجريمة أصلا، على عكس موانع المسؤولية التي لا أثر لها على قيام الجريمة، بل فقط على تخلف شرط من شروط مسائلة الشخص. وبالتالي لاختلاف أسباب الإباحة عن موانع المسؤولية، العديد من الآثار القانونية التي يرتبها القانون الجنائي، وأهمها:
أ- إن إثبات أسباب الإباحة أمر يسير مقارنة بإثبات موانع المسؤولية، كون الأولى عبارة عن ظروف موضوعية لصيقة بالجريمة يسهل إثباتها، على عكس موانع المسؤولية التي تعد أسباب نفسية داخلية أمر إثباتها صعب، كونه يتطلب تحليل نفسية الجاني وحالته النفسية، وهو أمر يتجاوز قدرات القاضي، لذا يلجا بخصوصها في العادة للخبرة النفسية، عدا حالة الإكراه.
ب- تطبيق أسباب الإباحة يمتد لكل شخص ساهم في الجريمة، سواء بوصفه فاعلا أصليا أو شريكا، أي يستفيد منها كل شخص ساهم في الجريمة، وذلك باعتبارها ظرفا لصيقا بالجريمة، بينما موانع المسؤولية باعتبارها موانع لصيقة بشخصية الجاني، فلا يمكن أن يستفيد منها إلا من توفرت لديه.
ج- أسباب الإباحة تمحي عن الفعل صفته التجريمية، وبذلك تحول دون تطبيق أي جزاء من أي نوع كان، في حين موانع المسؤولية لا تحول دون تطبيق التدابير الاحترازية[2].
د- أسباب الإباحة مادامت تنفي الجريمة، فهي تنفي المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية[3]، بينما موانع المسؤولية لا تنفي قيام المسؤولية المدنية، حيث يلزم الشخص أو مسؤوله المدني بتعويض ما سببته أفعاله من أضرار مادية[4].
2- أسباب الإباحة وموانع العقاب:
        موانع العقاب أيضا عبارة عن موانع شخصية تتعلق بالشخص الجاني، إذا ما توفرت ترتب عنها عدم عقاب الشخص، ولا يستفيد منه إلا من توفرت في حقه، ولا تمتد إلى غيره من المساهمين معه في الجريمة، كما لا تنفي قيام هذه الجريمة، بل تظل جريمة في نظر المشرع إلا أن المانع يحول دون توقيع الجزاء فقط، وهي لا تحول دون قيام المسؤولية الجنائية، ولا المسؤولية المدنية، وهي بذلك تختلف تماما عن أسباب الإباحة على النحو الذي سبق تباينه[5]

3- أسباب الإباحة والموانع الإجرائية[6]:
        وهي موانع إجرائية يقدر المشرع لاعتبارات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو لأسباب تتعلق بملائمة السياسة الجنائية ذاتها أنها تمنع من ملاحقة فاعل الجريمة ورفع الدعوى العمومية ضده، ومن أمثلة الاعتبارات السياسية، الحصانة السياسية والدبلوماسية التي يتمتع بها أعضاء السلك السياسي والدبلوماسي والقنصلي على إقليم الدولة المضيفة، وكذا الحصانات البرلمانية، ومن الاعتبارات الاقتصادية، تقييد رفع الدعوى على الطلب في الجرائم المرتكبة ضد مصالح الجيش الوطني الشعبي[7]، والأسباب الاجتماعية مثل جريمة الزنا والسرقة بين الأزواج... ومن الموانع المتعلقة بحسب السياسة الجنائية، التقادم، وكل هذه المسائل مجرد عقبات إجرائية تحول دون ملاحقة الفاعل ورفع الدعوى العمومية في مواجهته، غير أنها لا تعني زوال الصفة الإجرامية عن فعله، وهي لا تمنع دون قيام المسؤولية المدنية أيضا، بالرغم من هذه القيود، لذا فهي قيود شخصية يستفيد منها من توفرت لصالح فقط دون المساهمين معه في الجريمة. على عكس أسباب الإباحة. وإن كانت الموانع الإجرائية في بعض الحالات قد يستفيد منها غير الشخص الذي قررت لصالحه، مثل حالات الحصانة السياسية أين تستفيد منها كل الحاشية المرافقة للشخص، وفي حالات الحصانة الدبلوماسية التي يستفيد منها كل أعضاء السفارة أو القنصلية.
ثالثا: أساس الإباحـة وتحديد طبيعتها
        بكل إيجاز،  يرى البعض أن أساس الإباحة هو انتفاء موجب التجريم، كون المشرع وفقا للقواعد العامة لا يجرم إلا الأفعال التي تشكل اعتداء على المصالح الاجتماعية التي يرى ضرورة حمايتها، لذا فإن رأى هذه الأفعال في بعض الظروف لا تؤثر على الحقوق المحمية، أو إذا كانت تضر ببعض الحقوق وتحمي البعض الآخر مما يوليه الرعاية أكثر، فإنه يغلب جانب الإباحة على جانب التجريم، حيث قد تكون صيانة لما يجب حمايته، مثل تدخل الطبيب على جسم الإنسان بالرغم من حماية القانون لأجسام وأبدان أفراد المجتمع، وهو الوضع في كل حالة يرى فيها المشرع أن حماية حق أولى بالرعاية من حماية حق آخر، فهنا يرفع الصفة التجريمية عن الفعل، وكلما حدث تنازع بين حقين فإنه يقرر حماية للحق الأعز شأنا والأرجح كفة،
أو الحق الذي يعد من الناحية الاجتماعية أغلى وأهم، كلما استحال حماية حق دون إهدار الآخر، لذا يجب إهدار أدني الحقين قيمة. لذا فأسباب الإباحة من طبيعة موضوعية – ذات طبيعة مادية ملموسة - لا شخصية، فهي تنتج أثرها بعيدا عن الموقف النفسي للفاعل، وسواء كان يعلم بوجودها أو يجهل ذلك، وسواء كان حسن النية وقت اقتراف الفعل أو سيئ النية، حتى ولو كان يطفئ غلا أو حقدا، كمن يرى شخص يقتل الآخر فدافع عنه وقتل المعتدي بالرغم من الغل والحقد الذي كان يجمعهما[8]. كما لا يقتصر أثر أسباب الإباحة على الفاعل وحده، بل تمتد إلى شركائه، تجسيدا لقاعدة " للفرع حكم الأصل".
وبوجه عام، يمكن القول أن أسباب الإباحة تنحصر في ثلاثة أسباب، هي القيام بما أمر أو أذن به القانون، وهو ما يسميه الفقه والقانون العربيين باستعمال الحق وأداء الواجب أو ممارسة الرخصة، ومن هذه الناحية يمكن القول أن أسباب الإباحة واردة قانونا على سبيل الحصر، غير أن من حيث الواقع فهي في مناي عن حصرها لأنها تتعدد بقدر تعدد الحقوق والرخص والواجبات. كما أن أسباب الإباحة تستلهم وجودها من فروع القانون الأخرى المعروفة في النظام القانوني للدولة ككل، بمعنى تجد أسباب الإباحة مصدرها في فروع القانون الأخرى، على اعتبار أنه رغم تعدد فروع القانون في النظام القانوني الواحد، فإن هذه الفروع تتكامل ولا تتناقض أحكامه، إذ لا يمكن للقانون أو المشرع أن يأمر أو يبيح فعل معين في فرع من فروع القانون، ليجرمه في فرع قانوني آخر، لذا يجب التسليم بأن ما يبيحه أو يأمر به فرع من فروع القانون فهو قيد على نص التجريم، في الحدود وبالشروط التي يبينها هذا الفرع من فروع القانون، وفي ذلك لا وجود لأدنى مساس بمبدأ الشرعية الجنائية، كون المسألة تتعلق بالإباحة لا بالتجريم، خاصة وأنه سبق لنا القول بان كل المسائل التي تخدم مصلحة المتهم، تعد من استثناءات نتائج مبدأ الشرعية الجنائية، خاصة ما تعلق بأسباب الإباحة أو موانع المسؤولية أو موانع العقاب. لذا فالقياس جائز في مجال أسباب الإباحة، فيجوز إضفاء حكم سبب من أسباب الإباحة على حكم آخر توفرت فيه ذات العلة التي تقررت لأجلها الإباحة. خاصة وأن القياس في مجال أسباب الإباحة، حسب البعض، لا يدخل في مسائل القانون الجنائي،  بل هو من مجالات فروع القانون الأخرى، وأن القياس بحسب الأصل جائز في هذه الفروع القانونية، لذا لا يجوز للفقه الجنائي أن يرفض هذا القياس. لذا فيمكن أن تخضع أسباب الإباحة لمبدأ الرجعية وذلك كقاعدة عامة لأنها أصلح للمتهم، على العكس إذا ما كان يتشدد في تطبيقها فلا تسري على الماضي.
الفرع الثاني
تقسيمات أسباب الإباحة
وتحديـــد آثـــــارها
        يقسم الفقه أسباب الإباحة العديد من التقسيمات، وذلك بتعدد الزوايا التي ينظر منها إليها، فقسمت بحسب نطاقها ( أو يمكن القول بحسب المستفيد منها) إلى أسباب إباحة مطلقة وأسباب إباحة نسبية، وقسمت بحسب موضوعها ( بحسب أنواع الجرائم) إلى أسباب إباحة عامة وأسباب إباحة خاصة، وقسمت بحسب طبيعتها بحسب موضع النص عليها في القانون، وبهذا الخصوص هناك من القوانين من تأخذ بسببين وهناك من تأخذ بأكثر من ذلك، غير أن الاتفاق التشريعي حاصل بخصوص الدفاع الشرعي، وما أمر أو أذن به القانون، والخلاف ينحصر في العادة حول رضاء المجني عليه، وحالة الضرورة. 
أولا: تقسيم أسباب الإباحة بحسب نطاقها ( بحسب المستفيدين منها)
        بالنظر لنطاق أسباب الإباحة أو الأشخاص المستفيدين منها، قسمت أسباب الإباحة إلى أسباب إباحة مطلقة وأسباب إباحة نسبية، الأولى وهي تلك الأسباب التي يستفيد منها بصفة مطلقة كل شخص وجد في الظروف المنصوص عليها ضمن النص المقرر للسبب، ومثاله الدفاع الشرعي الذي قرر لكل شخص يدافع عن نفسه أو نفس الغير أو عن ماله أو مال الغير، بينما أسباب الإباحة النسبية، فهي تلك الأسباب التي تقتصر الاستفادة منها على أشخاص تتوفر فيهم صفة معينة تعد من شروط تطبيق سبب الإباحة، كالطبيب في إجراء العمليات الجراحية، والزوج في تأديب زوجته، والأب في تأديب ابنه، والموظف في حال تنفيذ أوامر القانون...
ثانيا: تقسيم أسباب الإباحة بحسب موضوعها
        قسمت أسباب الإباحة بحسب موضوعها، أو بالنظر إلى الجرائم المقترنة بها، إلى أسباب إباحة عامة وأسباب إباحة خاصة، الأولى وهي تلك الأسباب التي يمكن تصور قيامها بخصوص كل أنواع الجرائم، مثل الدفاع الشرعي[9]، وأما أسباب الإباحة الخاصة، فهي تلك التي تتقرر بالنسبة لبعض الجرائم دون البعض الآخر، كإباحة القذف أثناء الدفاع أمام المحاكم، والجرح بالنسبة للطبيب في العمليات الجراحية، والضرب الخفيف غير المبرح بالنسبة لتأدب الزوجة من قبل الزوج، أو تأديب الإبن من قبل الولي... 
ثالثا: تقسيم أسباب الإباحة بحسب طبيعتها
        وهو التقسيم الذي يستند في تقسيمه لأسباب الإباحة على موضوع النص عليها، وبعبارة أخرى ما إن كان يعتد بها المشرع من عدمه، كون أسباب الإباحة متعددة، تتفق غالبية التشريعات حول بعضها، مثلما هو الأمر بالنسبة للدفاع الشرعي وما أمر به القانون، ولا تتفق حول البعض الآخر، مثلما هو الشأن بالنسبة لحالة الضرورة ورضاء المجني عليه. وأحيانا حول ما أذن به القانون.
        وبصفة عامة، يمكن القول أن أسباب الإباحة هي: ما أمر أو أذن به القانون وتسمى في دول أخرى باستعمال الحق وأداء الواجب أو استعمال الحق الشخصي وممارسة السلطة، الدفاع الشرعي ويسمى أيضا الدفاع المشروع، وهي التسمية التي اعتمدها المشرع الجزائري، حالة الضرورة، ورضاء المجني عليه الذي ضاق نطاقه في الوقت الحالي. وفي قانون العقوبات الجزائري، أسباب الإباحة تضمنتها المادة 39 كقاعدة عامة، وأضافت المادة 40 نوعا خاصا من أنواع الدفاع الشرعي والتي يسميها الفقه حالات الدفاع الشرعي الممتازة. وسنتناول ذلك تفصيلا بعد أن نبين في الفرع الموالي آثار أسباب الإباحة.



الفرع الثالث
آثـــــار أسباب الإباحة
        يمكن تبين آثار أسباب الإباحة من التمييز الذي قمنا به بينها وبين موانع المسؤولية وموانع العقاب، إذ في حال ما توفر سبب من أسباب الإباحة في الفعل، فإنه تترتب عليه العديد من الآثار القانونية التي تفاديا للتكرار نوجزها في النقاط التالية:
1- توفر سبب من أسباب الإباحة، يجعل من الفعل الذي يعد في الحالات العادية جريمة فعلا مباحا، أي الفعل الذي يشكل بحسب الأصل جريمة إذا ما اقترف في الظروف العادية، إذا ما اقترن بسبب من أسباب الإباحة عد فعلا مباحا، مما ينفي كل مسؤولية عنه ويحول دون توقيع أي جزاء على مقترفه. سواء تمثل في عقوبة أو تدبير أمن.
2- انتفاء المسؤولية الجنائية في حالة توفر سبب من أسباب الإباحة يقود أيضا إلى انتفاء المسؤولية المدنية، إذ لا يمكن للشخص أن يعوض عن فعل يسمح به القانون وقد يأمر به أحيانا. أو يرخص به في الكثير من الأحيان.
3- كقاعدة عامة، يستفيد من أسباب الإباحة كل من ساهم في الفعل المقترن به، باعتبار أسباب الإباحة تنصب على الفعل ذاته لا على الفاعلين. كونها أسباب موضوعية عينية لا ذاتية أو شخصية.
4-  الجهل بأسباب الإباحة أو الغلط فيها لا يحول دون استفادة الشخص منها، كون أسباب الإباحة ظروف عينية موضوعية، في حين الجهل والغلط أسباب نفسية وشخصية، ولا يجوز إعمال هذا النوع في مجال ماديات الجريمة.























المبحث الثاني
أسباب الإباحة في قانون العقوبات الجزائري
        نصت المادة 39 من تقنين العقوبات الجزائري، على أنه:" لا جريمـة:
1- إذا كان الفعل قد أمر أو أذن به القانون،
2- إذا كان الفعل قد دفعت إليه الضرورة الحالة للدفاع المشروع عن النفس أو عن الغير أو مال مملوك للشخص أو مملوك للغير بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع جسامة الاعتداء."[10]
        وبالتالي أسباب الإباحة وفقا لقانون العقوبات الجزائري، سببين، الأول وهو ما أمر أو أذن به القانون، وجرت العادة أن يقسم هذا السبب إلى قسمين، يتم تناول حالات إذن القانون منفصلة عن حالات أوامر القانون، والثاني الدفاع الشرعي أو المشروع، وهو ما نتناوله في المطالب الثلاثة التالية:
المطلب الأول
تنفيذ ما أمر به القانون كسبب من أسباب الإباحة
        دراسة تنفيذ أوامر القانون كسبب من أسباب الإباحة، تقتضي منا دراسة ماهية هذا السبب في حد ذاته، من خلال تبيان المقصود والأساس والعلة من تقريره، وكذا تحديد أبعاده وذلك في فرع أول، لنتناول في الثاني، الشروط المتطلبة في أوامر القانون حتى تعد سببا من أسباب الإباحة.
الفرع الأول
معنى أوامر القانون التي تعد سببا من أسباب الإباحة
لا نقصد بأوامر القانون كأسباب للإباحة بأن مثل هذه الأوامر تشكل دوما جرائم غير أنها مباحة، بل نقصد تلك الحالات التي يرى فيها المشرع انه من الأجدر تعطيل مفعول النص الجنائي وإباحة الخروج عليه تحقيقا لمصلحة اجتماعية معينة، بالرغم من الفعل ينطوي على جريمة لو ارتكب في الظروف العادية بعيدا عن هذا الأمر[11]، لذا يأمر فيها القانون بإتيان بعض الأفعال، التي لولا هذا الأمر لعدت جرائم في الظروف العادية، كالأمر بالإدلاء بالشهادة أمام الجهات القضائية الجزائية وإباحة ما يترتب عن هذه الشهادة من إفشاء للأسرار، وإلزام الطبيب بإفشاء ما يعاني منه مرضاه من أمراض معدية، بالرغم من التزام الطبيب بالسر المهني، واحترام الحياة الخاصة لمرضاه، وتنفيذ عقوبة الإعدام من الموظف المكلف بذلك، وحبس وسجن الأشخاص تنفيذا للأحكام القانونية والقضائية، التي لولاها لعد الفعل جريمة حبس تعسفـــي ( المادة 291 وما بعدها).... ففي مثل هذه الحالات، لولا أمر القانون، لعدت الأفعال السابقة جرائم معاقب عليها، وتجد مثل هذه الأوامر القانونية سندها في تقدير المشرع بأن الأمر ينطوي على تحقيق مصلحة اجتماعية أجدر من المصلحة التي كانت محمية قانونا، مما ينفي عن الفعل صفته التجريمية، ويحول دون قيام أية مسؤولية من أي نوع كان.
وثارت مسألة البحث في معنى أوامر القانون، وما إن كان يقصد بها أوامر القانون الجنائي فقط أم غيره من القوانين الأخرى، واستقر الرأي على أن المقصود هو القانون بمعناه الواسع، بما فيه الأوامر الإدارية[12]، وهنا ثار تساؤلا آخر، يتمثل في مدى اعتبار الأوامر الإدارية التي يصدرها الرئيس لمرؤوسيه سبب من أسباب الإباحة في الحالات التي تكون فيها متسمة بعدم المشروعية، فهل في مثل هذه الحالات ينفذها المرؤوس وتعد سببا من أسباب الإباحة؟ أم يمتنع عن تنفيذها بحجة عدم مشروعيتها، وفي هذه الحالة يجوز أصلا للمرؤوس أن يفحص مشروعية الأوامر الصادرة له من رؤساءه؟، بصدد الإجابة عن التساؤلات السابقة، انقسم الفقه إلى ثلاثة اتجاهات، الأول يرى في الأوامر الإدارية غير المشروعة سببا من أسباب الإباحة، والثاني يرى العكس، واتجاه وسط راجح يرى وجوب التفرقة بين وضعين، وضع اللامشروعية الظاهرة واللامشروعية غير الظاهرة.
أولا: تنفيذ الأمر الإدارية غير المشروع سبب من أسباب الإباحة
        وينطلق هذا الاتجاه من أن تنفيذ الأوامر الإدارية الصادرة من الرؤساء للمرؤوسين أمر واجب، وذلك بغض النظر عن مشروعيتها من عدمها، لأن خضوع المرؤوس لأوامر رؤساءه أمر واجب، ولا يملك أصلا حق مراقبة مشروعية الأوامر المعطاة له، ولا حق له في الامتناع عن تنفيذها وإلا قامت مسؤوليته التي إن لم تكن جزائية فهي إدارية أو تأديبية، لأن القول بغير ذلك يعطل سير المرافق العامة بانتظام واطراد، وبالتالي على المرؤوس متى أعطي أمرا إداريا من رئيسه أن ينفذه، حتى ولو كان غير مشروع، وأن هذا التنفيذ يعد سببا من أسباب الإباحة، ولا يجوز للشخص المنفذ عليه هذا الأمر أن يرده بالدفاع الشرعي.
ثانيا: تنفيذ الأوامر الإدارية غير المشروعة جريمة
        على عكس أنصار الاتجاه السابق، يرى أنصار هذا الاتجاه أن تنفيذ المرؤوس للأوامر الإدارية غير المشروعة الصادرة إليه من رؤساءه يعد جريمة، وبالتالي يجوز للشخص المنفذ عليه هذا الأمر أن يرده عن طريق الدفاع الشرعي متى توفت شروطه. ونرى نحن أنه نفس موقف المشرع الجزائري من خلال ما يتبين من استقراء المواد من 107 لغاية 110 مكرر[13]. هناك قرار عن المحكمة العليا صادر في 07-06-1981 يقضي بأنه :" إن تنفيذ الموظف لأوامر غير قانونية واردة عن مسؤوليه لا تدخل في إطار الأعذار القانونية المنصوص عليها في المواد من 277 إلى 283 ق ع ج. وما دامت لا تدخل في نطاق الأعذار التي تعد أسباب شخصية خاصة، فهي لا تعد أيضا سبب من أسباب الإباحة.
ثالثا: مدى وضوح حالة عدم المشروعية من عدمها
        الرأي الوسط والراجح بين الرأيين السابقين، هو الرأي الذي يفرق أنصاره بين حالتي وضوح عدم مشروعية الأمر الإداري الصادر للمرؤوس من عدمها، ففي الحالة التي تكون فيها ظاهرة يجب على المرؤوس الامتناع عن تنفيذ الأمر الإداري غير المشروع الصادر إليه، وإلا عد مرتكبا لجريمة يجوز ردها من قبل المنفذ عليه الأمر، على عكس الحالة التي لا تكون فيها عدم المشروعية ظاهرة، فهنا يكون تنفيذ المرؤوس للأمر الصادر إليه سببا من أسباب الإباحة التي لا يجوز مقاومتها من قبل المنفذ عليه الأمر.
الفرع الثاني
شروط أوامر القانون كسبب من أسباب الإباحة
        بعيدا عن الجدل السابق، فإن الفقه أوجد بعض الشروط الواجب مراعاتها في تنفيذ أوامر القانون حتى تكون سببا من أسباب الإباحة، وهي:
1- أن يكون الأمر قد نص عليه القانون صراحة ودون لبس أو غموض، وأن يصدر في الحالات التي يجوز فيها إصدار مثل هذا الأمر، وبالشروط والقيود والحالات الواردة بالنص، مثل تفتيش المساكن.
2- أن يصدر الأمر من جهة مختصة بإصداره.
3- أن يصدر لشخص مختص بتنفيذ الأمر.
4- أن تكون هناك علاقة وظيفية بين الرئيس والمرؤوس.
5- أن يكون تنفيذ الأمر بحسن نية.
وعموما،  يجب أن تكون الحالة التي أتي فيها الموظف العام العمل مطابقا من كل وجوهه للأوضاع التي تضمنها القانون، وأن يكون فيها العمل مقرر بموجب نص قانوني، أو أمر رئاسي من رئيس يوجب القانون طاعته، بشرط أن يكون القائم به مختصا بمباشرته، وأن تتحقق دواعي إتيان العمل، وان يباشر على النحو الذي رسمه القانون، غير أنه في أوامر الرؤساء، فيجب إثبات تلقيه الأمر من رئيسه وأن يكون هذا الأمر مستوفي لشروط صحته، سواء كانت شروط شكلية أو شروط موضوعية، فالشروط الشكلية أن يفرغ الأمر في الشكل الذي يوجب القانون إفراغه فيه، كما يجب أن يكون صادرا عن رئيس مختص لمأمور مختص أيضا، وهو ما يختلف باختلاف الحالات والأوضاع، وأن يكون الأمر مما يدخل في اختصاص الرئيس إصداره، حيث هناك أوامر مقصورة على نوع من الرؤساء الإداريين دون البعض الآخر، كما أن المنفذ يختلف باختلاف الحالات، فليست كل الأوامر مما يمكن لكل الموظفين تأديتها، فتنفيذ حكم الإعدام له المكلفين به، والتفتيش له أشخاصه، .. وإن كان القانون يشترط صدور الأمر كتابة فلا يجوز صدوره شفاهة. مع احترام الشروط الموضوعية، التي يقصد بها المقدمات التي يشترط فيها القانون اتخاذ الأمر، فتنفيذ حكم الإعدام يقتضي وجود حكم نهائي بات استنفذ كل طريق الطعن وإجراءات طلب العفو، والعديد من الإجراءات الأخرى، حتى يمكن تنفيذ حكم الإعدام. وباستكمال الأمر لشروطه الشكلية والموضوعية يكون على المرؤوس واجب تنفيذه، حتى ولو تخلفت بعض شروطه إذا كان القانون يفرض على المرؤوس واجب الطاعة دون إمكانية مراقبة مشروعية الأمر، مثلما هو الشأن بالنسبة للأوامر العسكرية، وهنا يرى البعض أن المرؤوس يتحلل فقط من واجب التحري على الشروط الموضوعية، لكن الشروط الشكلية يجب عليه التأكد من توفرها قبل التنفيذ وإلا سئل عن  الفعل وعوقب إن كان يشكل جريمة، خاصة ما يتعلق بأنه من الأوامر التي تدخل ضمن اختصاصه وصادر ممن يملك سلطة أمره، وانه مستوفي للشكليات التي حددها القانون، بل يرى البعض أن المرؤوس يجب عليه الامتناع عن تنفيذ أوامر الرئيس إذا كانت الشروط الموضوعية ظاهرة البطلان، حتى ولو كانت الشروط الشكلية متوفرة، مثل الحالة التي يطلب فيها الرئيس العسكري من الجندي إطلاق الناري  على جار تشاجر معه أو إلقاء القبض على أحد الناس وقتله، أما في حالة عدم مشروعية العمل، وهو كأن يكون خارج عن اختصاص الموظف العام، أو قام به تنفيذا لأمر غير واجب الطاعة، ففي هذه الحالات يسأل الموظف عن فعله ويعاقب، غير أن بعض القوانين، ومنها القانون المصري في مثل هذه الحالة يتحرى عن " حسن نية الموظف" في المادة 63 من تقنين العقوبات، وحسن النية في هذه الحالة مسألة موضوعية تستقل محكمة الموضوع بتقديرها، مستعينة في ذلك بكل الطرق الممكنة قانونا، بشرط أن يبذل الموظف جهدا في التحري من مشروعية الأمر وأن يكون اعتقاده بالمشروعية مبنيا على أسباب معقولة، أخذا بعين الاعتبار كل الملابسات والظروف المحيطة، ووضع الموظف وقدراته، لذا فالمسألة تختلف باختلاف الأحوال والأوضاع، والمعيار هو معيار الرجل العادي في وظيفة الموظف وظروفه والمؤثرات التي ازدحمت عليه. وتوفر حسن النية لدى الموظف ينفي قصده الجنائي، غير أن يعاقب إن كان الفعل يمكنه القيام جريمة غير عمدية.
        وعلى العموم بخصوص تنفيذ الأوامر غير المشروعة، فهنا يجد الموظف نفسه أمام واجبين متناقضين، الأول هو إطاعة أوامر الرئيس، والواجب الثاني هو إطاعة القانون، وذلك بعدم تنفيذ الأمر المخالف للقانون، أي تنازع بين القانون الإداري وقانون العقوبات، وهنا يجب احترام قانون العقوبات، وإلا قامت مسؤولية المرؤوس إن لم يثبت أنه اكره معنويا من قبل رئيسه، أو اعتقد خطئا بمشروعية الأمر الصادر إليه، وهنا ينتفي لديه القصد الجنائي لكن هنا يمكن مسائلته عن جريمة خطئية، إن كانت الجريمة تقبل القيام عن طريق الخطأ، وأن يتحرى عن المشروعية. وهو نفس الوضع بالنسبة للقانون الفرنسي الجديد في نص المادة 122-4 ، التي يفهم منها مسائلة المرؤوس في حال ارتكاب فعل غير مشروع. 
المطلب الثاني
ما أذن به القانون كسبب من أسباب الإباحة
        على غرار ما قمنا به في المطلب الأول، سنحاول أن نبين المعنى من هذا السبب وشروطه، لنتناول في الثاني بعض تطبيقاته .
الفرع الأول
معنى إذن القانون كسبب من أسباب الإباحة
إن تقرير حق لشخص يبيح له بالضرورة استعماله حتى ولو كانت صورة هذا الاستعمال يشكل جريمة، لأن الحق الذي يمنع استعماله لا يعد حقا، وهي مسألة بديهية لا تحتاج إلى نص يقررها، لذا فكل فعل ارتكب بنية سليمة عملا بحق مقرر بمقتضى الشريعة، أو بحكم فرع من فروع القانون، يعد سببا للإباحة، لذا سنحاول أن نتناول معنى الإذن وشروط ممارسته في النقاط التالية.
أولا: معنى الإذن القانوني كسبب من أسباب الإباحة
        هي حالات يجيز أو يسمح فيها القانون لشخص بالقيام ببعض الأفعال التي لو ارتكبت خارج هذا الإذن لعدت جرائم معاقب عليها قانونا، غير أنها على عكس أوامر القانون، هي حالات تعد مجرد رخصة من المشرع للشخص أن يمارسها أو أن يتركها، ففيها يمكن إعمال الرأي الشخصي على عكس أوامر القانون التي يلزم الموظف بتنفيذها وإلا قامت مسؤوليته. وموضع هذه الحالات في العادة هو بعض القوانين الخاصة التي تسمح ببعض الأفعال التي تعد في نظر قانون العقوبات جرائم، إعمالا لمبدأ الخاص يقيد العام، وعلة ذلك أن الإذن في الحالات المسموح بها يحقق فائدة أجدر من الفائدة التي يحققها النص الحامي للحق. لذا مصدر هذه الحالات لا يقتصر على قانون العقوبات، بل يمكن أن يكون مصدره العرف أو الشريعة الإسلامية. 
        وبخصوص مصادر الإذن – أو الحق مثلما تستعمله قوانين المشرق- فإن المتفق عليه أن القانون هو المصدر العام لكل الحقوق، كون فكرة الحق ترتبط ارتباطا وثيقا بفكرة القانون، فلا يمكن تصور حق دون أن تكون هناك قاعدة قانونية تقرره أو على الأقل محمولا على قاعدة من قواعد القانون، والمقصود بالقانون كافة فروعه سواء كانت مكتوبة أو غير مكتوبة، في الحدود التي يسمح فيها القانون لهذه الفروع من تقرير الحقوق، سواء كانت مبادئ الشريعة الإسلامية أو العرف أو قواعد العدالة وأحكام القانون الطبيعي، بل قد يكون القانون الجنائي ذاته أو قانون الإجراءات الجزائية مصدرا للحقوق، مثل تقديم البلاغات أو الشكاوى في بعض الجرائم، حيث لولا هذا النص لاعتبر الفعل قذفا، أو من الشريعة الإسلامية التي تبيح للأب أن يؤدب ابنه وللزوج أن يؤدب زوجته، كما قد يكون العرف، مثلما هو الشأن بالنسبة للأعراف الرياضية، كما يجد الحق مصدره في العقد في الزواج، أو في الإرادة المنفردة كالتنازل عن المال، أو في أمر القضاء كالترخيص بتوقيع الحجز على الأموال،  أو في قرارات السلطات العامة، مثل الترخيص بحمل السلاح إذ لولا هذا الترخيص لكنا بصدد جريمة. لذا فكل ما يشترط في مصدر الحق أن تكون القاعدة القانونية نافذة في النظام القانوني للدولة، ولا تكون قاعدة قد ألغيت، أو الأعراف الفاسدة التي تنشأ مخالفة لقاعدة قانونية، ولا بقواعد القانون الأجنبي إن لم يكن يعترف له القانون بالسريان في الدولة، ولا في قواعد الشريعة الإسلامية التي لم يرد المشرع تطبيقها بغض النظر عن سلامة مسلكه من الناحية الدينية من عدمه. كإعدام الشخص من القضاء لا يجيز القضاء وإن كانت الشريعة الإسلامية تقضي بغير ذلك، والمقتص يعد مرتكبا لجريمة قتل عمد. 
ثانيا: شروط اعتبار الإذن سبب من أسباب الإباحة
        لكي يعد الإذن سببا من أسباب الإباحة يجب أن يستجمع الإذن الشروط التالية:
1- أن يكون للإذن مصدر من المصادر التي يعتد بها القانون[14]، كالتشريع أو العرف أو الشريعة الإسلامية، وفي الحالة التي يكون فيها مصدر الإذن قرار إداري، يجب أن يراعي هذا القرار قواعد إصداره شكلا وموضوعا وإلا اعتبر مصدره محرضا في القانون الجزائري والصادر له فاعلا أصليا[15].
2- أن يمارس الإذن في حدود المصلحة التي منح لأجلها[16].
3- أن يستخدم الإذن بحسن نية، وحسن النية ألا يتجاوز الشخص في استعماله الإذن الحدود التي لأجلها منح الإذن.
4- أن يمارس الإذن من الشخص الذي منح له وفي المكان المحدد له، كون الإذن شخصي لا يمكن التنازل عنه، ومقيد بحيز مكاني لا يجوز تجاوزه.
الفرع الثاني
بعض تطبيقات لإذن كسبب من أسباب الإباحة
        من أهم تطبيقات الإذن كسبب من أسباب الإباحة، وبالرغم من تعدد مصادره نجد حق التأديب، وأهمها تأديب القصر وتأديب الزوجة. وممارسة الأعمال الطبية وكذا الألعاب الرياضية وحتى الإذن بارتكاب بعض الجرائم في حدود معينة كإباحة القذف والسب في حالة الدفاع أمام الجهات القضائية. وهو ما نبينه باختصار في النقاط التالية.
أولا: حق تأديب القصر
        في الكثير من الأحيان تقتضي الأحوال شيء من الحزم مع الصغار لحسن تنشئتهم، مما يقتضي تأديبهم لتقويم سلوكهم أو لتعليمهم، وهو التأديب الذي قد ينطوي نوعا ما على بعض الجرائم، كالضرب والشتم أو الحبس ، غير أنها جرائم لا يعاقب عليها القانون، لأن التأديب في مثل هذه الأمور، يعد ضرورة يقرها العرف والشرع والقانون، بل وتأديب القصر ممن له الحق لا يعد فقط حق، بل حسب البعض يعد حقا وواجبا في نفس الوقت، كون القانون المدني يقر حق رقابة القصر " مسؤولية متولي الرقابة" بل ويحمل هؤلاء ما يقع من هؤلاء القصر. غير أن تأديب القصر يتطلب بعض الشروط بحيث إذا تخلف أحد هذه الشروط، وقع الفعل تحت طائلة العقاب،المتمثلة في: 
1- الصفة في القائم بالتأديب:
        وهو شرط ينطوي على شقين، أحدهما يتعلق بمن يستحق التأديب والآخر خاص بمن يباشر هذا الحق، فمن يستحق التأديب هم القصر والأحداث، وهم وفقا للقانون المدني ممن يخضع لرقابة متولي الرقابة، وأما الشخص القائم بالتأديب هم الأشخاص المكلفون برعاية الحدث، سواء كان مصدر التكليف الشرع
أو القانون أو الاتفاق، والمنصب على التربية والـتأديب سواء كان أب أو أم أو جد أو جدة، أو الوصي كما يثبت هذا الحق أيضا للمعلم بالنظر للتلازم بين التأديب والتعليم حتى أنه قديما كان يسمى المعلم مؤدبا، ويمتد الحق حتى لملقن الحرفة أو المهنة، وما عدا ذلك لا يمتد حق التأديب لغير هؤلاء.
2- وقوع ما يوجب التأديب:
        حق التأديب يقضي ألا ينزل بالحدث أذى بغير سبب، ومؤدى التأديب هو انحراف الحدث عن السلوك الواجب، سواء تعلق الأمر بما ينص عليه القانون أو الشرع أو العرف، سواء كان ضرر الانحراف على الغير أو على الحدث ذاته، حتى ولو تعلق بإفطار رمضان أو ترك الصلاة أو مخالطة الأشرار أو امتنع عن تلقي الدروس أو مراجعتها، وما عدا ذلك يمتنع إيذاءه قولا وفعلا، ويعد ذلك ظلما وقد يعاقب عليه القانون[17].
3- التزام حدود التأديب:
        حيث لا يجوز أن يتجاوز التأديب مداه، والتزام مبدأي المشروعية والملائمة، المشروعية وتعني استعمال وسيلة مقبولة للتأديب، فالقتل لا يمكن تصوره وسيلة للتأديب، أو بتر عضو من أعضائه، بل هو ضرب بسيط لا يحدث كسرا أو جرحا أو يترك أثرا ولا ينشأ عنه مرضا، والضرب ذاته قد يباح للبعض ويحظر للبعض الآخر، إذ هو مباح للولي أو الوصي، ومحظور على المعلمين كون القانون في هذه الحالة جعل من الضرب وسيلة غير مشروعة. أما الملائمة فيراد بها التناسب بين وسيلة التأديب والغاية المرجوة منه، لذا فعلى القائم بالتأديب اختيار الوسيلة الأكثر ملائمة من الوسائل المتاحة له للتأديب، فله اللجوء لبعض الوسائل في بعض الظروف، وفي ظروف أخرى وسائل أخرى، وفي كل ذلك يجب مراعاة التوازن، حيث لا يكون هناك اختلال فاحش بين وسيلة التأديب والأمر الذي استوجبه.  
4- حسن النيــــة:
        وهي التزام الشخص الغاية التي تقرر لأجلها حق التأديب، حيث كلما هدف التأديب غاية أخرى غير التي لأجلها تقرر حق التأديب، وقع تحت طائلة العقاب، فلا ضرب للأب أبناءه لحملهم على السرقة
أو التسول أو نكاية في والدتهم، وحتى وإن كانت الغاية مشروعة، فلا يجوز أن تخرج من غاية التأديب في الحالة ذاتها، فالأم المطلقة التي تأدب أولادها لحمل والدهم على دفع النفقة يعد جريمة، بالرغم من أن الغاية مشروعة، فالتأديب غير جائز كلما انحرف عن موجب التأديب.
ثانيا: تأديب الزوجة
        وهو حق يستمد من الشريعة الإسلامية، في حين أن القانون لم ينص عليه صراحة، غير أن الرأي في الفقه والقضاء استقر على قبوله في مصر كسبب من أسباب الإباحة إذا توفرت فيه شروطه[18]، وهي الصفة في التأديب، وأن يكون هناك موجبا لتأديب الزوجة، والتزام حدود التأديب، وأن يكون ذلك أيضا بحسن نية، وهو ما نتناوله في النقاط الربعة التالية.
1- الصفة في التأديب:
        تأديب الزوجة من الحقوق الذاتية الشخصية الخالصة للزوج دون غيره، فلا يجوز لغيره ذلك، سواء كان من أهله أو حتى من أهلها، وهو من الحقوق التي لا تقبل الإنابة، حيث لو قام بذلك وأدبت الزوجة من المنيب عوقب هذا الأخير كفاعل أصلي والزوج كشريك أو محرض حسب الأحوال، ويثبت حق تأديب الزوجة بثبوت رابطة الزوجية ويزول بزوالها، والعبرة بوقت التأديب لا  بوقت اقتراف الفعل الذي أوجب التأديب، فليس للزوج تأديب زوجته بعد الطلاق عن أفعال توجب التأديب اقترفتها وقت قيام العلاقة الزوجية. وصاحب الحق في تأديب الزوجة هو الزوج المسلم الذي تزوج بموجب أحكام الشريعة الإسلامية، ويرى البعض أن سكوت النص عن هذا الحق يمنع هذا الأمر على الزوج. وهو ما جعلنا نرى صعوبة التمسك به في القانون الجزائري.
2- موجب التأديب:
        هو حق مقرر لزوج إذا بدر من الزوجة معصية، وهو كل إخلال بواجب من واجبات الزوجة، سواء كان واجبا عاما من الواجبات الملقاة على الناس جميعا،  أو واجبا خاصا باعتبارها زوجة، وذلك بحسن معاشرة زوجها وطاعته والحفاظ على أمواله ورعاية أولاده، بشرط ألا يكلفها الزوج أمرا مخالفا للدين
 أو الشرع أو القانون، فإن أمرها بمثل هذه الأمور، فلها مخالفته، وإن أدبها يكون قد ارتكب جريمة معاقب عليها قانونا.
3- التزام حدود التأديب: 
تأديب الزوج لزوجته تبعا للشريعة الإسلامية أن يكون بإحدى الطرق الثلاث التالية: الوعظ، الهجر في المضجع، الضرب، لذا فليس للزوج أن يعتمد غير هذه الوسائل مما قد يلحق بالزوجة أذى شديد في نفسها أو في بدنها، وأن يراعي التدرج في وسائل التأديب، الوعظ ثم الهجر وأخيرا الضرب، والموعظة هي التبصرة وإبداء النصح  وحثها على الإقلاع عن المعاصي، وهي الموعظة التي تختلف باختلاف الأحوال ونوع الزوجة والمعصية التي ارتكبتها، كما أن التأديب يراعى فيه مقاصد الإسلام فلا يكون بالكلام الفاحش ولا أمام الملأ، والهجر في المضجع هو الإعراض عن المرأة في فراشها باعتباره مظهرا من مظاهر غضب الرجل وسخطه، ومدة الهجر لدى الفقهاء شهر، ولا يجوز في أن تبلغ الأربعة أشهر في أي حال من الأحوال[19]. ثم الضرب الذي يعد أقصى مراتب التأديب، حيث لا يمكن اللجوء إليه إلا باستمرار العصيان، ودأبت عليه الزوجة، لكن اللجوء مقيد بان يسلك الزوج أولا طريق الوعظ والهجر في المضجع، وألا يكون الضرب مهلكا أو متلفا أو شائنا، أو مبرحا حتى ولو ثبت أن الضرب الخفيف معها لا يجدي، بل أنه في الفقه الإسلامي خلاف حتى حول وسيلة الضرب وعدد الضربات.        
4- حسن النية:
        وهو أن يضع الزوج نصب عينيه الغاية من فعله وهي التأديب، فلا يجوز له ضربها بغضا لها
 أو طمعا في مالها أو انتقاما من أهلها، أو لحملها على ارتكاب معصية، بل ويعاقب حتى ولو بدرت منها معصية تستوجب التأديب، لكن يثبت أن هدف الزوج لم يكن التأديب وإنما غرض من الأغراض السابقة[20].
ثالثا: حق مزاولة الأعمال الطبية
        يقصد بهذا الحق، مزاولة كل عمل طبي ينطوي على المساس بجسم الإنسان إما بهدف علاجه مما يعتريه من مرض، أو لتخفيف آلامه، أو لوقايته من مرض، أو لمجرد الكشف عما يشوبه من خلل، كما يشمل بالإضافة إلى ذلك، كافة الأعمال المرتبطة بذلك والمعتبرة ضرورية لتنفيذ الأفعال السابقة، فلا يشكل جريمة الجروح التي يرتكبها الطبيب ولا استئصاله أعضاء المريض المعيبة، بشرط الالتزام بالأصول الطبية المرعية في هذا الصدد، بل أن الطبيب مخول له حيازة المواد المخدرة وإدخال المواد الضار والمخدرة جسم الإنسان متى كانت ضرورية لممارسة أعماله، ولا يعد مرتكبا لجريمة هتك العرض في حالة الكشف عن عورات مرضاه.  والعلة من تبرير حق مزاولة الأعمال الطبية، وجعلها سببا من أسباب الإباحة، في نظر الفقه مزدوجة، فهي حق لمن يزاوله وذلك باعتراف القانون، وبالتالي وجب الاعتراف بالمشروعية على وسائل استعماله ولو كانت تشكل بحسب الأصل جريمة، ومن ناحية ثانية العلة تكمن في رضاء المريض، فإن كان رضاء المجني عليه لا يعد سببا عاما للإباحة، فإنه في مجال الأعمال الطبية يعد أساسا لإباحة العمل، ويرى البعض أن أساس الإباحة في هذه الحالة، هو انتفاء القصد الجنائي لدى الطبيب، غير أن أساس الإباحة وفق رأي الغالبية، هو تبرير القانون، وعلته الحقيقية رضاء المريض، لذا فعدم رضاء المريض لا يجعل من الفعل مباحا، إلا إذا تعلق الأمر بحالة الضرورة وهنا يكون مانعا من موانع المسؤولية لا سببا من أسباب الإباحة، وهو ما لا نؤيده بخصوص موقف المشرع الجزائري. وشروط ممارسة الأعمال الطبية التي تعد سببا من أسباب الإباحة، أن تكون من الأعمال التي يرخص بها القانون، وأن تكون بقصد العلاج، وأن يرضى المريض بذلك، وأن يراعى في ممارستها الأصول المهنية والقواعد العلمية المرعية لمزاولة المهنة
أو العمل الطبي. وهو ما نفصله اختصارا في النقاط التالية.
1- ترخيص القانون:
        لكي يعتبر ممارسة الأعمال الطبية من أسباب الإباحة، يجب أن يكون من الأعمال المرخص بها قانونا، وأن يكون صادرا ممن رخص له بذلك، ممن يحوزون على المؤهل العلمي الذي يخولهم ذلك.
2- رضاء المريض:
        يتعين لاعتبار العمل الطبي سببا من أسباب الإباحة، أن يكون المريض قد رضي به. وهو شرط طبيعي يقتضيه ما لجسم الإنسان من حرمة تمنع المساس به بدون رضاء صاحبه، حتى ولو كان هذا المساس يتضمن رعاية الجسم وضمان سيره سيرا طبيعيا. والرضاء قد يكون صادرا من المريض نفسه، أو ممن يمثله قانونا، وهو الرضاء الذي قد يكون صريحا كما قد يكون مفترضا، إذا تعذر على المريض نفسه ذلك، كان يكون فاقدا للوعي أو لم يكن له من يمثله قانونا، كما قد يكون ضمنيا من دخول المريض بنفسه غرفة العمليات الجراحية، غير أن الرضا لا يستخلص من مجرد ذهاب المريض إلى المستشفى أو إلى عيادة الطبيب، إذ أن المريض قد يرضى ببعض الأعمال الطبية دون البعض الآخر[21]. غير أن الحصول على رضاء المريض، يقتصر على الأعمال الطبية التي قد تشكل جريمة من جرائم قانون العقوبات، مثل الجرح وإعطاء مواد ضارة أو إحداث عاهة، دون الأعمال الطبية لا تنطوي على جريمة من الجرائم، غير انه لا يعتد برضاء المريض كسبب من أسباب الإباحة في حالات القتل بدافع الشفقة أو بدافع الرحمة، حتى ولو كان ذلك بإلحاح منه، وحتى ولو كان بدافع تخليصه من آلام حادة مبرحة لا يقدر على تحملها، أو لأي سبب آخر مبعثه المريض نفسه، فلا يزال لغاية اليوم مثل هذا القتل غير مبرر بالرغم من وجود بعض الأحكام غير القاطعة بأن البراءة كانت فيها لهذا السبب.
3- قصد العلاج:
        لكي تعتبر الجريمة المترتبة عن ممارسة العمل الطبي مباحة، يجب أن تتم مزاولته بغرض العلاج، ويشمل قصد العلاج القضاء على مرض أو تخفيف الآلام الناشئة عنه، أو الوقاية من مرض، أو الكشف عن أسباب خلل صحي يعتري جسم الشخص، لكن مزاولة هذا العمل لقصد آخر، مثل بتر عضو شخص لتمكينه من التهرب من التزامات الخدمة الوطنية، أو إعطاء مواد مخدرة للشخص بقصد إشباع حاجته من الإدمان، أو بهدف إجراء تجربة علمية جديدة، عد الفعل جريمة معاقب عليها قانونا.
4- مراعاة الأصول المهنية والقواعد العلمية في مزاولة الأعمال الطبية:
        إباحة ممارسة الأعمال الطبية، تظل مرهونة بإتباع الأصول الطبية المتعارف عليها في مجال مهنة الطب، ولا يقصد بذلك تقييد الطبيب بعلاج دون آخر أو بطريقة دون أخرى، وإنما الأصول الأساسية لممارسة المهنة الطبية، مثل تعقيم الأدوات الجراحية، أو أن يجري العملية في ظروف غير مواتية تماما كان يجريها وهو مخمور أولا يستعين بمن يتوجب الاستعانة بهم، أو أن يرتكب سلوك غير مغتفر مثل نسيان أداة جراحية بداخل جسم المريض. وفي مثل هذه الحالات يسأل الطبيب عن جريمة غير عمدية، قوامها الخطأ القائم على الإهمال أو عدم الاحتياط، ومعيار الخطأ هو المعيار المهني أو الفني الذي سنتناوله عند دراسة أنواع الخطأ ودرجاته في إطار دراسة الركن المعنوي للجريمة، وبالضبط في الجرائم غير العمدية أو جرائم الخطأ.
رابعا: إباحة جرائم القذف والسب في بعض الظروف
        أباح القانون في بعض الأحيان ارتكاب جرائم القذف والسب في حالات معينة ارتأى فيها أن المصلحة التي تعود من إباحة هذه الأفعال، تفوق المصلحة من عقاب الجاني، فبعض الدول تعترف بالقذف والسب في ذوي الوظائف العامة كنوع من ممارسة الرقابة الصحفية[22]، والحالة الثانية إباحة القذف والسب أمام جهات القضاء ممارسة لحق الدفاع. غير أنه وممارسة لحق الدفاع أمام المحاكم، يبيح المشرع للخصوم الأقوال التي تشكل بحسب الأصل جريمة قذف أو سب، حماية لحق الدفاع أمام المحاكم الذي يفوق في درجته المصلحة من عقاب مرتكبيها، كون حق الدفاع مقرر ليقود في النهاية إلى كشف الحقيقة التي تعد مبتغى أجهزة العدالة وفكرة العدالة في ذاتها. وفي القانون المصري تم النص على هذه الحالة صراحة، وذلك بموجب نص المادة 309 من تقنين العقوبات التي نصت على أنه:" لا تسري أحكام المواد 302 و303 و305 و306 و308 على ما يسنده أحد الخصوم لخصمه في الدفاع الشفوي أو الكتابي أمام المحاكم فإن ذلك لا يترتب عليه إلا المقاضاة المدنية أو المحاكمة التأديبية."، ويدخل في معنى الخصوم المحامون وأن يكون ذلك بمناسبة دعوى معروضة أمام الجهات القضائية، بمختلف أنواعها لكن بشرط أن يكون الأمر يقتضيه حق الدفاع فعلا وأمر تقدير ذلك متروك لسلطة الموضوع.
خامسا : ممارسة الأعمال الرياضية
        ويقصد بذلك الألعاب الرياضية العنيفة التي تفترض ممارسة استعمال القوة والعنف على جسم المنافس وهو حال كل الرياضات القتالية، فيأتي فيه الفاعل فعلا تتوفر فيه جميع مقومات الإيذاء المجرم، غير أن ما يحدث في هذا الإطار من عنف وإصابات يكون مبررا ومباحا طالما تم في الحدود المقررة لممارسة اللعبة، غير أنه هناك نوع من الألعاب الرياضية غير العنيفة مثل كرة القدم أو كرة السلة أو الغولف والتنس والسباحة، فهنا تطبق القواعد العامة في حالة حصول عنف، فإن كانت الجريمة تحتمل وصف الجريمة غير العمدية يسأل عنها الفاعل المهم إعمال القصد.
المطلب الثالث
الدفاع الشرعي ( المشروع)
        يعد الدفاع الشرعي من أقدم أسباب الإباحة التي عرفتها القوانين الجنائية عبر العصور، كونه سبب يستند لغريزة طبيعية في النفس البشرية التي تسعى دوما للدفاع عن بقاءها، كما أنه سبب يبرره منطق الأمور، إذ لا يمكن تصور إلزام الناس بتحمل الاعتداءات التي يتعرضون إليها، خاصة وأننا بصدد موازنة بين تصرفين أحدهما غير مشروع وهو الاعتداء على الحق، والثاني مشروع، وهو حماية هذا الحق، والمشرع يفضل دوما حماية الحق، بل أن نصوص قانون العقوبات ذاتها هدفها الرئيسي ذلك. وحسب نظرية هيجل الجدلية، فالدفاع الشرعي يستمد مشروعيته من فكرة أن الاعتداء على حق يحميه القانون  هو نفي لهذا الحق وخرق للقانون، ورد هذا الاعتداء هو إثبات للحق وإحقاق لسلطة القانون، الأمر الذي أدى في النهاية إلى اعتبار الدفاع الشرعي حق وواجب في نفس الوقت[23]. غير أن أهمية الدفاع الشرعي تقتضي منا قبل أن نتناول شروطه في فرعين، نتناول أولا أساس وطبيعة الدفاع الشرعي.
أساس الدفاع الشرعي:
        الدفاع الشرعي نظام يضرب بجذوره في أعماق التاريخ، حيث عرفته كل الشعوب في مختلف مراحل تطورها، لأنه عبارة عن قانون من قوانين الفطرة، فليس من المعقول والمنطق أن يحمل الإنسان عبء تحمل الاعتداءات الواقعة عليه، خاصة في الحالات التي يتعذر فيها عله مراجعة السلطات المختصة في الوقت المناسب، وكان قادرا على رد العدوان بنفسه، لذا يقال أن المشرع لم يقرر مبدأ الدفاع الشرعي وإنما أقره، أي أنه استبقاه وضبط آثاره، وهو لا يقتصر على القانون الجنائي فقط، بل مقرر في بعض فروع القانون الأخرى، مثل القانون الدولي[24]. وبالرغم من اعتبار الدفاع الشرعي من البديهيات القانونية، إلا أن الرأي لم يستقر حول أساسه، فهناك من علله بتخلف الركن المعنوي، حيث أن العدوان يعد إكراها يعطل حرية الاختيار، ما يدفع الشخص لرد العدوان تلقائيا كون إرادته تصبح غير معتبرة من الناحية القانونية، والبعض الآخر يرى أن المدافع في دفاعه عن حقه أو حق غيره تصبح غايته ملتئمة مع غاية القانون وهي حماية الحقوق والمصالح، وهما رأين غير مقبولين من قبل البعض، حيث أن القول بأن الدفاع الشرعي نوع من أنواع الإكراه، فإن الرد عليه هو أن الإكراه كمانع من موانع المسؤولية في حقيقة الأمر لا ينفي الصفة التجريمية عن الفعل بل كل ما يرتبه هو امتناع المسؤولية الجنائية دون المدنية. كما أنه كثيرا ما يحتفظ الشخص المدافع بحرية الاختيار سيما في الحالات التي يكون فيها الاعتداء غير جسيم، أو عندما يكون واقعا على غير الشخص المدافع، في حين الرأي الثاني ما هو في حقيقة الأمر سوى القول بنبل الغاية أو الباعث لدى المدافع، في حين أنه لا مجال للبواعث والغايات مهما كان نبلها في قانون العقوبات وهو من المبادئ القانونية المستقرة في قانون العقوبات، وبالتالي فالبواعث لا تنفي القصد الجنائي، كما أن انتفاء الركن المعنوي للجريمة لا يعني بالضرورة إباحة الفعل. لذا نجد بعض الفقه يعتبر الدفاع الشرعي في حقيقة الأمر مقابلة الشر بالشر، وهو تعليل يرى البعض أنه ضعيف أيضا، لأنه يجعل الدفاع عقابا على المعتدي، وهو أمر غير صحيح في القانون الجنائي، كما أن اعتبار الدفاع الشرعي شر كالعدوان يقتضي بأنه جريمة كجريمة العدوان، خاصة أيضا وأنه لا مقاصة في الإثم، فالقانون لا ينفض يده في حالة التشاجر، فيعاقب الجميع وكل منهم ضارب ومضروب. 
        في حين يرى بعض الفقه، أن العدوان إنكار لحكم القانون أو نفي له، وأن الدفاع نفي لهذا النفي، وهو بذلك إثبات أو إقرار لحكم القانون، ومن هنا كانت إباحته، غير أنه رأي يشوبه النقص أيضا، حيث أن لو كان رد العدوان إعمالا للقانون، لامتنع بعد ذلك عقاب المعتدي كون حكم القانون نفذ فيه، غير أنه يعاقب من جديد مما ينفي الرأي السابق، وإلا عوقب عن الفعل الواحد مرتين وهذا غير مقبول جنائيا، كون المتفق عليه جنائيا أن الدفاع الشرعي مهما كانت جسامته، فإنه لا يحول دون عقاب المعتدي بموجب القانون.
        ومن الفقه، من رأى أن فعل الدفاع عبارة عن إنابة الدولة في ممارستها سلطتها البوليسية، كون منع الجرائم من المهام الأساسية للدولة، فإن تعذر عليها التدخل في الوقت المناسب لمنع وقوع جريمة على وشك الوقوع، فإنها تنيب أي فرد للحلول محلها في منع وقوعها، غير أنه رأي لم يقبل أيضا، حيث أن المدافع في حالة الدفاع الشرعي يتاح له اقتراف أفعال لا تباح لرجال السلطة العامة، وهو ما يعني فساد فكرة الإنابة ذاتها، لأن الإنابة تقتضي ألا يباح للنائب ما يمنع على الأصيل.
        لذا من الراجح فقها أنه في حالة الدفاع الشرعي يقع التعارض بين حقين، أحدهما خاص بالمعتدى عليه، والآخر خاص بالمعتدي، والحقان يتكافآن من الناحية المجردة، فكلاهما جدير بالحماية، غير أنه لما كانت التضحية بأحد الحقين لازمة ولا مناص منها، لذا فحق المعتدي أولى بالتضحية، ويرجح حق المعتدى عليه لأنه برده يكون قد صان حقين، حقه شخصيا وحق المجتمع، وهذا الأخير حق جوهري وصيانته أولى وواجبة أيضا وفيه تكمن على الإباحة إلى حد كبير[25].   كما أنه هناك من رد أساس الدفاع الشرعي لفكرة العقد الاجتماعي، حيث يتنازل الأفراد بموجب هذا العقد عن حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم لصالح الدولة، وإن وقع اعتداء على أحد الأشخاص، ولم يكن بمقدور الدولة الدفاع عنه، فإن هذا الحق يعود على حالته السابقة ما قبل إبرام العقد، ويتولى الشخص بنفسه الدفاع عن نفسه، وانتقد هذا الرأي بان فكرة العقد الاجتماعي ذاتها مشكوك فيها تاريخيا.
طبيعة الدفاع الشرعي:
        تحديد طبيعة الدفاع الشرعي، شأنه شأن تحديد أساسه، أثارت خلافا فقهيا، غير أن السائد لدى جمهور فقهاء القانون الجنائي أنه حق، غير أنه حق لا يقابله التزام في ذمة شخص معين، بل هو حق عام مقرر قبل الكافة، فلا يجوز لأي منهم أن يحول دون استعماله، ومن الفقه من يعتبر الدفاع الشرعي واجب، إلا أنه ليس واجبا قانونيا فرضه المشرع ورتب على الإخلال به جزاء، وإنما هو واجب اجتماعي يفرضه الحرص على صيانة الحقوق ذات الأهمية الاجتماعية، ومن الفقه من ينكر الوصفين، فلا يعتبره حقا لأنه لا يقابله التزام، ولا يعتبره واجبا لأنه لا يقابله جزاء عند عدم القيام به، وإنما هو مجرد رخصة. في حين يرى البعض، أنه ليس للدفاع الشرعي حكما واحدا، بل هو يتردد بين الأحكام الثلاثة السابقة، فهو في أغلب أحواله حق، في حين يعد واجبا في بعض الأحيان، ورخصة في أحيان أخرى، فهو حق إذا وقع على حق مطلق للمعتدى عليه، ويكون رخصة إذا كان المدافع ليس بالشخص المعتدى عليه، ويكون واجبا إذا كان القانون يفرض على المدافع حماية الحق المعتدى عليه أو يفرض عليه عدم التفريط فيه،  كرجل السلطة العامة متى كان ذلك استطاعته، فإن لم يفعل يسأل إداريا كما قد يسأل جنائيا. كما أن دفاع الشخص عن حياته ليس مجرد حق له بل هو واجب عليه، والزوجة يقع عليها واجب الدفاع على عرضها إذا حاول الغير اغتصابها، حيث أن القانون يعاقبها إذا مكنت الغير من نفسها. 
        غير أنه طبقا للمادة 39/2 من تقنين العقوبات الجزائري، الدفاع الشرعي هو حق يقرره القانون لمصلحة المدافع بأن يستعمل القوة اللازمة لرد الاعتداء الواقع على نفسه أو نفس الغير أو ماله أو مال الغير، وهو حق مقرر في مواجهة الناس كافة لا يحق رده أو مقاومته، غير أن ممارسة هذا الحق على الوجه القانوني يقتضي مراعاة جملة من الشروط التي قررها النص الذي أقر هذا الحق، منها ما يتعلق بفعل العدوان المستحق للرد بطريق الدفاع المشروع، ومنها ما يتعلق بفعل الدفاع ذاته، وهو ما نتناوله في الفرعين  التاليتين. على أن نتناول في الثالث حالة خاصة من حالات الدفاع المسماة فقها حالات الدافع الممتازة، والتي تضمنتها المدة 40 من تقنين العقوبات الجزائري.
الفرع الأول
الشروط المتطلبة في فعل العدوان
        حتى يعتد القانون بفعل الدفاع الشرعي، ويجعل منه سببا من أسباب الإباحة، يجب أن يتوفر في فعل العدوان ثلاثة شروط أساسية، وهي أن يكون العدوان عبارة عن خطر حال وغير مشروع وان يهدد النفس
 أو المال. وهو ما نبين تفصيله على النحو التالي. غير أنه قبل ذلك، يقتضي الدفاع الشرعي بحكم المنطق والضرورة العقلية وجود عدوان، كون العدوان المقدمة اللازمة لفعل الدفاع، ولولاه لما سمي بالدفاع، حيث أن الدفاع يقتضي أن يكون هناك عدوان، والعدوان في جوهره هو اعتداء على حق أو تهديد له، ومن حيث حكمه هو عمل غير مشروع، صادر عن إنسان، كون المشروعية من عدمها تنصرف لأفعال البشر، وللمسألة أهمية كبيرة كون أفعال غير الإنسان لا تقتضي اللجوء للدفاع الشرعي، حيث أنه إذا كان العدوان راجع للطبيعة أو لحيوان فإن الدفاع في هذه الحالات لا يستند على فكرة الدفاع الشرعي، بل لفكرة حالة الضرورة.
أولا: العدوان خطر حال ( خطر محدق أو قائم)
        وهو الشرط الذي يتضح بجلاء من نص المادة 39 التي استعملت عبارة " الضرورة الحالة" بمعنى أن يكون فعل العدوان محدقا وعلى وشك الوقوع، أو وقع ولم ينته بعد، أي خطرا قائما[26]. والخطر المحدق على وشك الوقوع هو الخطر الذي أصبح أمر حدوثه أمرا متوقعا ومنتظرا كخطوة تالية مباشرة- الأمر الذي يعني استبعاد كل الأخطار المستقبلية لأن مآل تحققها أمر محتمل الوقوع- أو أن يكون خطر قد وقع ولم ينته بعد، وفي مثل هذه الحالة يظل الخطر قائما ومستمرا طالما لم تتحقق الجريمة كاملة على الوجه المحدد لها في النموذج التشريعي، لذا ففي الجرائم المستمرة يظل الخطر حالا، والدفاع ضده في أي لحظة دفاعا مشروعا.
ثانيا: أن يكون خطر غير مشروع
        قرر الدفاع المشروع أصلا لرد الاعتداءات المشكلة لجرائم، والجريمة دوما تعد فعلا غير مشروع، لذا يجب أن يكون الخطر الحال الذي يتهدد الشخص خطرا غير مشروع مهدد لحق يحميه القانون – النفس أو المال- حتى وإن كان مصدر الخطر شخص غير مسؤول جنائيا، كونه سبق القول أن أسباب الإباحة ظروف موضوعية عينية وليست شخصية، لذا ينظر فيها للأفعال لا للأشخاص.    غير أنه يجب استبعاد الأخطار الوهمية التي يتوهما الشخص.
ثالثا: خطر مهدد للنفس أو المال
يجب أن يكون الخطر الحال غير المشروع مهددا لنفس الشخص أو نفس غيره أو مال الشخص
 أو مال غيره، دون أن تحدد المادة 39 نوع هذه الجرائم مما يجب معه أخذها بصفة عامة دون حصر، وإن كانت مسألة الجرائم الواقعة على الشرف والاعتبار أثارت نوعها من الجدل[27]
وبتوفر هذه الشروط، لا قيمة لجسامة العدوان، إذ في القانون الجنائي لا فرق بين العدوان الجسيم والعدوان اليسير، فكلاهما جائز دفعه عن طريق الدفاع الشرعي، وإن كان هناك فرق فهو ينحصر في كمية الدفاع والقدر الواجب فيه، لا في أصل الدفاع وما إن كان واجبا أم لا. ويستوي العدوان أن يكون فعلا إيجابيا أو فعلا سلبيا، فالعدوان مناط الدفاع، ولا عبرة بطبيعة النشاط في العدوان، وإن كان العدوان في غالب الأحيان يقع بفعل إيجابي كالضرب والشتم والحرق والقتل والسرقة، إلا أنه يمكن أن يقع أيضا بالترك أو الامتناع، أي بنشاط سلبي، كامتناع الأم عن إرضاع ابنها والطبيب عن إسعاف المريض وامتناع من دخل مسكن عائلة برضاها ثم رفض الخروج بطلبها، فهنا يجوز إكراه الشخص بفعل يشكل جريمة كإرغام الأم بالقوة على إرضاع ابنها أو خطفها منها لإرضاعه وتهديد الطبيب بالقتل إن لم سعف المريض واستخدام القوة اللازمة لإخراج الشخص الذي رفض الخروج من المنزل طوعا. غير أن الشرط الأساسي أن يكون العدوان يشكل جريمة، إذ لا يجوز الدفاع الشرعي ضد الأفعال المباحة، كما يمتنع عن الأفعال غير المشروعة إن لم تشكل جرائم، إذ لا دفاع عن فعل ضد شخص يؤدي واجبا أو يمارس رخصة أو حق، إذ لا يجوز لأب الزوجة أو أخوها من رد تأديب الزوج لزوجته وإلا عوقب، ولا مقاومة رجل السلطة العامة الذي ينفذ أمر القانون أو أمر الرئيس، مثل تفتيش المسكن أو إلقاء القبض، كما لا يجوز الدفاع ضد فعل غير مشروع في فرع من فروع القانون غير الجنائية، لكنه لا يشكل جريمة في القانون الجنائي، مهما كان خطر هذا الفعل، ولا يجوز رده بفعل يعد جريمة، كون الدفاع الشرعي عبارة عن جريمة في حقيقتها موجه لرد جريمة يمثلها العدوان[28]. لذا فلا يجوز الدفاع ضد الأعمال المنافية للأخلاق الدينية والأعراف الاجتماعية متى كانت لا تشكل جريمة من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات، وكذا كل الاعتداءات المنصوص عليها في الفروع القانونية الأخرى، وما عدا ذلك لا يهم الجريمة التي تشكل عدوان. 
رابعا: ما لا يؤثر في قيام حالة الدفاع الشرعي
        وعموما كل ما يشترط في فعل العدوان أن يشكل جريمة من جرائم قانون العقوبات، ولا عبرة بعد ذلك بنوع هذه الجريمة، ولا بالأحوال الخاصة بشخص المعتدي، ولا بالنظر لما يتوفر لديه من ظروف فيما بعد قد تمنع مسائلته جنائيا أو عقابه. كما لا يشترط أن تكون جريمة المعتدي على قدر معين من الجسامة، إذ يجوز الدفاع الشرعي ضد الجرائم بمختلف درجاتها، سواء كانت جنايات أو جنح أو مخالفات، ولا يشترط أن تكون الجريمة عمدية، حيث يجوز أيضا الدفاع الشرعي ضد الجرائم غير العمدية، كما لا يشترط أن يكون الركن المادي قد اكتمل، بل يجوز الدفاع في حالة الشروع، بل الأصل في الدفاع الشرعي أنه يوقف الجريمة عند حد الشروع، لأن الحكمة من إباحته هي كف العدوان والحيلولة دون تحقق نتائجه المحظورة قانونا، لذا فتطبيقات الدافع الشرعي في أغلب حالاته أن يواجه الجريمة وهي في مرحلة الشروع، غير أن المشرع يقيد الجريمة بأن تكون على النفس أو المال. ويجوز الدفاع حتى ولو كان الشخص سبق وان استفز المعتدي، إذ لشريك الزوجة الزانية حق الدفاع عن نفسه ضد الزوج الذي فاجأهم بالزنا ويجوز الدفاع من امتنعت مسؤوليته أو توفر لديه مانع من موانع العقاب ومن توفرت لديه الحصانة الدبلوماسية. وأن عدم الخضوع لقضاء الدولة لا يمنع من قيام حالة الدفاع الشرعي، ففي الحالات المستثناة من مبدأ الإقليمية، لا يمنع من قيام حالة الدفاع الشرعي ضدهم، فحظر محاكمتهم عن الجرائم التي يرتكبونها على إقليم الدولة، لا يحول دون تمتع ضحاياهم بحق الدفاع الشرعي. 
        كما أن تعليق رفع الدعوى العمومية على قيد لا يحول دون ممارسة حق الدفاع الشرعي، وهو قيد من طبيعة إجرائية، لكنه لا يغير من الطبيعة الموضوعية للفعل المرتكب، فإن كان يشكل جريمة جاز للشخص المعتدى عليه أن يرده عن طريق الدفاع الشرعي، من قبل المعتدى عليه وحتى من قبل عامة الناس أن يردوه عن طريق القوة العامة، فصد الابن بالضرب عن سرقة مال أبيه حتى لو علم بأنه يسرق مال أبيه يعد سببا من أسباب الإباحة، أو شروع أحد نواب البرلمان في قتل شخص آخر، يجوز للمعتدى عليه وكل الناس رده بالقوة بفعل يشكل جريمة حتى وغن كانت جريمة قتل. كما أن امتناع مسؤولية الشخص المعتدي لا يحول دون الدفاع الشرعي ضده، كالمجنون والصغير ومن به علة عقلية أو غيبوبة أو سكر كون امتناع المسؤولية لا يبيح اقتراف الجرائم، فاغتصاب مجنون لفتاة أو شروع طفل في حرق المحاصيل يوقف عن طرق فعل يشكل جريمة ويعد ذلك دفاعا شرعيا. بالرغم من أنه هناك بعض الفقه من يرى أن الدفاع الشرعي ضد الممتنعة مسؤوليته غير جائز قانونا، بدعوى أنهم غير مخاطبين بأوامر ونواهي القانون وبالتالي أفعالهم لا حكم لها قانونا، ولا يمكن وصفها بأنها أفعال غير مشروعة، وبالتالي تفادي أخطار هؤلاء لا يستند إلى أسباب الإباحة، بل إلى حالة الضرورة، وهو رأي لا يؤيده البعض بكونه أقحم على عنصر اللامشروعية عنصر غير لازم قانونا، وهو أن يكون الفاعل مسؤولا وهو أمر لا مدخل له كون اللامشروعية مسألة موضوعية بحتة، فكل سلوك محظور هو غير مشروع ايا كان مرتكبه، وأنه ليس في قواعد القانون ما يبيح لغير المسؤول جنائيا أن يرتكب ما جرمه القانون.
        كما أن العذر القانوني لا يعطل الدفاع الشرعي، والعذر مثل مفاجأة الزوج لزوجته متلبسة بجريمة الزنا، أو تجاوز حدود الدفاع الشرعي بحسن نية، والعذر القانوني لا يبيح الفعل بينما يخفف عقوبته، وبالتالي هذه الأعذار لا تحول دون حق ممارسة الدفاع الشرعي، مثل الحدث والشخص الذي تجاوز حدود الدفاع الشرعي بحسن نية، كون فعله في هذه الحالة ينقلب إلى جريمة، وأن الراجح أيضا للزوجة المتلبسة بالزنا وشريكها الدفاع عن نفسيهما ضد الزوج الذي فاجأهم بجريمة الزنا، بالرغم ممن يعارض ذلك على اعتبار أن الزوجة وشريكها ابتدءا باستفزاز الزوج وبالتالي لا يحق لهما الدفاع عن نفسيهما. كما أن امتناع العقاب  أو توفر مانع من موانع العقاب لدى المعتدي لا يحول دون حق ممارسة الدفاع الشرعي، كون الفعل رغم المانع يظل يشكل جريمة، والعبرة في مجال الدفاع الشرعي هي بطبيعة الفعل لا باستحقاق مرتكبه من الناحية الواقعية للعقاب من عدمه. وبالتالي يجوز الدافع ضد من امتنع عقابه.
        وهناك مسألة العدوان الناشئ عن جريمة مشمولة بأحد أسباب الإباحة، ويرى الفقه بأن كل جريمة مشمولة بسبب من أسباب الإباحة لا يجوز ممارسة حق الدفاع الشرعي ضد مرتكبها،  كون الدافع الشرعي قرر في مواجهة الاعتداءات غير المشروعة، في حين الجريمة المشمولة بسبب من أسباب الإباحة رفعت عنها الصفة التجريمة، وتطبيقا لذلك لا يجوز للابن الذي يؤدبه والده أن يدافع عن نفسه، ولا للمعتدي أن يدافع عمن اعتدى عليه، تطبيقا لقاعدة " امتناع الدفاع عن الدفاع" ، بشرط ألا يكون الأول قد تجاوز حدود الدفاع الشرعي، كون التجاوز يبيح الدفاع[29].
        غير انه ثار جدل حول الدفاع ضد رجال الضبط القضائي، فإنه بالرغم من الجدل الفقهي الذي أثاره الموضوع، في الحالة التي يقومون فيها بعمل غير مشروع، فمن الفقه من رأى تفضيل النظام العام وافتراض شرعية أعمال رجال الضبط القضائي وبالتالي لا يجوز ممارسة الدفاع الشرعي ضد أعمالهم حتى ولو كانت غير مشروعة، ويعاكس اتجاه آخر ذلك، بحجة حماية الحقوق والحريات التي كفل الدستور حمايتها وبالنظر أيضا لذاتية واستقلال قانون العقوبات، واتخذ البعض موقف وسط معملا معيار المشروعية الظاهرة.
        وهناك وضع يتعلق بمدى جواز الدفاع ضد جريمة يتخلف فيها الركن المعنوي، أي أن يكون مرتكبها حسن النية، فمثل هذا الفعل من الناحية القانونية لا يرقى لمرتبة الجريمة، وتخلف الركن المعنوي قد يكون تاما فلا يصحبه لا العمد ولا الخطأ، كمن يأخذ شيء لا يملكه معتقدا بأنه يخصه لشدة التشابه بين الشيئين،
 أو كمن يمزح من آخر ويهم بضربه مازحا، فهنا الراجح امتناع الدفاع الشرعي ضد هذا الشخص. على عكس حالات الإهمال الذي يثير خطر تصوري أو حقيق له أسباب معقولة، كمن يطلق العيارات النارية اتجاه الجمع في مناسبة احتفالية، غير أن القضاء الفرنسي لغاية اليوم لا يزال يرفض فكرة الدفاع ضد الجرائم غير العمدية.
الفرع الثاني
الشروط المتطلبة في فعل الدفاع        
        فعل الدفاع في حقيقته عبارة عن جريمة يباح للشخص ارتكابها لدرء الأخطار غير المشروعة الواقعة عليه أو على غيره، لذلك وإن أجاز القانون لأسباب معينة ارتكاب مثل هذه الجرائم، فهو قيدها بقيود حتى لا تنقلب إلى أفعال غير مشروعة، والدفاع هو الوجه المقابل للعدوان، أو هو رد الفعل الفردي على العدوان في الحالات التي يعجز فيها القانون عن حماية الحق المعتدى عليه بطريق آخر، وهو الفعل الذي لا يهتم به القانون إلا إذا كان يشكل جريمة، فإن تجرد من ذلك كان مباحا أصلا من الناحية التي يقتضيها مبدأ الشرعية الجنائية، ولا حاجة عندئذ للبحث عن شروط الدفاع، فمثلا إذا اندفع شخص لقتل آخر، وحاد هذا الأخير عن طريق، مما جعل المعتدي يصطدم بلوح زجاجي فجرحه أو سقط في هوة ومات أو على سلك كهربائي فصعقه التيار أو على السكة فدهسه القطار فإن فعل المدافع عبارة عن فعل مباح لا مجال للبحث فيه عن مدى توفر الشروط المتطلبة للدفاع في مجال الدفاع الشرعي، لأنه ارتكب أصلا فعل مباح، في حين أن الدفاع الشرعي يتطلب الرد عن فعل يشكل في نظر قانون العقوبات جريمة، سواء تمثلت في فعل إيجابي كالضرب والجرح والقتل، أو بسلوك سلبي، إذ ليس في القانون ما يمنع أن يكون الدفاع بسلوك سلبي، كمن يعتدي على شخص فينقض عليه كلبه ولا يتدخل لرد الكلب بل يتركهما يتصارعان لينجو بنفسه، غير أن الأفعال الإيجابية مما يغلب وقوعها في الواقع فإن كان القانون قد أباح القتل في فعل الدفاع فليس هناك ما يمنع من إباحة ما هو أدنى من القتل، مما جعل البعض أن الدفاع الشرعي يجوز أيضا بالسرقة والتزوير وإصدار شيك بدون رصيد، كون المسألة لا تتعلق بمشروعية الوسيلة بل تتعلق بمدى لزومها لدرء العدوان، كما يجوز الدفاع بجريمة غير عمدية، كمن يطلق رصاصة بغرض الترهيب فقط فتصيب المعتدي وتقتله.

لكن حق الدفاع الشرعي ثابت أساسا للشخص المعتدى عليه، وكذا لغيره إذا كان العدوان واقعا على النفس أو المال وسواء كان جسيما أو يسيرا، فالعبرة ليست بالشخص المعتدى عليه بل بالحق المعتدى عليه وكان حسب الأصل أن يتولى القانون نفسه الدفاع عن هذا الحق، ولما قصرت وسائل القانون أطلق حق الدفاع الشرعي للمعتدى عليه بوصفه أحق الناس بذلك، ثم خوله لغيره من الناس من باب الحسبة، مما يؤدي إلى حماية الحق وزجر العدوان، لذا لا يشترط أن تكون هناك صلة بين المعتدى عليه والمدافع، ولا رضاء المجني عليه بدفاع الغير عنه، بل لا يعتد حتى بقبوله العدوان إلا بما يتعلق بالحقوق التي  يجوز له التصرف فيها كالحقوق المالية، أما الحقوق الأخرى التي لا يجوز التصرف فيها كالحق في الحياة أو سلامة البدن فإنه يجوز للغير أن يدافع عنها حتى وإن كان المعتدى عليه راضي بالعدوان. وعلى العموم، فعل الدفاع مقيد بشرطين أو قيدين،  وهما شرطي اللزوم والتناسب.   
أولا: شرط اللزوم
        يقصد بشرط اللزوم، أن يكون فعل الدفاع – الذي هو في الأصل جريمة- السبيل الوحيد لرد الاعتداء، وبالتالي كلما كان بإمكان الشخص أن يسلك سبيل آخر غير مجرم انتفى شرط اللزوم وبالتالي انتفت الإباحة عن فعل الدفاع. وبمعنى آخر كون سلوك الجريمة لازما، إذا كان العدوان قائم ومنذر بالتفاقم
أو الاستمرار، ولم يكن أمام المدافع من سبيل لدرئه غير الفعل الذي ارتكبه، وإلا فقد الدفاع مبرراته، ويجعل منه عدوان يسأل عنه قانونا طبقا للقواعد العامة. فإذا ثبت أن المجني عليه أو الغير كان في إمكانه رد الاعتداء بوسيلة أخرى لا تعد جريمة، فإن الدفاع عن طريق الجريمة يكون غير لازم، وأن يكون الدفاع معاصرا للاعتداء وهو ما بينته المادة 125/5 من تقنين العقوبات الفرنسي، إذ تفادي الخطر لا يكون إلا عند وقوع الخطر لا قبله ولا بعده. وأن العدوان المستقبلي لا يبح فعل الدفاع، حتى ولو بدت بوادر احتمال الاعتداء في وقت قد يكون قريب كما قد يكون بعيد، فلا عدوان ما لم يبادر المعتدي في الاعتداء، كأن يكون السارق يجول حول المنزل أو يترصد حركات الشخص، فهنا العدوان لم يقع، لكن في المقابل يمكن للمدافع يتخذ الاحتياطات اللازمة، مثل إقامة الأسوار أو وضع الزجاج أو الأسلاك الشائكة عليها أو كهربة الأقفال، أو إطلاق الكلاب الشرسة في حديقة المنزل، فتعد في نظر بعض الفقه من الوسائل التي تدخل في نطاق الدفاع الشرعي عن النفس أو المال،  بشرط ألا تعمل عملها إلا عند الاعتداء، وعلى أن يكون ضررها متناسب مع الاعتداء الحاصل، وهو رأي لا يوافقه البعض كونه يقحم في الدفاع الشرعي ما ليس منه، كون الدفاع  الشرعي أصلا يقتضي سبق العدوان وإلا كان دفاعا مستقبلا، وأن الدفاع الشرعي يبيحه الدفاع الحال فقط دون الدفاع المستقبلي. كما أن انتهاء العدوان ينهي انتهاء فعل الدفاع، كون الدفاع الشرعي شرع لرد العدوان، وأي رد بعد انتهاء العدوان يعد فعلا من أفعال الانتقام، وتتحدد لحظة انتهاء العدوان في العادة ببلوغ العدوان غايته، أو بوقوفه عند حد الشروع، ولحظة انتهاء العدوان في العادة ما تتحدد بالرجوع إلى النص، فهو الذي يحدد لنا نوع الاعتداء ويرسم معالمه مما يتحدد معه صراحة أو ضمنا بداية ونهاية الاعتداء، فالضرب باصطدام الجسم بجسم آخر وفي الجرح بتمزيق الأنسجة، وفي الحريق بوضع النار... كما يختلف بحسب الجريمة المؤقتة والجريمة المستمر، والجريمة البسيطة والجريمة المتتابعة الأفعال، إذ في الجرائم المستمرة يظل الاعتداء قائما طالما ظلت الجريمة المستمرة كالاختطاف والاحتجاز، فطيلة هذه الفترة يمكن ممارسة الدفاع الشرعي، وبالتالي مسألة بداية وانتهاء الاعتداء في حقيقة الأمر لا ينظر إليها نظرة قانونية بحتة، وإنما ينظر إليها نظرة واقعية، أي انتهاء العدوان ينظر إليه من حيث الواقع لا من حيث القانون.
        كما أن العبرة في انتهاء العدوان هي بانتهاء الفعل أو السلوك، لا بتحقق النتيجة، كما ينتهي العدوان عند توقف الجريمة عند حد الشروع مثل مفاجأة أصحاب البيت السارق فيلقي الأموال ويهرب، أو وجد الخزانة فارغة فولى مدبرا فيصادفانه ويهرب، فهنا الجريمة خابت ووقفت عند حدود الشروع المعاقب عليه، وبالتالي العدوان انتهى وكل دفاع ضده يعد جريمة في حد ذاته.
        ومن الشروط التي تجعل من الدفاع لازما، هو أن يتعذر رد العدوان إلا بفعل الدفاع الذي يعد في حقيقة الأمر جريمة، وبالتالي إن أمكن رده عن طريق آخر غير هذا الفعل المشكل لجريمة فلا دفاع، كون الدفاع أقره المشرع لأنه يأخذ حكم الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، غير أنه هناك حالات أثارت جدلا فقهيا كبيرا، منها إمكانية الهرب، أو الاحتماء بالسلطة العامة أو تفادي العدوان قبل أن يقع.       
1-إمكان اللجوء إلى السلطة العامة:
        يرى بعض الفقه أن الدفاع الشرعي ذو صفة احتياطية، وبالتالي لا يلجا إليه إلا عند عجز السلطة العامة عن حماية الحق المعتدى عليه، فإن كان اللجوء إليها ممكنا فلا محل للدفاع الشرعي، بشرط أن يكون للمتهم الوقت الكافي للجوء لهذا الإجراء، وما لم يكن في ذلك تحمل للعدوان وأضراره لغاية وصول رجال السلطة العامة، ومعنى ذلك أن يكون اللجوء إلى السلطة العامة قبل البدء في العدوان، إذ لا محل لترك المتهم في المنزل والذهاب للسلطة العامة، أو ترك الشخص يتلف الزرع لغاية وصول السلطة العامة[30].
2- إمكانية الهرب من المعتدي:
        يتساءل البعض إن كان بإمكان المعتدى عليه الهرب من الجاني ؟ وهنا يرى البعض أنه لا يلزم الشخص بفعل يحط من قدره، والهرب يشين ومعرة فلا يجوز فرضه على من تعرض لعدوان غيره، وعلى المعتدي أن يتحمل مغبة عدوانه، غير أنه حق خيار مقرر للمدافع، إلا أن الهرب ذاته يكون معاقب عليه ومحظور لبعض الفئات مثل العسكريين، كما أن الهرب في بعض الأحيان حتى بالنسبة للأشخاص العاديين يعد محمودا مثل هرب الابن من أبيه والتلميذ من عدوان معلمه  والشخص البالغ من عدوان المجنون
أو الصبي، ويدخل في مفهوم الهرب الاحتماء داخل البيت، أو استغاثته بمن حوله، أو تغيير الطريق التي يتواجد بها الخصم. وقضت محكمة النقض المصرية، أن القانون لا يمكن أن يطالب الإنسان بالهرب لما في ذلك من الجبن الذي لا تقرره الكرامة الإنسانية، وقد قضي في مصر أيضا، انه من الخطأ أن نطالب الشخص بمغادرة منزله وأن يلتجأ إلى الطريق العام. 
ثانيا: شرط التناسب
        وهو شرط يقتضي تقييد الشخص المدافع بإتيان أفعال تكفيه رد الخطر الذي يداهمه فحسب، وكل تجاوز لذلك يعد جريمة يعاقب عليها القانون، بشرط ثبوت علمه بالتجاوز. غير أن مسألة التناسب مسألة موضوعية تخضع للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع، حسب ظروف وملابسات كل قضية على حدا. لكن ذلك لا يمنعنا من تقديم بعض التوضيحات، وهي أن ممارسة الدفاع الشرعي مرهون بالتزام حدوده، إذ المدافع يجب ألا يتجاوز حدوده في الدفاع عن نفسه أو ماله، أو نفس الغير وماله، وكل تجاوز لحدود الدفاع الشرعي، يخرج المدافع من دائرة الإباحة إلى دائرة التجريم، والحدود تتمثل في استعمال فقط القوة اللازمة لرد العدوان، غير أن الفقه تفرقت آراءه بخصوص إيجاد معيار التناسب هذا، والطرق التي بموجبها يثبت التناسب من عدمه، فمنهم من اعتمد معيار الحق المعتدى عليه والحق الذي يمسه المدافع الراجع للمعتدي، ومنهم من اعتمد معيار الضرر وما يصيبه الاعتداء وما يصيبه الدفاع، ومنهم من يعتمد في المقارنة على الوسائل التي استخدمها المدافع من بين الوسائل التي كانت متاحة له، ومنهم من يعتمد على قدر العنف الذي بدله المدافع وما كان يبذله غيره في نفس الظروف، وهو التذبذب والاضطراب الذي أصاب أيضا أحكام القضاء[31]. الأمر الذي قاد الفقه إلى زيادة المسألة تعقيدا بعدما حاول إيجاد حل لها، وذلك لأن مصطلح التناسب ذاته مصطلح مضلل، لأنه يوهم بضرورة التكافؤ ولو بشكل نسبي بين جسامة الاعتداء وجسامة الدفاع، وهو غير المطلوب قانونا وإلا كان فيه تعطيل لحق الدفاع، إذ قد يجد المدافع نفسه أمام اعتداء يسير لا يمكن رده إلا باعتداء جسيم، وهنا يجد المدافع نفسخه أمام خيارين أحلاهما مر، فإما أن يدافع عن نفسه متحملا التجاوز وعواقبه، وإما أن يفسح الطريق أمام المعتدي ويتركه ينفذ اعتداءه، وهذا غير مقبول، بل هو مخالف لصريح القانون الذي يبيح استعمال القوة اللازمة لرد كل عدوان على النفس أو المال. غير أن المسألة أكثر يسرا لو تأملنا الحكمة من تقرير الدفاع الشرعي، بان الدفاع ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، وهي استخدام ما يقتضيه الرد بناء على ظروف الموقف، وهو الموقف الذي لا ينظر له نظرة مجردة، بل ينظر إليه على ضوء الظروف والملابسات منها ما يتعلق بالمعتدي ومنها ما يتعلق بالمدافع، مثل السن والجنس والحالة الصحية والقوة البدنية ودرجة الثقافة ونمط الشخصية وطبيعة العلاقة بينهما، ومنها ما يتعلق بعامل الزمان والمكان كالليل والنهار والصيف والشتاء والبعد والقرب من الأماكن العمرانية ونوع الحق المعتدى عليه، وغير ذلك من المواقف والملابسات التي ترسم معالم الموقف وتحدد السلوك اللازم لرد العدوان، مما يؤدي أحيانا إلى إباحة استخدام وسائل بالغة العنف وإحداث أضرار جسيمة لرد اعتداءات يسيرة[32]. كما يجب أن يأخذ في الحسبان ما استقر في نفسية المدافع لحظة تعرضه للعدوان، لا بالموقف الهادئ المطمئن الذي يكون عليه القاضي وهو جالس بقاعة المحكمة، بل يجب أن يحل نفسه محل المدافع ثم يقدر الموقف بناء على تفكير صاف متزن، إذ المدافع وحده ممن أحاطت به الظروف الحرجة والملابسات الدقيقة التي وضعته في مأزق ولا يمكن محاسبته بوجوب أن يكون متزن الفكر هادئ التقدير، وهو ما يستحيل عليه في الظروف التي وجد فيها لحظة الاعتداء[33]. ويرى البعض في هذه المسألة معالجة مسألة التناسب العام ومسألة التناسب الخاص، فالتناسب العام لا يقتضي بالضرورة المساواة المجردة بين المصالح المتعارضة ولا الأضرار التي تصيبها، بل على الوسيلة التي تمكن من رد الاعتداء، وأن تكون الوسيلة الوحيدة التي تمكنه من رد الاعتداء من بين الوسائل المتاحة له، وقد قضي بجواز استعمال سلاح ناري في مواجهة معتدي غير مسلح أصلا، ويراعي في ذلك الظروف التي يمر بها المعتدى عليه والقوة البدنية للطرفين، ويؤخذ بمعايير واقعية التي يمر بها الشخص العادي. أما التناسب الخاص، فهي الحالات التي يدافع فيها الشخص عن نفسه بجريمة القتل، التي حددها المشرع على سبيل الحصر.
        هذا ونشير إلى أن الفقه قد أثار شرطا ثالثا، بموجبه تم الإقرار ألا يكون الشخص المدافع هو الذي تسبب في الجريمة، كأن يكون قد ساهم فيها أو استفز المعتدي، وهذا فيه كلام أهمه دفاع الزوجة وشريكها ضد القتل الذي يحاول ارتكابه الزوج المضرور، كما أن الاستفزاز بالسب والشتم لا يبرر القتل لعدم وجود التناسب.
        ويضيف الفقه أحيانا شرطا ثالثا، وهو أن يتجه المدافع بدفاعه على المعتدي ذاته لا إلى غيره، بغض النظر عن  الحق الذي ينصب عليه الدفاع ، فقد يتلف المعتدي سيارته أو يقتل كلبه أو يحطم سلاحه، وبالتالي من مقتضيات شرط اللزوم أن يوجه فعل الدفاع للشخص مصدر الاعتداء لا لشخص لا تربطه صلة بهذا الاعتداء، فلا يجوز لشخص سبته امرأة أن يتوجه بالضرب لزوجها أو يتلف ماله، غير أن المسألة أحيانا ينظر إليها بحسب ظروف وملابسات القضية، مثل الشخص الذي يشرع في الحرق وتحطيم ملك الغير، فلا يجد الشخص من سبيل سوى الإمساك بابنه وتهديده بالكف عن أعماله وإلا سيؤذي ابنه.
        كما نجد الفقه، يضيف أحيانا شرطا رابعا، وهو نية الدفاع، وهو اشتراط أن تكون إرادة المدافع قد اتجهت وقت الدفاع إلى رد العدوان، وإلا تجرد من معنى الدفاع وأصبح عدوانه يستوجب العقاب، لذا فينبغي علم المدافع بالعدوان ومن ثم اتجاه إرادته إلى منع هذا العدوان، فإن ثبت أن هدف المدافع كان الثأر
أو الانتقام عد فعله جريمة حتى وإن درء به اعتداء فعلي على حق، وبالرغم من عدم وجود نص في القانون يشترط هذه النية، إلا أنها تستفاد من العبارات العامة للنص ومن طبيعة فعل الدفاع ذاته. لذا نجد بعض الفقه ذهب للقول بأن هذه النية غير لازمة، على أساس أن أسباب الإباحة أسباب موضوعية عينية، في حين النية أمر شخصي، وبالتالي فالاشتغال بالنية اشتغال لا يفيد، إذ حتى بغياب النية فلولا الدفاع لاكتمل العدوان من الناحية الواقعية، لذا أجاز أصحاب هذا الرأي أن يكون الدفاع بجريمة غير عمدية، إذا صادفت رد اعتداء غير مشرع، كترك كلب بدون أخذ الاحتياطات اللازمة لمنع اعتداءه على الغير وصادف لارتكاب جريمة ومنعها. في حين يرى البعض أن النية مستفادة من اشتراط رد العدوان بفعل قادر على الرد، وهذا يقتضي ضمنا وجود نية في ذلك، كون قياس القوة وتقديرها يقتضي وجود نية، خاصة وأن تقدير التناسب يقدر على ضوء كل من الظروف الموضوعية والشخصية المحيطة بالشخص المدافع، لكن لا يشترط في هذه النية أن تكون خالصة لا تخالطها نية أخرى، مثل الرغبة في الثأر والتباهي بالقوة أو إرهاب الغير، فهي نوايا وإن كانت غير مستحبة، فإنها لا تنفي نية الدفاع الشرعي، كون وجودها من عدمه في نظر القانون سواء. كما يرى البعض، إن سبق الإصرار والترصد لا ينفي نية الدفاع، كمن علم أنه مستهدف للسرقة في بيته فأعد خطة للدفاع، وفاجأ لصوصه بالدفاع فهنا يكون في حالة دفاع شرعي بالرغم من سبق الإصرار والترصد، وهو عكس ما اتجهت له محكمة النقض المصرية في بعض قراراتها. كما يرى البعض أيضا، أن نية الدفاع الشرعي لا تنتفي باستفزاز المدافع للمعتدي، نظرا لفكرة عقم الاستفزاز، غير أن هذا الرأي يفرق بين الاستفزاز والاستدراج، إذ الاستدراج لا يستقيم مع نية الدفاع، والاستدراج كتحدي شخص أن يقوم بفعل ما، أو التظاهر بالغفلة عن صيانة المال، ويتخفى في مكان ما ليفاجأ السارق، فالاستفزاز مجرد إثارة وإهاجة، بينما الاستدراج عبارة عن خطة مدروسة ومرسومة لتوريط الغير في الاعتداء وذاك بينة مبيتة منذ البداية تحت ستار الدفاع الشرعي، لذا فالاستدراج لا يستقيم مع نية الدفاع الشرعي. وعدم مراعاة الشروط السابقة، يجعلنا أمام تجاوز لحدود الدفاع الشرعي، الذي نعالجه في النقطة التالية.
ثالثا: حالة تجاوز حدود الدفاع الشرعي
        المقصود بتجاوز حدود الدفاع الشرعي، نشوء الحق فيه أولا، وهو ما يفترض أولا وقوع عدوان يشكل جريمة من جرائم قانون العقوبات، وتعذر رد هذا العدوان إلا بطريق فعل يشكل بدوره جريمة من جرائم قانون العقوبات، ليأتي تجاوز الحدود عند ممارسة حق الدفاع الشرعي، وهو التجاوز الذي يتصور أن يكون بتجاوز محل الدفاع، ومحل الدفاع هو دائما حق من حقوق المعتدي، وإن حدث وأن أصاب المدافع حق من حقوق الغير، كأن ينتزع شجرة الغير ويستعملها كوسيلة دفاع، أو يمسك ببريء ويغطى به نفسه،
أو يطلق النار في الليل ويصيب شخص غير المعتدي، فهنا حسب البعض أنه لم يكن متعمدا ذلك وبحسن نية ولم ينسب له أي خطا، ويعتبر في حالة دفاع شرعي، وإن كان يتعمد هذا التجاوز في المحل يمكن أن يسأل بحسب الأحوال عن جريمة عمدية أو غير عمدية بحسب ما تحتمله الجريمة من أوصاف، غير أن البعض يرى بأنه رأي غير صائب إذ لا مجال لأن تهدر حقوق الغير الأبرياء لمجرد أن شخصا ما كان محل اعتداء، وإن كان يمكن القول بأن الركن المعنوي قد تخلف فلا يمكن القول بأي حال من الأحوال أن الفعل صار مباحا. وهناك حالة أخرى يسميه الفقه الشطط في الدفاع - وبينتها المادة 251 من تقنين العقوبات المصري- وهي تعدي المدافع بنية سليمة حدود الدفاع الشرعي أي أن يكون عالما بأنه يتعدى حدود الدفاع الشرعي، غير أنه لم يكن قاصدا إحداث أضرار أكثر مما يتطلبه الدفاع الشرعي، مما يجعل فعله غير مشروع يسأل عنه وإن كان حسن النية يخفف عنه العقوبة. وفي حال سوء نية المدافع، أي تعمده إحداث ضرر اشد مما يستلزمه الدفاع، إذ يكون قد قدر الموقف تقديرا صحيحا، فانتهز الفرصة وتجاوز حد الاعتدال ويوقع بالمعتدي ضرر اشد مما يلزم، فهنا تطبق القواعد العامة ويعاقب عن جريمة عمدية، بالرغم من أن بعضه كان مباحا والبعض الآخر مجرما، إلا أن الفعل الواحد وحدة واحدة لا تقبل التجزئة، فصار بذلك الفعل بأكمله غير مشروع، عملا بقاعدة عامة معمول بها في الفقه الشرعي، وهي أنه إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام، غير أن ذلك ما يكون في العادة سببا لتخفف العقوبة إعمالا للسلطة التقديرية للقاضي. أما إن كان التجاوز بحسن نية، أي اعتقد المدافع خطأ أنه في حدود ما يقتضيه الدفاع الشرعي، فهنا ينتفي الخطأ كونه يدور وجودا وعدما مع فكرة حسن النية. غير أن حسن النية لا يبيح فعل الدفاع، وإنما يخف  من العقوبة، كون النية مسألة شخصية في حين الدفاع الشرعي ظرف عيني موضوعي.



[1] - وهذا القول لا يعني بأن موانع المسؤولية تتعلق بالركن المعنوي، فهي بعيدة تمام البعد عن أركان الجريمة، ففي موانع المسؤولية تكون الجريمة قائمة بأركانها الثلاثة، غير أن الشخص لا يسأل عن جريمته لتوفر مانع يحول دون قيام المسؤولية، لا  دون قيام الجريمة. وسيتضح الأمر أكثر عند دراسة المسؤولية الجنائية وموانعها.
[2] - التدابير الاحترازية أو تدابير الأمن، ومثلما سيتضح عند دراستها، هي الصورة الثانية من صور الجزاء الجنائي، وهي تدابير قررت أصلا لموجهة حالات امتناع المسؤولية أو مواجهة الخطورة الإجرامية، وهدفها الأساسي العلاج والتهذيب بعيدا عن الإيلام وفكرة العقاب والردع، على عكس العقوبة الصورة الأولى والأساسية من صور الجزاء الجنائي.
[3] - وإن كانت مسألة نفي المسؤولية المدنية في مجال أسباب الإباحة قد أثارت جدلا فقهيا بين مؤيد ومعارض، إلا أن الرأي الغالب الذي استقر تشريعيا، هو نفي المسؤولية المدنية في حال توفر سبب من أسباب الإباحة، إذ لا يمكن أن نطالب شخص دافع عن نفسه أو عن غيره من أفعال تعد جرائم أن يعوض هؤلاء المعتدين المجرمين، ولا أن يلزم شخص بالتعويض عن فعل  أتاه، قد يكون القانون قد أذن به كما قد يكون أمر به، وأن القول بغير ذلك يعطل الهدف من تقرير أسباب الإباحة.
[4] - والأمر بديهي، إذ ما دام يمكن توقيع التدابير الاحترازية على الشخص الذي امتنعت مسؤوليته، وهي تدابير تنطوي بطريق غير مباشر على إقرار نوع من المسؤولية الجنائية – بنوع من التحفظ-على الجاني، فبديهي أن يلزم بتحمل المسؤولية المدنية، كونها تقوم على فكرة الخطأ المسبب للأضرار تطبيقا للقواعد العامة في المسؤولية المدنية.
[5] - كما تختلف موانع العقاب عن موانع المسؤولية، فإن كانا يتشابهان في كونهما من الظروف الشخصية اللصيقة بالشخص، إلا أن موانع المسؤولية تحول دون قيام المسؤولية مع إمكانية توقيع التدابير الاحترازية، غير أن موانع العقاب وإن كانت مسؤولية الشخص قائمة بخصوص ارتكابه الجريمة إلا انه لا يوقع عليه أي نوع من أنواع العقاب. مع أنه قد يسأل مدنيا مثل السرقات التي تقع بين الأزواج أو الأصول والفروع.
         ومن أمثلة موانع العقاب في تقنين العقوبات الجزائري، نذكر: ........................
[6] -- سماعها البعض موانع المحاكمة، في حين أن المحاكمة في الدعوى العمومية من آخر المراحل، لذا نفضل تسميتها  بالموانع الإجرائية على اعتبار أن هذا الاصطلاح يشمل حتى الاصطلاح الأول، كون المحاكمة مجموعة إجراءات.
[7] - المواد من 161 حتى 169 من تقنين العقوبات الجزائري المعنونة ب:" جنايات وجنح متعهدي تموين الجيش" التي تشترط لتحريك الدعوى العمومية تقديم شكوى من زير الدفاع الوطني.
[8] - يعني الجهل بالإباحة أن يرتكب شخص جريمة وقد توافر في حقه سبب من أسباب الإباحة، لكنه كان يجهل ذلك، وبالتالي هي جريمة لا تقوم إلا في ذهن صاحبها وبالتالي يستفيد من السبب، خاصة في ظل الطبيعة الموضوعية لهذه الأسباب بينما الغلط فهو الصورة المقابلة للجهل، فيقع الفاعل في غلط بشأن أحد عناصر الإباحة على نحو يجعله يعتقد بسبب الإباحة في حين أنه في الواقع السبب غير متوفر، كالدفاع الشرعي من شخص ضد خطر وهمي فيرتكب جريمة قتل ظنا منه أن خطر يتهدده من هذا الشخص في حين الأخير لم يكن في الواقع يشكل أي خطر عليه، وهو ما ينفي الإباحة أصلا ما عدا ما
تضمنه المشرع المصري من فكرة الأسباب المعقولة.
[9] - وإن كانت لنا بعض التحفظات بخصوص هذه المسألة، سنعود إليها لاحقا.
[10] - نشير إلى ثلاث قرارات قضائية صادرة عن المحكمة العليا بخصوص أسباب الإباحة، لكن فيما يتعلق فقط بالدفاع الشرعي، فهناك قرار في: 24-03-1996 في الملف رقم: 120960 :" يشترط لتطبيق الدفاع المشروع توافر شرطين أساسيين يتعين على قضاة المجلس إبرازهما في قرارهم وهما:- أن يكون الاعتداء حالا وغير مشروع،- أن يكون الدفاع لازما ومتناسبا مع جسامة الاعتداء." وتكون لنا عودة لتفصيل الشرطين، وهناك قرار ثاني في: 14-07-1996 في الملف رقم: 132860 :" إن الدفاع المشروع مسألة موضوعية يرجع تقديرها لقضاة الموضوع الذين يتعين عليهم في حالة إثارته الرد عليه بقبوله أو برفضه." والثالث في: 29-04-2003 الملف 306921 :" إن توافر شروط الدفاع المشروع ينفي عن طابعها الإجرامي، ومن ثم تمحى الجريمة من الأساس ."، وهو ما يتعلق بطبيعة أسباب الإباحة.
[11] - وهو أن يكون الفعل جريمة، لكن يأمر القانون في بعض الأحوال وفي ظروف معينة، من بعض الأشخاص إتيانه، ففي هذه الظروف إذا ما أتى الفعل هؤلاء الأشخاص كان الفعل مباحا، بالرغم من انه يعد جريمة في غير هذه الحالات، أو إذا قام به غير هؤلاء الأشخاص.    وعلة إباحة هذه الأفعال التي تؤتى في هذه الظروف من قبل هؤلاء الأشخاص هي تحقيق الصالح العام، وذلك بالاستناد لسببين، أحدهما موضوعي وهو أن الأعمال التي تؤتى في هذه الظروف أهم من الحماية المقررة لهذه الحقوق في الأحوال العادية، إذ الحقوق التي يأتيها هؤلاء عامة لكنها في الوضع العادي حقوقا خاصة، كما أنه لا يعقل أن يكون الفعل الواحد معاقبا عليه ومباحا في ذات الوقت، والسبب الثاني شخصي هو أن يكون اقتراف الفعل بحسن نية وتنفيذا لما أمر بـــه القانون
[12] - باعتبار أداء الواجب أو أوامر القانون واجبات وظيفية فمصدرها دوما نص في القانون، وأن القانون المصدر العام لكل الواجبات، غير أن الواجبات المهنية تستمد في قسم منها من نص القانون مباشرة، وفي قسم منها من أوامر الرؤساء، ومن حيث الحكم القسمان سواء في نظر القانون، ففي كلا الحالتين يعد أداء ما أمر به القانون أو أداء الواجب سبب من أسباب الإباحة
[13] - وهو قسم سماه المشرع الجزائري بالاعتداء على الحريات، ونظمه ضمن المواد من 107 إلى 11، وقد نصت هذه المواد، تباعا على ما يلي: المادة 107:" يعاقب الموظف بالسجن المؤقت من خمس إلى عشر سنوات إذا أمر بعمل تحكمي أو ماس سواء بالحرية الشخصية للفرد أو بالحقوق الوطنية لمواطن أو أكثر."، وهي المادة التي بينت مصدر الأمر غير المشروع أي الرئيس، فيس حين لم تبين مسؤولية المرؤوس، مما يعني عدم مسائلته، سيما في حالة حسن نيته واعتقاده بمشروعية الأمر الصادر إليه.
         في حين نصت المادة المادة 108 :" مرتكب الجنايات المنصوص عليها في المادة 107 مسؤول شخصيا مسؤولية مدنية وكذلك الدولة على أن يكون لها حق الرجوع على الفاعل."، وهنا يعوض الشخص المضرور شخصيا أو تعوضه الدولة وترجع على الرئيس الذي أصدر الأمر غير المشروع.
المادة 109:" الموظفون ورجال القوة العمومية ومندوبو السلطة العمومية والمكلفون بالشرطة الإدارية أو الضبط القضائي الذين يرفضون أو يهملون الاستجابة إلى طلب يرمي إلى ضبط واقعة حجز غير قانوني وتحكمي إما في المؤسسات أو في الأماكن المخصصة لحجز المقبوض عليهم أو في أي مكان آخر ولا يثبتون أنهم أطلعوا السلطة الرئاسية عن ذلك يعاقبون بالسجن المؤقت من خمس إلى عشر سنوات."
المادة 110( المادة 60 من القانون رقم 06-23 المؤرخ في: 20-12-2006):" كل عون في مؤسسة إعادة التربية أو في مكان مخصص لحراسة المقبوض عليهم يتسلم مسجونا دون أن يكون مصحوبا بأوامر حبس قانونية أو يرفض تقديم هذا المسجون إلى السلطات أو الأشخاص المخول لهم زيارته بدون أن يثبت وجود منع من القاضي المحقق أو يرفض تقديم سجلاته إلى هؤلاء الأشخاص المختصين، يكون قد ارتكب جريمة الحجز التحكمي ويعاقب بالحبس مدة من ستة أشهر إلى سنتين
وبغرامة من 20.000 دج إلى 100.000 دج."
المادة 110 مكرر ( المادة 60 من القانون رقم 06-23 المؤرخ في: 20-12-2006):" كل ضابط بالشرطة القضائية الذي يمتنع عن تقديم السجل الخاص المنصوص عليه في المادة 52 الفقرة 3 من قانون الإجراءات الجزائية إلى الأشخاص المختصين بإجراء الرقابة وهو سجل خاص يجب أن يتضمن أسماء الذين هم تحت الحراسة القضائية يكون قد ارتكب الجنحة المشار إليها في المادة 110 ويعاقب بنفس العقوبة .
         وكل ضابط بالشرطة القضائية الذي يتعرض رغم الأوامر الصادرة طبقا للمادة 51 من قانون الإجراءات الجزائية من وكيل الجمهورية لإجراء الفحص الطبي لشخص هو تحت الحراسة القضائية الواقعة تحت سلطته، يعاقب بالحبس من شهر إلى ثلاثة أشهر وبغرامة من 20.000 دج إلى 100.000 دج أو بإحدى هاتين العقوبتين."
المادة 111 :" يعاقب بالحبس لمدة ستة أشهر إلى ثلاث سنوات كل قاض أو ضابط بالشرطة القضائية يجري متابعات
أو يصدر أمرا أو حكما أو يوقع عليهما، أو يصدر أمرا قضائيا ضد شخص متمتع بالحصانة القضائية في غير حالات التلبس
بالجريمة دون أن يحصل قبل ذلك على رفع الحصانة عنه وفقا للأوضاع القانونية."
[14] - ويعبر الفقه عن هذا الشرط بثبوت الحق، إن استعمال حق من الحقوق يفترض وجود هذا الحق أولا، فإن لم يكن هناك حق فلا مجال للكلام عن الإباحة، ولا أن يكون قد انقضى بالتقادم، كون انقضاء الحق يعني انقطاع وجوده، كما أن النزاع حول الحق لا يحول دون استعماله ما لم يشكل ذلك جريمة.
[15] - لأن الرئيس في هذه الحالة يكون قد أساء استعمال السلطة وهي وسيلة من الوسائل المادية التي يقوم بها التحريض وفقا للمادة 41 من تقنين العقوبات الجزائري.
[16] - ويعبر الفقه عن هذا الشرط بالتزام حدود الحق، حيث أن القانون لا يعرف حقوق بدون حدود، فالحق يجب أن يمارسه صاحبه ملتزما بحدود هذا الحق، وكل تجاوز لهذه الحدود يعد خروجا عن ممارسة الحق والدخول في دائرة المحظور، ويصير كمن لا حق له، والقانون هو الذي يرسم لكل حق حدوده، وهي الحدود التي قد تتعين صراحة كما قد تتحدد ضمنيا، وذلك بالرجوع إلى فروع القانون الأخرى أو باستلهام الغاية أو الوظيفة الاجتماعية للحق، كما أن حدود الحق متنوعة، والتي تختلف باختلاف الحقوق، وهناك من الحقوق ما يمكن إنابتها مثل الحقوق المالية،  ومنها مما لا يمكن فيها ذلك، مثل حق الزوج على زوجته، كونها من الحقوق الذاتية التي لا تجوز الإنابة فيها، وحق إجراء العمليات الجراحية إذ لا يمكن للطبيب إنابته للمرض ، وإلا كان الطبيب شريكا في جريمة والممرض فاعلا أصليا، كما أنه من الحقوق ما تعين وسائل استعمالها مما يعني حظر استعمال وسائل أخرى من صاحب الحق، فالطبيب يجب أن يستعمل وسائل مما يتعارف عليها في عرف المهنة، كما قد تتدرج هذه الوسائل، فلا يجوز اللجوء إلى وسيلة إلا بعد استنفاذ الوسيلة الأخرى، مثل تأديب الزوج لزوجته، إذ الوعظ فالهجر في المضجع فالضرب.
         وزيادة على ذلكن يجب أن يكون استعمال الحق مشروعا، حيث لا يهدف صاحبه من خلاله التعسف في استعمال هذا الحق، وهنا ثارت مسألة البحث حول استعمال الوسائل الميكانيكية لحماية الأموال، كنصب الفخاخ للصوص أو وضع الزجاج المكسور على جدران الحديقة، والجدل لم يثر بخصوص الشخص الذي يعتدي، بل بالنسبة للغير الذي لم يعتدي وأصابته هذه الوسائل بأضرار، فهنا تقوم جريمة غير عمدية لا يحول دون قيام المسؤولية عنها القول أن الشخص في ملكيته كون الشخص مسئول عن عدم الإضرار بالغير أو التعسف وهو يمارس حقوقه، وأنه لا يجوز له إحداث أضرار كبيرة مقارنة بالحقوق التي يراد حمايتها
[17] -ويرى البعض أيضا أن تكون الجريمة لازمة لممارسة التأديب، إذ إذا كان بإمكان المؤدب اللجوء لأفعال لا تشكل جريمة فلا مجال لارتكاب فعل غير مشروع، وهناك أحكام في القضاء المصري حديثة نسبيا بعضها يعود لسنة 1993 بخصوص تأديب الصغار أن الأمر موكول للأب لتقدير ما يرى اتخاذه من إجراءات لتربية الصغير وإسكانه في المحل الذي يريد إسكانه فيه، فإذا كانت المراقبة والحراسة تصلحان لإلزامه المسكن المخصص له كان حتما عليه ألا يزيد عن هذه الإجراءات، فإن وجدهما غير كافيين لجأ إلى إجراء أشد، كإقفال الأبواب، فإن لم يستطع منع الصغير من الهرب ووجد الأب نفسه مخيرا بين أن يقعد عن مواصلة كسب عيشه أو حراسة الصغير، كان له بلا شك أن يلجأ على الإجراء الذي أعده المتهم وهو وضع قيد حديدي في قدمي ابنته، على ألا يكون فيه تعذيب أو منع للحركة أو لإيلام للبدن، فإن تجاوز هذه الحدود كان عمله جريمة معاقبا عليها.
[18] - نرى في الجزائر صعوبة للتمسك به، وإن كان ليس هناك نص يمنعه، إلا أنه من الصعب إثبات شروطه، مما يجعل الأزواج دوما تحت طائلة القانون في حال ضرب الزوجة.
[19] - ويرى البعض اللجوء إلى تأديب الزوجة يشترط فيه التزام المراحل التي أوجبتها الشريعة الإسلامية، وذلك قبل اللجوء إلى التأديب البدني، الذي يجب أن يكون يسيرا ولا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير الضرب الجسيم أو المهين – حتى بالنسبة لتأديب الأب للابن- وأن يكون الضرب بأقل قدر يحقق العلة من وراءه.
[20] - حسن النية دوما تعني الالتزام بالغاية من وراء إقرار الحق، وكل تجاوز لهه الغاية يعد سوء نية، وفي حق التأديب عموما، سواء بالنسبة للابن أو الزوجة، يقتضي لكي يبيح الجرائم المتمخضة عن ممارسته، أن يكون لازما، ومتناسبا في مداه أو جسامته مع العلة من تقريره، وأن تتم مباشرته بحسن نية بما يحقق الغاية منه، ويضيف البعض لذلك، التقيد بالوسيلة المحققة لمعنى التأديب وغايته، فلا يكون بغير اليد، وألا يتواصل ويستمر في المدى، وألا يكون في مواضع الجسم التي تنذر بالخطر، أو تنطوي على المهانة. 
[21] - حيث قد يستخلص رضاء المريض ضمنا بحكم الواقع في حالات الأعمال الطبية العادية والعميلات الشائعة والمألوفة، غير أنه لا يكفي استخلاص الرضاء ضمنيا إذا تعلق الأمر بعمل طبي غير مألوف أو عملية جراحية حديثة لا يمكن القطع بنجاحها، ففي مثل هذه الحالات يجب أن يكون الرضاء صريحا. غير أنه في ظل الظروف غير العادية مثل انتشار الأوبئة والأخطار العامة يستثنى رضاء المريض، فتدخل الطبيب في مثل هذه الحالات لا يعد استعمالا لحق في التطبيب وإنما أداء لواجب تفرضه قاعدة قانونية، ومثل هذا الوضع يستند لحالة الضرورة حسب البعض.
[22] - تبيح بعض القوانين جرائم القذف والسب إذا صدر صحفيا بمناسبة نشر أخبار تطبيقا لحرية الرأي والفكر، متى كان بحسن نية ولا يقصد به الإساءة ضد الأشخاص العموميين أو ذوي الصفة النيابية العامة أو المكلفين بخدمة عامة، وأن يكون الموضوع متعلقا بأعمال وظائفهم.
[23] - بالرغم من أن أساس الدفاع الشرعي أثار العديد من الجدل الفقهي الذي ارتأينا ألا نقحمه في هذا المجال، إلا أننا نرى شخصيا أن الدفاع الشرعي حق للشخص أن يمارسه وله ألا يمارسه وفي هذه الحالة الأخيرة لا يسأل عن ذلك، ما عدا حالة الامتناع عن الدفاع عن الغير إذا توفرت فيها شروط جريمة عدم تقديم المساعدة لشخص في حالة خطر.
[24] - ويرى البعض أن الدفاع الشرعي عرفته الشرائع القديمة، باعتباره من مبادئ القانون الطبيعي، حيث عرفته اليونان القديمة والقانون الروماني وحتى الشرائع الأوروبية في القرون الوسطى.
[25] - ويرى البعض أن الدفاع الشرعي ليس فكرة قانون فطرة اعترف به المشرع وأقره، وهو ردع لمن بادر بالعدوان،  ونصرة لمن اضطره العدوان أن يدافع عن النفس أو المال، فهو رفض لجريمة العدوان واعتراف بجريمة الدفاع.
[26] - من المفروض أن نسمي الخطر ب:" الجريمة" كوننا بصدد فعل غير مشروع معاقب عليه جنائيا، غير أن ما يدفع الفقه للتعبير عن هذه الجريمة بلفظ " الخطر" في رأينا، هو أن الجريمة وصف يطلق على فعل تعدى محلة البدء في التنفيذ، غير أنه يجوز في حالة الدفاع الشرعي أن يشرع في الدفع قبل هذه المرحلة. أو لأن الشرط الثاني يدل بما لا يدع مجالا للشك على أنه جريمة فعلا.
وحلول الخطر، هو أن يكون العدوان حالا أو على وشك الوقوع، أي العدوان الحال وهو في العادة أن يكون على وشك الوقوع وعادة ما يكون بموجب البدء بالتنفيذ، أي في طور جريمة الشروع الناقص، ولم يكتمل كون تمام الجريمة ينقلنا لفكرة الانتقام، والانتقام فكرة مجرمة قانونا وتوجب العقاب، فالدفاع الشرعي قرر فقط لدرء العدوان الذي يكون على وشك الوقوع أو الحيلولة دون استمراره وتفاقم آثاره، وأحكام القضاء الأجنبي حافلة برفضها الدفاع الشرعي في حالات القصاص، وفي حالات تمكن فيها المدافع من نزع السلاح من خصمه، لكنه طعنه به، ولا دفاع بعد تمام إشعال النار في البنزين الذي وضعه الشخص وراء المنزل ولا بعد تمام جريمة السرقة وفرار الجاني، على نحو لا يتمكن من خلاله المدافع من تتبع الجاني والإمساك به، لكن إن كان بإمكانه انتزاع الشيء المسروق منه ولم يفلت بعد من دائرة إشراف المدافع ورقابته وبقي في وسعه
             تتبعه وملاحقته فإن حق الدفاع الشرعي يظل قائما إذ يحق له انتزاع المسروقات منه ولو بطريق العنف
[27] - ثار خلاف حول جواز الدفاع الشرعي ضد جرائم السب والقذف، هناك من أنكره، بحجة افتقاد هذه الجرائم للقوة والعنف الماديين، وبالتالي لا يجوز استعمال الدفاع الشرعي لدرئهما، وأن الدفاع يكون دوما بعد تمامها مما يجعل من الدفاع الشرعي انتقاما لا دفاعا، خاصة وأن هذه الجرائم لا يستعمل فيها القوة المادية حتى يمكن أن ترد بالقوة المادية، وأجمع الجمهور على جوازه، بحجة أن المسائل السابقة غير مشترطة في الدفاع الشرعي، وأنه يمكن التدخل بالدفاع لمنع
         مواصلة السب أو القذف أو  الاسترسال فيهما، وبالتالي لا يختلف السب والقذف عن غيره من أفعال الاعتداء
[28] - يرى البعض أنه لا يجوز بالتالي الدفاع ضد النوايا مهما كانت شريرة، ولا من أفصح عن نواياه ويستبعد أيضا كافة أعمال التحرش والأعمال التحضيرية التي لا ترقى على مرتبة الجريمة، في حين يرى البعض جواز الدفاع ضد الأعمال التحضيرية، وهو ما نؤيده كونها أفعال مباحة قانونا، والدفاع الشرعي مقرر لرد الأفعال المجرمة.
[29] - وفي هذا الشأن قضي في مصر في حكم سنة 1930 أنه إذا دخل شخص في منتصف الليل منزل شخص آخر، وذلك باستعمال التسلق وكان حاملا سلاحا ثم بقي في المنزل مختفيا عن الأعين عن من لهم الحق في إخراجه، فإن صاحب المنزل يكون في موقف يبيح له الدفاع الشرعي عن نفسه وعن ماله، فإذا هو استعمل هذا الحق لا يجوز لمن دخل المنزل إذا أراد الاعتداء على صاحب المنزل أن يحتج بأنه كان يدافع عن نفسه. 
[30] -وفي ذلك قضت محكمة النقض المصرية بأنه وإن كان القانون قد نص على أنه لا وجود لحق الدفاع الشرعي متى كان في الإمكان الركون إلى الاحتماء برجال السلطة، إلا أن ذلك يقتضي أن يكون هناك لدى المتهم من الوقت ما يكفي لاتخاذ هذا الإجراء، وإلا تعطل الحق المقرر في القانون في جميع أحوال الدفاع الشرعي عن المال ما دامت هذه الأحوال يتصور فيها   كلها إمكان ترك المعتدي يتمادى في عدوانه والاستعانة برجال الحكومة عليه بعد أن يكون قد أتم مقصده.
[31] - ويرى البعض في التناسب أن تكون أفعال الدفاع متناسبة في مداها ونطاقها مع العدوان، فلا يجب الدفاع بأكثر مما يقتضيه رد العدوان، ولكن من الصعب وضع معيار نظري لإعمال شرط التناسب، إذ هي مسألة يجب أن يتم تقديرها وفقا لظروف وملابسات كل حالة على حدة، ومن هذه الظروف والملابسات شخص كل من المعتدي والمدافع، وقوة كل منهما، وما كان يحمله من أدوات وسلاح، وسن كل منهما وجنسه، وزمان العدوان ومكانه.
[32] - لذا يرى البعض أن معيار التناسب معيار شخصي وموضوعي في نفس الوقت.
[33] -وفي ذلك قضت محكمة النقض المصرية، أن يكون تقدير المتهم لفعل الاعتداء الذي استجوب دفاعه مبنيا على أسباب جائزة ومقبولة ومن شأنها أن تبرر ما وقع منه من أفعال، فإذا جاء تقدير المحكمة مخالفا لتقديره هو فإن ذلك لا يسوغ توقيع العقاب، إذ التقدير هنا لا يتصور أبدا إلا أن يكون اعتباريا بالنسبة للشخص الذي فوجئ بفعل الاعتداء في ظروفه الحرجة وملابساته الدقيقة التي كان هو وحده دون غيره المحيط بها المطلوب منه تقديرها والتفكير على الفور في كيفية الخروج من مأزقها، مما لا يصح معه محاسبته على مقتضى التفكير الهادئ المطمئن الذي كان يستحيل عليه وقتئذ وهو في حالته التي كان فيها.












الفرع الثالث
الحالات الممتازة للدفاع الشرعي
( المادة 40 ق ع ج)
        وهي حالات منقولة حرفيا من نص المادة 329 قانون عقوبات فرنسي، ويسمها الفقه الحالات الممتازة للدفاع الشرعي أو الدفاع الشرعي الممتاز، دلالة على افتراض المشرع فيها توافر شروط الدفاع الشرعي كقرينة قانونية قاطعة لا تقبل إثبات العكس، غير أنه من الفقه من يرى العكس، وهو أيضا موقف القضاء الفرنسي[1]، وبالتالي نرى أنه لا مجال اليوم لتسميتها بالحالات الممتازة للدفاع الشرعي، وإنما الحالات الخاصة للدفاع المشروع. وقد نصت المادة 40 من قانون العقوبات الجزائري على هذه الحالات بنصها:" يدخل ضمن حالات الضرورة الحالة للدفاع المشروع:
1- القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب لدفع اعتداء على حياة الشخص أو سلامة جسمه أو لمنع تسلق الحواجز أو الحيطان أو مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها أثناء الليل،
2- الفعل الذي يرتكب للدفاع عن النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو النهب بالقوة."[2].
        ونلاحظ على المشرع الجزائري أنه استعمل لفظ " تدخل ضمن حالات الضرورة للدفاع الشرعي " بمعنى افتراضه لشرط اللزوم كوننا فسرنا عبارة الضرورة الواردة بنص المادة 39 على أنها تقصد اللزوم، لذا فهنا أيضا باستعمال نفس العبارة يعني أن المشرع افترض دخولها في حالات اللزوم. ثم أن المادة ذاتها تميز بين فرضين، فرض ورد فيه نوع الجرائم ونوع الاعتداء الذي يوجبها، وهو ما ورد بالفقرة الأولى من المادة 40، حيث أجاز أقصى الجرائم جسامة، وهي القتل والجرح والضرب[3]، وحصر الاعتداءات في الاعتداءات ضد الحياة أي ضد جرائم القتل، وسلامة الجسم، ويعني الضرب والجرح، أو مجرد تسلق الحواجز والحيطان ومداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها[4]. بشرط أن يكون كل ذلك أثناء الليل[5]. كما يمكن أن ننبه أن الشخص يمكنه أيضا دفع التسلق والكسر لملاحق المنازل ومداخلها وأسوارها وحيطانها، إذا كانت متركبة إثناء النهار، لكن في هذه الحالة لا يكون الدفاع شرعيا ومشكلا لسبب من أسباب ألإباحة، بل يكون مشكلا لعذر معفي من العقاب، وهو عذر شخصي لا موضوعي، وهو الأمر الذي قضت به المادة 278 من تقنين العقوبات الجزائري[6]، بينما بينت الفقرة الثانية، وبصيغة عامة إباحة كل فعل أي كان نوعه الذي يرتكب لدفع الاعتداءات على النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو النهب بالقوة، وهنا لم يشترط التناسب. كما أنه لم يشترط الليل، فيمكن أن يكون ذلك أثناء النهار، مما يجعل هذه الفقرة تتشابه في حكمها مع الحكم العام الذي جاءت به الفقرة الثانية من المادة 39، وكل ما في الأمر أنه في هذه الأخيرة حددت الاعتداءات بصيغة عامة وهي الجرائم الواقعة على النفس أو على الغير أو مال الشخص أو المال الغير، والفقرة الثانية من المادة 40 تتعلق فقط بالسرقات والنهب بالقوة.
        وإن كانت الأسباب السابقة، هي أسباب الإباحة التي يأخذ بها المشرع الجزائري، وغالبية القوانين الجنائية المقارنة، فهناك أسباب أخرى تأخذ بها بعض الدول دون البعض الآخر، وهي رضاء المجني عليه وحالة الضرورة، وسبق لنا القول في تمهيد هذا الفصل أن قلنا بأننا سنتناولها في مبحث مستقل، وذلك لتعميم الفائدة، فقد يأتي تعديل ويدخلها في القانون الجزائري، كما قد يجد رجل القانون الجزائري نفسه ملزما للتعامل معها في حالات تنازع القوانين، وبخصوص الطلبة الأعزاء قد تكون موضوع امتحان أو مسابقة- وحدث فعلا أن كانت حالة الضرورة موضوع مسابقة ماجستير بجامعة البليدة منذ سنتين- لذا وإن التمسنا العذر في الإطالة غير المعتادة في إعداد المحاضرات المطبوعة، فإن لهذا العذر مبرراته التي تفوق في مصلحتها كل الانتقادات، وهي تعميم الفائدة العلمية للطلبة. وهنا فقط يمكن الاستعانة بالبيت الشعري المتعلق بالمذمة التي تأتي من جاهل" ..........".


المبحث الثالث
أسباب الإباحة في القانون المقارن
من أسباب الإباحة أيضا، رضاء المجني عليه، وحالة الضرورة التي تأخذ بها بعض القوانين دون البعض الآخر، ومنه القانون الجزائري الذي لا يأخذ بها، لذا ارتأينا تناولها في مبحث مستقل، نتناوله من خلال مطلبين، نخصص الأول لحالة رضاء المجني عليه كسبب من أسباب الإباحة، لنخصص الثاني لحالة الضرورة.
المطلب الأول
رضاء المجني عليه ( صاحب الحق) كسبب من أسباب الإباحة
        في حقيقة الأمر المشرع لما يجرم فعل من الأفعال، فإنه يكون قد قدر أن يضر بمصلحة من المصالح، وفي الكثير من الأحيان يتحقق المساس بمصالح المجتمع بالمساس بمصلحة الفرد، ولذا الأصل أنه لا شأن لإرادة الفرد في تجريم الفعل أو إباحته، لذا فاعتراض الشخص على الجريمة لا يعد ركنا في الجريمة، كما أن رضاءه بها لا يعد سببا لإباحتها، غير أن إرادة الفرد أو رضاءه قد يؤدي في بعض الأحوال دورا في مجال قانون العقوبات، وهو الدور الذي قد يكون من شأنه التأثير في قيام الجريمة أو في إباحتها، وهو استثناء عن الأصل، وفي حدود هذا الاستثناء ينحصر اثر الرضا كسبب من أسباب الإباحة.
        لكن قد يبدو من الوهلة الأولى أنه متى رضي المجني عليه بارتكاب الجريمة التي تنال حق من حقوقه أو مصالحه، فإن هذا الرضا يبيح الجريمة، لكن هذا القول غير صحيح كون أسباب الإباحة تقتضي سبق تجريم الفعل بنص من نصوص قانون العقوبات، ثم وجود نص آخر يبيح الفعل في الظروف التي ارتكب فيها، والأمر ليس كذلك مع رضاء المجني عليه، حيث يمنع من قيام الجريمة ابتداء، كدخول الشخص منزل آخر برضائه، لذا كان يجب تمحيص الحق المعتدى عله بدقة للقول ما إن كان رضاء المجني عليه يبيحها أم لا، كون رضاء المجني عليه يختلف حكمه باختلاف طبيعة الحق المعتدى عليه. ولا يمكن بأي حال من الأحوال بالقول بهذا السبب في مجال الجرائم التي يعتدى فيها على الدولة كشخص معنوي، ولا على المجتمع كمؤسسة اجتماعية، كما لا رضاء كسبب للإباحة في الجرائم التي تمس بالأسرة كنظام، وما القيود الموجودة على بعض الجرائم الأسرية سوى قيود إجرائية تحول دون تحريك الدعوى العمومية ولا تبيح الفعل في حقيقة الأمر، بل وان الزوج إذا رضي بزنا زوجته ليس هناك ما يمنعه من تقديم الشكوى فيما بعد. وبالتالي البحث ينحصر فقط في الجرائم التي تمس حق الفرد، وحق الفرد بدوره قد يكون حقا مزدوجا، يمس المجتمع والفرد معا، ومثاله حق الحياة، وسلامة البدن، وهنا يجب أن يرجح حق المجتمع ولا يعتد بالرضا الفرد، فمن يطلب من غيره قتله لتخليصه من آلامه التي سببها له مرض خطير أصابه ولا يرجى شفاءه لا يعد رضاؤه سببا لإباحة القتل[7]. لذا فإن بحث مسألة رضاء المجني عليه كسبب من أسباب الإباحة، تقتضي منا أولا، أن نتناول دور الرضاء في قانون العقوبات، وتحديد طبيعته القانونية بخصوص التجريم والعقاب، وذلك في فرع أول، لنتناول في الثاني، الجرائم التي يعمل برضاء الشخص فيها في أهم القوانين المقارنة.
الفرع الأول
دور الرضا وتحديد طبيعته القانوني في قانون العقوبات
        الرضاء في مجال قانون العقوبات غير الرضاء في مجال التقنين المدني، لذا فالبضرورة أن تختلف طبيعته القانونية في القانون الأول، وبناء على ذلك يظهر دوره في مجال أسباب الإباحة.        
أولا: دور الرضا في قانون العقوبات
        في بعض الأحوال الضيقة، يشترط المشرع لقيام الجريمة أن يقف المجني عليه منها موقف الرفض، أي أن ترتكب بدون رضاه، وفي مثل هذه الأحوال الضيقة يكون عدم الرضا عنصرا لقيام الجريمة ذاتها، وذلك يوجب نص يقرر المسألة كونها استثناء عن الأصل العام، بمقتضى الحاجة إلى المانع لا تطرأ إلا إذا وجد المقتضى بتمامه، وهنا يكون الرضا يتمم الجريمة، وأهم الجرائم التي يشترط لقيامها عدم رضا الشخص، وقاع الأنثى بدون رضاها ( 267 تقنين عقوبات مصري)، هتك العرض بالقوة أو بالتهديد ( م 268 قانون عقوبات مصري)، القبض والحجز والحبس دون وجه حق ( 280 قانون عقوبات مصري)، خطف الإناث ( المادة 290 قانون عقوبات مصري) وكذا النصب وانتهاك حرمة منزل.. لذا ففي بعض الأحوال يكون الفعل مستجمعا للشروط التي تجعل منه جريمة، فيتدخل رضاء المجني عليه فيجعله مباحا، مثل عمليات الإتلاف، العمليات الجراحية، وإن كان ليس هناك نص صريح يبيح الجريمة برضا المجني عليه، غير أن الأصول القانونية توجب التسليم بهذه الحقيقة، فمن غير المنطقي إذا أباح القانون في فرع من فروعه حق التصرف في حق معين، أن يمنع قانون العقوبات هذا التصرف، لأن ذلك يعطل حرية التصرف، خاصة وأن القانون يعاقب على العدوان وفي مثل هذه الحالة يغيب عنصر الاعتداء لأن الرضا موجود[8]. لكن ذلك لا يعني أنه سبب للإباحة، بل الجريمة لا تقوم لتخلف أحد عناصرها القانونية، الأمر الذي يقودنا بحث طبيعة الرضاء القانونية.
ثانيا: الطبيعة القانونية للرضا
        يذهب الفقه إلى اعتبار الرضا تصرف قانوني تحكمه قواعد القانون الخاص، بينما يعتبره البعض تصرف قانوني تحكمه قواعد القانون العام، في حين يرى اتجاه ثالث أنه واقعة قانونية لا تصرف قانوني، في حين يرى البعض أنه تصرف قانوني يخضع أساسا لقانون الحق، لذا فهو يخضع تارة لأحكام القانون الخاص، وتارة أخرى لأحكام القانون العام، ويرجع إلى قانون العقوبات في حالتين، حينما ينص  هذا القانون صراحة على حكم خاص بشأن الرضا، وهنا يطبق النص الجنائي مباشرة، والثانية حينما يخلو القانون الخاص من حكم ينظم الرضا في بعض جزئياته، وهنا يستنبط الحكم من المبادئ العامة لقانون العقوبات، وهو ما يتعلق بالسن مثلا، ففي الحالة التي يحدد فيها قانون العقوبات السن المشترطة يعمل بأحكامه، لكن إذا تضمنها النص الخاص المتعلق بالرضا فيحكمه السن القانوني التي نظمها هذا النص، ورغم الخلاف السابق، فإنه يمكن القول بأن الرضاء في قانون العقوبات، عنصر من عناصر قيام الجريمة، حيث أن اشتراط الجريمة للقوة أو العنف أو الخلسة أو دون الرضا، يعني بداهة في حال توفر الرضا تنتفي هذه العناصر وبالتالي لا تقوم الجريمة، مما يجعلنا نقول وبنوع من التحفظ، أنه حتى في القانونين التي لا تنص صراحة على الرضاء كسبب من أسباب الإباحة، فهو ضمنيا سبب أو عنصر يمنع من قيام الجريمة متى تمت الإشارة إليه، لكن في هذه الحالة الفعل يباح لا لأنه ارتبط بسبب من أسباب الإباحة، وإنما لتخلف عنصر من عناصر الجريمة. 
الفرع الثاني
الجرائم التي ينتج فيها الرضا أثره المبيح
        هي مسألة من أدق المسائل الجنائية، واتفق الرأي على أن الرضا لا ينتج أثره بالنسبة لكافة الجرائم، وإنما يقتصر أثره على طائفة محدودة منها، وهو ما نتناوله في نقطة، لنتناول في الثانية شروط الرضا المبيح للفعل. لنتناول في الثالثة حقيقة الرضا كفعل مبيح للجريمة.
أولا: الجرائم التي يعتد بالرضاء فيها
وهي الجرائم التي يكون فيها العدوان منصبا على حق يقبل التصرف فيه، مما يعني أن اثر الرضا يتوقف على طبيعة الحق، وهي الحقوق التي لا تكون فيها منفعة مباشرة للمجتمع وإنما حقوق تقرها الدولة وتحميها لصالح صاحبها، بقصد تمكينه من الانتفاع بها، غير أن المسألة تحتاج إلى تبيان معيار يعمل في الحياة الواقعية، لذا كان الاتفاق أنه لا أثر للرضا في الجرائم التي تقع مباشرة على حق من الحقوق الخالصة للمجتمع، كالصحة العامة والأخلاق العامة أو الجرائم الماسة بالدين، ولا أثر للرضا في الجرائم التي تقع على الدولة، ولا تلك الواقعة على الأسرة، لتبقى باقي الجرائم الأخرى التي يتعين فيها البحث عن طبيعة الحق، ومنها الحقوق المالية وغير المالية، وهناك اتفاق بخصوص الحقوق المالية التي تقبل التصرف فيها عن طريق الرضا، كرضاء الشخص بقطع الأشجار لبناء جاره عليها، في حين الحقوق غير المالية التي تتصل بذات الإنسان أي بعناصر شخصيته، والتي تسمى بالحقوق الشخصية أو اللصيقة بالشخصية، والمنقسمة إلى ثلاث مجموعات، حقوق تتصل بالكيان المادي للشخصية– مثل الحق في الحياة والحق في سلامة البدن-، وأخرى بالكيان المعنوي لها- الحق في الشرف والعرض والعفة وحرمة الحياة الخاصة والمراسلات والمكالمات والمسكن-، والثالثة تتصل بنشاط الشخصية ذاتها- والتي تضم مجموعة من الحريات، مثل حرية التنقل وحرية الاعتقاد وحرية العمل والتعبير...-، والأصل في هذه الحقوق أنها غير قابلة للتصرف فيها كونها من لوازم الشخصية غير القالبة للانفصال، وبالتالي لا مجال للرضا في الحق في الحياة، بينما يمكن في بعض الحقوق الأخرى أن يتم المساس بها سواء عن طريق الاتفاق، مثل عقد الزواج، أو عقد العلاج إذ يبيح القانون للطبيب الاطلاع على عورة المرأة، كما أنه قد يعتد بالرضا حتى في مسائل هتك العرض والعلاقات الجنسية أو الوقاع، والرضا بالتفتيش وإباحة إفشاء السر، وكشف المراسلات والأحاديث الخاصة.    
        غير أنه من بين الحقوق الأكثر إثارة للجدل، هو الحق في سلامة البدن، كونه حق للمجتمع مثلما هو حق للفرد، لذا فقدرة الشخص على التصرف في بدنه محدودة للغاية، لذا فهناك مجالات يعتد فيها بالرضا مثل العلاج والتجميل كونها تصرفات تحقق نفعا للشخص وللمجتمع، لكن الإشكال حينما يقرر الشخص التصرف في بدنه تصرف ينتقص من  كفاءة الجسم، وهنا اتفق الفقه أنه تصرف جائز بشرط ألا يكون يهدد الحق في الحياة أو المساس بنحو خطير أو دائم بالحق في سلامة الجسد، على نحو يهدد بعدم قدرته على أداء وظيفته الاجتماعية على الشكل المعهود، لذا يجوز للشخص التصرف بالهبة أو البيع لعضو من أعضائه مما لا يعرض فقدها جسم الإنسان للخطر[9].
ثانيا: شروط الرضا المبيح
        بما أن الرضا موقفا إراديا، لذا بحثت مسألة ما إن كان يكفي فيه أن يكون ضمنيا أو صراحة، بين نظريتين إحداهما سميت الاتجاه المجرد للإرادة والأخرى سميت نظرية إعلان الإرادة، غير أن الغالبية رأت أنه يمكن للرضا أن يكون ضمنيا، بل أنه يصح أن يكون مفترضا، وهي الظروف التي يستحيل فيها الإفصاح عن الرضا لكنه من المحقق أن الشخص لو كان حاضرا أو قادرا على الإفصاح لأعلن عن رضاه، لكن يجب أن تكتمل شروط الرضا حتى ينتج أثره كسبب مبيح، وهذه الشروط هي: 
1- الصـــــفة:
        وهو أن يصدر الرضا عن صاحب الحق، وهو الشخص المجني عليه في الجريمة، أو من كان مرشحا لأن يكون مجنيا عليه لولا رضاه، وإذا تعدد أصحاب الحق وجب رضائهم جميعا، فإذا رضي البعض دون البعض الآخر كان الرضا غير كاف ليكون سببا من أسباب الإباحة، لكن وإن كان الأصل أن يصدر الرضا من صاحب الحق نفسه، فإنه يجوز أيضا أن يصدر من نائبه، خاصة وأن الإنابة في التصرف في الحقوق المالية جائزة، سواء كانت الإنابة قانونية أو اتفاقية أو قضائية، غير أن الحقوق غير المالية فلا إنابة فيها بالنظر لطابعها الشخصي الشديد، عدا الحالات التي تكون فيها الفائدة التي تعود على صاحب الحق مؤكدة، مثلما هو الشأن بالنسبة للعمليات الجراحية بغرض الشفاء.
2- الأهلـــــية:
        الرضا لا يمكن أن يعتد به إلا إذا كان صادرا من شخص آهل قانونا، والأهلية مناطها الإدراك والتمييز، وأن تسلم الإرادة من العيوب.
3- معاصرة الرضا للفعل:
        يجب أن يكون الرضا قائما وقت إتيان الفعل، فإذا تراخى عنه كان عديم الأثر، حيث أن الفعل حينما اقترف كان غير مشروع فلا يقلبه الرضا اللاحق عملا مشروعا، وإذا تحقق الرضا قبل الفعل فيجب أن يظل قائما حتى يدركه الفعل، فإن رضا الشخص بإجراء عملية جراحية له ثم عدل فالطبيب الذي يجري له هذه العملية بعد العدول يعد مرتكبا لفعل غير مشروع.
ثالثا: حقيقة الرضا كسبب من أسباب الإباحة
        ثار التساؤل عما إن كان الرضا سببا قائما ومستقلا بذاته من أسباب الإباحة، أم مجرد تطبيق من تطبيقات الإباحة الأخرى، وتوصل البعض أنه مجرد علاقة بين الرضا والإباحة، وحقيقة الرضا أنه تصرف قانوني يرتب للغير حق أو رخصة أو يفرض عليه واجبا، ومباشرة الحق أو أداء الواجب هو الذي يجعل الفعل مباحا، فرضا المريض بالعلاج أنشأ للطبيب حق في علاجه، ولجوء الشخص لقسم الشرطة هربا من خصوه هو الذي أنشأ لهم حق باحتجازه لتأمينه، وهو واجب عليهم يجعل من فعلهم مباحا، لذا فالرضا منظورا له بذاته لا يدخل ضمن أسباب الإباحة، بل هو مصدر للحقوق ونشأة بعض الواجبات، لذا الفقه رتب الإباحة على الرضا بغير وجود نص يقرره.
المطلب الثاني
حالــــة الضرورة
        حالة الضرورة من النماذج الجديدة للتنازع بين المصالح المتعارضة، عندما يجد الشخص نفسه مضطرا لارتكاب جريمة لغاية حماية نفسه أو غيره من ضرر جسيم، مثل الأم التي تسرق لإعالة أولادها، وسائق السيارة الذي يصدم سيارة أخرى لتفادي دهس المارة، ومن يخرج عاريا للطريق العام تهربا من حريق شب بالمنزل، والطبيب الذي يجري عملية استعجاليه لمريض عجز عن أخذ رضائه.ويعالج البعض حالة الضرورة كسبب من أسباب الإباحة، كونها تستند للتضحية بحق رعاية لحق أكثر أهمية، مما يجدر معه إضفاء صفة الإباحة عليها. خاصة وأن شرعت لحماية مصلحة الغير أيضا وليست لمصلحة المضطر فقط، مما يعني إقرار لحماية الحق الأجدر بالحماية، وأن الفقه الفرنسي في مجمله يجعلها سببا من أسباب الإباحة، في حين الفقه المصري يرى أن المشرع المصري اعتبرها مانعا من موانع المسؤولية بالنظر لصيغة نص المادة 61 من قانون العقوبات. التي استهلت بعبارة " لا عقاب" وهو ما يعارضه البعض ويرى عدم ضرورة التقيد بعبارات النص. وحالة الضرورة كسبب من أسباب الإباحة قريبة جدا من حالة الدفاع الشرطي، إذ تتطلب شروطا في الخطر( المقابل لفعل العدوان في حالة الدفاع الشرعي)، وشروطا أخرى في فعل الضرورة ( المقابل لفعل الدفاع في حالة الدفاع الشرعي). وهو ما نبينه باختصار من خلال الفرعين التاليين.
الفرع الأول
الشروط المتطلبة في الخطر
        حالة الضرورة تتطلب خطرا يحل بالشخص حتى يمكنه اللجوء لفعل الضرورة الذي يشكل في الأصل جريمة لرد الخطر السابق، لذا فالخطر الذي يبرر اللجوء إلى هذا الفعل المجرم، الذي يباح بسبب خصائص الخطر، يوجب أن يستجمع الأخير جملة من الشروط، هي التي نتناولها في النقاط التالية.
أولا: خطر جسيم
        يشترط في الخطر الذي يبرر حالة الضرورة أن يكون خطرا جسيما، وهو ما لم يشترطه قانون العقوبات الفرنسي الجديد في المادة 122/7، وشرط الجسامة صفة موضوعية لصيقة بالخطر من حيث مساسه بالمصلحة المحمية، ويقدر القاضي في تقديره الظروف التي أحاطت بالمتهم في ظل الظروف الموضوعية التي أحاطت به، دون أن يشترط فيه أن يكون جريمة مثلما هو الشأن بالنسبة لحالة الدفاع الشرعي، لذا فيمكن أن يكون مصدر الخطر فعل إجرامي أو غير إجرامي، أو قد يكون واقعة طبيعية كالفيضان والزلزال وهبوب العواصف، أو خطر مادي مصدره الآلات الصناعية والتوصيلات الكهربائية
أو سبب نفسي كالجوع والمرض وخشية الفضيحة والعار[10].
ثانيا: خطر مهدد للنفس
        المشرع المصري قدر بأن الأخطار المهددة للنفس هي الجديرة وحدها بالرعاية في حالة تصارعها مع المصالح الأخرى، لذا في مصر لا مجال لحالة الضرورة إذا كان الخطر مهددا للمال، مهما بلغت جسامة هذا الخطر، وهنا لا يجوز لربان السفينة إلقاء البضائع في البحر لإنقاذ السفينة من الغرق، على عكس التشريعات الأخرى مثل القانون السويسري والنرويجي والسوري واللبناني والأردني التي سوت بين الأخطار المهددة للنفس وتلك المهددة للمال، وأهمها المادة 122/7 من تقنين العقوبات الفرنسي.
ثالثا: خطــر حــــــال
        وهو أن يعرض الخطر بطريقة حالة ومباشرة المصالح المحمية في قانون العقوبات للضرر، فلا يبرر حالة الضرورة الخطر المستقبلي ولا الخطر الذي انتهى، ويتحدد موضوع حيلولة الخطر وفقا لمعيار موضوعي كذلك الذي تناولناه في مجال الدفاع الشرعي، ويجب أن يكون خطر حال حقيقي لا توهمي وهنا كل ما يحدث انتفاء القصد الجنائي ويسأل الشخص عن جريمة غير عمدية إذا كان القانون يعاقب عليها بهذا الوصف، كمن يرى دخان يتصاعد من نافذة جاره فيكسر الباب ويتضح أنها اشتعلت بفعل أصحاب المنزل للشواء، وعلى عكس ذلك، يرى البعض قيام حالة الضرورة بالخطر الوهمي، غير أن أنصار هذا الاتجاه يصنفون حالة الضرورة من بين موانع المسؤولية ويستوي بعد ذلك المصلحة التي يهددها الخطر كأن يكون السمعة والشرف، كما يستوي أن يكون مصدره عمل الإنسان أو الطبيعة.
        غير أن المشرع يشترط ألا يكون مصدر الخطر المتهم ذاته، وهو ما بينته المادة 61 من تقنين العقوبات المصري، التي تبعها الفقه على اعتبار حالة الضرورة مانع من موانع المسؤولية، غير أن البعض يرى أن ذلك لا يستقيم مع النظرة الصحيحة لحالة الضرورة كسبب من أسباب الإباحة، غير أن الخلاف لم ينحصر عند هذا الحد، بل امتد لمناقشة ما إن كان دور المتهم في إحداث الخطر عن عمد أو عن طريق الخطأ، فاتفق على أنه لا ضرورة في حالة العمد، كمن يشعل النار في مسرح ثم لينجو يدوس على طفل فيقتله، والقضاء الفرنسي ينفي حالة الضرورة حتى إن كان دور المتهم في إحداثها كان على سبيل الخطأ، في حين لا يوافق البعض ذلك، إذ يمكن إن تسبب الشخص بإهماله في إحداث خطر أن ينقذ مصلحة أجدر بالرعاية، مثل سائق السيارة الذي يسير بسرعة ولتفادي الاصطدام بسيارة تسير في الاتجاه المنعكس أن ينحرف يسارا ويصدم أحد المارة فيقتله، وربان السفينة الذي بإهماله توشك السفينة على الغرق لكن لإنقاذ نفسه والغير يلقي البضائع في البحر[11].       وبتوفر هذه الشروط في الخطر، يستوي أن يكون من تعرض له مرتكب الفعل الضروري أو غيره من الناس، ولا يشترط أن يكون هذا الغير من أقارب الجاني، بل يكفي مطلق الغير.
الفرع الثاني
الفـعل الضروري ( فعل الضرورة)
        يشترط في الفعل الضروري الذي يرتكبه الشخص المضطر، مثلما يشترط في فعل الدفاع في حالة الدفاع الشرعي، وهما شرطي اللزوم والتناسب، وهما الشرطين الذين نتناول كل منهما في نقطة مستقلة.
أولا: شرط اللـــــــزوم
        وهو أن يكون اللجوء إلى الجريمة التي تشكل الفعل الضروري التي يكون غرضها دفع الخطر الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف، إذ إن كانت أمامه وسيلة أخرى مشروعة لا يعد فعله ضروريا[12]، واللزوم يقاس بمعيار موضوعي يتعلق بالشخص العادي المحاط بنفس الظروف التي يوجد بها المضطر. ومن توفر لديه الهرب فيجب أن يسلكه ولا يلجا لارتكاب الجريمة، وهنا تختلف حالة الضرورة عن حالة الدفاع الشرعي، ويستوي أن تكون الجريمة اللازمة لدرء الخطر الذي يتهدد المضطر جريمة عمدية
أو جريمة غير عمدية، مثل سائق سيارة الإطفاء الذي يسير بسرعة لإنقاذ الناس فيصطدم بالغير، أو من يصعد بسيارته على الرصيف هروبا من دهس أطفال أمامه فيصدم شخصا آخرا[13]. بينما ترى محكمة النقض الفرنسية في هذا الشرط، أن تكون الجريمة هي أحسن وسيلة لتفادي الخطر، لا أن تكون الوسيلة الوحيدة. ويضاف لكل ما سبق ألا يكون الشخص ملزما قانونا بتحمل الخطر الذي يعترضه، مثل الجندي في ميدان القتال، ورجال البوليس في ممارستهم لمهامهم، والمتهم المقبوض عليه، والمحكوم عليه بالإعدام، وربان السفينة عندما تتعرض للغرق، فكل هؤلاء يتعرضون لخطر جسيم على النفس، ولكنهم ملزمين بتحمل هذا الخطر بحكم وظائفهم التي تقتضي بحكم طبيعتها التعرض لمثل هذه الأخطار[14]
ثانيا: شـــرط التناسب
        حالة الضرورة تقتضي شانها شأن الدفاع الشرعي التناسب، سواء كان عاما وهي ارتكاب جريمة من حيث الجسامة بأنها الوحيدة الممكنة من بين الجرائم التي كان يمكن ارتكابها، أي لا يمكن للشخص النجاة من الخطر الذي يتهدده إلا بتلك الجريمة التي ارتكبها، ويتحدد هذا التناسب وفقا لمعيار موضوعي واقعي قوامه الشخص المعتاد الذي مر بنفس الظروف التي مر بها الجاني[15]. كما تشترط حالة الضرورة أيضا التناسب الخاص، في الحالات التي يلجا فيها لجريمة القتل، فهنا لا يجب أن يحدث الجاني ضررا يفوق الضرر الذي أراد تجنبه، على عكس التناسب الخاص في مجال الدفاع الشرعي، فالطبيب الذي يجري عملية جراحية لولادة عسيرة ليس له أن يضحي بحياة الأم لينقذ الجنين، ولا يجوز لشخص ينحرف بسيارته لتجنب قتل شخص أن يقتل عدد أكبر من الأشخاص[16]. وتدق المسألة بخصوص مدى توفر حالة الضرورة في حالة قتل إنسان لأجل إنقاذ حياة إنسان آخر، فهنا يرى البعض أنه في حالة تساوي المصالح يجب تفضيل مصلحة البريء الذي لم يصدر عنه أي خطر، مثل حالة من أراد تجنب صدم أحد المارة فيصدم الآخر، ولا يجب أن يقتل الشخص غيره لإنقاذ حياته[17].
        وفي حالة تجاوز الضرورة يعتبر الشخص مرتكبا لجريمة عمدية إذا كان القانون يعاقب عليها بهذا الوصف، وإذا كان التجاوز مبنيا على أسباب معقولة انتفت كل مسؤولية، وغن كان التجاوز عمديا اعتبر المتجاوز مسؤول مسؤولية جنائية كاملة.
        هذا وبعد ان تناولنا في فصلين متتاليين الركن الشرعي للجريمة، وأسباب الإباحة كأسباب تنفي هذا الركن أصلا وتعطل مفعوله، سنتناول في الفصل الموالي، أهم ركن من أركان الجريمة، ألا وهو الركن المادي على اعتبار الجريمة أفعال وسلوكات نهى عنها النص القانوني، أي الركن المادي تجسيد للركن القانوني.


الفصل الثالث
الركن المادي للجريمة
الركن المادي للجريمة يقصد به تطابق الفعل الذي أتاه الجاني مع النموذج القانوني للجريمة، كون القانون يحدد أركان وشروط الجريمة وبها يتحدد النموذج القانوني لها، أو المظهر القانوني لها، ليأتي المظهر المادي الذي يتحدد بالواقعة التي حدثت في العالم الخارجي من قبل الجاني، ويشترط فيه أن يتطابق مع المظهر القانوني الذي بينه المشرع. لذا فالركن المادي للجريمة، هو وجهها الخارجي الظاهر، وبه يتحقق الاعتداء على المصلحة المحمية قانونا، وعن طريقه تقع الأعمال التنفيذية للجريمة، إذ لا وجود لقانون عقوبات في الدول الديمقراطية يعاقب على مجرد النوايا. فكل جريمة لا بد لها من ماديات تتجسد فيها الإرادة الإجرامية لمرتكبها، فالقانون الجنائي على عكس قواعد الأخلاق ليس له سلطان على ما في ضمائر الناس من أفكار شريرة ومن نوايا إجرامية، حتى ولو وصلت مرحلة عقد العزم والتصميم ما لم تخرج لعالم الماديات التي تجسد هذه النوايا وتصبح تعرض المصالح والحقوق للأخطار، فهنا يتصدى لها القانون الجنائي يعاقب عليها. وبالتالي الركن المادي هو ما يدخل في البناء القانوني للجريمة من عناصر مادية ملموسة يمكن إدراكها بالحواس.
أهمية اشتراط الركن المادي لقيام الجريمة:
        إن أهمية اشتراط المشرع للركن المادي للجريمة، تكمن أساسا في كونه الركن الذي يجسد ما يعرف بمبدأ " مادية الجريمة  Le Principe de la matérialité de l’infraction"، فالقانون الجنائي لا يهتم بالبواطن والنوايا، وإنما يهتم فقط بالظاهر المادي الملموس، وهو أمر لا يخلو بأي حال من الأحوال من فعالية قانون العقوبات وتحقيقه للعدالة المنشودة، فمن العدالة ألا يحاسب الأفراد على نواياهم، متى لم تتجسد في نشاط مادي خارجي ملموس يلحق أضرارا بالمصالح المحمية قانونا، أو مجرد تهديدها بأخطار، مهما كانت هذه النوايا والنوازع حافلة برغبة مخالفة القانون – كون قانون العقوبات يحمي الحقوق والمصالح من الاعتداءات الفعلية الواقعة عليها، أو مجرد تهديدها أي احتمال الإضرار بها-.
        كما انه ليس من الجدوى والفعالية تجريم النوايا والعقاب عليها، كون هذه النوايا ليست ضارة في حد ذاتها، بل أن تجريمها قد يشجع الأفراد على تجاوز مرحلة النوايا والإقدام فعلا على ارتكاب الأفعال، متى كانوا في الحالتين معرضين لعقاب القانون، مما يجعل عدم العقاب على النوايا يعد في حد ذاته ضمانة من الضمانات المكرسة لحقوق وحريات الأفراد[18].
        وتظهر أهمية اشتراط الركن المادي أيضا، في تسهيل عملية إثبات الجريمة، لأنه إن كان من اليسير إثبات وقوع ماديات الجريمة، التي تجسدت في أفعال خارجية ملموسة أحدثت أثارا في العالم الخارجي،
 أو على الأقل يمكن إدراكها بالحواس حتى وإن لم تصل لحد ترتيب آثارها، فإنه من العسير جدا إثبات النوايا، في الحالات التي يرتأى فيها المشرع تجريم هذه النوايا، وبذلك يكون القانون منفذا لإفلات الجناة من العقاب[19]. وقانون العقوبات في غالب الأحوال لا يشترط مجرد السلوك، بل يتطلب تحقق نتيجة معينة تكون أثرا لهذا السلوك، وأن يكون الأخير مسببها، لذا فالركن المادي للجريمة التامة يتحلل في العادة إلى ثلاثة عناصر، هي: السلوك، النتيجة، وعلاقة أو رابطة سببية تربط بين هذا السلوك والنتيجة التي تحققت، وهو ما الوضع العادي والمألوف للجرائم التامة ، غير أن هذه العناصر قد لا تتحقق مجتمعة ومع ذلك يتدخل المشرع بالعقاب، وذلك في الحالات التي يأتي فيها الشخص بالسلوك إلا أن النتيجة تتخلف، وهو ما يسمى بالشروع أو المحاولة، وهو موضوع بحث في المبحث الثاني، كما أن الوضع العادي والمألوف للجرائم أن فعلا واحدا مجرما يسهر على تنفيذه فاعل واحد، غير أنه يمكن أن تتضافر جهود العديد من الأشخاص لاقتراف الفعل، وفي هذه الحالة نكون أمام مشروع إجرامي لأطراف متعددة، وهي صورة خاصة من صور الركن المادي للجريمة، وتسمى بالمساهمة الجنائية أو الاشتراك، الذي يكون موضوع بحث في المبحث الثالث.


المبحث الأول
تحليل الركن المادي للجريمة
عناصره في حالة الجريمة التامة
        الركن المادي للجريمة، وفي غالبية الجرائم، يتحلل – مثلما سبق القول- إلى ثلاثة عناصر، هي السلوك سواء تمثل في فعل أو مجرد امتناع، ونتيجة يكون سبب حدوثها هذا السلوك، سواء كانت نتيجة مادية يمكن إدراكها في العالم الخارجي أو مجرد نتيجة بالمفهوم القانوني، وأن ترتبط هذه النتيجة برابطة أو صلة أو علاقة سببية، بمعنى أن يكون السلوك سبب في حدوث وتحقق النتيجة، والعناصر الثلاثة السابقة، هي العناصر العامة للركن المادي لكل جريمة تامة وقعت طبقا للنموذج القانوني أو التشريعي المرسوم لها من قبل المشرع، مع ملاحظة أنه هناك من الجرائم ما لا يشترط فيها المشرع تحقق نتيجة معينة، أي لا تعد النتيجة عنصرا لازما في ركنها المادي، وهي ما تعرف بجرائم السلوك المجرد أو السلوك المحض، كما تسمى أيضا بالجرائم الشكلية، كجريمة حيازة سلاح بدون ترخيص، ومثل هذا النوع من الجرائم يقوم على مجرد إتيان السلوك المجرم، دون اشتراط ترتب نتيجة عليه.
        كما أنه هناك جرائم يتطلب البناء القانوني لركنها المادي ، وبالإضافة للعناصر العامة الثلاثة السابقة، عناصر أخرى خاصة تستخلص من نص التجريم ذاته، والتي يتوقف على توفرها اكتمال الجريمة قانونا من الناحية المادية، من أمثلة هذه العناصر الخاصة، ما يتعلق بمحل العدوان الذي ينصب عليه السلوك، مثل الإنسان الحي في جريمة القتل ( المادة 254 قانون عقوبات جزائري)، والمال المملوك للغير في جريمة السرقة ( المادة 350 قانون عقوبات جزائري)، والمحرر المكتوب في جريمة التزوير ( المادة 214 وما بعدها من قانون العقوبات). وقد يتعلق العنصر الخاص بصفة في الشخص، سواء كان جاني أو مجني عليه، ومن أمثلة الصفة المتطلبة في الجاني، صفة الموظف في جريمة الرشوة، وجريمة الاختلاس[20]، وصفة الزوج أو الزوجة في جريمة الزنا ( المادة 339)، ومن العناصر الخاصة المشترطة في المجني عليه، القاصر ( المادة 236 وما بعدها)، وصفة الموظف أو الهيئة النظامية في جرائم الإهانة والتعدي على الموظفين ومؤسسات الدولــة ( المادة 144 وما بعدها)، وترك الأطفال والعاجزين ( المادة 314 وما بعدها)...  وقد ينصب العنصر الخاص بالوسيلة المستعملة في ارتكاب الجريمة، مثل السرقة باستعمال السلاح ( المادة 351 ق ع ج) ، وجريمة القتل بالتسميم ( المادة 260 ق ع ج). كما قد يتعلق العنصر الخاص بزمان أو مكان ارتكاب الجريمة، ومن أمثلة اشتراط زمن معين في بعض الجرائم، الجرائم التي ترتكب في زمن السلم ( المادة 74 وما بعدها)، ومن أمثلة الجرائم التي تتعلق بالمكان، جريمة القذف التي تشترط العلنية في مكان عام ( المادة 296)، وجريمة السكر العلني، والمخالفات المتعلقة بالطرق العمومية ( المادة 444 مكرر وما بعدها). غير أن موضع دراسة هذه الأركان الخاصة هو القسم الخاص لقانون العقوبات، لذا تنحصر دراستنا في هذا الموضوع على العناصر العامة للركن المعنوي فقط، ونتناول كل منها في مطلب مستقل من المطالب الثلاثة التالية. 
المطلب الأول
السلوك الإجرامي ( أو الجرمي أو المجرم)
مبدأ: السلوك مادة الجريمة وأداة مخالفة القانون
        يعد السلوك الإجرامي من أهم مكونات الركن المادي للجريمة، وأكثر هذه العناصر إفصاحا عن مخالفة الجاني لأوامر ونواهي قانون العقوبات، ويعرف السلوك باختصار، بأنه ذلك التصرف أو الفعل
 أو الموقف الذي إذا أتاه الشخص عوقب، لذا كان من الطبيعي أن يحدد سلوك كل جريمة من قبل المشرع تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية، لأن الجرائم أفعال تطبيقا لمبدأ " لا جريمة دون فعل"[21]، وهو الفعل الذي قد يكون إيجابيا يأتيه الشخص بالمخالفة لنواهي قانون العقوبات، وقد يكون سلبيا يأتيه الشخص بالمخالفة لأوامر هذا القانون، وهما صورتا السلوك المؤثم قانونا، الأولى – الفعل الإيجابي- وهي الصورة الشائعة التي تستوعب غالبية الجرائم، والثانية – السلوك السلبي- أقل مقارنة بالأولى، وتسمى الجرائم في هذه الحالة بالجرائم السلبية أو جرائم الامتناع وأحيانا جرائم الترك، وهي قلة قليلة مقارنة بالجرائم الإيجابية أو جرائم الفعل. لذا سنحاول أن نتناول صورتي السلوك من خلال الفرعين التاليين.

الفرع الأول

السلوك الإيــجابي ( الفعـــــــل)
        وهي صورة من السلوك المشكلة للركن المادي لغالبية جرائم قانون العقوبات، ويسميها الفقه أيضا:
 " النشاط" أو "السلوك"، ويتمثل في الغالب في حركة أو مجموعة حركات عضوية إرادية تحدث تغييرا في العالم الخارجي الملموس، ويكون السلوك فعلا إذا استخدم فيه الجاني أعضاء جسمه، كما لو استعمل يديه في الضرب أو القتل، أو لسانه في جريمة القذف أو السب أو التهديد الشفوي أو تحريض الغير على ارتكاب الجرائم، أو استعمال رجله في جريمة التعدي على الملكية العقارية واغتصابها واحتلالها، لذا فمن أهم خصائص السلوك الإيجابي هي: 
أولا: السلوك الإيجابي حركة أو عدة حركات عضوية
        السلوك الإيجابي أو الفعل، يعد عبارة عن حركة أو مجموعة حركات عضوية، يأتيها الجاني لتنفيذ جريمته، فقد تكون حركة واحدة كتوجيه ضربة للمجني عليه أو إطلاق رصاصة عليه، أو توجيه إهانة واحدة له، أو مجموعة حركات عضوية تستند إلى قرار جرمي واحد، كاستمرار الجاني في طعن المجني عليه بعدة طعنات متتالية، أو إطلاق العديد من الرصاصات نحوه، في حين السلوك السلبي أو الامتناع فهو إحجام عن الحركة، في أوضاع كان يتعين على الشخص إتيانها، وتسمى الجرائم التي تقع بالسلوك الإيجابي بالجرائم الإيجابية، في حين تسمى الجرائم التي تتحقق بالامتناع، بالجرائم السلبية.
        ويجب أن تكون الحركة أو مجموعة لحركات العضوية، عبارة عن حركات مادية مصدرها عضو من أعضاء جسم الإنسان، دون اعتداد في ذلك – في غالبية الأحوال- بالوسيلة المستعملة في تحقيق هذا السلوك، على اعتبار أن الوسيلة ذاتها، تسيرها الحركة الصادرة عن عضو الإنسان[22]..
ثانيا: السلوك حركة إرادية هادفة لتغيير وضع قائم
        يشترط في السلوك الإيجابي، زيادة على كونه حركة أو مجموعة حركات عضوية مادية صادرة عن عضو أو أكثر من أعضاء جسم الإنسان، أن تكون القوة الدافعة لهذه الحركة هي الإرادة، بمعنى أن تكون الحركة إرادية صادرة عن وعي وإدراك وحرية اختيار، وبعبارة أخرى يشترط أن تكون هناك صلة نفسية بين الحركة والإرادة، كون الحركة اللاإرادية حتى وإن ترتب عنها النتيجة المجرمة قانونا، إلا أن مسؤولية الشخص عنها منتفية، والإرادة هذه يجب أن تهدف إلى تغيير وضع قائم، والمقصود بذلك أن يكون هذا التغيير متمثلا في الاعتداء أو الإضرار أو مجرد احتمال التهديد للمصالح والحقوق المحمية بموجب قانون العقوبات.
الفرع الثاني
الســـلوك السلبي
( الترك أو الامتناع أو عدم الفعل[23] )
        القانون الجنائي لا يعاقب فقط على السلوكات الإيجابية المتمثلة في حركة أو مجموعة حركات عضوية مادية إرادية – وإن كان ذلك الأصل-، بل هو يعاقب أيضا على بعض التصرفات والسلوكات السلبية الضارة، وذلك كاستثناء، والسلوك السلبي يتمثل في موقف سلبي يتخذه الشخص إزاء قاعدة قانونية تطالبه بالقيام بعمل ما، فيمتنع عن القيام به، أو يقوم بعمل مضاد للعمل الذي أمرت به القاعدة القانونية، لذا فالامتناع بدوره عبارة عن عمل إرادي واعي مصدره الإرادة الحرة المختارة لا مجال فيه للقول بقيام المسؤولية الجنائية للممتنع في حال ما إذا دفعته قوة قاهرة أو أكره عليه.
        ومن أمثلة جرائم الامتناع في قانون العقوبات الجزائري، امتناع الشاهد عن الحضور أمام الجهات القضائية الجزائية ( المادة 89 من قانون الإجراءات الجزائية بخصوص الامتناع عن الحضور أمام قاضي التحقيق، والمادة 222 من ذات القانون بخصوص امتناع الشاهد عن الحضور أمام جهات الحكم الجزائية، والمادة 299 من ذات القانون بخصوص امتناع الشاهد عن الحضور أمام محكمة الجنايات)، وامتناع الموظف عن تطبيق ما أمر به القانون ( المادة 109 قانون عقوبات)، وامتناع الشخص الذي يعلم بالشروع في ارتكاب جناية أو وقوعها ولا يخبر السلطات المختصة بها فورا ( المادة 181 ق ع ج).
        وفي كل هذه الحالات نكون أمام جرائم امتناع، لأن النص الجنائي ألزم الشخص بالقيام بعمل معين تحت طائلة توقيع جزاء جنائي ولم يقم به، لذا فجرائم الامتناع عبارة عن جرائم محددة العناصر في النصوص الجزائية، تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية، لذا فلا يجوز اللجوء للتفسير الواسع ولا القياس فيها، والقانون في العادة ما يعاقب على مجرد السلوك السلبي فيها، دون أن يشترط تحقق نتيجة معينة تترتب عن هذا الامتناع، مما يجعل غالبيتها من جرائم السلوك المحض. غير أن الفقه أوجد طائفة جديدة من الجرائم سماها جرائم السلوك بالترك، أو الجرائم الإيجابية التي تقع بجريمة امتناع، أين يكون السلوك مجرد امتناع لكنه يقترن بتحقق نتيجة مادية معينة، مثل امتناع الطبيب عن القيام بعلاج المريض مما يؤدي لموت المريض، أو امتناع الأم عن إرضاع ابنه مما يؤدي إلى إهلاكه.
المطلب الثاني
النتيجة الإجرامية ( أو المجرمة)
        يقصد بالنتيجة كأحد العناصر المكون للركن المادي للجريمة، الأثر الطبيعي المترتب عن السلوك المجرم قانونا، وهو المفهوم المادي للنتيجة المتمثل في وجود أثر مادي أو تغير يحدث في العالم الخارجي الملموس، في حين المفهوم القانوني للنتيجة، فيتمثل في الاعتداء على المصالح والحقوق المحمية قانونا.
وقد يظهر أن النتيجة أمر لا ينفصل عن السلوك المادي، بحيث يقوم الجاني بعمل واحد تعد النتيجة آخر حلقاته، غير انه في الواقع، النتيجة تعد العنصر الثاني المستقل والمنفصل من عناصر الركن المادي للجريمة، وما يدل على ذلك تمييز المشرع بين الجريمة التامة ومجرد الشروع- وهو موضوع دراسة مستقلة لاحقا- فلو كانت النتيجة عنصرا ملازما للسلوك لما قام المشرع بهذه التفرقة، ولما كانت هناك أصلا حاجة للعقاب على الشروع، ما دامت النتيجة ملازمة للسلوك، لذا فالسلوك أمر مستقل عن النتيجة. لذا فالنتيجة عنصر من عناصر الركن المادي، يتمثل في التغيير الذي يحدثه السلوك في العالم الخارجي الملموس، والذي قد يكون أثرا ماديا، مثل حدوث الوفاة في جريمة القتل، والاستيلاء على مال الغير في جريمة السرقة، وقد يكون مجرد أثر نفسي، مثلا كالحط من قيمة ومكانة الشخص في وسط أقرنائه في المجتمع كجرائم القذف والسب، لذا نرى أن النتيجة المعتد بها قانونا، ليست النتيجة الواقعية التي حدثت في العالم الخارجي، أو ما يعتبره المجني عليه أنه نتيجة أضرت به، وإنما النتيجة هي ما يعتد به القانون ويعتبره تغييرا قانونيا.
        والنتيجة عنصر لازم في معظم الجرائم، خاصة تلك التي يرتب فيها المشرع على تحقق النتيجة أحكام قانونية، تتعلق أساسا بالشروع والاشتراك والقصد الجنائي، غير أن النتيجة قد لا تكون عنصرا لازما في الركن المادي لبعض الجرائم، التي تقوم ويكتمل ركنها المادي بمجرد إتيان السلوك، وتسمى الجريمة في هذه الحالة، بالجريمة الشكلية أو جرائم الخطر أو جرائم السلوك المحض، مقارنة بالجرائم المادية أو جرائم الضرر، التي تتطلب نتيجة[24].      لذا نرى بأن دراسة فكرة النتيجة كعنصر عام وهام في الركن المادي للجرائم، تقتضي منا تناول موضوع التفرقة بين النتيجة المادية والنتيجة القانونية، وذلك في فرع، لنتناول في الثاني التمييز بين الجرائم المادية ذات النتائج، والجرائم الشكلية التي لا يشترط فيها المشرع تحقق نتيجة معينة.


الفرع الأول
التمييز بين النتيجة المادية والنتيجة القانونية
النتيجة بين المفهوم المادي والمفهوم القانوني[25]:
        النتيجة عموما هي الأثر الطبيعي الذي يتمخض عن السلوك ويعتد به القانون، وهو التعريف الذي يشتمل على ثلاثة عناصر، أن النتيجة أمر واقعي له وجود خاص وذاتية مستقلة، وهي في حقيقة الأمر تتميز عن السلوك مهما كانت مرتبطة به، والقانون أحيانا قد يتطلب حدوث نتيجة معينة، وأحيانا يكتفي بالنص على صلاحية السلوك لإحداثها، أما العنصر الثاني للنتيجة فهو ارتباطها بالسلوك برابطة سببية، وهي الرابطة
 أو العلاقة التي تعد بالغة التعقيد والأهمية، والعنصر الثالث هو اعتداد القانون بالنتيجة، إذ الفعل الواحد قد يرتب نتائج متعددة، وهي النتائج التي قد تولج نتائج أخرى، غير أن القانون يهتم بالبعض دون البعض الآخر، والمشرع قد يجعل بعض النتائج عنصرا لازما لوقوع الجريمة والبعض الآخر من نتائجها المشددة، أو ظرفا مؤثرا في عقوبتها فحسب، مثال الأول حدوث الوفاة في جريمة القتل، ومن أمثلة الثانية العاهة المستديمة في جريمة الضرب، وفي هذا المقام تهمنا النتيجة كعنصر لا كظرف، غير أن النتيجة تعد أحيانا من عناصر الجريمة إذ لا تقوم هذه الأخيرة دونها، في حين قد يكتفي المشرع بالسلوك وحده في بعض الأحيان، وفي هذا الصدد قسمت الجرائم حسب الفقه، إلى جرائم  نتيجة وجرائم سلوك محض.
أولا: المفهوم المادي للنتيجة
        النتيجة بالمفهوم المادي تتحقق بكل تغيير يحدث في العالم الخارجي كأثر للنشاط الإجرامي[26]، ووفقا لهذا المفهوم للنتيجة أهمية قانونية في موضوعين، الأول بخصوص اكتمال الجريمة وتمامها، والثاني كمعيار لتحديد العقوبة، ووفقا للأهمية الأولى تقسم الجرائم على جرائم مادية ذات نتيجة، وأخرى شكلية كل ما تتطلبه مجرد السلوك، وهو ما نبينه في الفرع الثاني. بعد أن نتناول المفهوم القانوني للنتيجة.
ثانيا: المفهوم القانوني للجريمة
        وهي النتيجة المتمثلة في العدوان على الحق أو المصلحة المحمية قانونا، سواء تمثل هذا العدوان في إصابتها بضرر أو مجرد تعريضها للخطر، لذا فهي وفقا لهذا المفهوم، لا تعد تغييرا في العالم الخارجي يمكن للحس أن يدركه ويميز بينه وبين سلوك الجاني، وإنما هي تقدير قانوني للسلوك أو حكم على هذا السلوك من وجهة نظر المشرع، وبهذا المفهوم النتيجة موجودة في كل جريمة، كون كل جريمة تقوم على سلوك، في حين المفهوم المادي للنتيجة المقابل للمفهوم القانوني هو ما يترتب عن السلوك من اثر مادي في العالم الخارجي المحسوس.

الفرع الثاني
التمييز بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية
( الجرائم ذات النتائج والجرائم ذات السلوك المجرد المحض)
        سبق القول بأنه ليست كل الجرائم مما يتطلب فيها المشرع تحقق نتيجة مادية تحدث تغييرا ملموسا في العالم الخارجي، بل هناك من الجرائم ما يقوم ركنها المادي على مجرد إتيان السلوك بغض النظر عما إن رتب هذا السلوك نتيجة من عدمه، وبناء على ذلك تنقسم الجرائم من هذه الوجهة، إلى جرائم مادية ذات نتائج، وجرائم شكلية ذات سلوكات فقط، لذا سنحاول أن نتناول معنى النوعين كل في نقطة، لنتناول في نقطة مستقلة أهمية التفرقة بين النوعين
أولا: الجرائم المادية
الجرائم المادية، هي جرائم يتطلب المشرع فيها أن يترب السلوك نتيجة مادية كأثر ملموس في العالم الخارجي المحسوس، أو على الأقل مجرد احتمال حصول هذه النتيجة كأثر مباشر عن السلوك، مثلما هو الشأن بالنسبة لجرائم الشروع، وهذا النوع من الجرائم هو الأكثر شيوعا في القوانين العقابية، إذ غالبية الجنايات والجنح تشترط وقوع نتيجة كأثر مباشر عن السلوك المجرم، سيما في السلوكات الإيجابية. لذا يسمى هذا النوع من الجرائم أيضا " الجرائم ذات النتائج"، أو " جرائم الضرر"، لأن النتيجة في حقيقتها ضرر أصاب مصلحة أو حق محمي قانونا، حتى وغن تجسد هذا الضرر في مجرد احتمال أو تهديد مثلما هو الأمر بالنسبة لجرائم الشروع.
ثانيا: الجرائم الشكلية
        في مقابل الجرائم المادية ذات النتائج، توجد هناك جرائم شكلية لا يشترط المشرع لقيامها حدوث نتيجة كأثر مباشر مترتب عن السلوك المجرم، لذا فهي تسمى أيضا " جرائم السلوك المحض" أو " جرائم السلوك المجرد"[27]، ومن أمثلة هذه الجرائم، عرض الرشوة على موظف عام، تزوير أو تزييف النقود دون ترويجها، تزوير الأوراق دون استعمالها، حيازة الأسلحة بدون ترخيص ودون أن تستعمل في ارتكاب جرائم، حمل الأوسمة أو ارتداء الأزياء الرسمية بدون وجه حق.
ثالثا: أهمية التفرقة بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية
        للتفرقة بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية، أهمية قانونية بالغة الآثار، وذلك بالنظر للنتائج القانونية المترتبة على هذا التمييز أو هذه التفرقة، خاصة بخصوص علاقة السببية، وفي مجال الشروع، وبخصوص العدول الاختياري. فبخصوص العلاقة السببية، لا مجال للبحث عنها في مجال الجرائم الشكلية، فهي صلة أو رابطة متطلبة فقط في الجرائم المادية ذات النتائج، كونها علاقة أو رابطة تفترض أصلا وجود عنصرين، هما السلوك والنتيجة، وتكون هي الرابط بين هذين العنصرين، وإن كان يجب قيامها وإثباتها في مجال قيام الركن المادي في الجرائم المادية ذات النتائج، فالأمر غير ممكن بخصوص الجرائم الشكلية، وذلك لانعدام النتيجة التي يبحث عن علاقتها بالسلوك، إذ هذا الأخير كاف لوحده لقيام الركن المادي.
        وأما بخصوص الشروع – الذي سيكون موضوع دراسة مفصلة- فلا يمكن تصوره في الجرائم الشكلية، إذ السلوك المجرم إما أن يأتيه الشخص وإما أن لا يأتيه إطلاقا، على عكس الجرائم المادية ذات النتائج فهي جرائم تشكل مجالا خصبا لجرائم الشروع، هذه الأخيرة التي تتمثل في إتيان السلوك في بعضه
 أو في كله من قبل الجاني، وبالرغم من ذلك لا تتحقق النتيجة لظرف أجنبي خارج عن إرادة الجاني.
        وأما بخصوص العدول الاختياري، وهو فكرة قانونية تتعلق بنظرية الشروع، فلا يمكن تصوره إلا في الجرائم المادية ذات النتائج، دون الجرائم الشكلية ذات السلوك المجرد، كون العدول يفترض البدء في تنفيذ الفعل والتوقف قبل تحقق النتيجة، وبالتالي عدم تحقق النتيجة معيار القول بوجود العدول الاختياري من عدمه، وما دامت النتيجة غير موجودة في الجرائم الشكلية فلا مجال للقول فيها لا بالشروع ولا بالعدول الاختياري، فالجريمة الشكلية إما أن تقع تامة وإما ألا تقع إطلاقا.

المطلب الثالث
علاقة ( صلة أو رابطة) السببية
Le lien de causalité
        مؤدى التصور القانوني لعلاقة السببية، هو أنه لكي يكتمل البنيان القانوني للركن المادي للجريمة، لا بد أن يرتبط السلوك، فعلا كان أو امتناعا، بالنتيجة المحظورة التي تحققت، أي ارتباط السبب بالمسبب[28]، وبعبارة أخرى، يجب أن يكون السلوك مسبب النتيجة، فإن أمكن رد هذه النتيجة إلى عامل آخر غير السلوك الذي أتاه الجاني، انقطعت الصلة السببية وانتفت مسؤولية الجاني عن النتيجة التي تحققت، لذلك، وحتى يسأل الشخص يجب أن يكون سلوكه سبب حدوث النتيجة المحظورة قانونا، إذ المنطق واعتبارات العدالة تقتضي مسائلة الشخص فقط عن النتائج التي كانت ثمرة أفعاله المحظورة، لا النتائج التي كانت ثمرة عامل أو عوامل أخرى.
        ويجب ألا نخلط بين صلة السببية التي تعد من عناصر الركن المادي للجريمة، وبين النية الإجرامية التي تعد من عناصر الركن المعنوي للجريمة – في بعض الحالات الضيقة-، حيث هذه الأخيرة عبارة عن مسألة نفسية أو شخصية، تتعلق بالموقف النفسي للجاني من النتيجة التي تحققت، وما إن كان يريدها أم لا، في حين صلة السببية من الأفكار الموضوعية اللصيقة بماديات الجريمة لا بجوانبها النفسية أو المعنوية.

        غير أنه في الواقع توجد حالات يتضح فيها بما لا يدع مجالا للشك، أن الفعل الذي أتاه الجاني هو سبب النتيجة المجرمة التي تحققت، وفي هذه الحالة لا إشكال، حيث يعد الركن المادي بأكمله منسوبا للشخص، غير أنه وفي حالات أخرى كثيرة، قد تتداخل عوامل كثيرة بين سلوك الجاني والنتيجة التي تحققت، سواء كانت هذه العوامل سابقة أو معاصرة أو لاحقة لفعل الجاني، وهو ما قد يعدل أو يؤخر حدوث النتيجة، أو يجعلها تتحقق على نحو مخالف لما ارتآه وأراده الجاني، وبالرغم من أن هذه العوامل فيها الخفي والظاهر، المألوف والشاذ، المتوقع وغير المتوقع، القوي والضعيف[29]... فكيف لنا أن نحدد سبب النتيجة في مثل هذه الحالات؟ وبعبارة أخرى: كيف لنا الحكم بأن سلوك الجاني هو سبب النتيجة؟ وما الحل القانوني لذلك في غياب النص التشريعي؟
        في ظل المشاكل العملية التي أظهرتها مشكلة البحث في علاقة السببية، وفي ظل سكوت المشرع عن توضيح معيارها الدقيق، حاول الفقه إيجاد حلول ففقهية لها، محاولا في بداية الأمر أن يعطي لها مفهوما علميا، قائلا أنه للسببية مدلول علمي قبل أن يكون لها مدلول قانوني، لذا يجب استخلاص معيار علمي لها لا استنادا للتصور القانوني، مستندين في ذلك لنظرية العالم " جون ستيوارت ميل" الذي عرف السبب علميا، بأنه: مجموعة العوامل الإيجابية والسلبية التي يستتبع تحققها حدوث النتيجة على نحو لازم، لذلك فالسبب من الناحية العلمية، يعني احتواءه على شرطي اللزوم والكفاية في إحداث النتيجة، أي احتوائه على المقومات اللازمة والكافية لإحداث هذه النتيجة، غير أن هذا المفهوم العلمي صعب التطبيق في مجال العلوم الإنسانية عموما، والعلوم القانونية خصوصا، والقانون الجنائي بالأخص، كون السبب في هذا القانون عبارة عن سلوك إنساني لا يمكن عزله عن الأسباب الأخرى المعاصرة أو السابقة أو اللاحقة له، ولا يمكن تجريده والحكم عليه بمعزل عن مجمل الظروف والملابسات المحيطة به، لذا فالسببية في المجال الجنائي لا يمكن أن تخلو من الجوانب الشخصية والنفسية، لذلك من الصعب بمكان الحكم عن مدى صلاحية السلوك في إحداث النتيجة دون الأخذ بعين الاعتبار الموقف النفسي للجاني، لذلك فشل هذا الاتجاه، وظهرت محاولات فقهية أخرى بنت حلولها على العديد من النظريات الفقهية، نذكر أهمها في النقاط التالية.

الفرع الأول
نظرية تعادل الأسباب
( نظرية الأسباب المتكافئة)
        نادى بهذه النظرية فريق من الفقه الألماني وعلى رأسهم الفقيه " فان بورغ  Van Burg"، ومقتضاها أن جميع الأسباب التي تساهم في إحداث النتيجة تتعادل وتتساوى ويكون كل من ساهم في إحداث إحداها مسؤولا مع البقية، أي أن كل الأسباب والعوامل التي تتدخل إلى جانب فعل الجاني تعد مسببة للنتيجة متى ساهم معها فعل الجاني في إحداث النتيجة، بغض النظر عن دور باقي الأسباب الأخرى، وسواء كانت سابقة عن فعله أو معاصرة له أو لاحقة عليه، ولا تهم طبيعة هذه العوامل، وما إن كانت مألوفة أو شاذة، قوية
 أو ضعيفة، أو حتى ولو تداخل معها خطا المجني عليه[30]، أو خطا الغير[31]، أو القوة القاهرة[32]، أو حتى ولو كانت راجعة لفعل الطبيعة كالزلازل والفيضانات والعواصف، لأن فعل الجاني في مثل هذه الحالات، يصبح جزءا من سبب آخر" سبب السبب"، أي العوامل الأخرى ما كانت لتحدث النتيجة لولا فعل الجاني، حتى ولو كان ضعيفا مقارنة بها، أو دوره ضئيلا مقارنة بدور باقي الأسباب والعوامل الأخرى، إذ فعل الجاني وفقا لهذه النظرية، يكفي أن يكون موجودا ضمن طائفة من الأسباب الأخرى، حتى يمكن القول بأنه سبب في حدوث النتيجة، لأنه لولا فعله لما تعاقبت الأحداث على هذا النحو. ووفقا لهذه النظرية تترتب العديد من النتائج القانونية التي تنعكس على باقي أفكار قانون العقوبات، تقتضي منا تناولها قبل الخوض في تقدير النظرية ككل.


أولا: نتائج نظرية تعادل الأسباب
        يترتب على منطق نظرية تعادل الأسباب العديد من النتائج القانونية التي يمكننا أن نوجزها في النقاط التالية:
1- الجاني مسؤول دوما عن الجريمة حتى ولو تداخلت إلى جانب سلوكه أسباب أخرى ساهمت معه في إحداث النتيجة، حتى وإن كانت غير متوقعة ولا مألوفة، كالحالة الصحية السيئة للمجني عليه، أو انهيار المستشفى الذي كان يعالج به المجني عليه،
2- لا تنقطع الصلة السببية بين فعل الجاني والنتيجة حتى ولو تداخلت العديد من الأسباب الأخرى معه، سواء كانت معاصرة لسلوكه أو سابقة له أو لاحقة عليه، كتأخر المجني عليه في عرض نفسه على الطبيب، أو خطا هذا الأخير في علاج المجني عليه.
3- لا تنتفي صلة السببية بين سلوك الجاني والنتيجة المحظورة، حتى ولو كانت النتيجة ستتحقق حتما، إلا أن سلوك الجاني عجل بحدوثها أو ضاعف في حجمها.
ثانيا: تقدير نظرية تعادل الأسباب
        جاءت نظرية تعادل أو تكافؤ الأسباب بمعيار سهل ويسير الإثبات في استخلاص علاقة السببية، إذ يكفي أن يكون سلوك الجاني قد ساهم في تسلسل الوقائع ليعد الفعل الذي لولاه لما وقعت النتيجة، إلا أن الفقه وجه سهام النقد لهذه النظرية، لأنها تنطوي على إثقال كاهل الجاني وتشدد عليه المسؤولية، وهو أمر مخالف للعدل والمنطق، وإعمالها أيضا يؤدي إلى نتائج في غاية الغرابة، وكذا من الناحية القانونية، إعمال هذه النظرية يؤدي إلى إلغاء فكرة الاشتراك في الجريمة. كما قيل بأن هذه النظرية تتناقض مع نفسها، فتقر بداية التعادل بين الأسباب، ثم تختار من بينها سبب الجاني فقط وتلقي عليه كامل المسؤولية، وتحمله المسؤولية  حتى عن الأسباب النادرة الحدوث، مثل الحريق الذي يهب في المستشفى، أو تهدمه، أو وقوع زلزال...

الفرع الثاني
نظرية السبب المنتج
( السبب المباشر أو الفعال )
        وهي نظرية من ابتكار الفقه الأنجلوسكسوني[33]، وتسمى أيضا نظرية السبب الفوري أو السبب النشيط أو السبب الأقوى، والتي ترى وجوب اتصال النتيجة اتصالا مباشرا بفعل الجاني، كونه السبب الأقوى
 أو المباشر أو الأساسي في إحداث النتيجة مقارنة مع الأسباب الأخرى، بمعنى أن الفاعل يسأل عن النتيجة الضارة التي جرم المشرع حدوثها، متى كان فعله سببا قويا وأساسيا لإحداثها وفقا للمجرى العادي للأمور، ومؤدى هذه النظرية باختصار، هو أن نطرح السؤال التالي: هل الفعل الذي ارتكبه الجاني، باستبعاد العوامل الأخرى التي تظارفت معه، قادر لوحده على إحداث النتيجة الضارة التي وقعت؟. فإن كان الجواب بالإيجاب، فإن الجاني يعد مسؤولا عن النتيجة التي حدثت، كما يعد مسؤولا عن كل النتائج الأخرى المحتملة، سواء توقعها أو لم يتوقعها، ما دام أمر حدوثها وفقا للمجرى العادي للأمور ممكن التصور، وإن كان الجواب عن السؤال السابق بالنفي، فالجاني لا يسأل عن النتيجة كون فعله لم يكن سببا في حدوثها.
أولا: معيار النظرية
        يتضح مما سبق، بأن أنصار هذه النظرية أخذوا بمعيار مادي موضوعي، لا معيار شخصي، لأنها نظرية تأخذ بتقدير الأسباب، وهي أمور موضوعية لا دخل لشخصية الجاني فيها، ومعيار كل ذلك، معيار الرجل العادي الذي يوضع في نفس الظروف التي تواجد بها الجاني.
ثانيا: تقدير النظرية 
        بالرغم من وجاهة النظرية، إلا أنها لم تسلم بدورها من سهام النقد، وأهم الانتقادات التي وجهت لها، هو عدم وضوح معيارها، أي المعيار الذي يمكن من تحديد السبب المباشر والأساسي من بين سائر الأسباب الأخرى غير المباشرة، وأن القول بوجود سبب واحد للجريمة في ظل تعدد مسبباتها هو قول تعوزه الدقة[34]، لذلك نجد الفقه قد جاء بنظرية أخرى، تعد لغاية اليوم، وبإجماع الفقه، أفضل النظريات التي قيل بها في صدد بحث مشكلة صلة السببية، والتي أخذت بها معظم التشريعات الجنائية، سواء بصفة صريحة أو بصفة ضمنية، كما تبناها القضاء في العديد من الدول، وهي نظرية السبب الملائم، التي نتناولها في الفرع الموالي.

الفرع الثالث
نظرية السبـــب الملائم
        وهي نظرية، على عكس النظريات السابقة، أقامها أنصارها على معيار بسيط يشبه نوعا ما المعيار الذي تبنته النظرية السابقة، ومفاد هذا المعيار طرح السؤال التالي: هل باستطاعة فعل الجاني بحسب المجرى العادي للأمور، إحداث النتيجة بالرغم من تداخل عوامل أخرى معه؟[35]. وهي بذلك نظرية لا يأخذ أنصارها بكل العوامل مثلما فعلت النظرية الأولى، ولا تستبعد كل العوامل مثلما فعل أنصار نظرية السبب المنتج، بل تأخذ فقط بالعوامل المألوفة التي يعلم بها الجاني أو يتوقعها على الأقل، ومعيار التفرقة بين العوامل المألوفة والعوامل الشاذة غير المألوفة، هو معيار العلم، أي متى كان يعلم الجاني أو يتوقع بعض العوامل المصاحبة لنشاطه كان العامل مألوفا ولا يمنع من مسائلته، وإن كان يجهل ذلك، عد العامل غير مألوف ويقطع اللصة بين النتيجة وفعله.
غير أن أهم انتقاد وجه لإعمال هذا المعيار، أنه معيار شخصي ونسبي ينقلنا من إطار الركن المادي إلى إطار الركن المعنوي، في حين صلة السببية عنصر هام من عناصر الركن المادي يجب أن يستبعد من محيطها كل العوامل النفسية والشخصية، ويركز فيها فقط على المسائل والأمور المادية الموضوعية. كما أنه لا وجود لضابط يمكن من الحكم بعلم الجاني بالعوامل من عدمه. لذا صحح أنصار هذه النظرية موقفهم، وقالوا بمعيار الرجل العادي[36]، عوض معيار العلم، وهو التصحيح الذي جعل منها من أكثر نظريات السببية قبولا، وأخذت بها غالبية التشريعات بما فيها المشرع الجزائري في نظرنا.
غير انه يمكننا القول كخلاصة، بأن أي من النظريات السابقة، وبالرغم مما قدمته من إضاءة لكثير من جوانب رابطة السببية في مجال الركن المادي للجريمة، إلا أنها لم تحل بصفة نهائية وحاسمة مشاكل هذه الفكرة القانونية، ودليل ذلك هو تشتت الفقه بالرغم من ثراءه، واضطراب القضاء بالرغم من اجتهاده، لذا فتردد المشرع عن تكريس معيار واضح ودقيق لرابطة السببية، لا يخلو من دلالات، وذلك بالنظر لأسباب التالية:
1-إن رابطة السببية ذاتها تستعصي عن التعريف وفق مفهوم مطلق ومجرد، لأن الفعل أو السلوك الإنساني يصعب تجريده بمعزل عن الظروف والعوامل المختلفة المحيطة به، لذا فمثل هذا السلوك يتميز بطابع خاص نسبي وشخصي أيضا تجعله يختلف من شخص لآخر، بل لدى الشخص الواحد من حالة لأخرى، ومن هذه العوامل والظروف، طبيعة الفعل نفسه وزمان ومكان ارتكابه، ووسيلة تنفيذه، والمحل الذي يرد عليه... لذا يجب الخروج من إطار المفهوم المطلق المجرد لعلاقة السببية إلى إطار الفهم الواقعي النسبي لها، وذلك لا يمكن إلا بتبني معيار واقعي ونسبي لهذه العلاقة، يأخذ بعين الاعتبار ظروف كل واقعة على حدة، وذلك لا يمكن أن يتأتى إلا بإعطاء القاضي سلطة تقديرية تمكنه من استخلاص هذه الرابطة من خلال الوقائع المعروضة عليه والظروف والملابسات المحيطة بها.
2- انطلاقا من التصور الواقعي النسبي لعلاقة السببية، يجب البحث فيما إن كان السلوك هو مسبب النتيجة في إطار كل قضية على حدة، وعلى أن يكون هذا السلوك متفوقا نسبيا على باقي العوامل الأخرى التي سبقته أو صاحبته أو تلته، وهذا التفوق النسبي لا يستخلص استخلاصا مجردا، بل يستخلص واقعيا بالنظر لكافة الظروف والملابسات المحيطة بالسلوك، وعلى ضوء دراسة كل العوامل بما فيها الشخصية، ومن أهم المعايير التي قد تعين القاضي في ذلك: طبيعة الجريمة وما إن كانت من الجرائم العمدية أو جرائم الخطأ، بحيث ما قد يصلح لاستخلاص العلاقة السببية في النوع الأول، قد لا يصلح لاستخلاصها في النوع الثاني. شخصية الجاني، وبحث مدى قدرته على التقدير ومدى قدرته على العلم بما يتعين عليه أن يعلمه، لأن سلوك الإنسان يصعب تقديره بمعزل عن صاحبه. مراعاة زمان ومكان ارتكاب الجريمة، لأن ما يمكن أن يكون سببا للجريمة في النهار في ظل الحركة والازدحام، قد لا يمكنه أن يكون كذلك في الليل، وما يمكن أن يصلح لأن يكون سببا للجريمة في مكان قد لا يصلح لأن يكون كذلك في مكان آخر. شخصية المجني عليه وسنه وظروفه الصحية والنفسية لها دور كبير في تقدير ما إن كان فعل الجاني هو السبب المباشر في إحداث النتيجة الضارة.
        وبعبارة أخرى، يجب الخروج بصلة السببية من إطار المفهوم المجرد المطلق إلى رحاب الفهم الواقعي النسبي، كون النظريات السابقة، وإن أضاءت جوانب هذه الفكرة القانونية المعقدة، غير أن أي من هذه النظريات لم يحل بصفة نهائية مسألة السببية، ودليل ذلك أن أحكام القضاء لا تزال مترددة ومن العسير ردها إلى نظرية من النظريات، وذلك داخل البلد الواحد، إذ في الدولة الواحدة يتراوح القضاء أحيانا من النقيض إلى النقيض. لذلك يمكن القول بفإن المشرع الذي يعزف عن تكريس معيار للسببية له ما يبرره، كون صلة السببية تستعصي أحيانا على التعريف وفق مفهوم مجرد مطلق، كون الفعل الإنساني يصعب تجريده من ظروف وعوامل شتى تعطي له خصوصيته وطابعه النسبي. لذا فمن الضروري الأخذ بعين الاعتبار كل  العوامل والظروف المحيطة بسلوك الإنسان، وعلى ضوئها يتم تقدير علاقة السببية، لذا يجب أن يكون السلوك المسبب للنتيجة متفوق نسبيا عن باقي العوامل الأخرى، وهو التفوق الذي يستخلصه قضاة الموضوع واقعيا ومن خلال كافة الظروف والملابسات المحيطة بهذا السلوك، في كل قضية على حدة وعلى ضوء شخصية الجاني ذاته. كما تختلف باختلاف أنواع الجرائم، فما قد يصلح معيار لاستخلاص علاقة السببية في جريمة قتل عمدي، قد لا يصلح لأن يكون كذلك في جريمة قتل خطأ، وأنه لا يمكن إعمال المقومات المادية على حساب المقومات الشخصية، فيجب أن تقدر صلة السببية بناء على مقومات السلوك المادية، ومقومات شخصية تستفاد من علم الجاني أو بما ينبغي عليه العلم به، لذا فعلاقة السببية تقوم على الفهمين المادي والشخصي، أي على الركنين المادي والمعنوي، فالسلوك الإنساني مهما كان ليس مادة مخبرية يتم إخضاعها للتجارب في المخبر. لذا يجب إعطاء القضاء سلطة في استخلاص صلة السببية، كون الحكم الذي يأتي خاليا من بيان البناء القانوني للجريمة يكون مشوبا بالقصور ويتعين نقضه، والدفع بانتفاء صلة السببية من الدفوع الجوهرية التي يتعين على المحكمة تمحيصها والرد عليها، لكن القول بوجود أو انتفاء الصلة السببية من المسائل الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بتقديرها دون رقابة من محكمة النقض، غير انه لهذه الأخيرة رقابة على المعيار المعتمد من قبل محكمة الموضوع لاستخلاص هذه الصلة.

المبحث الثاني
المحاولة أو الشروع كصورة ناقصة للركن المادي
        عادة ما يكتمل البنيان القانوني للجريمة بتوافر أركانها الثلاثة العامة، الركن الشرعي والركن المادي والركن المعنوي، وهو الوضع الغالب والطبيعي لكل الجرائم، غير أن المشرع يتدخل أحيانا ويجرم بعض المظاهر السلوكية التي لا تكتمل لها كل هذه الأركان والعناصر، سيما ما يتعلق منها بالركن المادي للجريمة، فإن كان الأصل أن المشرع لا يعاقب إلا على الأفعال التي اكتملت ورتبت النتائج التي يعتد بها قانونا، إلا أنه يتدخل أحيانا بالعقاب دون أن يصل هذا الركن لهذه المرحلة، وهو الوضع في حال بعض الجرائم الناقصة التي تسمى شروعا. لذا قلنا بأن للركن المادي للجريمة صورا خاصة، تخرج عن إطار النموذج القانوني المكتمل والعادي للجريمة، والمتمثل في ارتكاب شخص لجريمة تامة فيعاقب عليه، وهو وضع جريمة الشروع وفكرة المساهمة الجنائية، التي نتناول كل منهما في مبحث مستقل.
وقد سبق القول بأن الركن المادي للجريمة – سيما في الجرائم المادية ذات النتائج- يتطلب أن يترتب عن سلوك الجاني نتيجة محظورة قانونا، وأن تربط بينهما رابطة سببية ليكتمل الركن المادي قانونا، لكن قد يحدث وأن يقوم الجاني بسلوكه المحظور كاملا، غير أن النتيجة لا تتحقق، أو أن يبدأ في سلوكه هذا ولا يكمله، سواء من تلقاء نفسه، أو نتيجة تدخل عوامل أخرى خارجة عن إرادته، وفي كلتا الحالتين يعد الجاني قد شرع في فعله المجرم كله أو بعضه دون أن يكتمل الركن المادي للجريمة، وهو ما يسمى الشروع في الجريمة أو المحاولة فيها. وهو وضع يعني انه شرع في ارتكاب الجريمة، غير أنها لم تكتمل، مما يجعلها عبارة عن جريمة ناقصة أوقفت في مراحها الأولى، أو استكمل السلوك فيها وخاب أثرها لسبب خارجي لا دخل لإرادة الجاني فيه. وذلك حتى نكون بصدد جريمة الشروع المعاقب عليه، لأنه لو كانت لإرادة الجاني دخل في وقف الجريمة، لكنا أمام فكرة العدول الاختياري التي تنفي جريمة الشروع أصلا. لذا سنحاول أن نبين معنى الشروع وأنواعه والعلة من العقاب عليه، في هذا التمهيد، لنخصص المطالب لأركان جريمة الشروع فقط، بالنظر لخصوصية هذه الأركان في هذا النوع من الجريمة.
أولا: مفهوم جريمة الشروع 
عرف البعض الشروع بأنه: الحالات التي يفشل فيها الفاعل في تحقيق جريمته، أي لا تتحقق النتيجة المادية المطلوبة لقيام الجريمة، ورغم ذلك تم تعريض المصالح والحقوق المحمية قانونا للخطر، لأن الشروع ينطوي على احتمال الإجهاز عليها في حال البدء في تنفيذ الجريمة. لذا يمكننا القول، أن الشروع اعتداء محتمل على مصلحة أو حق محمي جنائيا، والمشرع يحمي هذه الأخيرة من الاعتداءات الفعلية ومن مجرد احتمال وقوع مثل هذه الاعتداءات[37]، لذا فالشروع جريمة توافر فيها الركن المعنوي ولكن تخلف فيها اكتمال الركن المادي فقط، سواء كان هذا التخلف بصورة جزئية أو كلية ونكون أمام جريمة ناقصة، وهذا النقص في البنيان القانوني للركن المادي للجريمة ينصب تحديدا على عنصر النتيجة القانونية التي لم تتحقق لسبب لا دخل لإرادة الجاني فيه، وبالتالي تصوير جريمة الشروع على النحو السابق، يستدعي إدراج الملاحظات التالية:جوهر الشروع أنه جريمة ناقصة، وهذا النقص ينحصر فقط في تخلف تحقق النتيجة، رغم ارتكاب السلوك المجرم كله أو في جزء منه.وتبعا لما سبق، الشروع لا يثور كأصل عام، إلا بالنسبة للجرائم المادية ذات النتائج، وبالتالي فهو غير ممكن التصور في الجرائم الشكلية ذات السلوك المجرد المحض – وقد سبقت الإشارة لذلك- كونها في جوهرها جرائم تمثل مرحلة الشروع، وبالتالي لا يمكن تصور الشروع في الشروع. الشروع جريمة لم يكتمل ركنها المادي، لكن الركن المعنوي فيها يبقى ركنا أساسيا لا يمكن تصور قيامها بدونه، وتلك إذن الحكمة من العقاب على الشروع، وبالتالي يمكن القول مبدئيا، بأنه لا شروع في الجرائم غير العمدية.
ثانيا: الهدف أو العلة من العقاب على الشروع
        في حقيقة المر ثار السؤال في بعض الدول عن العلة من العقب عن جريمة الشروع، خاصة وان المشرع يعاقب على الاعتداءات الفعلية على المصالح والحقوق المحمية قانونا، كما ثار تساؤل آخر حول قدر العقاب عن جريمة الشروع، وما إن كان يجب أن يكون مساويا للعقاب عن الجريمة التامة أم اقل أم أكثر ؟ 
        فبخصوص العلة من العقاب[38]، يرى الفقه أن الشروع كجريمة وإن كان قد خاب أثرها ولم تعد تشكل اعتداء فعليا، فإنها تحولت إلى اعتداء محتمل أو خطر يهدد المصالح والحقوق المحمية قانونا، وأن المشرع مثلما يحمي هذه الحقوق من الاعتداءات الفعلية، فإنه يحميها أيضا من الاعتداءات المحتملة، والشروع جريمة تهدد بالخطر، ومصدر هذا الخطر أفعال مادية ملموسة والتي حتى وإن كانت ناقصة، إلا أنها تعد بادرة لارتكاب الجرائم وتنبئ بخطورة إجرامية لدى فاعلها أو القائم بها. لذا يعبر بعض الفقه في هذا النوع من الجرائم، بأنه بالرغم من تخلف النتيجة المحظورة قانونا، إلا أن الجريمة قد تمت من الناحية الشخصية، لكنها خابت من الناحية المادية، وأن الاضطراب الذي تحدثه الجريمة الخائبة في المجتمع، أشد خطورة من الاضطراب الذي يحدثه الشروع البسيط، الذي يقصد به عدم اكتمال السلوك.
ثالثا: أنواع الشروع ومجال تطبيقه
        نصت المادة 30 من قانون العقوبات الجزائري، على أنه: " المادة 30 :" كل المحاولات لارتكاب جناية تبتدئ بالشروع في التنفيذ أو بأفعال لا لبس فيها تؤدي مباشرة إلى ارتكابها، تعتبر كالجناية نفسها إذا لم توقف أو لم يخب أثرها إلا نتيجة لظروف مستقلة عن إرادة مرتكبها حتى ولو لم يمكن بلوغ الهدف المقصود بسبب ظرف مادي يجهله مرتكبها." ، ونصت المادة 31 :" المحاولة في الجنحة لا يعاقب عليها إلا بناء على نص صريح في القانون. والمحاولة في المخالفة لا يعاقب عليها إطلاقا.". من نص المادة 30 يتضح أنه للشروع صورتين، صورة الجريمة الخائبة التي يفرغ فيها الجاني كل نشاطه المادي ورغم ذلك لا تتحقق النتيجة المحظورة قانونا، لظروف مستقلة عن إرادة الجاني أو لظروف مادية يجهلها أصلا، وهو ما بينته الفقرة الثانية من المادة 30. مستعملة عبارة " لم يخب أثرها"،  بينما بينت الفقرة الأولى صورة الشروع الناقص أو الجريمة الناقصة أو الجريمة الموقوفة، وهي الصورة التي لم يكتمل فيها السلوك أصلا، كون الجاني أوقف- لم يتوقف بمحض إرادته- لذا استعملت المادة عبارة " إن لم توقف" المقصود بها الإيقاف الاضطراري، لكون العدول الاختياري يخرجنا أصلا من نطاق جريمة الشروع.
        وبالتالي يمكننا القول بأن الشروع إما أن يكون تاما وتقابله الجريمة الخائبة التي لم تتحقق فيها النتيجة المحظورة قانونا، لكنها تبقى ممكنة الوقوع، والجريمة المستحيلة، وشروع ناقص وتقابله الجريمة الموقوفة لأن السلوك فيها أوقف قبل اكتماله، وقبل انتظار تحقق النتيجة من عدمه، على أن يكون هذا التوقف اضطراريا لا اختياريا، لأنه سبق القول أن العدول الاختياري ينفي جريمة الشروع تماما. وبالتالي الشروع نوعان، شروع تام وشروع ناقص وهما نوعا أو صورتا الشروع.
        أما فيما يخص مجال تطبيق نظرية الشروع، فيمكننا القول من خلال استقراء المادتين 30 و31 من تقنين العقوبات الجزائري، بأن الشروع متصور في كل أنواع الجنايات بحسب المادة 30 ق ع ج، وفي الجنح في الحالات التي يوجد فيها نص صريح يعاقب على الشروع بحسب المادة 31/1[39]، ولا شروع إطلاقا في مجال المخالفات التي إما أن تتم كاملة أو لا تتم أصلا بحسب المادة 31/2 ق ع ج. وعلة عدم العقاب على الشروع في المخالفات هو أنها جرائم بسيطة لا تنطوي على خطورة إجرامية كبيرة لدى الجاني، في حين أن العقاب على الشروع قرر أصلا لمواجهة الخطورة الإجرامية لدى الجناة. كما أن المخالفات في العادة عبارة عن صور سلوكية تقع بالمخالفة لأمور تنظيمية وإدارية، ارتأى فيها المشرع العقاب على السلوك ذاته، لا النتائج المترتبة عنه.
وعموما يمكن القول أن الشروع عبارة عن جريمة شأنه شأن الجرائم التامة، وكل ما في الأمر أن الركن المادي فيه غير مكتمل العناصر، لذا لا بد وأن تكتمل هل باقي الأركان اللازمة لقيام الجرائم، وهي الأركان العامة الثلاثة المعروفة، الركن الشرعي والركن المادي والركن المعنوي، وإن كان الركن الشرعي لا يثير أي إشكال، بحيث القاعدة العامة في العقاب على الشروع في الجنايات هي المادة 30، وفي الشروع في الجنح نص المادة 31/1 بالإضافة إلى النص الخاص الذي يعاقب على الجنحة، كما لا يثير الركن المعنوي أي إشكال، بحيث هو نفسه الركن المعنوي المشترط في الجرائم التامة- ولنا عودة إلى ذلك- ويبقى الركن المادي هو الذي يثير بعض الصعوبات، بحيث سبق القول بأن معيار التفرقة بين الجرائم التامة وجرائم الشروع هو عدم اكتمال الركن المادي في الأخيرة، الأمر الذي يثير بعض الصعوبات حول المرحلة التي يجب أن يصل فيها التنفيذ المادي للسلوك، ومعيار التفرقة بين المراحل المعاقب عليها من المراحل غير المعاقب عليها، وكذا معيار التفرقة بين العدول المعاقب عليه والعدول غير المعاقب عليه. والموقف من نوع من الجرائم تسمى :" بالجرائم المستحيلة" لذا فالمطالب التي سنتناولها في حقيقة الأمر تخص عناصر الركن المادي غير المكتمل في جريمة الشروع، لأنه سبق القول بان الركنين الشرعي والمعنوي لا يثيران أي إشكال، وإن كنا سنعود للركن المعنوي في الأخير بنوع من التفصيل المختصر، لتبيان بعض الأوضاع 
الخاصة.

[1] - في قضية  حكم فيها في فرنسا بتاريخ 19-02-1959 وتسمى affaire Reminiac L’ وتتلخص وقائعها في أن شخص يملك منزلا ويشغل خادمة لديه، وهي الخادمة التي اعتادت ملاقاة عشيقها في حديقة المنزل وعلم صاحب المنزل بذلك، فاستغل نص حالات الدافع الممتازة المنصوص عليها بالمادة 329 من تقنين العقوبات الفرنسي وأطلق النار على عشيق الخادمة مما أدى لقتله، ولما ثبت لمحكمة النقض أن صاحب المنزل يعرف بغرض الشخص، فلا يجب أن يستفيد من قرينة الدفاع الممتاز،ومنذ ذلك الحين لم تعد بالقرينة القاطعة التي لا تقبل إثبات العكس.
[2] - قرار في: 29-09-2003 الملف رقم : 316770 :" لا يصلح تطبيق المادة 40 على الواقعة المتمثلة في إطلاق النار من طرف المتهم على الضحية بحجة أن هذه الأخيرة تهجمت عليه وضربته بكماشة." وفي نفس القرار :" تقتضي الضرورة الحالة للدفاع تبرير عدم وجود طريقة أو وسيلة لتفادي المواجهة واللجوء لرد الاعتداء." 
[3] - ما دام المشرع الجزائري أجاز اشد الجرائم جسامة، قد يفهم من النص أنه يجيز ضمنيا ما دون ذلك من جرائم.
[4] - حيث أن صاحب المسكن بمجرد رؤيته المعتدي يقوم بهذه الأفعال، فله اللجوء إلى صدها بالأفعال السابقة، كوننا بصدد الليل الذي لا يترك فرصة للتقدير ولا لمعرفة شخص المعتدي أو عددهم وما يمكن أن يكون يحمله من أسلحة، بشرط أن يكون حسن النية، لا أن يكون يعلم بأنه ضيف أو شخص سبق له هو أن طلب منه المجيء ليلا مرتبا المسألة بغرض الانتقام منه والاستفادة من هذه الحالات، أو غير ذلك من مخططات غير مشروعة، لذا سبق لمحكمة النقض الفرنسية أن قضت بأنها قرينة تقبل إثبات العكس وفي الجزائر تخضع المسألة للسلطة التقديرية للقاضي يقدرها بناء على ظروف وملابسات كل قضية على حــــــــــدا.
[5] - وهنا يرى غالبية الفقه أن مفهوم الليل هو المفهوم القانوني لا المفهوم الفلكي، والمفهوم القانوني يستمد من قانون الإجراءات الجزائية المتعلق بالتفتيش ( نص المادة 47 التي لا تجيز التفتيش من الساعة الثامنة مساءا حتى الخامسة صباحا زيادة على شروط أخرى) وإن كان هذا الرأي صحيح من وجهة النظر القانونية، كون المفهوم الفلكي الليل يختلف باختلاف الفصول والأشهر، ومدة الليل في الشتاء غيرها في الصيف، غير أن المنطق يجعلنا نرى بأن يعتمد المشرع على المفهوم الفلكي، وذلك في نظرنا يكمن في سبب نراه جد وجيه، وهو أن المشرع يدرك خطورة الليل وهي الخطورة النابعة من الظلمة لا من الوقت ذاته، لأن الظلام هو الذي لا يسمح بالتقدير والحكم ويحمل الرهبة والخشية والخوف، لذا يجب أن تعطى سلطة تقديرية للقاضي يقدر فيها الوقت الذي كان يحل فيه الليل وقت وقوع الحادثة، مستعينا في ذلك بمحاضر الضبطية وحتى  بالاتصال بمصالح الأرصاد الجوية.
[6] - التي نصت على أنه :" يستفيد مرتكب جرائم القتل والجرح والضرب من الأعذار إذا ارتكبها لدفع تسلق أو ثقب أسوار أو حيطان أو تحطيم مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو ملحقاتها إذا حدث ذلك أثناء النهار. وإذا حدث ذلك أثناء الليل فتطبق أحكام الفقرة الأولى من المادة 40".
[7] - وتثار هنا مسألة القتل الرحيم أو القتل بدافع الشفقة أو القتل إشفاقا، وهو موضوع شائك في الفقه والقضاء، مثلها مثل مسألة أخرى لا تقل أهمية هي مسألة الانتحار، والراجح فقها وقضاء أن القتل الرحيم يعتبر جريمة قتل متكاملة الأركان ولا يعتد بالباعث على ارتكابها باعتبار أنه لا وزن للبواعث في قيام الجريمة، وهي جريمة لا زالت تثير الكثير من الجدل الديني والفلسفي والقانوني، وتصدت بعض التشريعات له فأباحته، واعتبرته تشريعات أخرى عذرا قانونيا مخففا كالتشريع اللبناني ( المادة 552)، كما تثار مسألة الانتحار وهو شخص هانت عليه نفسه فيهون عليه أي عقاب كما يقال، لكن المسألة ثارت بالنسبة للشخص الذي يساعد المنتحر، وهو. في القانون الجزائري معاقب عليه..
[8] - يرى البعض أن رضا المجني عليه ليس مبررا عاما للإباحة، بل يجب أن ينظر إليه في بعض أنواع الجرائم فقط، ففي القانون اللبناني التي تقوم على ركن الاعتراض على إرادة الغير يعد سببا للإباحة في حالة وجود رضا المجني عليه، ويرى البعض أنه في الجرائم السابقة الجريمة لم تقم أصلا ليس لسبب إباحة وإنما لتخلف أحد عناصرها.
[9] - ويرى البعض، بأن الحقوق التي تعود للدولة لا رضاء فيها، إذ لا يملك ممثل الدولة التنازل عنها، كما أن الرضا المقصود قبل ارتكاب الجريمة لا بعدها، لأنه في هذه الحالة يصبح صفحا.
         وقد قضت بعض المحاكم الفرنسية والأمريكية والبلجيكية بالبراءة في بعض قضايا القتل لتخليص الشخص من الآلام الحادة التي يعاني منها، وحتى في إيطاليا إذ هناك قضايا قتل من يعانون من مرض السرطان حكم فيها بالبراءة بل انه في بعضها ممثل النيابة هو الذي طالب بالبراءة، كما قضي ببراءة الأم والطبيب الذي سمم المولود المشوه خلقيا.
         ففي سنة 1934 قتلت ممثلة بولونية خطيبها المريض بالسرطان حتى تريحه من آلامه القاسية التي يعاني منها، فقضت محكمة الجنايات ببراءتها، وحتى النيابة العامة طالبت في مرافعتها ببراءتها. وفي عام 1962 قتل عامل إيطالي آخاه الذي يعاني من مرض خطير ويتعذب من جراء الألام فقضت محكمة كولمار ببرائته. وسنة 1950 قتلت طالبة والدها المريض بالسرطان على نحو غير قابل للشفاء والذي يعاني آلاما شديدة، فقضت المحكمة ببراءتها، وفي العام ذاته قتل أحد الأطباء زوجة زميل له كانت مريضة بسرطان غير قابل للشفاء وتعاني ألاما لا يمكن تحملها، وقضت المحكمة ببراءته.
         ومن القضايا التي شغلت القضاء البلجيكي قضية تعرف بقضية ليج Procès Liége  تتلخص وقائعها أنه سنة 1962 رزقت أم بطفل مشوه الخلقة متأثرا بما تعاطته من أدوية مهدئة للأعصاب أثناء الحمل، ورغبة في الرحمة بالمولود وتخليصه مما يعانيه من آلام مروعة، اتفقت الأم مع طبيب الأسرة على قتله بالسم، وقد حكم ببراءة كل من الأم والطبيب تحت تصفيق الجمهور، حيث تأثر بما قالته الأم أثناء المرافعة منه:" لقد كان أمرا بسيطا للغاية، ولم يكن هناك في الواقع أمر أستطيع فعله، ولا يمكنني أن أرى طفلي يتعذب كل يوم، إنه أمر يفوق ويتجاوز قدرة البشر. إن ضميري لا يؤنبني على الإطلاق".
         كما أنه في سنة 1962 قتل والد طفلته المريضة بحديقة المنزل، وكانت الطفلة تعاني آلاما قاسية تهز بعنف قلوب بقية إخوتها، وقضت محكمة جنايات الصين بمعاقبة الوالد بثلاث سنوات حبس مع وقف التنفيذ.
[10]- كانغلاق الباب فجأة على شخص وكسره لينقذ حريته، وسرقة الطعام لسد الجوع إن لم يكن بالمقدور الحصول عليه بالتسول أو بالنقود، بالرغم من معارضة البعض بأن تكون المصالح الاقتصادية سببا لحالة الضرورة، غير أن سنوات الحرب التي تلت فترة نابليون جعلت القضاء يعترفون بحالة الضرورة في الجوع.
[11] - لكن في فرنسا حكم بعدم توفر حالة الضرورة في قضية تتلخص وقائعها في أن أحد العمال تسبب بنزوحه إلى المدينة بحثا عن حياة أفضل إلى تعرضه للبرودة الشديدة والبرد القارس مما هدد أطفاله بالموت، مما جعله يغتصب شقة خالية بعد أن كسر قفلها وأقام بها مع أولاده، وأدين كونه كان سببا في خلق حالة الخطر عن طريق تركه الريف ونزوحه إلى المدينة، وانتقد الحكم على أساس أن النزوح إلى المدينة لا يعد من قبيل الخطأ.
[12] - ومحكمة النقض الفرنسية رفضت الطعن على حكم صدر بإدانة أحد معاوني الصحة بتهمة ممارسة مهنة الطب بدون تصريح كان قد أجرى عملية جراحية لسيدة ادعى ضرورة مباشرتها قبل الولادة، لأنه ثبت للمحكمة عدم وجود ضرورة عاجلة لإجراء الولادة، بدليل أن الولادة لم تتم إلا بعد ثمان ساعات على يد طبيب باطني، في حين قضت بتوافر حالة الضرورة في عملية جراحية أجراها طالب الطب لشخص في حالة خطرة بحيث لم يكن هناك متسع من الوقت للالتجاء إلى طبيب أو إلى المستشفى، نقض في 20-02-1968، 
         وقضت محكمة واشنطن بإدانة بعض العمال الذين استولوا على مواد البقالة من أحد المخازن بحجة أن الفقر والحاجة قد دفعتهم إلى ارتكاب هذه الجريمة وذلك لأنه تبين للمحكمة أنه المتهمين لم يكونوا في وضع لا يمكنهم من الالتجاء لوسيلة أخرى للحصول على الطعام، ويرى البعض أن عامل في مصنع إذا حشرت يده في آلة دائرة وصار على وشك أن تجذب هذه  الآلة كامل جسمه فسارع شخص إلى قطع يده، وآخر إلى تفجير الآلة، فإن كلا الشخصين كانا في حالة الضرورة.
[13] - يرى الفقه الإنجليزي في مثل هذه الأمثلة أن الخطأ منتفي لأنه سلوك الرجل العادي.
[14] - وفي هذا الصدد هناك قضية تسمى " Vaux Villaine " تتلخص وقائعها في أنه في 27-10-1870 في قرية Vaux بفرنسا قتل رجال المقاومة الفرنسية جنديا ألمانيا، فقامت السلطات الألمانية بحبس أربعين فرنسيا وقرر مجلس الحرب إعدام ثلاثة منهم رميا بالرصاص، وأعلمهم أحد الضباط بهذا القرار ومنحهم مهلة قدرها ثلث ساعة لاختيار ثلاثة منهم، فتولى واحد منهم اختيار الثلاثة ووافق على ذلك بقيتهم، وحوكم بعدها هذا الشخص وقضي ببراءته، غير أنه لما أقامت أرملة أحد المعدمين دعوى التعويض قضي من جديد بأنه ليس في حالة ضرورة لأنه اختار الضحايا بطريق الأنانية الآثمة والجبن البالغ في سبيل المحافظة على البقاء.
[15] - وقد حدث وأن اصطدمت الباخرة الأمريكية William Brown في مارس 1971 التي أبحرت من ميناء ليفربول بجبل من الثلج ليلا، وبدأت تغمرها المياه فاستقل كل من الربان ومساعده قربا به بعض الركاب ثم لاحظ مساعد الربان أن القارب بدأت تغمره المياه نتيجة الثقل فأمر بإلقاء 14 رجلا بالمياه، وأمام المحكمة دفع بتوافر حالة الضرورة فرفض دفعه بحجة أنه كان عليه اللجوء إلى الرقعة بين الضحايا وهي وسيلة أخرى تتفق مع العدالة والإنسانية.
[16] - وفي بلجيكا قضي بعدم توافر حالة الضرورة لدى سائق السيارة الذي أراد تجنب قتل كلب فألحق أضرارا بسيارة أخرى.
[17] - وهناك واقعة مشهورة ريجينا ضد دادلي وستيفن، تتلخص وقائعها في أن ثلاثة من البحارة الإنجليز حطمت سفينتهم إثر عاصفة هوجاء فاضطروا إلى النجاة بواسطة قارب صغير، وبعدها اشتد بهم الجوع والعطش بعدما نفذت منهم المؤونة التي كانت معهم، فقام اثنين منهم بذبح الثالث وهو أصغرهما سنا وقاما بأكل لحمه وشرب دمه، وأنقذتهم في اليوم الرابع بعد هذه الجريمة سفينة وقدما بعدها للمحاكمة بتهمة القتل العمد، فدفعا بتوافر حالة الضرورة باعتبار قتل الثالث كان الوسيلة الوحيدة لإنقاذ حياتهم، غير أن المحكمة رفضت هذا الدفع بناء على أنه إذا تعرض الإنسان لخطر الموت ولم يكن في مقدوره الإفلات من هذا الخطر إلا بقتل شخص بريء، فإن التضحية من أجل غيره أعلى منه.
[18] - كما نرى أن تجريم النوايا يعد في حد ذاته مخالفة صريحة وصارخة لمبدأ الشرعية الجنائية، كونه سبق لنا القول أن مبدأ الشرعية يرتب نتيجة هامة، مفادها حصر الجرائم وعقوباتها، والمشرع أيا كانت الحيطة والحذر الذي يتمتع بها فإنه يعجز عجزا تاما عن حصر النوايا. مما يجعله يخرق مبدأ الشرعية الجنائية في الحالة التي يسعى فيها لتجريم النوايا.
[19] - ويمكن تلخيص أهمية اشتراط الركن المادي للجريمة، في أن العدالة تأبى العقاب على النوايا، وأن النوايا ليست ضارة بحد ذاتها ما لم تتجسد في العالم الخارجي المادي الملموس، وأن تجريمها يشجع على المضي قدما في تحقيق المشروع الإجرامي لنهايته ما دام الشخص معرض للعقاب في الحالتين، وأنها تصعب كثيرا في حال العقاب عليها من عملية الإثبات، مما يؤدي في النهاية لإفلات الجناة خاصة المحترفين منهم من حكم القانون.
[20] - المشرع الجزائري كان يعاقب على جريمة الرشوة بموجب المادة 126 وما بعدها من قانون العقوبات، وعلى جريمة الاختلاس في المادة 119 من ذات القانون، إلا أن هذه المواد ألغيت بموجب القانون 06-01 المؤرخ في 20-02-
               2006 المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته، الذي عرفت المادة 2/ب منه الموظف العام. 
[21] - لأن المشرع يشترط في كل جريمة سلوك معين يخشى منه ضررا أو مجرد اعتداء أو احتمال الاعتداء على الحقوق والمصالح المحمية قانونا، ولا يمكن تصور الاعتداء بمجرد التفكير والتصميم أو بمجرد النوايا، كونها لا تنطوي على معنى الإضرار آو بالأحرى الإضرار، وإنما ما يخشاه المشرع هو الأعمال التنفيذية التي تتجسد في أفعال خارجية يمكن إدراكها بالحواس.
         وننبه هنا، بأنه هناك بعض المحاولات للتحرر من مظاهر السلوك في إطار تطور نظرية الركن المادي للجريمة، حيث ظهرت تطورات حديثة كشفت عن محاولات رامية للتحرر من هذا العنصر – عنصر الفعل أو السلوك- أين بدأت تظهر " جرائم القالب الحر أو القالب الفضفاض" وهي جرائم لا يحدد فيها المشرع عناصر الفعل تحديدا دقيقا، مثل الجرائم الاقتصادية وجرائم أمن الدولة، وجرائم الفكر والرأي أي الجرائم الصحفية، ففيها يستعمل المشرع عبارات عامة فضفاضة ومطاطة تحتمل أن تستوعب كل صور السلوك الممكن تصورها، وذلك في محاولة منه لعدم ترك أي فرصة لعدم العقاب، كاستعمال المشرع لعبارات مثل" كل سلوك من شأنه أن يفضي..." دون أن يبين على وجه الدقة المظاهر التي يمكن أن يتخذها هذا السلوك، كما نجد المشرع وفي كثير من الأحيان يميل إلى تجريم مظاهر سلوكية معينة أكثر من تجريمه لأفعال محددة بعينها، كتجريمه فعل التسول من دون أن يبين السلوكات التي تشكل جريمة التسول.
وللسلوك وفقا للفقه الجنائي مفهوم اصطلاحي ضيق مقارنة بما له من اصطلاح في باقي فروع المعرفة الأخرى كعلم النفس والفلسفة التي يشمل فيها السلوك الجوانب النفسية، في حين في الفقه الجنائي، السلوك يقتصر على النشاط الإنساني الذي اتخذ مظهرا خارجيا، يمكن للغير أن يدركه أو يحس به، ويتحدد السلوك المجرم من نص قانون العقوبات ذاته، هذا القانون الذي يبين أحيانا صورة السلوك وأحيانا أخرى يكتفي بتبيان أثره، وذلك بالنظر للسلوك في حد ذاته، إذ يقبل في بعض الحالات التحديد بذاته، وأحيانا أخرى لا يمكن التدليل عليه إلا بنتيجته، فليس هناك في الحياة العلمية نشاط يسمى قتلا، بل نتيجة هذا السلوك التي تبين أنه قتل، ويطلق الفقه في الحالات التي يمكن تبيان السلوك ذاته بالسلوك ذي القالب المقيد كونه ينحصر في فعل معين، بينما يطلق على السلوك في الحالات الأخرى السلوك ذي القالب الحر أو المطلق، وهو السلوك الذي  يمكن أن تكون له أكثر من صورة، والمرجع في تحديد النوعين هو النص الجنائي دوما. كما أن السلوك الإجرامي، شأنه شأن سائر النشاطات البشرية لا يقع بمعزل عن سائر الظروف والملابسات، غير أن هذه الملابسات والظروف ما يتخذ الصفة القانونية ومنها ما يتخذ الصفة الواقعية، ومنها ما يعتد بها القانون ومنها ما لا يعتد به، وإذا ما كان يعتد بها القانون فتكون بذلك الإطار القانوني الذي ينبغي وقوع السلوك ضمنه، وهي ملابسات وظروف تختلف من جريمة لأخرى، قد تتعلق بزمان أو مكان ارتكاب الجريمة، وقد تتعلق بصفة في الجاني أو المجني عليه، وقد تتعلق بنوع العلاقة التي تربط بنيهم.... وهي بذلك تدخل
في صميم اهتمامات القسم الخاص للقانون الجنائي لا قسمه العام.
[22] - ويسمي الفقه هذا النوع من الجرائم التي لا يعتد فيها المشرع بالوسيلة المستعملة، الجرائم ذات الوسيلة الحرة أو الجرائم غير المقيدة، تمييزا لها عن الجرائم التي يشترط فيها المشرع وسيلة معينة، مثل جريمة القتل بالتسميم، أو الضرب باستعمال السلاح الأبيض.
[23] - تعبير " عدم الفعل" تعبير استعمله المشرع اللبناني للتعبير على هذا النوع من الأفعال.
         ومن الفقه من يرى في الامتناع ذلك الفعل الإيجابي الذي قام به الجاني وشغله عن أداء ما هو مطلوب منه قانونا، وهي ما سميت ب: نظرية الفعل البديل" التي قيل بها في الفقه الألماني، ولقيت تأييد البعض في الفقه المصري، والتي تبرر أن الامتناع ليس عدما كون الجاني لا يظل ساكنا بل يقوم بفعل آخر إذ ما لم يقم بما أمره به القانون فهو بالضرورة يقوم بفعل غيره، وهذا الفعل يندمج في الامتناع يتحدد به، ويمثل مظهره الخارجي أو حقيقته المادية، لذا يجب أن يكون إراديا بدوره، لذا عرف الامتناع وفقا لهذه النظرية، بأنه: عدم فعل المطلوب وفعل غيره في الوقت عينه.
[24] - في العادة ما تشكل الجرائم المادية أو جرائم الضرر عدوانا فعليا على الحقوق والمصالح المحمية قانونا، بينما تشكل الجرائم الشكلية أو جرائم الخطر مجرد عدوان محتمل يخشى منه المشرع أن يتحول إلى اعتداء فعلي – أي ضرر حقيقي-
[25] - المسألة كالعادة بتنازعها المذهبين المعروفين الكلاسيكي ويركز على النتيجة المادية، والشخصية تركز على إرادة الجاني حيث يعاقب حتى ولو لم يحدث نشاطه أية نتيجة، الكلاسيكية تزعمها بيكاريا وطالب بالنتيجة التي يحدثها نشاط الجاني في العالم الخارجي، وتزعم النظرية الشخصية أنصار المدرسة الوضعية الذين يركزون الاهتمام بالخطورة الإجرامية لدى الجاني لا للنتيجة المترتبة على فعله.
[26] - ووفقا لهذا المفهوم يطلق عليها البعض مصطلح " الحدث".
[27] - والجريمة الشكلية تقع كاملة دون أن تتضمن أية نتيجة مادية، وتسمى أيضا جرائم سلوك أو نشاط محض تمييزا لها عن الجرائم ذات النتيجة، ويرى بعض الفقه الفرنسي أن الجريمة الشكلية هي تلك التي لا يترتب عليها أي ضرر، وهو رأي اعتمد على كرة الضرر المحقق، وأهملوا فكرة الضرر المحتمل. وعرفت الجريمة الشكلية بأنها الجريمة لا تتوافر فيها نتيجة مادية أو هي التي لا يترتب عليها تغير في العالم الخارجي كأثر للنشاط الإجرامي، وهي تقع كاملة لا مجرد شروع، وبالتالي لا تأثير للعدول فيها، ولا مجال للبحث عن علاقة السببية فيها كون هذه العلاقة تقوم على الربط بين السلوك والنتيجة وهذه الأخيرة منعدمة في هذا النوع من الجرائم. كون النتيجة فيها قانونية تتمثل في مجرد الخطر الذي يحيط بالمصلحة المحمية قانونا، وهو خطر مجرد لا خطر واقعي والنشاط قرينة قانونية على وجوده ولا نحتاج حدوثه واقعيا.   وبناء على ما سبق هناك ما يعرف بجرائم الخطر، وهي الجرائم التي تنطوي على مجرد تعريض المصلحة المحمية قانونا للخطر، التي ازداد نوعها نتيجة التطور والتقدم الفني والتغير في الحياة الاجتماعية ومنها جرائم الخطر العام وهي التي تهدد المصالح العامة للخطر مثل نظام
                   الحكم ووسائل المواصلات وانتهاك أسرار الدفاع، وجرائم خطر خاص التي تهدد المصالح الفردية.
[28] - إذ السببية بصفة عامة ومطلقة، هي إسناد أي أمر من أمور الحياة إلى مسببه، أما السببية في إطار الركن المادي للجريمة، فهي إسناد النتيجة المحظورة والمعاقب عليها إلى سلوك الفاعل المجرم، وذلك عن طريق الربط بينهما، أي أن يكون السلوك سببا في حدوث هذه النتيجة، بحيث إن لم يكن هو مسببها، فلا مجال لمسائلة فاعله حتى وإن كان سلوكا مجرما، ما لم تشكل الجريمة نوعا من الجرائم الشكلية، إذ العبرة لدى المشرع في غالبية الجرائم المادية تكون بالنتيجة التي تحققت.
[29] - وللتدليل على ذلك، يعطي الفقه العديد من الأمثلة الغريبة، التي ساقها هذا الفقه مبينا حالة التزاحم أو التعاصر أو التدافع بين الأسباب، والتي تظهر في الأخير على نحو وكأنها ساهمت جميعا في إحداث النتيجة مع فعل الجاني، نذكر من بينها:
         1- أطلق شخص النار على شخص آخر بقصد قتله، فجرحه فقط وسقط على الأرض، فاصطدمت رأسه بشيء صلب مما أحدث له نزيفا حادا في رأسه، زاد من حالته سوءا، واستدعي الإسعاف إلا أن سيارة الإسعاف تأخرت في الوصول، وحين وصلت  وحملت المصاب انقلبت في الطريق إثر حادث مرور، وعندما نقل المريض إلى المستشفى لم يكن هناك طبيب جراح، ولما وصل الأخير بعد فترة أجرى عملية جراحية للمريض وهو مخمورا، فباءت العملية بالفسل ومات المصاب، فأي سبب من الأسباب السابقة سبب الوفاة؟ هل هو مطلق النار، أم سائق سيارة الإسعاف الذي تأخر ثم تسبب في حادث مرور، أم الطبيب الذي تأخر وأجرى العملية الجراحية وهو مخمورا؟
         2- وضع احدهم السم في الطعام لشخص آخر بقصد تسميمه، ثم ركب الأخير قطارا مسافرا فاصطدم القطار بقطار آخر في حادث مروع، فما سبب الوفاة؟
         3- ضرب شخص آخر وكان الأخير مصاب بمرض القلب، فتوفي بعدما أصيب بنوبة قلبية مصاحبة لواقعة الاعتداء بالضرب عليه، فمن يكون سبب للوفاة؟ الضرب المبحر الذي تعرض له؟ أم النوبة القلبية المصاحبة للضرب؟ 
         هذه التساؤلات هي التي أثارت مشكلة بحث نظرية السببية، بالرغم من أننا نرى بأن الكثير من المشاكل السابقة، أصبح بالإمكان اليوم حلها عن طريق الطب الشرعي، للتأكد من السبب الدقيق المسبب للوفاة.
[30] - كإهمال المجني عليه في علاج نفسه من جرح كان قد تلقاه نتيجة ضرب وجرح ارتكبه عليه الجاني، الذي لم تكن ضربته لتقتل المجني عليه، لولا إهمال الخير في علاج نفسه، مما سبب له تعفن في الجرح وأدى لوفاته، لكن وفقا لهذه النظرية، لولا فعل الجاني لما جرح المجني عليه ولما أهمل نفسه ولا تعفن جرحه وتوفي، لذا فالجاني مسؤول كون فعله سبب السبب.
[31] - مثل المثال السابق، ويضاف له خطأ الطبيب الذي عوض أن يعطي المجني عليه دواء مفيد لجراحه ويقضي على تعفنها، أعطاه دواء أثر على قلبه وأدى إلى توقفه، ففعل الجاني رغم كل ذلك كان سببا في كل هذه الأسباب ويسأل إلى جانب الطبيب عن هذه الجريمة وفقا لهذه النظرية.
[32] - كأن نضيف للأمثلة السابقة، تهدم المستشفى الذي كان به المجني عليه.
[33] - هناك من الفقه، من يرى أنها نظرية من ابتكار الفقه الألماني أيضا، شأنها شأن النظرية السابقة. بل أنها أسبق في الظهور من جميع النظريات الأخرى، وقد طبقها الفقه الفرنسي لمدة طويلة من الزمن.
[34] - هذه الانتقادات وغيرها، دفعت أنصار هذه النظرية لمحاولة إنقاذها عن طريق فكرة أخرى مفادها تقسيم هذه النظرية إلى شقين، الأول وهو الأخذ بالسبب الأخير في السياق الزمني للأحداث باعتباره السبب الملتصق بالنتيجة برابط وثيق الصلة، واعتباره السبب المباشر في إحداث النتيجة، وفي حال عدم التمكن من تحديد هذا السبب بدقة، يأتي دور الشق الثاني من محاولة الإنقاذ هذه، وهو الشق المتعلق بفكرة السبب المتحرك، إذ قسموا الأسباب إلى أسباب متحركة وأخرى ساكنة، والمتحركة وحدها التي يمكن أن تحقق النتيجة، غير أن هذه المحاولة لم تشفع لها، ووجهت لها ذات الانتقادات، وأهمها: ما المعيار الذي يمكن من تحديد الأسباب المتحركة من بين السباب الساكنة. 
[35] - قد يظهر تقارب هذا السؤال مع السؤال الذي أرده نصار النظرية السابقة، إلا أنه في تقديرنا، السؤال الذي طرحه أنصار نظرية السبب المنتج، سؤال يتعلق بتقدير فعل الجاني وحده وما إن كان قادر لوحده على إحداث النتيجة، بينما في هذه النظرية، السؤال نرى أنه ينصرف لتقدير العوامل التي تضافرت مع فعل الجاني، وما إن كانت هي سبب النتيجة، أم سببها فعل الجاني وحــــده.
[36] - أخذ النظرية بمعيار الرجل العادي، جعل بعض الفقه يرى في هذه النظرية أنها نفسها نظرية السبب المنتج، وقالوا بوجود نظريتين فقط، دون نظرية السبب الملائم.
[37] - قد يعجز الجاني عن تحقيق النتيجة المادية التي لزم القانون تحققها لقيام الجريمة، رغم إتيانه لكافة الأفعال التي يهدف من ورائه ترتيب النتيجة المذكورة، أي البدء في تنفيذ المشروع الإجرامي والعجز عن تكملته، لكن بما أن المشرع يحمي المصالح من الإضرار بها ومن تعريضها للأخطار، فإنه لم يقصر تجريمه على العدوان الكامل بل شمل أيضا العدوان الناقص، وهو ما يسمى الشروع الذي يتشابه مع الجريمة الشكلية في تخلف النتيجة المادية في كل منهما، غير أن الجريمة الشكلية تامة مقارنة مع الشروع الذي يعد جريمة ناقصة، والنتيجة المادية في الجريمة الشكلية لا تتحقق باسم القانون، بينما لا تتحقق في جريمة الشروع بإيقاف أو خيبة نشاط الجاني، وتعريف الشروع، أنه: جريمة ناقصة غير مكتملة، وهي جريمة توافر لها الركن المعنوي لكن تخلف فيها الركن المادي بصورة كلية أو جزئية، وهو بذلك عبارة عن جريمة ناقصة وهذا النقص يتعلق بالبنيان القانوني للجريمة فيما يتعلق بمادياتها، وينصب هذا النقص تحديدا على النتيجة المجرمة، التي لا تقع لسبب لا دخل لإرادة الجاني فيه
[38] - في الحقيقة المسألة تنازعها أيضا الاتجاهان الموضوعي والشخصي، المذهب المادي أو الموضوعي الذي نادى به الفقه الألماني منذ القرن التاسع عشر الذي يرى أن الأفعال المادية التي أتاها الجاني تحدث اضطرابا ماديا في المجتمع، واتجاه ثاني شخصي ينادي به الفقه الإيطالي أو أنصار المدرسة الوضعية ويرى أن علة العقاب على الشروع يرجع للرغبة في مواجهة الخطورة الإجرامية التي تبين استعداد الجاني لارتكب الجرائم مستقبلا، وبالتالي يجب التصرف ضده بمجرد إظهاره لهذه الخطورة متى عبر عنها بأعمال خارجية
[39] - ويقصد بالنص الصريح في القانون أن يوجد بالنص المعاقب على الجنحة ما يفيد انه يعاقب فها على الشروع أيضا، ومن أمثلة هذه الجنح في قانون العقوبات الجزائري، محاولة كسر الأختام العمومية المادة 155/2، محاولة الهروب من أماكن الحبس 188/2، محاولة التزوير في المحررات الرسمية 219،محاولة إفشاء أسرار المؤسسة للأجانب 302،محاولة الإجهاض 309، محاولة السرقة 350.....


المطلب الأول
البـــدء في التنفيذ كعنصر أول في الركن المادي لجريمة الشروع
        الجريمة كمشروع إجرامي يهدف من خلاله الجاني لتحقيق نتيجة معينة، يمر بالعديد من المراحل، منها ما يعاقب عليه المشرع، ومنها ما هو غير معاقب عليه، ومعيار التفرقة بين المرحلتين هو " البدء في التنفيذ"[1]، بحيث لا عقاب على المراحل التي تسبقه، على عكس المراحل التالية له، الأمر الذي يقتضي منا تبيان هذه المراحل والتمييز بينها، ثم البحث في المعيار المميز لفكرة البدء في التنفيذ التي تعد محور دراسة نظرية الشروع في الجريمة.

الفرع الأول
المراحل غير المعاقب عليها قانونا
        سبق القول بأن القانون لا يعاقب على النوايا مهما كانت شريرة، لذا فهو لا يعاقب على كل المسائل الداخلية النفسية التي لم تتجسد في الحيز المادي ولم يعبر عنها بفعل مادي، وعلى أساس ذلك، فإنه لو تصورنا مسار الجريمة كمشروع، نجدها تمر بالعديد من المراحل، تنتهي بمرحلة أخيرة هي مرحلة تمام الجريمة، وهي المرحلة التي تهمنا في دراستنا هذه كون الشروع مرحلة سابقة عليها، لتبقى أمامنا مراحل أخرى، يمكن لنا القول بأن البعض منها نفسي خالص[2]، والبعض الآخر يقترن ببعض السلوكات.
أولا: مرحلة النوايا الكامنة[3]
        وهي مرحلة عبارة عن أفكار ونوايا تختلج صدر الجاني، وتكون فيها الجريمة عبارة عن مجرد فكرة كامنة يشوبها التفكير لغاية عقد التصميم على ارتكابها، وهي مراحل لا يحفل بها القانون ولا يعاقب عليها، حتى ولو أفصح عنها صاحبها للغير، ما لم يرق هذا الإفصاح لحد التحريض.
        ومعظم القوانين الحديثة لا تعاقب على هذه المرحلة، وتتفق بأنه ليس للقانون سلطان على النوايا ولا على ما يختلج بصدر الإنسان، حيث أنها عبارة عن نوايا لم تحدث اضطرابا بالمجتمع بعد، خاصة وأن النوايا عبارة عن أحاديث نفس من الصعوبة إثباتها والتأكد من وجودها، وأنه من الأفضل عدم العقاب عليها لترك باب العدول مفتوحا لتشجيع الأشخاص عليه، وبالتالي ليس للقانون سلطان على الضمائر حتى وإن كان العزم على ارتكاب الجرائم يشكل خطيئة أخلاقة تستحق التأنيب والتكفير، وإن كان أنصار المدرسة الشخصية يرون العقاب على هذه المرحلة، كونها تعبر عن إرادة إجرامية تعد مصدر للقلق والاضطراب في المجتمع، والخطورة الإجرامية هي المراد الذي ينبعث منه الإجرام، وأنه لمعالجة هذا الأخير يجب أن نعالج الداء من أساسه.
ثانيا: مرحلة النوايا الكاشفة عن خطورة إجرامية
        وهي مرحلة بالرغم من أنها لا تزال في طور النوايا والخواطر، إلا أنها وعلى عكس المرحلة السابقة تقترن بقدر من السلوك الذي يفصح عنها، إذ يبدأ في التحضير لجريمته، كشراء المعدات اللازمة لارتكاب الجريمة، إلا أنها مرحلة ليست قاطعة الدلالة على ارتكاب الجريمة بالفعل، غير أننا نجد في بعض الأحيان المشرع يتدخل بالعقاب على هذه المرحلة بوصفها جرائم مستقلة لا بوصفها شروع في ارتكاب جرائم، مثل تجريم حيازة سلاح بدون رخصة[4]، أو جريمة تقليد المفاتيح[5].
        وعلة عدم العقاب على المرحلة التحضيرية للجرائم، هو أنها أعمال قابلة للتأويل في مرماها، مما يجعلها غير كافية للكشف عن نية الفاعل بصورة واضحة وأكيدة، فمن اشترى آلة حادة يكون قد اشتراها لاستعمالها في قتل غريمه، أو لغرض آخر مشروع، وبالتالي هي أعمال مبهمة وقابلة للتأويل، لذا فليس من الحكمة العقاب على ظواهر وأمارات لا ترقى لمرتبة الوقائع الثابتة.
ثالثا: مرحلة البدء في تنفيذ الجريمة
        وهي المرحلة التي تمثل الشروع في الجريمة المعاقب عليها، وهي تشمل كل فعل يعتبر بدء في تنفيذ الجناية أو الجنحة إذا كان معاقب على الشروع فيها، وهي مرحلة تتميز بتجاوز الجاني لمرحلة التحضير لجريمته والشروع في تنفيذ عدوانه على الحق أو المصلحة المحمية قانونا، على نحو يمكن القول معه أن الجاني تجاوز مرحلة العزم والتفكير والتحضير، وانتقل لمرحلة تنفيذ العمل الإجرامي. لكن الإشكال الكبير الذي يواجهنا ولا يزال يواجه الفقه، هو مسألة المعيار الذي يمكننا من الفصل بين المرحلة التحضيرية ومرحلة البدء في التنفيذ، خاصة وانه هناك أحوال كثيرة لا يمكن فيها الجزم ما إن كانت الأفعال التي أتاها الجاني تعد أعمال تحضيرية أو تجاوزت البدء في التنفيذ. إذ في الكثير من الأحيان ما تظهر الأعمال التحضيرية على أنها بدء في التنفيذ والعكس صحيح[6].

الفرع الثاني
معيار التمييز بين الأعمال التحضيرية والبدء في التنفيذ
        انقسم الفقه بغرض إيجاد معيار دقيق يمكن من التمييز بين الأعمال التحضيرية والبدء في تنفيذ الجريمة، - وكالعادة- إلى اتجاهين أساسيين، اتجاه موضوعي يركز على ماديات الجريمة أو على ركنها المادي، وآخر شخصي يركز على نفسية الجاني وذهنيته وخطورته الإجرامية، وبين هذا وذاك، نجد الفقه قد أضاف مذهبا ثالثا اتخذ موقف وسط، وسمي بالاتجاه أو المذهب المختلط، آخذا من مزايا كل من المذهبين السابقين وتاركا مساوئهما. بالإضافة إلى بعض المحاولات الفقهية الفردية الأخرى، وأهمها معيار الفقيه البلجيكي جارو.
أولا:  المذهب الموضوعي أو المادي
        وفقا لأنصار المذهب المادي أو الموضوعي، نكون بصدد البدء في تنفيذ الجريمة، بالشروع في ارتكاب الركن المادي المكون للجريمة، على النحو المرسوم في النص التجريمي، وما عدا ذلك – أي قبل هذه المرحلة- يعد العمل تحضيريا غير معاقب عليه، ففي جريمة السرقة لا يعد بدء في التنفيذ سوى الفعل الذي يمس به الجاني حيازة الغير للمال، كوضع اليد بالفعل على هذا المال، وفي جريمة القتل لا يعد بدء في التنفيذ سوى الفعل الذي يتضمن خطر إزهاق روح المجني عليه، كإطلاق الرصاص اتجاهه، وما عدا ذلك يعد من قبيل العمال التحضيرية كون النص القانوني لم يجعلها من مكونات الركن المادي للجريمة.
        وبالتالي تمتاز هذه النظرية بإرسائها لمعيار واضح وسهل ودقيق، بالرغم من أنه وجهت لها انتقادات تتمحور في مجملها بأنها لا تحقق حماية فعالة للمجتمع ضد مجرمين أظهرت أفعالهم أنهم تقربوا كثيرا من تحقيق نتائجهم المقصودة، وتؤدي إلى إفلات الكثير من الجناة من العقاب، لا لشيء سوى لأنهم لم يرتكبوا بعد فعلا من الأفعال المصورة في نص التجريم، بالرغم من أنهم أبانوا بوضوح عن خطورة إجرامية كبيرة، إذ وفقا لمذهب هذه النظرية لا يعد الشخص مرتكبا لجريمة السرقة، بالرغم من اقتحامه المنزل وتفتيشه الخزانة، إلا إذا عثر على الأموال ووضع يده عليها[7]، ولا يعد مرتكبا لجريمة القتل من صوب السلاح اتجاه غريمه وأطلق النار عليه إلا بعد أن يصيبه.
        والانتقادات السابقة وغيرها، جعلت من أنصار هذا المذهب يحاولون إنقاذه عن طريق التوسع في المعيار السابق، قائلين بأن البدء في التنفيذ، وبالإضافة إلى البدء في تنفيذ الفعل المكون للركن المادي للجريمة، فهو أيضا البدء في ارتكاب كل فعل يعتبر ظرفا مشددا للجريمة، مثل الكسر والتسور والتسلق في جريمة السرقة، غير أن هذا التوسع لم يجعل النظرية تسلم من انتقادات جديدة، وأهمها أنه ليست كل الجرائم مما يمكن أن تقترن بالظروف المشددة، كما انه وفي الجرائم التي تقبل ذلك، هناك ظروف لا يمكن إخضاعها لهذا المعيار، مثل ظرف التعدد وظرف الليل في جريمة السرقة، حيث لا نكون أمام جريمة السرقة إذا ارتكبت نهارا، على عكس الحالة التي ترتكب فيها ليلا، لذا قيل أنه معيار غير دقيق.
        لذا حاول أنصار هذا الاتجاه إنقاذه مرة أخرى، قائلين هذه المرة بأن البدء في التنفيذ هو ارتكاب فعل واضح الدلالة على النية الإجرامية للفاعل، حيث أنه إن كان العمل التحضيري يحتمل أكثر من دلالة كونه قابل للتأويل، فإن البدء في التنفيذ لا يفصح سوى عن دلالة واحدة، وهي اتجاه الجاني نحو ارتكاب الجريمة. غير أن ما يمكن ملاحظته بخصوص هذا التوسع، هو هجر الجوانب الموضوعية التي يعتمدها أنصار المذهب الموضوعي دوما، ودخولهم متاهات النوايا التي يعتمدها في الأصل أنصار المذهب الشخصي.

ثانيا: المذهب الشخصي أو الذاتي
        مؤدى هذا الاتجاه، أن البدء في التنفيذ هو كل فعل يصدر عن الجاني ويفصح عن خطورته ونيته الواضحة في ارتكاب الجريمة، أي هو كل سلوك يسلك به الجاني نهائيا طريق الجريمة، ويصبح عدوله عنها أمرا غير محتمل، أو هو الفعل الذي يؤدي حالا ومباشرة إلى ارتكاب الجريمة، بحيث لم يعد يفصل الجاني عنها سوى خطوة صغيرة لو ترك وشأنه لخطاها، ويعبر عن ذلك بالقول: " حرق الجاني سفنه أو جسوره وراءه". ويلاحظ على هذه النظرية أنها تركز اهتمامها على إرادة الجاني، بحيث يعد بدءا في التنفيذ كل فعل يعد كذلك في نظر الجاني، إذ يؤدي حالا ومباشرة إلى ارتكاب الجريمة بحسب نيته، وهي النية التي تستخلص من الظروف المحيطة بالجاني، كسوابقه وعلاقته بالمجني عليه وأنواع الأسلحة والوسائل التي يستعملها... وبالتالي نكون أمام البدء في التنفيذ كلما كان الفعل الذي أتاه الجاني في ظروف معينة يكشف عن نيته الإجرامية ويدل على أنه لو ترك على حاله لأفضى الفعل إلى تحقيق النتيجة المجرمة.
        ومن الانتقادات الموجهة لهذا المذهب، أنه مذهب تعوزه الدقة والوضوح والانضباط، إذ يصعب القطع بتوافر نية ارتكاب الجريمة لمجرد صدور فعل عن الجاني قد يحتمل أكثر من دلالة، وأنه اتجاه يقلب منطق الأمور، إذ عوضا أن يكون الفعل هو مظهر الاستدلال على النية، أصبحت هذه الأخيرة مظهر للدلالة على خطورة الفعل، وبعبارة مختصرة لا يمكننا دراسة الركن المعنوي للجريمة قبل دراسة ركنها المادي. وإن كانت هذه النظرية في حقيقة الأمر تحمي بفعالية المجتمع وتضحي بالحريات الفردية.
        لكن وفي رأينا نرى بأن إعمال النظريتين معا، يمكن أن نحدد به، وإن لم يكن بدقة فبدرجة كبيرة، البدء في تنفيذ الجريمة، خاصة في الحالة التي لا نهمل فيها الظروف المحيطة بالفعل وبالجاني، كأن يكون الفعل ذاته صالحا لإحداث النتيجة المجرمة قانونا، وذلك بحسب المجرى العادي للأمور، مع مراعاة حالة الجاني والمجني عليه، وزمان ومكان ارتكاب الجريمة، ودون إهمال نية الجاني في الظروف التي ارتكب فيها فعله. ولعل ذلك ما دفع إلى ظهور المعيار المختلط أو المرن الذي توسط الاتجاهين السابقين.
ثالثا: المذهب المختلط ( المرن)
        أمام الانتقادات التي وجهت لكلا الاتجاهين السابقين – وإن كان الاتجاه الموضوعي هو الأكثر قبولا قضاء- اقتنع الفقه بضرورة إيجاد معيار مختلط سمي بالمعيار المرن، حيث اعتبروا البدء في التنفيذ، هو الفعل الذي يؤدي حالا ومباشرة وفقا للمجرى العادي للأمور إلى ارتكاب الجريمة، وأن يقع هذا الفعل في زمن قريب نسبيا من لحظة تنفيذ الجريمة، وأن تكون نية الجاني واضحة لا غموض فيها على عزمه النهائي لارتكاب جريمته. وبالتالي المعيار وفقا لهذا الاتجاه، ليس موضوعيا بحتا ولا شخصيا صرفا، وإنما هو مزيج بينهما، يستمد من النظرية الموضوعية خطورة الفعل وصلاحيته وفقا للمجرى العادي للأمور لتحقيق النتيجة، ويستمد من النظرية الشخصية دلالة الفعل على عزم صاحبه على تحقيق الجريمة. كما يحسب لأنصار هذا الاتجاه عدم التقيد بالمعايير الجامدة والمجردة، بل تعتمد التقدير الواقعي المتغير الذي يختلف من جريمة لأخرى، ومن فاعل لآخر، سيما في ظل خطورة فكرة البدء في التنفيذ الذي يعد التضييق أو التوسع فيه تعديا على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، لذا رأى أنصار هذا الاتجاه، تقدير البدء في التنفيذ على ضوء جملة من الاعتبارات لا المعايير، وأهمها: وجوب ارتكاب فعل من الأفعال التي تدخل في تكوين الركن المادي للجريمة، كون الجرائم أفعال قبل كل شيء، وأن يكون فعل مرتبط على الأقل بالركن المادي برباط سببي وزمني يفضي في نهاية المطاف ووفقا للعادي والمألوف والمتصور إلى حدوث النتيجة المحظورة قانونا.
وأن يفصح السلوك السابق عن نية إجرامية نهائية لدى الجاني. زيادة على الأخذ بعين الاعتبار بكافة الظروف والملابسات، سواء تعلقت بالسلوك ذاته، أو بالجاني أو بالظروف المحيطة بهما معا، وهي الظروف والملابسات التي لا يمكن بأي حال من الأحوال حصرها سلفا كونها تنأى عن كل حصر، بل يترك تقديرها لقضاة الموضوع يقدرونها في كل حالة على حدا. 

رابعا: رأي الفقيه البلجيكي جارو
        وهي محاولة أيضا للمزج بين المذهبين الشخصي والموضوعي، حيث يرى هذا الفقيه الأخذ من المذهب المادي أو الموضوعي " الأفعال" لكن مع وصفها وتقييدها، حيث يعتد فقط بالأفعال التي لا لبس فيها التي تعبر صراحة على كونها بدء في التنفيذ، وهي تلك الأفعال التي لا تسمح بالعدول وتؤدي حالا ومباشرة لارتكاب الجريمة، وهو ما استمد من المذهب الشخصي، لذا فالبدء في التنفيذ commencement d’exécution هي تلك الأفعال التي لا لبس فيها non équivoque   والتي تشكل فعلا بدء في التنفيذ، وتؤدي مباشرة إلى ارتكاب الجريمة Tendant directement à le commettre، واستعار أيضا عبارة أنصار المذهب الشخصي، وهي أن الجاني يقطع جسوره وراءه lorsque l’individu à ente,du couper les tous  pont derrière lui.
خامسا: موقف المشرع الجزائري
        نرى شخصيا انه باستقراء المادة 30 من تقنين العقوبات الجزائري، أن المشرع الجزائري أخذ بالرأي الأخير، أي رأي الفقيه البلجيكي جارو، حيث نصت هذه المادة على أنه:" كل محاولات لارتكاب جناية تبتدئ بالشروع في التنفيذ أو بأفعال لا لبس فيها تؤدي مباشرة إلى ارتكابها، تعتبر كالجناية نفسها إذا لم توقف أو لم يخب أثرها إلا نتيجة لظروف مستقلة عن إرادة مرتكبها حتى ولو لم يكن بلوغ الهدف المقصود بسبب ظرف مادي يجهله مرتكبها."[8].
غير أن المعيار الصحيح للبدء في التنفيذ، في رأي الكثير من الفقه، هو وجوب وجود علاقة موضوعية بين فعل الشروع وتلك الجريمة التي يراد الشروع فيها، وهي العلاقة التي تتحدد بتحديد الحكمة من تجريم الشروع ذاته، وهي تجريم الشروع لاعتدائه على الحق جزئيا أو تعريضه للخطر، لذا يجب أن يكون الفعل يمثل خطرا مباشرا أو مصر لخطر مباشر على الحق الذي تحميه القاعدة الجنائية، وهي الأمور التي لا يمكن أن تستنتج فقط من عقد العزم من قبل الشخص على الاعتداء على الحق المحمي قانونا، وإنما بناء على إمكانات موضوعية يصح القول معها أن العدوان على الحق قد صار وشيكا، أي أن يكون الفعل صالح حسب المجرى العادي للأمور أن يفضي مباشرة إلى الجريمة، وأن كل ما منع من تمامها هو حائل خارج عن إرادة الجاني، وهو ما يقتضي بالضرورة النظر إلى طبيعة الجريمة ذاتها، والظروف والملابسات التي صاحبت ارتكابها، لأنه ما يصلح لأن يكون بدء في تنفيذ جريمة ما، قد لا يكون صالحا لبدء تنفيذ جريمة أخرى، لذا فصلاحية الفعل يجب أن تكون على درجة من القوة يمكن القول معها بأن وقوع الجريمة أصبح أمرا وشيكا، وهي الأفعال التي تبدو للرجل العادي شديدة القرب من الجريمة إلى الحد الذي يحمله إلى الاعتقاد بأنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الوقوع، لذا فالمعيار هو ذو طبيعة موضوعية خالصة وما الركن المعنوي سوى نفسه في الشروع والجريمة التامة، وهي الحكمة من تجريم الشروع[9]. في حين يرى البعض وجوب تجاوز المعايير السابقة والوقوف عند تقدير واقعي متغير يتجاوز المعايير المجردة، خاصة وأن خطورة معيار البدء في التنفيذ مزدوجة، فهي إما أن تؤدي إلى التوسع أو التضييق من العقاب وفي الحالتين يكون ذلك على حساب مبدأ الشرعية الجنائية، لذا وجب تقدير معيار البدء في التنفيذ بناء على جملة من الاعتبارات لا المعايير المجردة، أهمها ارتكاب فعل من الأفعال المعتبرة من ماديات الجريمة أو على الأقل يرتبط بها برابطة سببية وزمنية تفضي في نهاية المطاف ووفقا للعادي والمألوف والمتصور إلى إحداث النتيجة المحظورة قانونا، وأن يفصح الشخص بهذا الفعل على نية إجرامية نهائية ليست مستقلة بل كاشفة عن دلالة الفعل الذي يوقع، أن يستهدف السلوك أو الفعل السابق المقرون بنية إجرامية مصلحة أو حق محمي قانونا، مع الأخذ بعين الاعتبار بكافة الظروف والملابسات المحيطة بفعل الجاني وبالجاني ذاته، وهي عوامل لا يمكن تحديدها سلفا ولا إخضاعها للحصر، بل تترك لقضاة الموضوع يقدرونها في كل حالة على حدة. ويعبر الفقه عن ذلك بمعيار اللامعيار للبدء في التنفيذ، لذا ينبغي تجاوز الصيغ النظرية المجردة وصولا إلى تقدير واقعي يمكن من أن يختلف الأمر من جريمة لأخرى، ومن جاني لآخر، خاصة في ظل أننا بصدد سلوكات إنسانية نسبية ومتغيرة بطبيعتها لا يمكن أن تحيط أية نظرية مهما بدت محكمة من الإحاطة بكافة جوانبه، لذا فلا مناص من إعمال المظاهر الواقعية التي تكتنف الجريمة ذاتها،وتتعلق بالفاعل نفسه

المطلب الثاني
العنصر الثاني من الركن المادي للشروع
عدم تمــــام الجريمة
الشروع في حقيقته مرحلة من مراحل الجريمة التامة، أو هو جريمة غير تامة، وعدم التمام راجع لوقف الفعل أو خيبة أثره، وهو ما يبين صور الشروع، وهما صورتان، الشروع الناقص أو الجريمة الموقوفة أين لا يتم السلوك بأكمله، وصورة الشروع التام أين يتم السلوك كله ولا تتحقق النتيجة، ويسمى الجريمة الخائبة.
 ولا فرق قانونا بينهما حيث في كلاهما يتدخل المشرع بالعقاب على الشروع، وإن كانت فكرة الجريمة المستحيلة قد أثارت جدلا فقهيا وقضائيا كبيرين، من زاوية أن عدم تحقق النتيجة أمر وارد منذ البداية، حيث أن الإخفاق فيها ظاهر منذ البداية، وإن كان هذا الخلاف قد دفع بعض التشريعات إلى التدخل لفضه صراحة، إلا أن البعض الآخر لم يفعل مثلما هو الشأن بالنسبة لغالبية التشريعات، بما فيها المشرع الجزائري. لذا  فتخلف النتيجة لسبب خارج عن إرادة الجاني، يعد العنصر الثاني من عناصر الركن المادي لجريمة الشروع، إذ لا يمكن أن نكون بصدد المحاولة أو الشروع إلا في الحالات التي لا تتم فيها الجريمة، إما لإيقاف الجاني عن إتمامها وهو وضع الشروع الناقص أو الجريمة الناقصة، أو لكون أثر سلوكه خاب
 أو يستحيل أن يرتب النتيجة المقصودة مثل حالات الجريمة الخائبة أو الجريمة المستحيلة، وهي حالة الشروع التام. وبالتالي يجب أن يكون تخلف النتيجة بسبب ظرف أو سبب خارج عن إرادة الجاني،لأنه لو كانت لإرادته دخل في عدم تحقق النتيجة كنا بصدد العدول الاختياري الذي ينفي جريمة الشروع أصلا[10]، في حين هذه الخيرة تقتضي تخلف النتيجة لسبب أو ظرف خارج عن إرادة الجاني. لذا فهذا الركن يقتضي منا دراسة العدول الاختياري الذي يخرجنا من مجال جريمة الشروع، وتمييزه عن العدول الاضطراري الذي يقيم هذه الجريمة، وكذا تناول الحالات التي يلتبس فيها العدول. كما يقتضي منا الوضع الوقوف عن فكرة الجريمة المستحيلة.

الفرع الأول
العدول عن إتمام الجريمة
        من شروط قيام جريمة الشروع، عدم تحقق النتيجة، على أن يكون ذلك راجع لسبب خارجي لا دخل لإرادة الجاني فيه، أي أن يكون مضطرا في ذلك، سواء أوقف أو منع، أو كانت النتيجة غير ممكنة الوقوع أو يستحيل وقوعها، وهو الأمر الذي يؤكد في مجال نظرية العدول، أنه حتى يكون هناك شروع، يجب أن يكون عدول الجاني عدولا اضطراريا، حيث إن كان اختياريا انتفت الجريمة، لذا فالمسألة تقتضي منا تناول العدول الاختياري أولا، باعتباره يخرجنا من نطاق جريمة الشروع، لنتناول بعده العدول الاضطراري الذي يبقينا في نطاق هذه الجريمة، وفي نقطة ثالثة نتناول نوع من العدول المختلط الذي يجمع بين النوعين السابقين.
أولا: العدول الاختياري
        يهدف المشرع إلى خلق حافز لدى الجاني على عدم المضي في مشروعه الإجرامي إلى نهايته، فنص على عدم عقابه إن هو عدل بإرادته عن إتمام الجريمة التي شرع في تنفيذها، وهي الحالة التي تعرف بالعدول الاختياري أو العدول الإرادي، أين يقوم الجاني بنفسه بالحيلولة دون وقوع النتيجة، كأن يدخل لمنزل لأجل سرقته لكنه يعود أدراجه من تلقاء نفسه دون أن يقوم بسرقة الأموال، أو أن يشهر سلاحه في وجه غريمه ثم يعدل عن ذلك قبل الضغط على الزناد. ويرى البعض أننا نكون بصدد عدول اختياري إذا سارع الجاني إلى إلغاء مفعول النتيجة بعد وقوعها، كأن يقدم طعاما مخلوطا بالسم لغريمه، وسرعانما يسارع لتنبيهه وإعطاء الترياق للمجني عليه، مما يحول دون إحداث أثار السم، غير أن الفقه الفرنسي في هذه الحالة يسميه توبة إيجابية لاحقة، خاصة وأن جريمة التسميم في القانون الفرنسي – وهو نفس الوضع في القانون الجزائري- جريمة شكلية تقوم بمجرد تقديم السم دون ربطه بضرورة تحقيق النتيجة.

        لذا فالعدول الإرادي بجب أن يكون مبعثه إرادة الجاني نفسه وليس سببا آخر[11]، ولا يهم بعد ذلك الدافع لهذا العدول، فقد يكون ندما أو الخوف من افتضاح الأمر أو شفقة على المجني عليه أو خشية إلقاء القبض عليه، أو حتى رغبة من الجاني في تأجيل التنفيذ لمرة أخرى لاحقة، وكل ما يهم في الأمر هو أن يكون العدول من تلقاء نفس الجاني، أي نابع من أسباب داخلية نفسية. لذلك يمكن القول أن شروط العدول الاختياري أو الإرادي هي:
- تراجع تلقائي من قبل الجاني عن إتمام جريمته بالرغم من قدرته على المضي فيها.
- أن يكون هذا التراجع نابع من إرادة الجاني وبكامل حريته.
- أن يكون العدول قبل إتمام الجريمة، وإلا أصبح مجرد توبة، وهذه الأخيرة تكون سببا لتخفيف العقاب لا لامتناعه.
- لا يمكن تصور العدول إلا في الشروع الناقص، أي الجرائم الناقصة لا الخائبة ولا المستحيلة.
ثانيا: العدول الاضطراري
        وهو عدول غير إرادي أو غير اختياري، ويرجع إلى ظروف خارجية تفرض على الجاني عدم إتمام جريمته، بمعنى أن تكون إرادة الجاني مضطرة للعدول، كأن يصاب الجاني بحالة إغماء بعد بدءه التنفيذ ولا يستطيع إتمامها، أو كمن يدخل منزل مريدا سرقته ولا يجد أموال فيعود أدراجه، ففي هذه الحالات جريمة الشروع تكون قائمة وموجبة للعقاب، كون العدول كان بتأثير عوامل خارجية تدفع الجاني للعدول عن جريمته، في حين المشرع يشجع فقط العدول الاختياري ليكون دافعا لعدم المضي في إتمام الجرائم.
ثالثا: العدول المختلط
        وهو عدول يكون ثمرة عوامل إرادية وأخرى غير إرادية، كالجاني الذي يخيل إليه سماع أصوات أقدام فيظن أنهم أصحاب البيت، فيعدل عن إتمام جريمة سرقة المنزل الذي كان قد دخله، أو يسمع بوق سيارة الشرطة فيعتقد باكتشاف أمره فيتوقف عن إتمام تنفيذ جريمته، وعموما هي حالات توجد فيها حقيقة ظروف خارجية بعيدة عن إرادة الجاني، غير أنها لا تصل إلى حد إجباره عن العدول، غير أنها أحدثت لديه بعض المؤثرات النفسية جعلت منه يعدل بالرغم من أنه كان بإمكانه المواصلة، وهنا ثار تساءل عما إن كان مثل هذا العدول عدولا إراديا يحول دون قيام جريمة الشروع، أم عدول اضطراري لا يحول دون قيام جريمة الشروع وعقاب الجاني عنها؟. أحدث حكم العدول المختلط خلافا فقهيا كبيرا، حيث ذهب بعض الفقه إلى ترجيح الطابع الإرادي للعدول باعتبار أن العامل الخارجي الذي اعتقده الجاني ما هو إلا باعث، ومن مبادئ القوانين العقابية الحديثة أنها لا تهتم بالبواعث، وبالتالي يلحق العدول المختلط في حكمه بالعدول الإرادي الذي لا تقوم به جريمة الشروع. بينما ذهب اتجاه فقهي آخر للقول بالطابع اللاإرادي للعدول المختلط، لأن العدول لا يكون إراديا إلا إذا كان مبعثه أسباب نفسية داخلية وما عدا ذلك فهو عدول اضطراري تقوم به جريمة الشروع وتوجب العقاب.
        بينما ذهب اتجاه فقهي ثالث وسط، للقول بوجوب الاعتداد بالعامل الغالب في العدول، فإن كان العامل الغالب هو الإرادة، فالعدول يكون اختياريا لا تقوم به جريمة الشروع، وإن كانت العامل الغالب هو العامل الخارجي، كان العدول اضطراريا تقوم به جريمة الشروع، وفي حالة الشك في تغليب أحدهما للآخر يغلب العامل الإرادي لأن الشك يفسر لمصلحة المتهم. ونرى ترك المسالة للسلطة التقديرية للقاضي، ليقدر ما إن  كان بإمكان الجاني الاستمرار في جريمته بالرغم من قيام الظرف الخارجي أم أثر في نفسيته بشكل حال دون تمكنه من الاستمرار في التنفيذ، فإن كان الاختيار بيد الجاني وعدل عن إتمام جريمته كان عدولا اختياريا، وفي الحالة العكسية يكون عدولا اضطراريا تقوم به جريمة الشروع، ودوما يفسر لشك في مصلحة المتهم. وهو الموقف الذي نراه متبعا في القانون الجزائري، فللقاضي أن يقدر المسألة تبعا لظروف كل قضية على حالـــة.

الفرع الثاني
الجريمة المستحيلة كصورة خاصة للشروع
        قد يستحيل ارتكاب الجريمة وذلك بعدم تحقق نتيجتها لسبب لا دخل لإرادة الجاني فيه، كأن يطلق الشخص الرصاص اتجاه شخص آخر بقصد قتله، فإذا بهذا الأخير قد يكون توفي نتيجة سكتة قلبية قبل إصابته بالرصاص، أو كمن يضع يده في جيب شخص آخر بغرض سرقته لكنه يتفاجا بوجود الجيب فارغا، أو كمن يحاول قتل شخص بسلاح يكون قد أفرغ من قذائفه دون أن يعلم[12]،  وهي ما تسمى بالجريمة المستحيلة التي أثارت خلافا فقهيا فرنسيا كبيرا، حول مفهومها ومدى ضرورة العقاب عليها، خاصة في ظل خلو تقنين العقوبات الفرنسي من نص يبين موقفه من هذا النوع من الجرائم[13]، لذا انصب الخلاف حول ما إن كان مد حكم الجريمة الخائبة على الجريمة المستحيلة، باعتبار أن المجرم في كلتا الحالتين يكون قد استنفذ كامل السلوك المجرم غير أن النتيجة تخلفت لسبب خارج عن إرادته، لذا ثار التساؤل عما كان يعاقب عليها مثل الجريمة الخائبة، أم أنها نوع من الجرائم يخرج أصلا من نطاق الشروع المعاقب عليه، باعتبارها جرائم مستحيل الوقوع منذ البداية.

        وللإجابة عن هذا السؤال، ثار الخلاف مثلما هو عليه الوضع دوما بين الاتجاهين التقليديين، الاتجاه الموضوعي والاتجاه الشخصي، الأول ويضع نصب أعينه ماديات الجريمة ويرى عدم العقاب على الجريمة المستحيلة في كافة صورها، والثاني الخطورة الإجرامية لدى الجاني، ويرى العقاب على الجريمة المستحيلة بكل أنواعها، كون الجاني قد أبان عن خطورة إجرامية كانت كامنة لديه، غير أن تطرف المذهبين أدى في النهاية – ومثلما هو عليه الحال دوما- إلى ظهور مذاهب توفيقية، وهي مذاهب حاولت هذه المرة التفرقة بين صور الاستحالة، منها ما يرى أن الاستحالة قد تكون مطلقة وقد تكون نسبية، والثاني يرى أنها قد تكون قانونية وقد تكون مادية، وكل منها يحاول العقاب على نوع من الأنواع دون النوع الآخر.
أولا: الاتجــــاه الشخصي
العقاب على الجريمة المستحيلة في كافة صورها

        يرى أنصار المذهب الشخصي بأنه لا فرق بين الجريمة المستحيلة والجريمة الخائبة، وبين النوعين والجريمة الموقوفة، ففي كل هذه الأنواع يكون الجاني مرتكبا لجريمة الشروع، وعلة ذلك أن المشرع في عقابه على الشروع لم ينظر إلى الضرر المادي الذي قد يصيب الفرد والمجتمع من جريمة الشروع، بل ينظر إلى الخطورة الإجرامية التي أظهرها الجاني بأفعال خارجية ذات صلة مباشرة بالجريمة، فكلما توفرت مثل هذه الخطورة لدى الجاني توجب عقابه دون حاجة للبحث ما إن كانت الجريمة مستحيلة أو ممكنة أو ما إلى غير ذلك، فوفقا لأنصار هذا الاتجاه، استحالة تحقق النتيجة في الجريمة المستحيلة لا يمحي عن الجاني خطورته الإجرامية، سيما وأن علة العقاب على الشروع هو عدم تعريض المصالح والحقوق للخطر، وهو ما عيب عليها، كون الخطورة تستمد من خطورة الفعل ذاته مضافا لها خطورة الجاني.
ثانيا: الاتجاه الموضوعي ( المادي )
عدم العقاب على الجريمة المستحيلة في كافة صورها
        وهو أقدم الاتجاهات والذي يتبناه الفقه الألماني وبعض الفقه الفرنسي، والذي يبنون رأيهم على أنه لا يمكن الشروع فيما لا يمكن الشروع فيه، ولا يمكن البدء في تنفيذ ما لا يمكن تنفيذه، وأن كل ما أفصح عليه الجاني في الجريمة المستحيلة، هو نية إجرامية، والقانون لا يعاقب على النوايا ما لم ترتب أضرارا اجتماعية، وفي الجريمة المستحيلة لا يوجد ضرر ولا مجرد تهديد بحصول هذا الضرر، وبالتالي الأمر لا يستحق لا التجريم ولا العقاب. غير أن ما وجه لهذه النظرية من انتقادات هو تضييقها كثيرا من نطاق العقاب مما يعصف بحقوق المجتمع، فالشخص الذي يضع يده في جيب شخص آخر ويجده خاويا وفقا لهذه النظرية لا يعاقب، بالرغم من أن فعله يعد شروعا تاما، لذلك هجرت هذه النظرية ولم يبق في الفقه من يؤيدها.

ثالثا: الاتجـــاه التوفيقي
التفرقة بين أنواع الاستحالة
        من بين أهم الاتجاهات التوفيقية التي حاولت الجمع بين مزايا المذهبين المادي والشخصي وهجر مساوئهما، اتجاهين رئيسيين، أحدهما فرق بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية، والثاني فرق بين الاستحالة القانونية والاستحالة المادية، وكل منهما حصر العقاب على نوع دون الآخر، وفق ما سيتضح من الآتي.
1- التفرقة بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية
قصر العقاب على الاستحالة النسبية دون الاستحالة المطلقة
        وهو اتجاه ينسب في حقيقة الأمر لأنصار المذهب الموضوعي أو المادي، وميزوا بين نوعين من الاستحالة، استحالة مطلقة ولا عقاب عليها، واستحالة نسبية تبرر عقاب الجاني. ورأوا بأن الاستحالة المطلقة قد تتعلق بمحل الجريمة أو بوسيلة ارتكابها، ومثال الأولى أن يكون المحل المادي للجريمة أو موضوعها منعدما، كأن يكون الشخص المراد قتله في جريمة القتل متوفيا من قبل، أو محاولة إجهاض امرأة غير حامل أصلا، ومثال عدم صلاحية الوسيلة كاستعمال سلاح ناري للقتل ويكون غير صالح لذلك، أو يكون خاليا من الرصاص أو محاولة التسميم بمادة غير مؤذية للصحة تماما. وهنا لا يمكن القول بوجود جريمة الشروع ولا يمكن العقاب عليها.
        وأما الاستحالة النسبية فقد ترد أيضا على المحل أو على الوسيلة، لكن لا أن يكون المحل غير موجود أصلا أو الوسيلة غير صالحة أصلا، وإنما أن يكون المحل وقت الجريمة فقط غير موجود،
 أو استعمال الوسيلة لم يكن بالنحو الصحيح لتشغيلها، ففي مثال جريمة القتل، كأن يكون المجني عليه لحظة ارتكاب الفعل غير موجود بالمكان الذي اعتاد أن ينام فيه، أو استعمال السلاح لم يكن بالطريقة السليمة،
 أو في جريمة السرقة السابقة نقل المجني عليه قبل ارتكاب الجريمة إلى جيب آخر. وفي هذا النوع من الاستحالة تقوم جريمة الشروع ويعاقب المجني عليه. كون الاستحالة في هذا النوع عبارة فقط عن جريمة خائبة لا مستحيلة.
        وهي التفرقة التي انتقدت بشدة من قبل الفقه، على اعتبارها تفرقة غير منطقية، كون الاستحالة نوع واحدة وحالة واحدة ولا تقبل أي تفرقة، فالجريمة إما أن تكون ممكنة وإما ألا تكون ممكنة، أي مستحيلة، ولا توجد درجات للاستحالة. لذا ظهر اتجاه آخر وسط يفرق بين أنواع الاستحالة، لكن يقول بنوعين آخرين منها، وهي استحالة قانونية وأخرى مادية.
2- التفرقــــة بين الاستحالة المادية والاستحالة القانونية
قصر العقاب على الاستحالة المادية دون الاستحالة القانونية         
        وهو اتجاه وسط تبناه فريق من الفقه الفرنسي، والذي على غرار ما قام به أنصار الاتجاه الأول، قام بالتفرقة بين نوعين من الاستحالة، لكنه جعلها استحالة مادية وأخرى قانونية، وقصر العقاب على الاستحالة المادية دون الاستحالة القانونية.       ووفقا لهذا الاتجاه، الاستحالة القانونية قد ترجع بصفة عامة إلى انعدام محل الجريمة أو انتفاء عنصر من عناصرها القانونية، فهنا لا جريمة ولا شروع ولا عقاب، حيث الجريمة لا تقوم أصلا بدون عنصر من العناصر المتطلبة قانونا لقيامها، كسبق وفاة المراد قتله أو ملكية الجاني للمال المسروق الذي اعتقد أنه ملك للغير، في حين الاستحالة المادية ترجع إلى سبب مادي واقعي لا قانوني، كعدم استعمال وسيلة ارتكاب الجريمة استعمالا سليما، وهنا تقوم جريمة الشروع ويعاقب عليها الجاني.
رابعا: موقف المشرع الجزائري من الجريمة المستحيلة
        يتضح من نص المادة 30 من تقنين العقوبات الجزائري، أن المشرع الجزائري يعاقب على الجريمة المستحيلة، إذ يعاقب بصراحة على الاستحالة المادية وفقا للرأي السابق، حيث استعمل فكرة " الظرف المادي" دون الظرف القانوني، لأن هذا الأخير لا يقيم الجريمة أصلا، حيث نصت المادة على أنه:" ...حتى ولو لم يمكن بلوغ الهدف المقصود بسبب ظرف مادي يجهله مرتكبها.". غير أن المشرع يستثني بعض الحالات الخاصة، مثلما هو الشأن بالنسبة لجريمة الإجهاض، المنصوص والمعاقب عليها بموجب نص المادة 304، حيث يتوقف العقاب على هذه الجريمة على حمل المرأة أو مجرد افتراض حملها. في حين يرى البعض تعليق العقاب على الجريمة المستحيلة على عنصر " العلم"، وهو أهم عناصر القصد الجنائي، حيث إن كان الجاني لا يعلم بأن الوسيلة غير صالحة لإحداث النتيجة، أو أن محل الجريمة لا يوجد أو منعدم عوقب، أما إن كان يعلم بذلك فهو لا يعاقب كون علمه هذا يقود لعلمه أن النتيجة مستحيلة الحدوث وبالتالي يعلم جيدا أن الجريمة لا تقوم[14].

المطلب الثالث
الركن المعنوي لجريمة الشروع
        الشروع جريمة، وبالتالي لا يكفي لقيامها مجرد البدء في تنفيذ الركن المادي للجريمة، وعدم تحقق النتيجة، وإنما يجب أن يتوفر لدى الجاني قصد تحقيق هذه الجريمة، وهنا يمكن القول بأنه لا فرق بين جريمة الشروع والجريمة التامة من حيث الركن المعنوي، بل الفرق ينحصر في الركن المادي فقط، وبالضبط في عنصر النتيجة، حيث تتحقق في الجريمة التامة، وتتخلف في جريمة الشروع. لذا يمكن القول أن جريمة الشروع جريمة عمدية يجب لقيامها اتجاه قصد الجاني إلى إتيان السلوك المجرم بقصد تحقيق النتيجة المجرمة قانونا، وبمعنى آخر يجب أن تنصرف إرادة الجاني في البداية إلى تحقيق جريمة تامة، وليس مجرد الشروع فيها، فإذا ثبت أن إرادة الجاني لم تتجه إلى إتمام الجريمة، وإنما الوقوف بفعله عند حد معين، كالجرح مثلا، فلا يمكن أن يسأل عن المحاولة في القتل، لأنه لم يقصد تحقيقه، بل يسأل عن الضرب المفضي للوفاة باعتباره جريمة مستقلة وقائمة بذاتها. ونتيجة لما سبق، سنحاول دراسة الشروع في الجرائم غير العمدية وفي الجرائم المتجاوزة القصد.

الفرع الأول
الشروع في الجرائم غير العمدية
        دون استعراض الخلاف الفقهي، يمكن القول مباشرة، أنه لا يمكن تصور الشروع في الجرائم غير العمدية، كون الركن المعنوي في هذا النوع من الجرائم لا يقوم على إرادة تحقيق النتيجة، بل هذه الأخيرة تحققت فقط لاتخاذ سلوك خاطئ، وسبق القول في الشروع أن الجاني يريد تحقيق النتيجة وتتخلف لظرف خارج عن إرادته، وبالتالي لا شروع في الجرائم غير العمدية، وإن كان يمكن تخلف جريمة يقيم جريمة غير عمدية أخرى، فقيادة السيارة بسرعة فائقة في طريق مزدحم بالمارة لا يعد شروعا في القتل الخطأ لكن يقيم جريمة تجاوز السرعة المحددة قانونا، وإصابة شخص دون أن تحدث له الوفاة، لا يعد جريمة الشروع في القتل الخطأ، بل يشكل جريمة أخرى هي جريمة الجروح الخطأ.

الفرع الثاني
الشروع في الجرائم المتعدية ( المتجاوزة) القصد
        وهي جرائم يقترف فيها الجاني سلوكا معينا قاصدا منه تحقيق نتيجة إجرامية معينة، فإذا بالنتيجة التي تتحقق تكون أشد جسامة، لكن لم يكن يقصدها الجاني إطلاقا، وبالتالي لا يمكن تصور الشروع فيها كونها نتيجة كانت غير مقصودة أصلا، والركن المعنوي في جريمة الشروع يقتضي إرادة النتيجة ورغم ذلك تتخلف.
وإذا ما قامت أركان الشروع السابقة، فإن عقوبة الشروع في القانون الجزائري عقوبة ذات عقوبة الجريمة التامة، وهو اتجاه موقف قانوني يساوي بين الجريمة التامة وجريمة الشروع، وإن كانت هناك قوانين تخفف من جرائم الشروع مقارنة مع الجريمة التامة، غير أن هذا الموقف المتعلق بالمساواة في العقاب هو الموقف القانوني للمشرع ولا يوجد ما يمنع القاضي من إعمال سلطته التقديرية في تقدير العقوبات ومبدأ تفريد العقاب.

[1] - يعد البدء في التنفيذ الفيصل بين المحظور والمباح، لذا مكان من بين أعقد مشاكل الشروع في الجريمة هو التمييز بين الأعمال التحضيرية والبدء في التنفيذ، وهي مسألة شغلت بال رجال الفقه الجنائي لعدة قرون، الأمر الذي جعل بعض التشريعات الحديثة لتفادي المشاكل إسقاط عبارة " البدء في التنفيذ" من النصوص القانونية التي تعاقب على الشروع، غير أن ذلك لم يقض على المشكلة، كون الأمر يتعدى مجرد التغيير في المصطلحات، بل الأمر يحتاج إلى ضابط يمكن به التمييز بين المرحلتين، المرحلة التحضيرية ومرحلة البدء في التنفيذ
[2] - إذ في الغالب ما لا تقع الجريمة دفعة واحدة في لحظة وتنتهي، بل يمر فاعلها في غالب الأحيان بالعديد من المراحل قبل أن يبدأ في تنفيذها، فتنشأ الجريمة في أول الأمر كفكرة تختلج في نفس صاحبها، لتستقر في ذهنه كهدف يعزم ويصمم على تحقيقه، وفي كل هذه المراحل لا تزال كفكرة نفسية خالصة ولم تظهر بعد في العالم المادي الملموس.
[3] - نسمي هذه المرحلة بمرحلة النوايا الكامنة، لانعدام أي أثر مادي يكشف عنها، وكل ما تمر به يبقى كمين نفس الجاني.
[4] - ونصت على هذه الجريمة المادة 87 مكرر 7 من قانون العقوبات التي أدرجت بموجب الأمر 95-11 المؤرخ في 52-02-1995 المتعلقة بالجرائم الموصوفة بأفعال إرهابية أو تخريبية، التي نصت على أنه:" يعاقب بالسجن المؤقت من 10 سنوات إلى 20 سنة وبغرامة من 500.000 دج إلى 1.000.000 دج، كل من يحوز أسلحة ممنوعة أو ذخائر يستولي عليها  أو يحملها أو يتاجر بها..."، وقبل هذا التعديل كانت تعاقب على هذه الجريمة المادة 89/2 ( بموجب الأمر رقم 75-47 المؤرخ في 17-06-1975 )، التي كانت تعاقب بالمؤبد كل من يقوم أثناء حركة التمرد بحمل الأسلحة والذخائر علانية أو خفية.
[5] - وهي الجريمة المنصوص والمعاقب عليها بموجب المادة 359 المعدلة بموجب القانون 06-23 المؤرخ في 20-12-2006 التي نصت على أنه:" كل من قلد أو زيف مفاتيح يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين وبغرامة من 20.000 دج إلى 100.000 دج...."
[6] - لأنه وإن كانت الأمور واضحة فيبعض الفروض، كعدو أحد الأشخاص وراء الآخر مطلقا عليه الرصاص، أو كضبط أحد الأشخاص محاولا فتح باب المنزل بالعنف، أو سكب أحد الأشخاص البنزين وراء باب جاره محاولا حرقه، ففي هذه الحالات البدء في تنفيذ الجريمة يعد واضحان وبالتالي شكل جريمة الشروع المعاقب عليها قانونا. وعلى العكس مما سبق، فإن حيازة مادة سامة، والتجول ليلا حول منزل سيدة تسكن بمفردها، يعد من قبيل الأعمال التحضيرية غير المعاقب عليها، غير أنه وعلى عكس كل ما سبق، هناك حالات ملتبسة يصعب القطع فيها ما إن كان العمل مجرد عمل تحضيري أو يشكل بدءا في تنفيذ الجريمة، كدق الشخص لجرس المنزل ليتأكد من غياب صاحبه، أو ضبطه متجولا في حديقة منزل وهو يتلصص، ففي  مثل هذه الحالات يصعب القول ما إن كان قد شرع في جريمته أو لا يزال في طور مرحلة التحضير...
[7] - ما عدا الحالات التي قد تشكل فيها مثل هذه الأفعال جرائم مستقلة بذاتها، كجريمة انتهاك حرمة منزل في هذا المثال.
[8] - وللتدليل على ذلك نورد نص المادة 30 باللغة الفرنسية، خاصة وان الفقيه البلجيكي جارو صاغ نظريته أيضا باللغة الفرنسية، لذا أوردنا في المتن أعلاه عبراته باللغة الفرنسية للمقارنة.
« Est considérée comme le crime mêmes, toute tentative criminelle qui aura été manifestée par un commencement d’exécution ou par des actes non équivoque tendant directement à le commettre…. »
[9] - ويرى البعض أنه يجب إعمال المعيارين معا، حيث يعمل بمعيار موضوعي يتمثل في فعل يتجه مباشرة إلى إحداث النتيجة، وهو أمر نسبي يختلف باختلاف الجرائم، وعنصر شخصي يتمثل في اتجاه إرادة الجاني اتجاها لا رجعة فيه إلى إتمام الجريمة وهو ما يستنتج من الظروف المحيطة بالجاني.
[10] - نشير إلى هذه النقطة، لأن كثيرا ما نجد بعض الكتب تجعل من العدول الاختياري أو الإرادي ركنا من أركان الشروع، في حين أن هذا النوع من العدول يخرجنا من دائرة الشروع إلى دائرة الإباحة وعدم العقاب، كون جريمة الشروع في الأساس عبارة عن جريمة ناقصة أو خائبة أو مستحيلة، وهي الأوضاع التي لا نتخيلها مصاحبة للإرادة.
[11] - رأى المشرع أنه من حسن السياسة الجنائية فتح الباب أمام الجناة للنجاة من العقاب حتى بعد الشروع في ارتكاب الجرائم وذلك في الحالات التي يعدلون فيها عن إتمامها، فلا عقاب عليه إذا حال دون إتمامها بالكف عن مواصلة النشاط المجرم أو الحيلولة دون حدوث نتائجه، أي الشروع في السلوك ثم الكف عنه، أو أتمه وحال دون ترتيب نتائجه، وفي كلا الصورتين من العدول هناك ركنين مادي ومعنوي، المادي وهو نشاط عضوي مضاد للسلوك الإجرامي يبذله الجاني ليوقف به السلوك الذي بدأه أو يحول دون تحقيق نتيجته، والعنصر المعنوي اتجاه إرادته لإيقاف السلوك أو تخييب نتائجه، وهنا لا يعتد بالبواعث التي حملت الجاني عليه حتى وإن كانت غير نبيلة أو الخوف، فعبرة عدم العقاب ليست شخصية وغنما موضوعية محضة ومصلحية حيث هي الحيلولة دون انقلاب اخطر إلى ضرر حقيقي على المجتمع ولا شأن للمسألة بالبواعث
[12] - ويرى البعض أن أول قضية تتعلق بالجريمة المستحيلة عرضت على القضاء الفرنسي، كانت قضية تتلخص وقائعها في أن شابا يدعى " لوران" أراد قتل والده ببندقية ملك للأخير، وكان يعلقها على الحائط، فلما شعر الوالد بمخطط ابنه أفرغ البندقية من قذائفها دون أن يشعر الابن بذلك، وأعدها بعد ذلك لمكانها على الحائط، وعندما استعملها الابن لم تحدث بالوالد أي ضرر، وعند إحالته على المحكمة عوقب بمحاولة القتل.
[13] - مشكلة الجريمة المستحيلة مشكلة كان الفقيه الألماني فويرباخ أول من أثارها سنة 1808، ورأى أن الجريمة تعد مستحيلة إذا لم يحقق الجاني أية نتيجة بسبب عدم توافر محل الجريمة، أو بسبب عدم فعالية الوسائل التي استعملها الجاني، وبالتالي الجريمة المستحيلة هي التي يستحيل فيها إحداث النتيجة، وهنا نجد الفقه يحاول التفرقة بين الجريمة المستحيلة والجريمة الخائبة من جهة، وبين الجريمة المستحيلة والجريمة الظنية من جهة أخرى. فبخصوص الجريمة المستحيلة والجريمة الخائبة، فإنهما يشتركان في بذل الجاني كل ما في وسعه لكنه يخفق في إحداث النتيجة، لكنهما يختلفان في سبب هذا الإخفاق، ففي الجريمة المستحيلة يكمن السبب في فعل الجاني الذي يستحيل عليه منذ البداية أن يصل إلى النتيجة، أما في الجريمة الخائبة فسبب الإخفاق يطرأ بعد أن يبدأ الجاني في مباشرة فعله. أما بخصوص الجريمة المستحلية والجريمة الظنية، فهما يشتركان في أن الفعل ذاته تكمن فيه عدم صلاحية إحداث النتيجة، ولكنهما يختلفان في كون الجريمة المستحيلة ترجع إما على عدم وجود المحل الذي ترد عليه الجريمة أو إلى عدم صلاحية الوسيلة، بعكس الجريمة الظنية التي لا تتوفر إلا في مخيلة الجاني واعتقاده
القانوني الخاطئ، ويكون أمام مجرد ظنون وأوهام لا ترقى إلى مرتبة الأفعال التي تهدد المصلحة المحمية قانونا.
[14] - وهو أمر بديهي ونؤيده كثيرا، ونعطي عنه أمثلة، فلنفترض أن شخص أفرغ سلاحه من الرصاص وهو يلاعب زميله وجعله يعتقد أنه سيقتله وصوب نحوه المسدس وأطلق الرصاص وهو يعلم أن الرصاص لا ينطلق، بل يمكننا القول أنه حتى  ولو نسي رصاصة فالقتل خطا وليس عمدي. أو أن يخيف زميله بأن يقتل شخص آخر اتفق معه على مغادرة فراشه.

المبحث الثالث
المساهمــــة الجنائية
الاشتراك الجنائي أو الإسهام الجرمي

        لئن كانت الجريمة في صورتها العادية تقع من شخص واحد، إلا أنها قد تمثل أحيانا مشروعا إجراميا يسهر ويقوم على تنفيذه أكثر من شخص واحد، فتتحول الجريمة إلى مشروع جماعي بعدما كانت مشروعا فرديا، وهو ما يمثل فكرة المساهمة الجنائية التي تعني ارتكاب الجريمة الواحدة من طرف شخصين أو أكثر، وهي الفكرة التي نظمها المشرع الجزائري في المواد من 41 إلى 46 من تقنين العقوبات الجزائري، وذلك تحت عنوان: "المساهمون في الجريمة".
ماهية المساهمة الجنائية
        تقتضي النظرية العامة للجريمة، أن المشرع لا يتدخل بالعقاب عليها إلا إذا اكتملت أركانها بغض النظر عن الشخص الذي ارتكبها، إلا أنه هناك حالات يقوم فيها العديد من الأشخاص الذي يتقاسمون الأدوار التي تختلف وتتفاوت في طبيعتها ودرجتها في تنفيذ هذه الجريمة، وهو المقصود من المساهمة الجنائية.
        وتختلف المساهمة الجنائية التي نحن بصدد دراستها، عن فكرة المساهمة الضرورية التي يقصد بها تلك المساهمة القانونية التي تتطلبها بعض أنواع الجرائم التي لا تقبل بطبيعتها أن يرتكبها شخصا واحدا، مثل جريمة الرشوة التي تتطلب الراشي والموظف المرتشي، وجريمة الزنا التي تطلب شخصين احدهما يكون متزوجا، وجريمة التآمر التي تتطلب العديد من الأشخاص الذين يتآمرون ضد الوطن... والعديد من الجرائم الأخرى التي لا تقوم بطبيعتها ووفقا للقانون بفعل شخص واحد.
        في حين أن فكرة المساهمة الجنائية التي نحن بصدد دراستها، تعني أن الجريمة من الجرائم القابلة بطبيعتها أن يرتكبها شخصا واحدا، إلا أننا نجد العديد من الأشخاص الذين يساهمون في تنفيذها، سواء تامة أو عند مرحلة الشروع، وبالتالي هي فكرة تتطلب جريمة واحدة – فالجرائم المتعددة تبعدنا عن فكرة المساهمة الجنائية-، كما تتطلب تعدد الجناة- إذ الجاني المنفرد يبعدنا أيضا عن فكرة المساهمة الجنائية-. لذا فالمساهمة الجنائية، تتطلب وحدة الجريمة وتعدد الجناة. وهما الشرطين الضروريين لجعلنا أمام هذه الفكرة الجنائية.
أولا: وحـــدة الجريمة
        تقتضي فكرة المساهمة الجنائية أن يرتكب العديد من الجناة جريمة واحدة تقبل طبيعتها أن يرتكبها شخصا واحدا، لذا يجب أن تتضافر جهود هؤلاء في تنفيذ الجريمة،- وذلك بأن تجمع بينهما الوحدة المادية- وحدة الركن المادي- والوحدة المعنوية – وحدة الركن المعنوي-.
1- الوحدة المادية:
        فكرة المساهمة الجنائية تقتضي قيام العديد من الجناة الذين تختلف وتتفاوت أدوارهم في ارتكاب جريمة واحدة، ووحدة الجريمة أول ما تتجسد فإنها تتجسد في وحدة الركن المادي لها، وهذا الأخير يتطلب وحدة السلوك ووحدة النتيجة، لكن إن كانت نتيجة الجريمة واحدة، فوحدة السلوك وإن كانت تعني سلوك واحد أدى لحدوث النتيجة السابقة، غير انه سلوك مشكل من تعدد الأفعال المشكلة لسلوك إجرامي واحد، وأن يساهم كل فعل من هذه الأفعال في تحقيق النتيجة وأن يرتبط بها برابطة سببية، بحيث لو استبعدنا فعل من هذه الأفعال وبالرغم من ذلك حدثت النتيجة، فالقائم بهذا الفعل لا يعد مساهما في الجريمة. وبالتالي يمكن القول بأن فكرة الوحدة المادية تعني وحدة الركن المادي، والتي تتأكد من خلال وحدة النتيجة وارتباطها برابطة سببية مع كل الأفعال التي أتاها الجناة، أي أن يتوفر لدى كل جاني عناصر الركن المادي الأساسية والمتمثلة في سلوك ونتيجة علاقة سببية تربط بين هذا السلوك والنتيجة الواحدة التي تحققت.

2-الوحدة المعنوية:
        ويقصد بها أن تكون هناك وحدة ذهنية ورابطة معنوية تجمع بين جميع المساهمين في ارتكاب الجريمة، وذلك من علم وإرادة تهدف إلى ارتكاب نفس النتيجة سواء كان بينهم اتفاق سابق أو مجرد تفاهم، والتفاهم هو مجرد توفر نية الاشتراك معاصرة لارتكاب الجريمة، عكس الاتفاق الذي يكون سابقا لارتكاب الجريمة فإن التفاهم يكون معاصرا لها، أي لحظة ارتكابها، كأن يرى أحدهم يجري وراء الآخر لأجل قتله، فيمسك به بغرض تمكين الجاني منه بالرغم من أنه لم يكن هناك اتفقا سابق بينهما، وقد لا يكون يعرفه أصلا. وفقدان مثل هذه الرابطة المعنوية، يحول الجريمة من جريمة مساهم فيها إلى مجموعة جرائم.
ثانيا: تعدد الجـــــناة
        سبق القول بأن المساهمة الجنائية تفترض وحدة الجريمة بركنيها المادي – وإن كانت النتيجة واحدة فالأفعال متعددة- والمعنوي، وأن يساهم العديد من الأشخاص في ارتكاب هذه الجريمة، أي وجود أكثر من جاني واحد يساهم في هذه الجريمة التي تصبح تشكل لهم مشروعا إجراميا واحدا، وبالتالي وجود العديد من الأشخاص الذين يرتبكون العديد من الجرائم لا يجعلنا أمام المساهمة الجنائية، ولا وجود شخص واحد يرتكب العديد من الجرائم، إذ هذا الوضع يجعلنا أمام فكرة تعدد جرائم الشخص الواحد.
        هذا وبعد أن تناولنا مفهوم المساهمة الجنائية، وشروطها، سنحاول من خلال ثلاثة مطالب أن نتناول المشاكل التي تثيرها المسؤولية الجنائية، لنخصص المطلبين الآخرين لنوعيها، المساهمة الأصلية والمساهمة التبيعة.

المطلب الأول
المشاكل التي تثيرها المساهمة الجنائية
        إن ارتكاب جريمة واحدة بركن مادي واحد تتعدد فيها الأفعال والنتيجة واحدة، وكل فعل من هذه الأفعال يساهم في إحداثها ويرتبط بها برابطة سببية، يجعلنا نتساءل عن دور كل فعل من هذه الأفعال في تحقيق هذه النتيجة الواحدة، حيث أنه من المؤكد أن دور هذه الأفعال ليس متساويا، ومن ثم فمن الضروري ألا تكون مسؤولية كل المساهمين على نفس القدر من الأهمية، وهنا كان من الواجب تحديد دور كل منهم لتحديد مسؤوليته، وهو ما يثير فكرة تحديد دور كل مساهم في إحداث النتيجة المحظورة قانونا.
الفرع الأول
تقييم الأدوار لتحديد المسؤوليات
        لأجل تحديد دور كل مساهم من المساهمين، ودور الفعل الذي قام به في إحداث النتيجة المحظورة قانونا، وبالتالي تحديد قدر مسؤوليته عن الجريمة التي ارتكبت كثمرة لنشاطات الجميع، ظهر اتجاهين أساسيين، أولهما لا يفصل بين المساهمين ولا يولي أهمية لأية تفرقة بينهم، والثاني يقيم تفرقة بينهم ويجعل منهم مساهمين وشركاء، وسمي الأول بمذهب التوحيد بين المساهمين، وسمي الثاني بمذهب استقلال المساهمين، وهو ما نوضحه في النقطتين التاليتين.
أولا: مذهب التوحيد بين المساهمين
        وهو مذهب يعتمد على نظرية تعادل الأسباب التي سبق وأن بيناها في دراسة علاقة السببية، حيث يرى أنصار هذا المذهب أن منطق الأمور لا يتفق والتمييز بين أعمال الجناة القائمين على تنفيذ جريمة واحدة، فالجريمة حسنهم هي نتاج تضافر جميع جهود المساهمين فيها، وكل مساهم فيها أيا كان الفعل الذي أتاه ودور هذا الفعل في إحداث النتيجة، فهو مسؤول عن هذه الجريمة مسؤولية كاملة، باعتباره فاعلا لها لا باعتبار فعله ساهم في إحداث النتيجة. وعليه فجميع أعمال المساهمين متساوية في إحداث النتيجة، وهي بذلك متساوية في الأهمية، كما هي متساوية أيضا في المسؤولية الجنائية، وبذلك يستبعد أنصار هذا المذهب كل تفرقة بين الفاعل والشريك، بل الكل يعد فاعل أصلي للجريمة.

        غير أن هذا المذهب وجهت له العديد من الانتقادات، أهمها أن الجريمة الواحدة يستحيل أن يرتكبها العديد من الفاعلين الأصليين فقط، لأن ذلك يؤدي إلى تعدد الجرائم وهو أمر غير منطقي في مجال فكرة المساهمة الجنائية، إذ هذه الفكرة تقتضي أن نكون بصدد جريمة واحدة يسهر على تنفيذها العديد من الجناة، كما أن المساواة بين كل الفاعلين أمر يجافي العدالة، ويتنافى ومبدأ التفريد العقابي الذي يقوم على فكرة إنزال العقوبات تبعا لخطورة كل مجرم على حدة، لذا نجد غالبية الرأي الفقهي والموقف التشريعي والقضائي يرفض هذا الرأي.
ثانيا: مذهب استقلال المساهمين
        وهو مذهب يقيم تفرقة بين الفاعلين الأصليين والشركاء، وهو الرأي الراجح فقها وقضاء، واتبعته غالبية التشريعات، وهو مذهب بنادي أنصاره بوجوب التمييز بين المساهمين في الجريمة بحسب الدور الذي قام به كل منهم، وعلى ذلك تقسم أدوار الجريمة إلى نوعين، أدوار رئيسية يقوم بها المساهمين الأصليين، وأدوار ثانوية يقوم بها الشركاء أو الفاعلين التبعيين. غير أن أنصار هذا الاتجاه انقسموا بخصوص المعيار الذي يمكن من التمييز بين الأفعال الرئيسية والأفعال الثانوية أو التبعية، وبالتالي المعيار الذي يبين الفاعلين الأصليين والفاعلين التبعيين أو الشركاء، وكالعادة تنازع المسألة المذهبان المادي والشخصي. الأول ويركز كالعادة على الركن المادي للجريمة، والثاني على الركن المعنوي لها أو نية الفاعل.
1- المذهب الشخصي :
        وهو المذهب الذي ركز على الركن المعنوي أو النفسي للجريمة، ورأى أنصاره بأن الركن المادي للجريمة لا يمكننا من التمييز بين الأعمال الرئيسية والأعمال الثانوية، لذا يجب إعمال الركن المعنوي، وذلك بالاستناد إلى نية وإرادة المساهم وما إن كان يريد أن يكون فاعلا أصليا أو مجرد شريك، فالفاعل الأصلي تتجه إرادته إلى تحقيق النتيجة على أساس أنها تحقق مصلحته وهو سيدها، بينما الشريك هو من توفرت لديه فقط نية الاشتراك، وأن تتجه إرادته لأن يكون فعله مجرد فعل يساعد ويدعم به أفعال الفاعل الأصلي، فالجريمة ليست مشروعه الإجرامي ولا يريد تنفيذها ما لم ينفذها غيره. غير أن هذا المذهب غامض وصعب للإثبات، إذ كيف يمكننا الغوص في أغوار النفس واستخلاص نية الشخص وتبينها والحكم عليها ما إن كانت تريد الجريمة كمشروع أو اشتراك فقط. لذا هجر هذا المعيار من غالبية الفقه وأحكام القضاء.
2- المذهب الموضوعي أو المادي:
        وهو المذهب الذي يركز أنصاره على الركن المادي للجريمة للتمييز بين الأفعال الرئيسية التي يعد صاحبها فاعلا أصليا للجريمة، وبين الأفعال الثانوية التي يعد فاعلها مجرد شريك، وذلك بالاستناد لنوع العمل ومدى خطورته المادية، فمتى كانت الأعمال خطيرة فالمساهمة تكون أصلية، ومتى كانت الأعمال ثانوية وأقل جسامة وخطورة كانت المساهمة تبعية وفاعلها مجرد شريك.
        وللتمييز بين الأعمال الخطيرة وتلك الأقل خطورة، يرى أنصار هذا الاتجاه الاستناد للركن المادي للجريمة ذاته، فالأعمال الخطيرة هي كل فعل يدخل في الأعمال التنفيذية المشكلة للركن المادي للجريمة، سواء كله أ جزء منه، أما الأعمال الثانوية غير الخطيرة، فهي تلك الأفعال التي لا ترقى لمرتبة الأفعال التنفيذية المكونة للركن المادي للجريمة، بل مجرد أعمال مسهلة أو محضرة للأعمال التنفيذية السابقة، ويعمل في ذلك بمعيار البدء في التنفيذ الذي سبق وان بينته هذه النظرية في جريمة الشروع. وبالتالي استقر الفكر القانوني على ضرورة التمييز بين الفاعل الأصلي والشريك، لكن ثارت مسألة البحث عن طبيعة العلاقة بينهما، وهو ما نتناوله في النقطة الموالية.

الفرع الثاني
طبيعة العلاقة بين الفاعل الأصلي والشريك
        في الحقيقة إن أعمال الشريك هي مجرد أعمال تحضيرية غير معاقب عليها في ذاتها، لولا فعل الفاعل الأصلي الذي يجذبها لدائرة التجريم ويكسبها قيمة قانونية، وبمعنى آخر أعمال الشريك تجرم فقط لتبعيتها لفعل مطابق للنموذج التشريعي للجريمة، وبالتالي هناك علاقة فعلية وقانونية بين أعمال الشريك وأعمال الفاعل الأصلي، وهي العلاقة التي لا يمكن إنكارها بأي حال من الأحوال، لكن السؤال يتعلق بالبحث في طبيعة هذه العلاقة، وهي الفكرة التي حاول الفقه بحثها، لكنه اختلف حول تكييفها، ويمكن رد هذا الخلاف إلى نظريتين أساسيتين، نظرية تقليدية وهي نظرية الاستعارة، ونظرية حديثة وسميت بنظرية التبعية، وهو ما نبينه في النقطتين التاليتين.
أولا: نظرية الاستعارة
        وهي نظرية يرى أنصارها بأن الشريك يستعير إجرامه من فعل الفاعل الأصلي، إذ هناك علاقة استعارة بين الفاعل الأصلي والشريك، حيث يضفي فعل الأول الصفة الإجرامية على الفعل الثاني، أو أن الشريك يستعير الصفة الإجرامية لأفعاله غير المجرمة أصلا من فعل الفاعل الأصلي، لكن داخل هذا الاتجاه ذاته ثار التساؤل حول مدى هذه الاستعارة، وهنا انقسم هذا الاتجاه ذاته إلى اتجاهين، أحدهما يرى أنها استعارة مطلقة والآخر يراها مجرد استعارة نسبية.
1- نظرية الاستعارة المطلقة:
        ويرى أنصارها أن الفاعل الأصلي يلقي بظله كاملا على الشريك، بمعنى أن هذا الأخير يستعير كل الظروف العينية والشخصية اللصيقة بالجريمة وبالفاعل الأصلي، مما يجعلهما متساوين في المسؤولية الجنائية والتي تعني أيضا تطبيق نفس الجزاء الجنائي عليهما.

2- نظرية الاستعارة النسبية:
        وهي النظرية التي يرى أنصارها عكس رؤية أنصار النظرية الأولى، ويرون بأن الشريك يستعير من الفاعل الأصلي التجريم دون العقاب، حيث يستعير منه الظروف العينية الموضوعية اللصيقة بالجريمة، دون الظروف الشخصية اللصيق بالفاعل، مما يجعلهم غير متساوين في المسؤولية ولا في الجزاء.
ثانيا: نظرية التبعية
        وهي نظرية في الحقيقة تستند لفكرة مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه المعروفة في القانون المدني، ويرى أنصارها أن فعل الشريك هو فعل مستقل في ذاته عن فعل الفاعل الأصلي، غير أنه غير مستقل استقلالا تاما، إذ وقوع فعل الفاعل الأصلي المتمثل في اقتراف الركن المادي للجريمة، يجعل من فعل الشريك يتبعه وتصبغ عليه الصفة الإجرامية، وإلا فلا مجال للقول باشتراكه في الجريمة، غير أن كل منهما مستقل بظروفه الشخصية، وبالتالي يستقل كل واحد بخصوص الجزاء بحسب الخطورة الإجرامية، كما يستقلان في المسؤولية المدنية، ولا يسأل الشريك عن الجرائم المحتملة التي يقترفها الفاعل الأصلي.

المطلب الثاني
المساهـــمة الأصــلية
الفاعــل الأصلــــــــي
المادتان 41 و45 من قانون العقوبات الجزائري
        يمكن القول اختصارا أنه لا جريمة دون فعل ولا جريمة دون فاعل، وهو الفاعل الذي قد يكون وحيدا أو متعددا، أو وحيدا وله شريك أو عدة شركاء، أو عدة فاعلين لهم شريك واحد أو عدة شركاء، وبالتالي لا جريمة بشركاء فقط، وفاعل الجريمة قد يرتكبها بصورة مباشرة مثل الفاعل المادي أو الفاعل المباشر، وقد يرتكبها بطريقة غير مباشرة مثل المحرض أو الفاعل المعنوي. لكنهما يبقيان صاحبا الجريمة.
        والفاعل الأصلي وفقا لتقنين العقوبات الجزائري نصت عليه المادتان 41 و45، حيث بينت الأولى الفاعل المادي أو الفاعل المباشر، وذلك في الفقرة الأولى منها، في حين بينت الفقرة الثانية المحرض، في حين  تناولت المادة 45 فكرة الفاعل المعنوي.

المطلب الأول
الفــــاعل المـــــباشر
( الفاعل المادي أو الفاعل المنفرد )
        يعرف الفقيه الفرنسية رو Roux الفاعل المادي المنفرد أو الفاعل المباشر، بأنه:" الشخص الذي ساهم نشاطه أو امتناعه في ارتكاب الجريمة."، وبالتالي الفاعل هو من يرتكب الواقعة المجرمة بنص القانون، أو هو الشخص الذي يتولى لوحده تنفيذ كافة الأفعال المكونة للجريمة، بحيث لا يكون من أحد على مسرح الجريمة غيره، وهو ما يقتضي بحث فكرة الركن المادي والركن المعنوي لديه.

الفرع الأول
الركن المادي لجريمة الفاعل المباشر
        نصت المادة 41 من تقنين العقوبات الجزائري، وفي توضيحها لمعنى الفاعل المباشر بأنه:" ... من ساهم مساهمة مباشرة في تنفيذ الجريمة"، وبالتالي الفاعل المباشر هو الفاعل الذي تكون مساهمته مباشرة في ارتكاب الجريمة، فما معنى المساهمة المباشرة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة 41 من تقنين العقوبات الجزائري ؟ 
        المساهمة المباشرة في تنفيذ الجريمة، هي إتيان الأفعال الأعمال التنفيذية المكونة للركن المادي للجريمة، سواء كان شخصا منفردا أو عدة فاعلين أصليين، ومعيار البدء في التنفيذ هو المعيار المحدد للأعمال التنفيذية للركن المادي على النحو المبين سابقا، بالإضافة إلى إعمال معيار آخر مكمل، وهو المتمثل في ظهور الجاني على مسرح الجريمة وأن يكون لصيق الصلة بالتنفيذ ومعاصر له.
        غير أنه هناك حالات يظهر فيها الشخص وكأنه بعيد عن مسرح الجريمة، غير أنه يعد فاعلا مباشرا للجريمة، مثل خادم المنزل الذي يترك باب سيده مفتوحا لتمكين اللصوص من سرقته، وكذا مراقب الطريق، والشخص الذي يمسك بالشخص الهارب من غريمه ليمكن هذا الأخير من قتله – في هذه الحالة الشخص في الحقيقة موجود على مسرح الجريمة-... مما يعني أن معيار الظهور على مسرح الجريمة ليس معيارا حاسما في كل الحالات. 

الفرع الثاني
الركن المعنوي لجريمة الفاعل المباشر
        يجب أن يتوفر لدى الفاعل المباشر أو الفاعل المادي مع غيره من الفاعلين أو الشركاء – كوننا بصدد نظرية المساهمة الجنائية- رابطة ذهنية واحدة، وذلك بأن يكون كل المساهمين في الجريمة على علم بكل الأفعال التي تتضافر لتحقيق الركن المادي للجريمة، ويريدون النتيجة التي تسفر عن جميع الأفعال المتضافرة السابقة، والعلم يجب أن ينصرف لما هو من عمل الشخص وكذا عمل غيره من باقي المساهمين، وأن يريد كل مهم النتيجة أو النتائج المتمخضة عن هذه الأفعال.
        وأن انتفاء الرابطة المعنوية والذهنية لدى الجناة، يخرجنا من مجال المساهمة الجنائية ويجعلنا نسأل كل فاعل عن جريمة مستقلة بقدر السلوك الذي أتاه، لذا فإن إطلاق الرصاص على مجني عليه واحد من قبل العديد من الفاعلين وفي لحظة واحدة يجعلهم مساهمين في جريمة القتل متى توفرت لديهم وحدة الرابطة الذهنية، غير أنه إذا انتفت هذه الأخيرة، سأل الشخص الذي أصابت رصاصته المجني عليه عن جريمة قتل عمدن وسأل الباقين كل منهم مستقلا عن محاولة القتل إن لم تصب رصاصاتهم الشخص المجني عليه.

المطلب الثاني
المحرض كفاعل أصلي
        التحريض هو خلق فكرة الجريمة لدى الشخص الفاعل وجعله يصمم على ارتكابها، ولم يكن المحرض فاعلا أصليا في القانون الجزائري إلا بتعديل قانون 82-04 المؤرخ في 13-02-1982، ويعد ذلك خروجا عن الاتجاه التقليدي الذي أخذت به معظم التشريعات، وكذا خروجا عن توصيات المؤتمر الدولي السابع لقانون العقوبات المنعقد بأثينا سنة 1957 الذي أوصى بجعل التحريض " جريمة مستقلة" عن المساهمة، وخروجها عن المساهمة الأصلية لأن التحريض يتقصه التنفيذ، ولا بالمساهمة التبعية كون المحرض هو صاحب خلق فكرة الجريمة وهو من جعل الفاعل يصمم على ارتكابها.

        والتحريض هو خلق فكرة الجريمة لدى شخص آخر ذهنه كان خاليا منها، أو هو جعل الفاعل يصمم عليها، وذلك بالتأثير على نفسية هذا الشخص ودفعه لغاية تنفيذ ركنها المادي، بمعنى التحريض يعني خلق فكرة الجريمة في ذهن كان خاليا منها أو على الأقل زينها له ودفع به على تنفيذها[1]. أو هو خلق التصميم لدى الفاعل بارتكاب الجريمة، ودفعه نحو ارتكابها، وهو التعريف الذي تبناه المؤتمر الدولي السابع لقانون العقوبات سنة 1957، والتحريض يؤدي إلى نتيجتين الأولى نفسية تتمثل في القرار الذي يتخذه الفاعل الذي وجه له التحريض، والنتيجة الثانية مادية تتمثل في الجريمة التي ارتكبها بناء على القرار النفسي السابق، ويستوي أن يكون المحرض هو صاحب الفكرة الإجرامية أم اقتصر دوره على تزيين الفكرة التي كانت من خلق من حرض شخصيا. وسنحاول تبين أركان التحريض كجريمة في الفرع الموالي.

الفرع الأول
أركان جريمة التحريض
        التحريض جريمة من جرائم المساهمة الجنائية، وبالتالي فهو كأي جريمة يشترط الأركان العامة الثلاثة لقيامها. وهي الركن الشرعي، والركن المادي والركن المعنوي.
1- الركن الشرعي للتحريض
        الركن الشرعي لجريمة التحريض تضمنته المادة 41/2 من قانون العقوبات الجزائري، بنصها:" ...يعد فاعلا...كل من حرض على ارتكاب الفعل بالهبة أو الوعد أو التهديد أو إساءة استعمال السلطة
أو الولاية أو التحايل أو التدليس الإجرامي.". ومن متطلبات الركن الشرعي لجريمة التحريض، أن  ينصب التحريض على ارتكاب جريمة أو مجموعة جرائم من المنصوص والمعاقب عليها قانونا، لذا فإن خلق العداوة والبغضاء والكراهية لدى شخص آخر لا يرقى لمرتبة التحريض، لذا فالموضوع المحدد لعملية التحريض هو ارتكاب جريمة بعينها[2]، وأن يكون مباشر وبفعل إيجابي.
2- الركن المادي للتحريض
        قوام السلوك في جريمة التحريض هو خلق فكرة الجريمة لدى الفاعل و/أو إيجاد التصميم لديه على ارتكابها، وتقتضي فكرة خلق الجريمة أن ذهن الفاعل كان في الأصل خاليا منها، لولا تحريضه من قبل الشخص المحرض وجعله يصمم عليها، كما قد تكون الفكرة من الفاعل ابتداء لكن المحرض جعله يصمم على تنفيذها، بعدما كان الفاعل مترددا بخصوص ذلك، وكل النشاطات السابقة عبارة عن أفعال إيجابية لا سلبية، وبالتالي يمكن القول بأنه لا تحريض عن طريق الامتناع أو بعمل سلبي، أيا كانت دلالته الإجرامية، فسكوت الشخص أمام فاعل يروي له تفاصيل الجريمة التي سيرتكبها لا يجعله مرتكبا لجريمة التحريض كون موقفه كان سلبيا في حين التحريض جريمة إيجابيا.
        والسلوك الإيجابي في جريمة التحريض غير مقيد باستعمال طريقة محددة – وإن كان مقيد بالوسيلة المادية-، فقد يكون التحريض عن طريق القول أو الكتابة، وقد يكون باللفظ العادي أو بوسائل الاتصال أيا كان نوعها، طالما كانت الوسيلة معبرة عن إرادة المحرض وقصده في خلق فكرة الجريمة لدى الغير وجعله يصمم على ارتكابها. والأصل في التحريض أن يكون شخصيا، موجه لشخص أو أشخاص محددين ويمكن تعيينهم، دون اشتراط توفر العلم بين الأطراف، كون التعارف بينهما ليس من شروط قيام جريمة التحريض، غير أن توجيه التحريض لأشخاص غير محددين يعد جريمة مستقلة بحد ذاتها، وهي الجريمة المنصوص والمعاقب عليها في القانون الجزائري بموجب المادة 100 منه[3]. كما يجب أن يكون التحريض منصبا على ارتكاب جريمة من جرائم قانون العقوبات دون اشتراط نوعها أو ذكر وصفها القانوني للفاعل، وإنما يكفي التحريض على ارتكاب الواقعة المكونة لركنها المادي،    وبالإضافة إلى كل ما سبق، حددت المادة 41/2 الوسائل التي بموجبها يتم التحريض، وهي الوسائل أو الأفعال التي بينت على سبيل الحصر لا على سبيل المثال، وبالتالي المسألة قانونية لا يجوز تفسيرها تفسير واسعا، كما لا يجوز القياس عليها، وهذه الوسائل في قانون العقوبات الجزائري من الوسائل المادية التي يشترط إتيانها قبل ارتكاب الجريمة، ويمكن الاستعانة فيها بوسيلة واحدة أو أكثركما يجوز جمعها كلها وهــــي: 
1- الهبـــــة:
        والهبة قد تكون مبلغا من المال، كما قد تكون أي عقار أو منقول أو سلعة من السلع، أو عبارة عن تقديم خدمة، ويمكن أن تقدم بطريقة مباشرة أو مجرد الوعد بتقديمها، غير أن كل ما يشترط فيها أن يكون تقديمها أو الوعد بتقديمها سابقا على ارتكاب الجريمة.
2- الوعـــــد:
        الوعد هو أن يقطع الجاني على نفسه وعدا بأداء خدمة أو أداء عمل أو تقديم هبة للفاعل في حال ما إن ارتكب الجريمة المحرض على ارتكابها، بشرط أن يقطع مثل هذا الوعد قبل تنفيذ هذه الجريمة.
3- التهديــــد[4]:
        التهديد هو أن يقوم الشخص المحرض بالضغط على إرادته بتهديده بارتكاب أفعال أو القيام ببعض التصرفات التي من شأنها أن ترهب المهدد وتدفعه لارتاب الجريمة[5]، ويشترط أن يكون التهديد أيضا سابقا على ارتكاب الجريمة.

4-إساءة استعمال السلطة أو الولاية:
        وفي هذه الحالة، يشترط أن يكون للشخص المحرض سلطة على المنفذ، وهي السلطة التي قد تكون قانونية كسلطة الرئيس على المرؤوس[6]، وقد تكون فعلية كسلطة رب العمل على العامل، أو كأن تكون ولاية كولاية الأب على أبناءه، فيستغل مثل هؤلاء مثل هذه السلطة لتحريض تابعيهم لتنفيذ الجريمة.
5- التحايل والتدليس الإجرامي:
        التدليس الإجرامي هو تعزز الكذب بأفعال مادية ومظاهر خارجية تساهم في إقناع الغير بالانصياع لرغبة المحرض، وذلك باتخاذه لأفعال مادية كاذبة تشجع وتدفع الغير لارتكاب الجريمة.
        وبالتالي جريمة التحريض يجب وأن تتم بإحدى هذه الوسائل أو أكثر، وهي الوسائل التي نذكر بأنها وردت على سبيل الحصر لا المثال، وهي كلها من الوسائل المادية التي يشترط إتيانه قبل إقدام المنفذ على ارتكاب الجريمة التي حرض عليها، وبشرط أن يكون التحريض موجه لشخص أو أشخاص محددين لا لعامة الناس، كون التحريض العام سبق القول أيضا أنه جريمة مستقلة قائمة بذاتها ( المادة 100 ق ع ج).
ثالثا: الركن المعنوي لجريمة التحريض
        جريمة التحريض جريمة عمدية، يجب أن يتوفر لدى الشخص المحرض القصد الجنائي بعنصريه العلم والإرادة، وهو العلم بأن سلوكه يؤدي إلى خلق فكرة الجريمة لدى المنفذ أو على الأقل جعله يصمم عليها إن كانت الفكرة أصلا من المنفذ، وأن يريد هذه الجريمة والنتائج التي تتمخض عنها، لكنه لا يسأل عما زاد من نتائج محتملة لم يكن يعلمها ولا يريدها.

الفرع الثاني
الشروع والاشتراك في التحريض
        باعتبار التحريض جريمة قائمة بذلتها وفقا للقانون الجزائري، حيث أنها جريمة تنتهي بإقناع الشخص الذي حرض بارتكاب الجريمة، وبتقديم إحدى الوسائل المادية المذكورة حصرا في المادة 41/2 ق ع ج، فيكون بذلك المحرض مقترفا لجريمة التحريض بغض النظر عن ارتكابها من قبل الشخص الذي حرض من عدمه، ففي حال ما لم ينفذها سأل فقط المحرض عن جريمة التحريض، وفي حال ارتكبها الفاعل سأل عنها كفاعل مادي مباشر وسأل الآخر كمحرض، لذا نتساءل عما إن كانت جريمة التحريض تقبل الشروع والاشتراك، وه ما نتناوله في النقطتين التاليتين.
أولا: الشروع في جريمة التحريض
        جريمة التحريض تبدأ بتقديم إحدى الوسائل المذكورة أعلاه، وتنتهي بخلق فكرة الجريمة أو تزيينها لدى الجاني وخلق التصميم لديه على ارتكابها، وبالتالي هي جريمة يمكن القول بنوع من التجاوز أنها مستقلة – نقول بنوع من التجاوز، لأن الحقيقة القانونية أن المشرع جعلها جريمة مساهمة لا مستقلة- وتنتهي عند هذا الحد، فالمحرض في حقيقة الأمر فاعل أصلي لجريمة التحريض، وليس له أي دور في الجريمة الأصلية التي يرتكبها المنفذ، لذا فإن عدم إتمام المنفذ للجريمة التي حرض عليها، أمر خارج في حقيقته عن إرادة المحرض، لكن ذلك لا ينفي عنه أنه قام بجريمة التحريض التي توقفت عند حد الشروع، وهو تفسير البعض للمادة 46 من تقنين العقوبات الجزائري[7]، غير أننا لا نوافق هذا الرأي، كون جريمة التحريض نتيجتها خلق فكرة الجريمة لدى الجاني وجعله يصمم على ارتكابها، وبالتالي في الحالة السابقة الجريمة كانت تامة وليست مجرد جريمة انتهت في طور الشروع. لكن يمكن تصور العدول عن جريمة التحريض، في الحالة التي يخلق فيها الجريمة في ذهن الفاعل وجعله يصمم على ارتكابها ويقدم وسيلة من الوسائل المحددة بالمادة 41/2، ولكن قبل إقدام الفاعل على التنفيذ يسارع ويسحب وسيلته المادية، وهنا إن كان العدول اضطراريا أمكن القول بقيام لشروع في التحريض، وفقا للقواعد العامة، وإن كان اختياريا لا عقاب على الفعل، إعمالا للقواعد العامة في جريمة الشروع دوما.
ثانيا: الاشتراك في التحريض
        إذا كان هناك محرضا واحد وفاعلا واحدا للجريمة، عد كل منهما فاعلا أصليا لها، الأول بصفته محرض والثاني بصفته فاعل أصلي لها، ما لم تتوفر شروط الإكراه في حالة استعمال التهديد، غير أنه يثار التساؤل عما إن كان يمكن تصور تعدد المحرضين. إن طبيعة وسائل التحريض التي تعد كلها من الوسائل المادية، تسمح بقبول فكرة الاشتراك في التحريض، كأن يشتري أحدهما هدية ويقدمها للثاني الذي يقدمها بدوره للمنفذ ويخلق فكرة الجريمة في ذهنه ويجعله يصمم على ارتكابها، وبذلك يكون مقدم الهدية شريك في التحريض، بشرط أن يتوفر لديه قصد الاشتراك في التحريض وتتجه إرادته لذلك، كون جريمة التحريض جريمة عمدية، التي تشرط العلم والإرادة بالسلوك وبالنتائج، لذا فهو لا يسال عن النتائج المتجاوزة لقصده. ولا يشترط أن يكون عالما بالمنفذ، بل كل ما يشترط أن يكون عالما بوجود جريمة التحريض على جريمة.

المطلب الثالث
الفاعل المعنوي كمساهم أصلي
        الفاعل المعنوي كصورة من صور المساهمة الجنائية نصت عليه المادة 45 من تقنين العقوبات الجزائري، ويقصد بالفاعل المعنوي الشخص الذي يستخدم شخص آخر كأداة لارتكاب الجريمة، وأن يكون هذا الشخص غير مسؤول جنائيا بسبب وضعه أو صفته الشخصية، وذلك باستعمال أية وسيلة من الوسائل، سواء كانت تلك المبينة في التحريض أو غيرها، وقد عرف المؤتمر الدولي السابع لقانون العقوبات المنعقد في أثينا سنة 1957 الفاعل المعنوي، أنه :" من يدفع نحو ارتكاب الجريمة منفذا لا يمكن مسائلته جنائيا". لذا فهناك وجه شبه كبير بين المحرض والفاعل المعنوي، وهو ما نبينه في فرع، لنتناول في الثاني أركان جريمة الفاعل المعنوي.

الفرع الأول
الفرق بين المحرض والفاعل المعنوي
        وبالتالي، الفاعل المعنوي يقترب كثيرا من المحرض، غير أن الأخير يحرض شخص مسؤول جنائيا مستعملا في ذلك وسيلة مادية من الوسائل المحددة حصرا بنص المادة 41/2، في حين الأول، يستعمل شخص غير مسؤول جنائيا أو شخص حسن النية وكأنه أداة مادية، حيث قد يكون شخص غير مسؤول جنائيا، مثل الصغير غير بالغ سن الرشد والمجنون[8]، أو بسبب وضعه كأن يكون حسن النية[9]، ولا يشترط في ذلك استعمال وسيلة محددة.     وقد نص المشرع الجزائري على الفاعل المعنوي بموجب المادة 45 التي قضت على انه:" من يحمل شخصا لا يخضع للعقوبة بسبب وضعه أو صفته الشخصية على ارتكاب جريمة يعاقب بالعقوبات المقررة لها."[10].
        لذا فوجه التشابه بين المحرض والفاعل المعنوي، أن الأول يستعمل شخص مسؤول جنائيا، في حين الثاني يستعمل شخص كأداة مادية، وعليه فإن المنفذ في التحريض يعاقب باعتباره الفاعل الأصلي للجريمة المحرض عليها، في حين لا فاعل أصلي للجريمة في حالة فاعل معنوي لأنه شخص منذ البداية غير معاقب عليه ، وفي كلا الجريمتين لا ينفذان الجريمة بنفسيهما بل بغيرهما. لكننا نرى بأن المنفذ في حالة الفاعل المعنوي قد يخضع لتدبير من تدابير الأمن، بينما حسن النية فلا يعاقب لانتفاء القصد لديه والخطأ فالجريمة إن كانت تقوم بالخطأ سأل عنها كأن يكون ملزم بواجب التحري. والحيطة والحذر .

الفرع الثاني
أركان جريمة الفاعل المعنوي
        جريمة الفاعل المعنوي جريمة شأنها شأن سائر الجرائم الأخرى، تحتاج لقيامها الأركان الثلاثة العامة، وإن كان الركن الشرعي لا يطرح أي إشكال وهو نص المادة 45 من تقنين العقوبات الجزائري. فإننا سنركز على الركنين المادي والمعنوي.
أولا: الركـن المادي لجريمة الفاعل المعنوي
        على عكس جريمة التحريض، فإن المشرع الجزائري لم يحدد الوسائل التي يلجأ إليها الفاعل المعنوي لأجل الدفع بالشخص المستعمل كأداة لارتكاب الجريمة، وعلى ذلك فكل الوسائل يمكن أن تصلح لقيام جريمة الفاعل المعنوي، بل وتقوم حتى في ظل انعدم مثل هذه الوسائل. بشرط أن يحرض الشخص حسن النية
أو غير المسؤول جنائيا، على الركن المادي لجريمة من الجرائم المعاقب عليها قانونا، دون شرط تبين وصفها أو تكييفها، كما لا يشترط التعارف بين الشخصين، حيث كل ما يلزم أن يعلم الشخص أنه يحرض شخص غير مسؤول أو غير معاقب بسبب وضعه أو صفته. وبالتالي هي جريمة تقوم بنشاط إيجابي ينصب على خلق فكرة الجريمة لدى الشخص ودفعه لارتكابها شأنه شأن التحريض.
ثانيا: الركن المعنوي لجريمة الفاعل المعنوي
        المنفذ في جريمة الفاعل المعنوي مجرد أداة مادية استخدمت في تنفيذ الجريمة، وبالتالي فلا مسؤولية ولا عقاب عليه، فهو لا بالفاعل الأصلي ولا بالشريك، بل المسؤول الوحيد هو الفاعل المعنوي وهو مسؤول عن النتائج التي أرادها وتلك التي لم يردها أو لم يتوقعها أصلا، لأنه كان عليه أن يتوقع بأن يتعامل مع شخص غير مميز وغير مدرك وعليه أن يضع في حسبانه أن هذا الشخص قد يتجاوز ما طلب منه.

المبحث الثاني
المســـاهمة التبـــعية ( الاشتراك )
        يقصد بالمساهمة التبعية أو ما يسمى بالاشتراك، تعدد الجناة في المرحلة السابقة على البدء في تنفيذ الجريمة، سيما في مرحلة التحضير والإعداد للجريمة، فهي لا تعني قيام الجاني بدور أصلي أو رئيسي في تنفيذ الركن المادي للجريمة، وإنما القيام فقط بالأدوار الثانوية أو التبعية السابقة عن هذا التنفيذ، غير أنها أفعال ترتبط بالنتيجة النهائية المترتبة عن الجريمة برابطة سببية، دون أن تعتبر هذه الأفعال أو الأعمال في ذاتها بدءا في تنفيذ الجريمة، وبعبارة أخرى أكثر اختصارا، الشريك هو الشخص الذي يقوم بنشاط تبعي غير رئيسي يرتبط بجريمة ارتكبها فاعل أو فاعلين أصليين برابطة سببية[11]. وبالتالي الشريك في حقيقة الأمر لا يرتكب فعلا مجرما قانونا في حد ذاته، وإنما يكتسب صفته الإجرامية من الفعل التنفيذي الذي يرتكبه الفاعل الأصلي للجريمة، وبالتالي ما دام أن الشريك لم يرتكب أي نشاط أو سلوك أو فعل يدخل في التكوين القانوني ( النموذجي ) للركن المادي للجريمة، وبالتالي في حقيقة الأمر لا يوجد نص قانوني يطبق على هذا الفعل، ما دام النص الذي يعاقب على الجريمة التي ارتكبها الفاعل الأصلي لا يطبق على فعل الشريك، وهنا في حقيقة الأمر أين ظهرت نظريتي الاستعارة والتبعية، والخلاف الفقهي الذي ساد الفقه حول البحث في طبيعة العلاقة بين الفاعل الأصلي والشريك. وقد بين المشرع الجزائري معنى الشريك في نص المادة 42 من تقنين العقوبات، بينما بين نص المادة 43 من يعد في حكم الشريك، وبعبارة أخرى النص الأول بين الشريك الفعلي، بينما بينت المادة 43 الشريك حكما – إن صح القول-. حيث باستقراء المادتين تتبين أركان الاشتراك. وسنبين في مطلب أركان الاشتراك، لنتناول في الثاني بعض الأوضاع المتعلقة بالاشتراك.

المطلب الأول
أركـــان الاشتراك
        لكي تقوم جريمة الشريك ويعاقب بهذا الوصف، لا بد من توفر الأركان الثلاثة العامة المشترطة لقيام أي جريمة، غير انه يمكننا القول بأن الشرط المفترض الأول هو وقوع الجريمة الأصلية التي يرتكبها الفاعل الأصلي، وأن تكون الأعمال الثانوية التي ارتكبها الشريك مرتبطة بهذه الجريمة برابطة سببية، وهي أفعال الاشتراك التي بينتها نصوص القانون، ويشترط أخيرا أن يكون الشريك متعمدا هذه المساهمة.

الفرع الأول
الركن الشرعي للاشتراك
        نصت المادة 42 من تقنين العقوبات الجزائري على أنه:" يعد شريكا في الجريمة من لم يشترك اشتراكا مباشرا[12]، لكنه ساعد بكل الطرق أو عاون الفاعل أو الفاعلين على ارتكاب الأعمال التحضيرية
 أو المسهلة أو المنفذة لها مع عله بذلك.". بينما بينت المادة 43 من هم في حكم الشريك، وهي المادة التي نصت على أنه:" يأخذ حكم الشريك من اعتاد أن يقدم سكنا أو ملجأ أو مكان للاجتماع لواحد أو أكثر[13]، من الأشرار الذين يمارسون اللصوصية أو العنف ضد أمن الدولة أو الأمن العام أو ضد الأشخاص أو الأموال مع العلم بسلوكهم الإجرامي[14]."،  وباستقراء المادتين، يمكن القول أن الاشتراك هو كل من عاون الفاعل
 أو الفاعلين الأصليين في ارتكاب جناية أو جنحة، سواء تمت أو توقفت عند حد الشروع، وأن تنصب هذه المساعدة أو المعاونة على المرحلة التحضيرية للجريمة، أو لتسهيل ارتكابها ماديا، أو تسهيل تنفيذها، وبالتالي النظرة المجردة لنوع هذه الأعمال غير معاقب عليها قانونا وفقا لما تناولناه في نظرية الشروع، غير أنها تنجذب لدائرة التجريم لكونها ترتبط بجريمة الفاعل الأصلي وكانت سببا معينا أو مسهلا لتنفيذها، وهو في الحقيقة تجسيد فعلي لنظرية الاستعارة على الأقل في جانبها التجريمي الموضوعي دون الشخصي – سنبين مسألة استثناء الاستعارة الشخصية لاحقا-، لذا وما دامت أفعال الشريك غير معاقب عليها في حد ذاتها بل لارتباطها بالجريمة الأصلية، لذا فهذه الأخيرة يجب أن تتوفر فيها بعض الشروط، أهمها:
1- أن يشكل الفعل الذي يقوم به الجاني جريمة من الجرائم المعاقب عليها قانونا. لكن بوصف الجناية
أو الجنحة، إذ لا مساهمة ولا اشتراك في المخالفات.
2- ألا يكون فاعل الجريمة الأصلية توفر لديه سبب من أسباب الإباحة، لأنه سبق القول أن مثل هذه الأسباب يستفيد منها كل من ساهم في ارتكاب الجريمة، سواء كان فاعلا أصليا أو مجرد شريك.
        كما تجب الإشارة إلى بعض العناصر المتمثلة في أن إفلات الفاعل الأصلي من العقاب لا يمنع من قيام الاشتراك وعقاب الشريك في حال امتناع مسؤولية الفاعل الأصلي أو قيام مانع من موانع العقاب لديه. لأنها أسباب شخصية يستفيد بها المتوفرة لديه دون غيره. كما أن عدم عقاب الفاعل الأصلي بسبب قيام عذر لديه لا يحول دون عقاب الشريك، كون العذر أيضا من السباب الشخصية.

الفرع الثاني
الركن المادي للاشتراك
        لعقاب الشريك عن الأفعال التي ساعد بها الفاعل الأصلي، يجب وأن يرتكب أو يأتي إحدى أفعال الاشتراك المنصوص عليها في المادتين 42 و 43 من تقنين العقوبات الجزائري، وهي أفعال وردت على سبيل الحصر، كوننا بصدد نص تجريمي يجب إعمال مبدأ الشرعية بخصوصه، وهي بالتالي أفعال أو أعمال لا يجوز تفسيرها تفسيرا واسعا لا القياس عليها، وهذه الأعمال هي:
أولا: أعمال المساعدة أو المعاونة
        أعمال المساعدة أو المعاونة، هي كل فعل أو عمل من شأنه أن يعين أو يساعد أو يدعم به الشريك الفاعل الأصلي، بشرط أن تبقى هذه الأفعال في حدود مرحلة ما قبل البدء في تنفيذ الجريمة، أو بعد ذلك دون أن يظهر الشريك على مسرح الجريمة، لأن الظهور على مسرح الجريمة (مكان ارتكاب الجريمة) يجعل من الشخص فاعلا أصليا لا مجرد شريك، لذا فالشريك يجب أن يساعد الفاعل الأصلي في المرحلة التحضيرية لارتكاب الجريمة، كشراء سلاح وتقديمه للفاعل مع علمه بهدف هذا الأخير. أو أن تكون هذه الأعمال معاصرة لارتكاب الجريمة لكن بعيد عن مكان تنفيذها. أما أعمال المساعدة اللاحقة لارتكاب الجريمة، فليست وسيلة من وسائل الاشتراك، وإنما يمكن أن تشكل جريمة مستقلة بذاتها، غير أن بعض الفقه يرى أنه يمكن الاشتراك بأعمال لاحقة على ارتكاب الجريمة، بشرط أن يكون هناك اتفاق سابق بين الشريك والفاعل الأصلي على القيام بها، وهنا يكون الشخص شريكا بالاتفاق لا بالمساعدة، مثل تدبير الشخص الوسائل اللازمة لتمكين الجناة من الفرار، أو إخفاء معالم الجريمة بعد ارتكابها، وإن لم يكن هناك اتفاق، فهذه الأعمال تعد جريمة مستقلة، مثل إخفاء أشياء متحصلة من جناية أو جنحة، أو التستر على الفارين، أو أي جريمة يعاقب عليها المشرع بصفة مستقلة، ويعد الشخص فاعلا أصليا فيها. لا شريك في الجريمة الأخرى التي أخفى فيها المعالم أو الآثار.
ثانيا: إيواء الأشرار أو إخفائهم
        إيواء أو إخفاء الأشرار في حقيقته يعد عملا من الأعمال اللاحقة لارتكاب الجريمة الأصلية، التي من المفروض أن تخضع لما ورد سابقا، غير أنه وتطبيقا للمادة 43 اعتبرت من يقوم بمثل هذه الأفعال في حكم الشريك، لكن بتوفر الشروط الواردة بهذه المادة، وهذه الشروط المحددة حصرا هي : الاعتياد أو تكرار تقديم مسكن أو ملجأ لأشرار يقومون بأعمال اللصوصية أو العنف ضد أمن الدولة أو الأمن العام أو الأشخاص
أو الأموال، والاعتياد يعني قيام الشخص بمثل هذه الأعمال لأكثر من مرة واحدة، بمعنى من ارتكب الفعل لأول مرة لا يعد كذلك.
وقد أضاف المشرع الجزائري في المادة 91 من قانون العقوبات صورة أخرى من صور الاشتراك، وهي المتمثلة في أعمال المساعدة اللاحقة أيضا، حيث نصت هذه المادة على أنه: المادة 91  ( المادة 60 من القانون 06-23 المؤرخ في: 20-12-2006):" مع عدم الإخلال بالواجبات التي يفرضها سر المهنة، يعاقب بالسجن المؤقت لمدة لا تقل عن عشر سنوات ولا تتجاوز عشرين سنة في وقت الحرب، وبالحبس من سنة إلى خمس سنوات وبغرامة من 20.000 إلى 100.000 دج في وقت السلم، كل شخص علم بوجود خطط أو أفعال لارتكاب جرائم الخيانة أو التجسس أو غيرها من النشاطات التي يكون من طبيعتها الإضرار بالدفاع الوطني ولم يبلغ عنها السلطات العسكرية أو الإدارية أو القضائية فور علمه بها. علاوة على الأشخاص المبينين في المادة 42 يعاقب باعتباره شريكا من يرتكب دون أن يكون فاعلا أو شريكا أحد الأفعال الآتية:
1- تزويد مرتكبي الجنايات والجنح ضد أمن الدولة بالمؤن أو وسائل المعيشة وتهيئة مساكن لهم أو أماكن لاختفائهم أو لتجمعهم وذلك دون أن يكون قد وقع عليه إكراه ومع علمهم بنواياهم،
2- حمل مراسلات مرتكبي هذه الجنايات وتلك الجنح وتسهيل الوصول إلى موضوع الجناية أو الجنحة
 أو إخفائه أو نقله أو توصيله وذلك بأي طريقة كانت مع علمه بذلك.
        وعلاوة على الأشخاص المعنيين في المادة 387 ق ع ج[15]، يعاقب باعتباره مخفيا من يرتكب من غير الفاعلين أو الشركاء الأفعال الآتية:
1- إخفاء الأشياء أو الأدوات التي استعملت أو كانت ستستعمل في ارتكاب الجناية أو الجنحة والأشياء
 أو المواد أو الوثائق المتحصلة من الجنايات أو الجنح مع علمه بذلك،
2- إتلاف أو اختلاس أو تزييف وثيقة عمومية أو خصوصية من شأنها تسهيل البحث عن الجناية أو الجنحة أو اكتشاف الدليل عليها مع علمه بذلك.
        ويجوز للمحكمة في الحالات المنصوص عليها في هذه المادة أن تعفي أقارب أو أصهار الفاعل لغاية الدرجة الثالثة من العقوبة المقررة."

الفرع الثالث
الركن المعنوي لدى الشريك
        جرائم الاشتراك من الجرائم العمدية، لذلك يشترط لدى الشريك توفر القصد الجنائي لديه بعنصريه العلم والإرادة، العلم بكل الأفعال التي تؤدي إلى تحقيق النتيجة، سواء كانت من أفعاله أو أفعال غيره، وأن يريد النتائج المترتبة عنها، ولا يسأل عما زاد عن ذلك من نتائج متجاوزة قصده، فهو يسأل فقط في حدود قصده.

المطلب الثاني
الأوضاع الخاصة للاشتراك والعقاب عليه
        باعتبار الاشتراك جريمة معاقب علها قانونا، فهي تحتاج على دراسة مدى جواز قيام الشروع فيها، وكذا جواز القول بالاشتراك في الاشتراك، وتحديد العقوبة المقررة للشريك.

الفرع الأول
الشروع والاشتراك في الاشتراك
بالنظر لخصوصية جريمة الاشتراك التي تعد في الأصل جريمة غير معاقب عليها لولا قيام الفاعل الأصلي بجريمته، فيمكن القول بأن الاشتراك جائز في الجنايات والجنح التامة، منا يجوز  الاشتراك في الجرائم الناقصة   ( جرائم الشروع)، جرائم معاقب عليها أيضا، فيجوز الاشتراك في الشروع في جناية
أو الشروع في جنحة، بشرط أن تكون الجنحة مما يعاقب على الشروع فيها، غير أن ما يحتاج الدراسة هو الشروع في الاشتراك، والاشتراك في الاشتراك، الذين نتناولهما في النقطتين التاليتين.
أولا: الشروع في الاشتراك:        
        يرى البعض أنه لا يمكن الحديث عن الشروع في الاشتراك، سيما في الفروض التي تنتفي فيها رابطة سببية بين السلوك والجريمة المتحققة، كون الشروع يفترض أن الفعل المرتكب لم يمتلك القدرة الفعلية على تحقيق النتيجة، وبما أن الاشتراك ليس جريمة قائمة بذاتها ومستقلة عن الجريمة الأصلية، وبالتالي لا يمكن الشروع في الاشتراك لأن الشروع يستلزم البدء في تنفيذ جريمة وفقا للنص التجريمي الأصلي. وبالتالي من يباشر عمل من أعمال الاشتراك، دون أن تتفاعل سببيا مع الجريمة الأصلية المرتكبة، لا يمكن اعتباره شريكا في الجريمة لأنه شرع في الاشتراك فيه، ومثال ذلك إعارة شخص مسدس لشخص آخر لأجل قتل أحد الأشخاص، فيقوم الجاني بقتله عن طريق الخنق لا باستعمال المسدس، فلا يد شريكا كونه انتفت العلاقة السببية بين فعله والنتيجة التي تحققت. وهي نقطة تقود لدراسة أثر عدول الشريك على قيام الجريمة.
ثانيا: عدول الشريك
 عدول الشريك قبل بدء الفاعل الأصلي في تنفيذ جريمته مقبول قانونا، أما ذلك غير جائز بعد البدء في تنفيذ الجريمة من قبل الفاعل الأصلي. غير أن التساؤل يثار حول مسألة عدول الفاعل الأصلي عن ارتكاب جريمته، وهنا يمكن القول بأن الاشتراك غير معاقب عليه في حد ذاته ما لم تقع الجريمة الأصلية من قبل الفاعل الأصلي، وبالتالي الشرط الأولي لعقاب الشريك هو ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونا من قبل الفاعل الأصلي، غير أنه في حالة عدول هذا الأخير لا نكون بصدد جريمة، وبالتالي لا اشتراك جنائي في فعل لا يعد جريمة[16].
ثالثا: الاشتراك في الاشتراك
الاشتراك في الاشتراك أمر جائز، مثل الصيدلي الذي يقدم مادة سامة لشخص آخر مع علمه أن هذا الأخير سيسمم بها شخص آخر، ورغم ذلك يريد مساعدته على ارتكاب هذه الجريمة بمثل هذه المادة، فيعد كلاهما شريك في جريمة القتل بالتسميم. وذهب بعض الفقه إلى القول أن الاشتراك في الاشتراك لا عقاب عليه، كونه مساهمة في فعل لا عقاب عليه في حد ذاته، لأنه سبق القول بأن أفعال الاشتراك لا عقاب عليها ما لم يرتكب الفاعل الأصلي الجريمة الأصلية ما لم تكن هناك علاقة اتصال مباشر بين الشريك والفاعل الأصلي، غير أن هذا الرأي لا أساس قانوني له، كون القانون يعاقب على الاشتراك متى وجدت علاقة بين الفعل الأصلي وأفعال الاشتراك، وأن توفرت رابطة ذهنية بين الفاعلين، وبالتالي شريك الشريك يعاقب عن الجريمة التي ارتكبها الفاعل الأصلي بوصفه شريكا فيها لا بوصفه شريك الشريك.

الفرع الثاني
عقوبة الاشتراك وأثر الظروف على عقوبة الشريك
        نصت المادة 44 من تقنين العقوبات الجزائري على أنه: يعاقب الشريك في جناية أو جنحة بالعقوبة المقررة للجناية أو الجنحة. ولا تؤثر الظروف الشخصية التي ينتج عنها تشديد أو تخفيف العقوبة أو الإعفاء منها إلا بالنسبة للفاعل أو الشريك الذي تتصل به هذه الظروف.  والظروف الموضوعية اللصيقة بالجريمة التي تؤدي إلى تشديد أو تخفيف العقوبة التي توقع على من ساهم فيها يترتب عليها تشديدها أو تخفيفها، بحسب ما إذا كان يعلم أو لا يعلم بهذه الظروف.ولا يعاقب على الاشتراك في المخالفة على الإطلاق.".
        وبالتالي يتضح أن كل مساهم مستقل بظروفه الشخصية سواء كانت مشددة أو مخففة أو معفية من العقاب أو من المسؤولية، أما بالنسبة للظروف الموضوعية اللصيقة بالجريمة فتسري على كل من ساهم في الجريمة سواء بوصفه فاعلا أصليا أو مجرد شريك، بشرط توفر العلم بها، أي أن يعلم بها الشريك[17]

الفصل الرابع
الركن المعنوي للجريمة

        إن مجرد ارتكاب ماديات الجريمة المتمثلة في عناصر ركنها المادي، لا تكفي لقيام الجريمة قانونا ومسائلة فاعلها جنائيا، بل يجب أن يتوفر لدى مرتكبها قدر من الخطأ أو الإثم، وهو ما اصطلح على تسميته بالركن المعنوي للجريمة[18]، المتمثل في توفر صلة نفسية بين الفاعل وماديات الجريمة[19]، وبالتالي يمكن القول أنه لا جريمة بدون خطا مهما كانت النتائج التي تمخضت عنها، وهو ما يعني أيضا توفر صلة نفسية بين الفاعل والنتيجة التي تحققت، بحيث يمكن وصف هذا السلوك بأنه سلوك خاطئ أو مؤثم[20]. فالجريمة إذن يجب وأن تقوم على ركنين أساسيين، بالإضافة إلى الركن الشرعي، هما الركن المادي المتمثل في ماديات الجريمة التي تعد المظهر الذي تبرز به في العالم الخارجي، وركن معنوي يتحقق بموقف الإرادة من الفعل المادي، وهو الموقف الذي قد يتخذ صورة القصد، كما قد يتخذ صورة الخطأ، وكلاهما يفترض القدرة على توجيه الإرادة نحو ماديات الجريمة، غير أنه في حالة القصد تتجه الإرادة نحو الفعل والنتيجة معا، وفي حالة الخطأ تتجه الإرادة نحو الفعل دون النتيجة، التي تتحقق بصورة غير مقصودة.
        والمشرع لا يشير إلى هذه العلاقة النفسية بين الفاعل والفعل، إلا بكلمة واحدة في العادة، كاستعماله عبارة " من يرتكب عمدا"[21]، " عن قصد أو بقصد"[22]، أو بغرض[23]، " مع العلم"،" أو "بإهمال"[24]، أو " بنية"[25]... كون معظم القوانين لم تتصد لتعريف الركن المعنوي للجريمة، لذا فالفضل يعود لفكر الفقه الجنائي الحديث في تحديد نطاق الركن المعنوي للجريمة واستجلاء غموضه، وجعل القانون يعاقب الأشخاص ليس لأنهم " فعلوا" وإنما لأنهم " أخطئوا"، وعليه فقد أصبح من المبادئ الراسخة في الوجدان القانوني الجنائي المعاصر، وهو المبدأ القاضي بأنه :" لا عقوبة دون خطأ"، وما يزال تحتفظ به القوانين من جرائم غير عمدية، هو مجرد استثناء على المبدأ في حدود لا تنال من فعاليته وأهميته[26]. وبذلك يعد الركن المعنوي من الأركان التي لا تصور لقيام الجريمة بدونه، كقاعدة عامة باعتباره العنصر النفسي لها، فلكي تقوم المسؤولية الجنائية لمقترف الفعل المجرم لا تكفي مجرد النسبية المادية للفعل له، وإنما يلزم أن تتوافر رابطة نفسية بينهما تصلح أن تكون أساسا للحكم بتوافر العنصر المعنوي أو الأدبي للجريمة.
أهمية الركن المعنوي 
        يعد الركن المعنوي من أهم مكونات البناء القانوني للجريمة، الذي لا يكتمل – هذا البناء القانوني- إلا بهذا الركن، الذي إن لم يتوفر فلا نكون أمام جريمة عمدية، وإن كان يمكن أن يجعلنا أمام جريمة غير عمدية إن كان الفعل يقبل مثل هذا الوصف، وبتوفر هذا الركن تكتمل الجريمة قانونا ويحق مسائلة فاعلها من جهة، ومن جهة ثانية، تظهر أهمية الركن المعنوي، في أنه الركن الذي يلعب دورا كبيرا في تحديد وتقدير الجزاء المقرر لمرتكب الجريمة، إذ يتدرج الجزاء الجنائي في جسامته ومقداره، بقدر درجة الإثم أو الخطأ التي يكشف عنها الركن المعنوي للجريمة، عكس العصور الماضية التي كانت فيه درجة الجزاء ترتبط فحسب بدرجة وجسامة العدوان المادي الذي وقع وما أسفر عنه من نتائج دونما أي اعتداد بما توافر لدى الجاني من خطأ. كما تكمن أهمية هذا الركن، في كونه ضمانة لتحقيق العدالة، كون توقيع عقوبة على شخص لم تربطه صلة نفسية بجريمة ارتكب مادياتها، يعد مجافاة للعدالة، كون هذه الأخيرة تقتضي أن يوقع الجزاء الجنائي فقط على المخطئ في أفعاله، والخطأ لا يمكن تصوره إلا لدى شخص توفرت لديه رابطة نفسية بينه وبين الفعل الذي اقترفه، وهي الرابطة التي تبين اتجاه إرادته لمخالفة أحكام القانون الجنائي بارتكابه لهذا الفعل، وبذلك فقط تكون إرادته مخطئة أو آثمة أو منحرفة.
علاقة الركن المعنوي بفكرة المسؤولية الجنائية
        دون استعراض مختلف التطورات التاريخية، يمكننا القول بأن ظهور الركن المعنوي للجريمة، كان نتيجة التطورات التي عرفتها فكرة المسؤولية الجنائية، بالرغم من استقلال كل منهما عن الآخر، كون الركن المعنوي ركن من الأركان العامة للجريمة، في حين المسؤولية الجنائية، هي حصيلة أركان الجريمة مجتمعة، والتي تؤدي عند قيامها أو ثبوتها إلى خضوع الجاني للعقاب. وبذلك المسؤولية الجنائية، وعلى عكس الركن المعنوي، نتيجة قانونية لقيام الجريمة أو أثر من آثارها لا ركن من أركانها[27].
        وكخلاصة للتمهيد لدراسة الركن المعنوي للجريمة، يمكن القول أن قانون العقوبات أو القانون الجنائي، يخاطب بأوامره ونواهيه الإنسان الواعي المدرك صاحب الإرادة الحرة والسليمة فقط، لذا فالشخص يسأل عن الأفعال التي يأتيها وهو مدرك لما يقوم به من أفعال ومقدر لمدى خطورتها قانونا، وهذه الإرادة وهذا الإدراك هما اللذان يتشكل منهما الركن المعنوي للجريمة، وهو القول الذي ينطبق على كل الجرائم سواء كانت عمدية أو غير عمدية[28]. الأمر الذي جعل الفقه يرى بأن الركن المعنوي بصفة عامة، يتطلب مجموعة من العناصر تكاد تكون مشتركة بين في كل صور هذا الركن، وهذه العناصر هي: إرادة النشاط المكون للركن المادي للجريمة، العلم بكافة العناصر الواقعية الجوهرية اللازمة قانونا لقيام الجريمة، العلم بصلاحية النشاط لإحداث النتيجة، توافر موقف نفسي للفاعل إزاء النتيجة، فقد يريدها وقد يتوقعها فقط ويعتقد بقدرته على تجنبها.
صور الركن المعنوي للجريمة:
        للركن المعنوي للجريمة صورتين، صورة القصد الجنائي ونكون بصدده متى كانت إرادة الفاعل واعية وتقصد وتريد إحداث النتيجة المجرمة قانونا، وصورة الخطأ الجنائي ونكون بصددها متى كانت إرادة الفاعل مهملة في ارتكاب النشاط المادي وغير قاصدة تحقيق النتيجة المجرمة قانونا، والتي يرتبط توقيع الجزاء الجنائي بحصولها، لذا سنحاول تقسيم دراسة الركن المعنوي للجريمة إلى مبحثين، نتناول في الأول القصد الجنائي أو الجرائم العمدية أو القصدية،  لنتناول في الثاني صورة الخطأ الجنائي أو الجرائم غير العمدية..

المبحث الأول
القصد الجنائي أو القصد الجرمي ( العمـــــــد)

        بالرغم من أن القصد مشترط في كل الجرائم العمدية، غر أن المشرع لم يعرفه، وترك المهمة للفقه الذي تصدى بغزارة لوضع تعريف لهذا العنصر القانوني المهم،  لذا سنحاول أن نتناول محاولات الفقه الزاخرة في هذا الشأن في إطار مطلب أول نتناول من خلاله مفهوم القصد الجنائي لنتناول في الثاني عناصر القصد الجنائي، وفي الثالث أنواع وصور القصد الجنائي.

المطلب الأول
مفهوم القصد الجنائي
        يقتضي موضوع القصد الجنائي وتحديد ماهيته، أن نتناول التعريف به وتبيان عناصره والخلاف الفقه الذي ثار بشأن ذلك. من خلال الفروع التالية.

الفرع الأول
التعريف بالقصد الجنائي وتحديد أبعاده
أولا: تعريف القصد الجنائي
        يعني القصد الجنائي لغة، توجيه الإرادة نحو تحقيق هدف ما، أما اصطلاحا في لغة القانون الجنائي، فيعني توجيه الإرادة نحو ارتكاب الفعل المحظور قانونا، وهناك من القوانين التي عرفت القصد الجنائي، منها القانون الجنائي اللبناني في المادة 188 منه التي عرفت القصد بأنه:" إرادة ارتكاب الجريمة على نحو ما عرفها القانون". أما فقهيا، فالفقهاء اختلفوا منذ عدة قرون حول ما إن كان القصد عنصرا نفسيا بسيكولوجيا، أو مجرد حركة أو امتناع أدى إلى تحقيق النتيجة المجرمة قانونا، وتمخض عن هذا الخلاف ظهور نظريتين رئيسيتين تنازعتا في تعريف القصد الجنائي، النظرية التقليدية للقصد والنظرية الوضعية.
1- النظرية التقليدية ( الكلاسيكية) للقصد:
        ومن أهم زعماء هذه النظرية الفقيه الفرنسي ( إميل غارسون)، وحسبه فإن القصد يعني:" إرادة الشخص ووعيه وعلمه بأنه يرتكب فعلا أو امتناعا مجرم قانونا"، وبالتالي حتى يكون الإنسان متعمدا
 أو مرتكبا لجريمة عن قصد، يكفي أن يكون مدركا لخطورة سلوكه، وعالما بأن هذا السلوك محظور قانونا، وما دام هذا العلم مفترضا تطبيقا لقاعدة " لا عذر بجهل القانون" فيكفي عمليا حسب أنصار هذا الاتجاه، أن يكون السلوك المكون لركن المادي للجريمة صادرا عن إرادة حرة غير مكرهة، وعن وعي وإدراك سليم، أي ألا يكون الشخص منعدم الأهلية أو مجنونا أو مكرها[29]، وبعد ذلك لا يهم أن يكون الفاعل صاحب إرادة آثمة أو صاحب خطورة إجرامية على المجتمع، أم أن فعله ناتج عن مجرد عدم استقامة أو سوء تقدر أو عدم توقع لنتائج فعله، وبالتالي هي نظرية لا تفرق أصلا بين العمد ومجرد الخطأ، ونفهم بأنه يرون بأنه للركن المعنوي صورة واحدة هي صورة العمد. وهو وضع النظرية الشخصية دوما التي تركز على الإرادة دون الفعل.
2- النظرية الوضعية أو الواقعية:
        وهي النظرية التي نجد على رأس أنصارها الفقيه الإيطالي ( أنريكو فيري) وهو رائد المدرسة الوضعية الحديثة في علم الإجرام، وبحسبه القصد لا يعني فقط إرادة مجردة، بل القصد يعني الباعث الشرير الذي دفع بالشخص إلى ارتكاب الجريمة، فالفعل لا يعاقب عليه القانون إلا إذا نتج عن رغبة حقيقية في المساس بالمجتمع، وكلما انعدمت الإرادة الآثمة وكان الباعث نبيلا انتفى القصد وانعدمت المسؤولية الجنائية للفاعل، وهنا نلاحظ أننا لا زلنا بصدد النظرية الشخصية، المركزة على الإرادة الآثمة، والخلط بين الركن المعنوي والمسؤولية الجنائية، وهي نظرية لا تستقيم مع ما هو معمول به قانونا، سيما وأن القوانين الحديثة لا تحفل بالبواعث.

ثانيا: تحديد القصد الجنائي
        باستقراء الاجتهاد القضائي المطبق في الدول الغربية، خاصة في فرنسا، نجد بأن آراء المدرسة التقليدية هي المطبقة، كما يبدو ذلك من معظم النصوص القانونية الجزائية، ولعل ذلك راجع لواقعية وبساطة هذه النظرية وسهولة تطبيقها في تحديد القصد الذي يعتمد تحديده على: 
- الإدراك: وهو أن الإنسان ما دام مدركا وغير مجنون وغير مكره أو غير مميز جنائيا فإن إدراكه مفترضا.
- الإرادة: لا يكفي العنصر الذهني السابق، بل لا بد أن يصدر الفعل عن إرادة حرة غير مكرهة.
- العلم: وهو العنصر المفترض في غالب الأحيان، والذي يعني علم الشخص بأنه يرتكب سلوكا محظور قانونا.
        والعناصر الثلاثة السابقة من العناصر السهلة الاستخلاص والاستنتاج، كونها عناصر ملموسة تمكن القاضي من استخلاص القصد بكل سهولة، دون الاعتماد على الجوانب النفسية والبسيكولوجية الصعبة الإثبات. وتبعا لما سبق، يمكن تعريف القصد بأنه:" إرادة النشاط والعلم بالعناصر الواقعية الجوهرية اللازمة لقيام الجريمة، وبصلاحية النشاط لإحداث النتيجة المحظورة قانونا مع توفر قصد تحقيق ذلك"، وبالتالي يمكن القول بأن عناصر العمد أو القصد الجنائي هي ذاتها عناصر الركن المعنوي، والمتمثلة عموما في: إرادة النشاط المكون للركن المادي للجريمة سواء تمثل في فعل إيجابي وهو الغالب دوما، أو مجرد امتناع أحيانا. العلم بالعناصر الواقعية الجوهرية اللازمة لقيام الجريمة. العلم بصلاحية النشاط أو الامتناع لإحداث النتيجة[30]. توافر الصلة النفسية بين الفاعل والنتيجة متمثلا هذا العنصر في قصد تحقيق هذه النتيجة، وينبغي أن يكون هذا القصد واضحا لا لبس فيه على نحو يأخذ فيه صورة العزم واليقين.

الفرع الثاني
عناصر القصد الجنائي
        كل التعاريف التي قيلت في تعريف القصد الجنائي، تدور حول محورين أو نقطتين أساسيتين، الأولى وهي " الإرادة"، والثانية وهي : العلم"، فبخصوص الإرادة تتجه غالبية التعريفات إلى ضرورة اتجاه إرادة الجاني إلى ارتكاب الجريمة، وبخصوص العلم فيشترط أن يعلم الجاني بجميع أركان هذه الجريمة، وبتحقق هذين العنصرين مجتمعين يقوم القصد الجنائي وبانتفائهما أو انتفاء أحدهما ينتفي هذا القصد.
أولا: عــنصر العــلم
        يعد العلم كعنصر مكون للقصد الجنائي، حالة نفسية تجعل من مرتكب الجريمة عالما بجميع أركانها وعناصرها وفقا لما حدده ورسمه المشرع في النص الجنائي أو في النموذج القانوني للجريمة، وينتفي العلم بالجهل بهذه العناصر والأركان[31]، وبانتفاء العلم ينتفي القصد، مثلما ينفيه أيضا الغلط[32]. غير أنه العلم بعناصر الجريمة يقتضي تبيان العناصر التي يقتضي العلم بها، وتلك العناصر التي لا تؤثر في قيام عنصر العلم، التي حتى وغن لم يعلم بها الجاني، قام قصده الجنائي، وهو ما نتناوله في النقطتين التاليتين.
1- العناصر التي يتعين العلم بها:
        يقوم عنصر العلم كأحد أهم أركان القصد الجنائي، على العلم بالعناصر والوقائع التي تعطي الوصف المتميز لجريمة ما مقارنة بسائر الجرائم الأخرى، وذلك وفقا لما رسمه المشرع في إطار النموذج التشريعي لها، وعلى العموم يعني العلم الإحاطة بكل واقعة ذات أهمية قانونية في تكوين الجريمة، سواء كانت عناصر أساسية أو مفترضة. وأهم هذه العناصر والوقائع: 
أ – محل الجريمة أو الحق المعتدى عليه:
        العلم بموضوع الجريمة، أو الحق أو المصلحة المعتدى عليها من أهم العناصر الواجبة لقيام الجريمة وبالتالي يجب أن يعلم بها الجاني، مثل ملكية الغير للمال المسروق في جريمة السرقة، وكون الإنسان حي في جريمة القتل... وأن كل جهل بهذا العنصر يجعل من العلم منتفيا وينتفي بذلك القصد الجنائي.
ب- العلم بأن الفعل الذي يأتيه الجاني محظور قانونا، أي أنه يشكل جريمة من جرائم قانون العقوبات، وإن كانت مسألة العلم بالقانون قد أثارت العديد من الجدل الفقيه.
ج- العلم بزمان ومكان ارتكاب الجريمة، لكن متى كان هذين العنصرين من العناصر المكونة للجريمة، كجريمة التجمهر في مكان عام أو جريمة السكر العلني والقذف في مكان عام والمزايدة في زمن الحرب والكوارث الطبيعية...
د- العلم بالظروف المتطلبة قانونا في الجاني أو المجني عليه، كالعلم بحمل المرأة أو افتراض حملها في جريمة الإجهاض، والعلم بأن الشخص جزائري في جريمة الخيانة، والعلم بصفة الموظف في جريمة الرشوة، والعلم بالمرأة المتزوجة في جريمة الزنا...
ه- توقع النتيجة كون مجرد الغلط في النتيجة ينفي القصد الجنائي، ويسأل الشخص عن جريمة غير عمدية إن كان يمكن قيامها بهذا الوصف.
2- الوقائع التي لا يتعين العلم بها
        من أهم العناصر أو الوقائع التي لا يشترط العلم بها لقيام هذا العنصر الهام من عناصر القصد الجنائي، هي كل المسائل والعناصر التي تخرج عن نطاق تكوين أركان الجريمة، مثل نص قانون العقوبات والظروف المشددة للعقوبة والأهلية الجنائية وتوافر شروط العقاب.
أ- نص قانون العقوبات:
        لا يشترط لتوفر القصد الجنائي أن يعلم الجاني علما حقيقيا بنص قانون العقوبات أو القوانين المكملة له، بحيث أن كل جهل أو خطا في فهم وتفسير هذه النصوص لا يؤثر على توفر القصد الجنائي تطبيقا للمبدأ الدستوري " لا يعذر أحد بجهل القانون"، والتي نصت عليه بعض القوانين صراحة ضمن نصوص قانون العقوبات، كالقانون اللبناني في نص المادة 223 منه التي قضت انه:" لا يمكن لأحد أن يحتج بجهله الشريعة الجزائية أو تأويله إياها تأويلا مغلوطا فيه." حيث هناك قاعدة افتراض علم الكافة بأحكام قانون العقوبات.
ب- الظروف المشددة للعقوبة:
        لا يشترط أيضا لقيام القصد الجنائي لدى الجاني، أن يعلم الأخير بالظروف المشددة للعقاب، كونها ليست من العناصر التي تدخل في التكوين القانوني للجريمة، بل هي مجرد ظروف تتعلق بمسائل أخرى، في حين أن القصد الجنائي يتعلق بأركان الجريمة دون غيرها، لذا فالشخص الذي نسي أنه مسبوق فلا يؤثر على قيام ظرف العود لديه.
ج- عناصر الأهلية أو المسؤولية الجنائية:
        مثلما سبق القول، فإن كل المسائل غير المتعلقة بأركان الجريمة ليس لها علاقة بالقصد الجنائي، لذا فعناصر الأهلية الجنائية أو عناصر المسؤولية الجنائية لا يؤثر العلم أو الجهل بهما في شيء على عنصر العلم المتطلب في قيام القصد الجنائي، فمن كان يعتقد بإصابته بمرض عقلي عند ارتكابه الجريمة ثم تبين انه سليم، فإن ذلك لا يؤثر على قصده الجنائي.
د- شروط العقاب:
        ما قيل بخصوص الظروف المشددة للعقوبة وعناصر الأهلية والمسؤولية الجنائية يمكن قوله بخصوص شروط العقاب. التي لا يؤثر الخطأ أو الجهل بها بشيء في قيام القصد الجنائي.
ثانيا: عنصـر الإرادة
        الإرادة قوة داخلية نفسية تتحكم في سلوك الإنسان وتوجهه، وهي بذلك نشاط يصدر عن وعي وإدراك بهدف بلوغ هدف معين، والإرادة في القانون الجنائي، هي القوة المسيطرة والموجهة للسلوك المادي نحو تحقيق نتيجة محظورة قانونا، أو مجرد قيادة هذا السلوك في الجرائم الشكلية. وقد ثار خلاف فقهي بخصوص علاقة الإرادة بالنتيجة، ما دامت الإرادة تسيطر فقط على السلوك وان النتيجة اثر له، ومعنى ذلك أنه لا أثر للإرادة على النتيجة، فهي كل ما تتحكم به هو السلوك، غير أن مناقشة هذه المسألة تنازعته نظريتان أيضا، نظرية العلم ونظرية الإرادة.
 نظرية العلم، ويرى أنصارها بأن الرابطة بين النتيجة والإرادة هي رابطة ضعيفة، فمجرد وجود علاقة ولو بسيطة ( مجرد تصور أو توقع للنتيجة) يكفي للقول بإرادة النتيجة، كون هذه الأخيرة مجرد نتيجة طبيعية للسلوك لا يمكن السيطرة عليها، كونها حصلت كنتيجة لاحقة لهذا السلوك ولا يمكن للإرادة أن تسيطر على الأفعال اللاحقة للسلوك.
 أما أنصار نظرية الإرادة، فيرون ضرورة أن تكون الرابطة بين الإرادة والنتيجة رابطة قوية بحيث تتجه إرادة الفاعل إليها وترغب في تحقيقها، بحيث تسيطر الإرادة على النتيجة مثلما تسيطر على السلوك.

الفرع الثالث
لحظة توفر القصد الجنائي وكيفية إثباته
أولا: لحظة توافر القصد الجنائي
        إذا كان القصد الجنائي هو إرادة تحقيق الركن المادي للجريمة مع العلم بعناصره، فيجب لقيامه أن يتعاصر مع الركن المادي دون تفرقة بين ما يعد سلوكا وما يعد نتيجة، وإن لم تكن هناك صعوبة مثلا في جريمة القتل الفورية أين يطلق الشخص النار على آخر فيرديه قتيلا، فهنا يعد القصد قد تحقق في اللحظتين معا، لحظة إتيان السلوك، ولحظة تحقق النتيجة الفورية، غير أنه قد يحدث أن يتوفر القصد في إحدى اللحظتين دون الأخرى، وذلك لا يمنع من القول بتوفره أيضا، كالشخص الذي يندم بعد وضعه السم في طعام شخص آخر، غير أن الوفاة تحدث، فهنا يكون القصد متوفرا في حقه بالرغم من قيامه فعلا لحظة إتيان السلوك وتخلفه لحظة تحقق النتيجة، أو في الحالة العكسية – أين يتحقق القصد لحظة النتيجة دون أن يكون متوفرا لحظة السلوك-، مثل الصيدلي الذي يخطئ في تركيب دواء طلبه منه شخص معين، فيضع في هذا الدواء مادة سامة ويسلمه للمريض ثم بعد أن يغادر الأخير يكتشف خطأه لكن يمتنع عن تنبيهه مع قدرته على ذلك، رغبة منه في تحقق نتيجة الوفاة، ففي هذه الحالة أيضا يعد القصد متوفرا بالرغم من معاصرته فقط للنتيجة وتخلفه لحظة إتيان السلوك. وبهذا يمكن القول باختصار، أنه يكفي قيام القصد بعنصريه العلم والإرادة في أية مرحلة من مراحل تنفيذ الركن المادي، كون هذا الأخير حتى وإن أمكننا نظريا تحليله لعناصر، غير أن ذلك لا ينال من حقيقته كوحدة مادية واحدة يكفي توفر القصد فيها في أية لحظة من لحظاتها.
ثانيا: إثبات القصد الجنائي
        القصد يعد ركن من أركان الجريمة التي لا قيام لها بدونه، لذا يجب إثباته وإقامة الدليل على توفره، وتلك مسألة قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض، غير أن إثبات المسائل النفسية لا يكون بطريق مباشر وإنما بطرق غير مباشرة بالاستدلال والاستنتاج من ظروف وملابسات كل قضية على حدة، خاضعا في ذلك للسلطة التقديرية لقضاة الموضوع دون رقابة عليهم من محكمة النقض، لأنها مسألة استنتاج ليس هناك مظهر بذاته يقطع بتوفره على سبيل الحتم والجزم واليقين. ويجب أن يظهر في الحكم وإلا كان معيبا ومعرضا للنقض والإبطال.

المطلب الثاني
صور القصد الجنائي
        يقسم فقهاء القانون الجنائي القصد الجنائي ( العمد ) عدة تقسيمات، فيقسم إلى قصد عام وقصد خاص، وقصد محدد وقصد غير محدد، وقصد مباشر وقصد غير مباشر.. وفي الغالب المشرع لا يرتب أية نتيجة قانونية على هذه الأنواع، ما عدا بخصوص التقسيم الأول- القصد العام والقصد الخاص- لكن باقي التقسيمات الأخرى يرى الفقه أن أثرها ينحصر في تقدير العقوبة الموقعة على الجاني، دون أن يكون لها أثر على الجريمة وقيامها.

الفرع الأول
القصد الجنائي العام والقصد الجنائي الخاص
أولا: القصد الجنائي العام
        القصد الجنائي العام هو القصد المطلوب في كل الجرائم العمدية، وينحصر في إطار النموذج التشريعي المنصوص عليه في النص، ولا يمتد للغرض الذي يسعى إلى تحقيقه الجاني، وبغض النظر عن غاية وباعث الجاني من وراء اقترافه الجريمة، بل ينحصر فقط في الهدف الضروري والمباشر للسلوك الإجرامي، وهو بذلك لا يختلف من جاني لآخر في الجريمة الواحدة.
ثانيا: القصد الجنائي الخاص
        القصد الجنائي الخاص، هو ذلك القصد الذي نكون بصدده عندما يتطلب القانون بالإضافة إلى القصد الجنائي العام، تحقق غاية معينة يبتغيها الجاني، وتكون هي التي دفعته لارتكاب الجريمة، وهي التي يستدل عليها بطرح سؤال بسبب ارتكاب الجاني لجريمته، لذا فالغاية التي يتضمنها القصد الخاص في حقيقتها مسألة خارجة أصلا عن وقائع الجريمة المتطلبة في تكوين نموذجها التشريعي، تؤدي في حال اشتراطها إلى اكتمال الركن المعنوي للجريمة. ولا يختلف القصد الجنائي العام على القصد الجنائي الخاص من حيث العناصر المكونة لكل منهما، كون القصد الجنائي الخاص يتطلب بدوره عنصري العلم والإرادة في حدود معينة تدور في الغاية التي يتطلبها المشرع، ونجد المشرع عندما يتطلب قصدا خاصا يستعمل عبارات مثل " بقصد" أو " بقصد الإضرار" أو " بغرض"....

الفرع الثاني
القصد الجنائي المحدود والقصد الجنائي غير المحدود
أولا: القصد الجنائي المحدود
        نكون بصدد القصد الجنائي المحدود، لما يحدد الجاني بدقة موضوع جريمته ويحدد ويحصر النتائج المراد تحقيقها من خلالها، أما ارتكاب الجريمة دون تحديد موضوعها ولا النتائج المراد تحقيقها، يجعلنا بصدد قصد غير محدد، وكلا النوعين يشترطان العلم والإرادة دون أن يفرق القانون ما يترتب عنهما بخصوص العقوبات، فكلاهما معاقب عليه لكن كثيرا ما يعد القصد المحدد ظرفا مشددا بالنظر لجسامة النتائج المترتبة عنه.

الفرع الثالث
القصد الجنائي المباشر والقصد الجنائي غير المباشر ( الاحتمالي)
        بالرغم من تشابه هذا التقسيم مع السابق، إلا أنه يختلف عنه في أساس التقسيم، حيث يعتمد في هذا التقسيم مدى اتجاه الإرادة إلى النتيجة والرغبة فيها أو قبولها، لذا يكون القصد مباشرا عندما تتجه إرادة الجاني لارتكاب الجريمة التي أرادها بكل عناصرها إلى تحقيق نتيجة معينة كأثر أكيد لسلوكه مع رغبة في حدوثها، مثل إطلاق النار على شخص محدد رغبة في قتله.
        أما إذا كان الجاني يتوقع إمكانية حدوث النتيجة ما بارتكابه سلوكه المجرم دون أن يكون متأكدا من حدوث هذه النتيجة، باعتبارها ممكنة الوقوع، ورغم ذلك غامر بارتكاب هذا السلوك، فهنا نكون أمام قصد احتمالي غير مباشر باعتباره قد قبل النتيجة التي تحققت، بمعنى أننا نكون بصدد قصد احتمالي في جميع الحالات التي يتوقع فيها الجاني النتيجة كأثر ممكن من سلوكه ومع ذلك يتصرف كأنه قابل بحدوثها بدليل عدم تراجعه عن سلوكه.

[1] - لأن المحرض قد يكون هو صاحب الفكرة الإجرامية منذ الوهلة الأولى، وقد يكون دوره مقتصرا فقط على إيجاد التصميم لدى الفاعل لارتكابها، كأن يقترح الفاعل ذاته فكرة الجريمة، ويقوم المحرض بتزيينها له ويولد لديه التصميم على القيام بها، إذ لولاه لما أقدم الفاعل على ارتكابها.
[2] - لذا نرى شخصيا وفي ظل غياب نص دقيق موضح للمسألة، أنه يجوز التحريض على فعل يعد جريمة لكن مصحوبا بسبب من أسباب الإباحة، مثل تحريض الأب على تأديب ابنه أو الزوج على تأديب زوجته، لأننا بتوفر سبب من أسباب الإباحة لا نكون أمام جريمة. ولا إشكال أيضا في حالة التحريض على فعل يعد جريمة لكن مرتكبه توفر لديه مانع من موانع المسؤولية، وهنا الشخص لا يعاقب بصفته محرضا وإنما بصفته فاعلا معنويا، الفكرة التي ستكون موضوع دراستنا لاحقا.
         لكن الإشكال الذي يطرح، هو حالة التحريض على فعل يشكل جريمة فعلا، لكن الشخص الفاعل يكون قد توفر لديه مانع من موانع العقاب، إذ مثل هذه الموانع لا تبيح الفعل وإنما تمنع توقيع الجزاء، مثل تحريض الزوج على سرقة زوجته أو العكس، فهنا نرى أنه محرض كون موانع العقاب لا تمحي عن الفعل صفته الإجرامية.
[3] - نصت هذه المادة التي عدلت بموجب المادة 60 من القانون 06-23 المؤرخ في: 20-12-2006):" كل تحريض مباشر على التجمهر غير المسلح سواء بخطب تلقى علنا أو بكتابات أو مطبوعات تعلق أو توزع يعاقب عليه بالحبس من شهرين إلى سنة إذا نتج عنه حدوث أثره، وتكون العقوبة الحبس من شهر واحد إلى ستة أشهر وبغرامة من 20.000 إلى 100.000 دج أو بإحدى هاتين العقوبتين في الحالة العكسية.
            كل تحريض مباشر بنفس الوسائل على التجمهر المسلح يعاقب عليه بالحبس من سنة إلى خمس سنوات إذا نتج عنه حدوث أثره. وتكون العقوبة الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة وبغرامة من 20.000 إلى 100.000 دج أو بإحدى هاتين العقوبتين في الحالة العكسية."
[4]  - التهديد في قانون العقوبات الجزائري جريمة مستقلة بذاتها، وهو التهديد الذي قد يكون كتابة كما قد يكون شفاهة، وقد تضمنت المواد من  284 إلى 287 النص والعقاب عليه.
         وهو الأمر الذي يجعل الشخص المحرض على ارتكاب الجريمة عن طريق التهديد بصدد تعدد مادي للجرائم، فارتكب جريمة التحريض، وجريمة التهديد ويخضع لتوقيع العقوبة الشد.
[5] - نرى أن الفاعل في هذه الحالة لا يسأل جنائيا عن الجريمة التي حرض عليها وارتكبها، كونه توفر له مانع من موانع المسؤولية وهو الإكراه الذي سندرسه عند تناول مسألة المسؤولية الجنائية وموانعها. وذلك إذا توفرت شروط الإكراه، فقد يكون بوسع لمحرض مراجعة السلطات قبل التنفيذ.
[6] - وهنا يمكن التذكير بموضوع تم تناوله في إطار دراسة أسباب الإباحة، وبالضبط في مجال مدى جواز تنفيذ المرؤوس لأوامر رؤساءه غير المشروعة، ففي مثل هذه الحالة إذا ما نفذ المرؤوس أوامر رؤساءه بحسن نية وكان التنفيذ ينطوي جريمة متعمدة سأل عنها الرئيس بصفته محرضا.
[7] - التي نصت على أنه:" إذا لم ترتكب الجريمة المزمع ارتكابها لمجرد امتناع من كان ينوي ارتكابها بإرادته وحدها فإن المحرض عليها يعاقب رغم ذلك بالعقوبات المقررة لهذه الجريمة.".

[8] - استعمل المشرع الجزائري عبارة – بسبب وضعه أو صفته الشخصية- وهي عبارة نرى أنها تعوزها الدقة كثيرا، فالوضع والصفة لا يعنيان بالضرورة امتناع المسؤولية الجنائية لدى الشخص، بل هما أوسع نطاقا من ذلك، فمن توفر لديه مانع من موانع العقاب يعد صاحب وضع، كما أن فكرة الصفة الشخصية مسألة بعيدة كل البعد عن الأفكار القانونية.. لذا نرى أنه كان على المشرع الجزائري استعمال الشخص غير مسؤول جنائيا بصراحة ويضيف لها حسن النية، لأنه في رأينا بموجب هذا النص يدخل حتى السكر والتخدير والزوج والزوجة في الجرائم المقيدة بقيد.....
[9] - يضرب الفقه بعض الأمثلة عن حسن النية، كأن يطلب أحدهم من عامل المطعم أن يناوله معطف ليس ملكا له موهما إياه أنه مالكه ويعتقد عامل المطعم بصحة ذلك، أو كان يشير أحد الأشخاص لحملة الحقائب بالمطار بأن يسوق له حقائب الغير ويعتقد العامل أنه صاحبها.
[10] - بالإضافة للملاحظة السابقة، نلاحظ أن المشرع استعمل من لا يخضع للعقوبة بمعنى أصحاب موانع العقاب ولا حتى موانع المسؤولية ودقة المصطلحات تقتضي هذه الملاحظة.
[11] - وبعبارة أخرى قانونية، يمكن القول عن الشريك، أنه الشخص الذي يساعد الفاعل الأصلي على ارتكاب الجريمة ولكن بعمل لا يصل إلى ما يشكل الركن المادي للجريمة، أو لا تدخل في السلوك التنفيذي للجريمة على النحو الموصوف قانونا.
[12] - نرى أن المشرع الجزائري ما كان ليخسر شيء لو أضاف عبارة " فيها" التي تعود على الجريمة الأصلية، لتكون الفقرة على النحو التالي: يعد شريكا في الجريمة من لم يشترك اشتراكا مباشرا فيها أو في تنفيذها..."
[13] - إن كان فاعل واحد فإننا لا نظن أن المسكن أو الملجأ يقدم له للاجتماع بل للجوء " ملجأ" لأن فكرة الاجتماع تتطلب تعدد الجناة والشخص لا يجتمع بنفسه بل يختلي بها.
[14] - نرى أن المشرع الجزائري هنا لم يترك نوع من أنواع الجرائم وإلا شمله النص، لذا لا ندري ما الذي كان يمنعه من النص صراحة بالعقاب على " كل من ارتكب جريمة من الجرائم المنصوص عليها قانونا" خاصة الجنايات والجنح. وفي تفسيري الخاص أن كل من ارتكب جنحة أو جناية أو شرع في ذلك – في الجنح إذا كان معاقب على الشروع فيها- وقدم له هذا المسكن أو الملجأ .
[15] - المادة 387 (المادة 60 من القانون رقم 06-23 المؤرخ في: 20-12-2006):" كل من أخفى عمدا أشياء مختلسة أو مبددة أو متحصلة من جناية أو جنحة في مجموعها أو في جزء منها يعاقب بالحبس من سنة على الأقل إلى خمس سنوات على الأكثر وبغرامة من 20.000 إلى 100.000 دج. ويجوز أن تجاوز الغرامة 100.000 دج حتى تصل إلى ضعف قيمة الأشياء المخفاة. ويجوز علاوة على ذلك أن يحكم على الجاني بالحرمان من حق أو أكثر من الحقوق الواردة في المادة 14 من هذا القانون لمدة سنة على الأقل إلى خمس نوات على الأكثر. وكل ذلك مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد إذا اقتضى الأمر في حالة الاشتراك في الجناية طبقا للمواد 42 و43 و44. ".
[16] - ونشير هنا أن أنصار هذا الاتجاه هم أنصار المذهب الموضوعي في البدء في التنفيذ، بينما أنصار المذهب الشخصي الذين يعتبرون العدول من الأسباب الشخصية، فهم يرون عقاب الشريك عند عدول الفاعل الأصلي، كون العدول الاختيار للفاعل الأصلي يشكل ظرفا شخصيا يستقل به وحده، وأن المشرع ينص على استقلال كل فاعل بظروفه الشخصية، غير أن العدول في نظرنا يرتبط بماديات الجريمة كونه حال دون تحققها ماديا، وبالتي هو من الظروف الموضوعية التي يستفيد منها الجميع. وإن كان المشرع الجزائري يعتد بالعلم بها، فإننا نرى أيضا أنه في حال جهل الشريك بعدول الفاعل فإنه يستفيد بهذا العدول أيضا، لأننا لسنا بصدد جريمة، والاشتراك أفعال غير معاقب عليها ما لم ترتكب لجريمة الأصلية.
[17] - من الظروف الشخصية موانع المسؤولية وموانع العقاب والأعذار القانونية، فهنا كل شخص توفرت لديه يكون وحده المستفيد منها، فلا يمكن إن توفرت لدى الشريك أن ينتفع منها الفاعل والعكس صحيح، بينما الظروف العينة اللصيقة بالجريمة تسري على الكل بشرط أن يكون الكل على علم بها، ولا نقصد هنا أسباب الإباحة إذ هذه الأخيرة يستفيد منها الجميع بغض النظر عن العلم أو الجهل بها، بل المقصود الظروف العينية المتعلقة بالتشديد والتخفيف في العقاب مثل ظرف الليل في جريمة السرقة، فالشخص إذا كانت نيته الاشتراك في جنحة سرقة بالنهار وارتكبها الفاعل الأصلي مقترنة بظروف التشديد هنا يبحث عما إن كان الشريك يعلم بها أم لا فيشدد عليه إن كان عالما بها، ولا تشديد إن كان يجهل الأمر.
[18] - الملاحظ أن المسميات الفقهية للتعبير عن الركن المعنوي متعددة، سيما في ظل غياب تعريف تشريعي له، فسمي بركن الخطأ أو الإثم أو الذنب أو الإذناب أو الخطيئة، والركن الأدبي، لكن مهما تعددت هذه المسميات، فإن ذلك لا يؤثر على حقيقة الركن المعنوي للجريمة، ولا ينقص من محتوى عناصره.
[19] - كون القانون لا يهتم بالفعل المادي الذي يرتكبه الفاعل بوصفه هذا، كون الحيوان أو الجماد يمكنه أيضا أن يحدث أضرارا مادية بالأفراد والممتلكات، وأن الوقت الذي كانت فيه الخرافات تدفع بالمجتمع إلى معاقبة غير البشر، وقت قد مر، وقد سجل تاريخ القضاء في أوروبا خلال القرون الوسطى العديد من المحاكمات العجيبة، التي أن فيها المتهم من الحيوانات، مثل الذئاب والخنازير والدببة والخيول والجرذان والحشرات والكلاب والقطط، كما كانت تستدعى الحيوانات أيضا للشهادة أمام المحاكم، فتعتبر شهود إثبات أو نفي بحسب ما يصدر عنها من حركة أو سكوت، بحيث كان سكوتها دليل على البراءة وحركتها دليل على الإدانة.
         وفي العصور الوسطى دوما، أصدر الملك الفرنسي فرنسوا الأول ( 1494-1574) قرار يجيز حضور المحامين مع الحيوانات الجانية للدفاع عنها، كما أصدر الحاكم "جون مارتوا" أمر بتدمير جرس " كنيسة بيرون" بسبب خيانة هذا الجرس، إذ بواسطته حرض المواطنون على التمرد. 
[20] - في العصور السابقة الغابرة الضاربة في جذور التاريخ وحتى القرون الوسطى، لم يكن الأمر كذلك، فالمسؤولية كانت مادية أو موضوعية تعتمد على الركن المادي للجريمة فقط دون ركنها المعنوي، حيث كانت تقوم مسؤولية الشخص بمجرد اقترافه السلوك المادي دون حاجة للبحث عن مدى توفر الخطأ أو الذنب أو الإثم لديه.
[21] - ومن صور استعمال المشرع لهذه العبارة، المادة 264 " كل من أحدث عمدا جروحا للغير..."، والمادة 273 :" كل من ساعد عمدا شخصا على الأفعال التي تساعده على الانتحار...."، والمادة 321 " كل من نقل عمدا طفلا أو أخفاه..."، والمادة 329 :" كل من تعمد إخفاء قاصر..."، وأيضا المواد 87 مكرر 5، 90، 160 مكرر4، 160مكرر 5، 160مكرر6، 160  مكرر 7....
[22] - ومن أمثلة ذلك في قانون العقوبات الجزائري، المادة 61/2 :"... القيام بالتخابر مع دولة أجنبية بقصد حملها على..." والمادة 86 :" يعاقب بالإعدام ....بقصد الإخلال..." 
[23] - ومن أمثلة ذلك في تقنين العقوبات الجزائري، المادة 65 :" ... بغرض تسليمها لدولة أجنبية"، المادة 77 :" المؤامرة التي  يكون الغرض منها.." والمادة 84 :ط كل من يرتكب اعتداء يكون الغرض منه.." وأيضا المادة 85، 88، 114، 176...
[24] - ومن أمثلة ذلك في تقنين العقوبات الجزائري، المادة 119 مكرر:" ... تسبب بإهماله..." ، المادة 162 " ... بسبب الإهمال..." 288، 289
[25] - مثل نص المادة 120ق ع ج. 
[26] - حيث أن القانون بموجب مبدأ لا جريمة بدون خطأ، أصبح يأخذ بعين الاعتبار الصلة النفسية بين الفاعل والفعل الذي كان فيما مضى مجردا منظورا له بطريقة مادية موضوعية وبصفة عامة ومجردة، ومنطق الأمور يبرر ذلك، فالأصل في الأشياء الإباحة، وأن الاستثناء هو التجريم الذي يكون بنصوص تشريعية واضحة ودقيقة ومبينة الأركان والعناصر لكل ما هو محظور على الأفراد إتيانه، وما عدا ذلك فهو مباح ما لم يكن يتعارض مع التزامات قانونية منصوص عليها في فروع القانون الأخرى، أو في العرف وقواعد العدالة وأحكام القانون الطبيعي. وأن المشرع بوضعه النصوص التجريمية والنص عليها في قانون العقوبات، يضع في اعتباره لأنها ستحقق أهدافها بموجب ما تتضمنه من وعد ووعيد وترهيب بإنزال الجزاء المرفق بها، كونه جزاء يتضمن معنى الردع العام وتحقيق المساواة والعدالة. ولعل ذلك ما يظهر منه أن المشرع يركز على الفعل على عكس الفاعل، وأن كل ما قام به هو تبيان الركن الشرعي للجريمة ومن خلاله الركن المادي. الأخير الذي لا يزال لغاية اللحظة يتصف بالعمومية والتجريد. غير أن الركن المعنوي يشكل نقطة تحول المشرع واتجاه نظره نحو الفاعل لا الفعل، وبه يبدأ التركيز على الجوانب العقلية والنفسية، وظروفه وأحواله من جنس وسن وما إلى غير ذلك. وبنوع من التجاوز حتى نواياه وخواطره وما إن كانت تنطوي على خطورة إجرامية، وبذلك يكون الركن المعنوي تجسيدا للاهتمام بشخص الفاعل والتمهيد لإقرار مسؤوليته الجنائية وصلاحيته لتوقيع الجزاء الجنائي عليه. أو الحد من كل ذلك أو منعه – من المسؤولية والعقاب- تبعا لانعكاسات مقوماتها على ظروف الجاني الشخصية والنفسية.
         ولغاية هذا الركن، تكون الجريمة محكومة بالعديد من المبادئ إذ: لا جريمة بدون نص، ولا جريمة بدون فعل، ولا جريمة بدون خطأ أو إثم، بمعنى أن الجاني بالوصول لهذا الركن وكأنه يعبر عن علمه بتجريم الفعل، وبالرغم من ذلك ارتكبه ومستعد لتوقيع الجزاء المقرر له.
[27] - لذلك فلا مجال لمسايرة الآراء الفقهية المنادية بجعل الركن المعنوي نفسه المسؤولية الجنائية، كما لا ينبغي أيضا أن نخلط في دراستنا بين الموضوعين، وذلك بالنظر لاستقلال كل منهما عن الآخر، وبذلك لا يمكن أن تعالج نظرية المسؤولية الجنائية في إطار دراسة الركن المعنوي للجريمة، كونها أثر من آثار ارتكاب الجريمة، فيجب دراستها بعد استكمال دراسة كل أركان الجريمة كمحصلة عن قيام الأخيرة قانونا.
[28] - بالرغم من أن المشرع يخرج عن هذه القاعدة أحيانا، سيما في مجال المخالفات، الأمر الذي أدى بالفقه والقضاء خاصة بفرنسا وإنجلترا إلى القول بأن المخالفات مجرد جرائم مادية يكفي لقيامها وقوع الفعل المادي دون اشتراط الركن المعنوي، وذلك لكونها مجرد خرق للتنظيمات واللوائح، ولا تشترط أي إثم أو عدوان وهما العنصرين المشكلين للركن المعنوي للجريمة، وأن ارتكابها لا يعني أي خرق لقيم المجتمع بل هي خرق لتنظيم أو أمر إداري مبتدع، ولعل أكبر دليل في التشريع الجنائي الحديث، ما ورد بنص المادة 121/3 من تقنين العقوبات الفرنسي الجديد لسنة 1992 والذي دخل حيز النفاذ سنة 1994 التي قضت على أنه:" لا جناية ولا جنحة دون نية ارتكابهما"، فهو نص لم يذكر المخالفات، ويضيف الفقه دعما لموقفه السابق، بان العقوبات المقررة للمخالفات هي في الغالب عقوبات مالية تعبر عن تقدير المشرع لعدم خطورة فاعلها، على عكس المعمول به في الجنايات والجنح.
[29] - بمعنى ألا يكون ممتنع المسؤولية الجنائية، وبالتالي الاتجاه الكلاسيكي هذا هو الذي يخلط أو يدمج بين فكرة الركن المعنوي للجريمة وفكرة المسؤولية الجنائية.
[30] - قد يرقى هذا العلم لحد اليقين إذ تصبح النتيجة متوقعة كأمر لازم، فيتوفر العمد أو القصد الجنائي في صورته المباشرة، وقد يبلغ درجة الاحتمال إذ يصبح الأصل في علم الجاني هو حدوث النتيجة ما لم يطرأ ما يحول دون ذلك، وبهذا الاحتمالأو التوقع يتوفر القصد الجنائي في صورته غير المباشرة أو المحتملة.
[31] - الجهل يعني عدم العلم إطلاقا بأمر معين، أما الخطأ فهو علم أو تصور خاطئ.
[32] - والمقصود هو الغلط المادي، ومثاله الصياد الذي يتصور أنه يرى طائر في الغابة، فيطلق عليه النار، ويتبين لاحقا أنه قتل إنسانا متواري في هذه الغابة، فمثل هذا الشخص لا يقوم في حقه القصد الجنائي لجريمة القتل، كونه وقع في غلط مادي ينصب حول حقيقة الفعل الذي وقع بالفعل، وقد نص المشرع اللبناني على هذا النوع من الغلط صراحة في نص المادة 224 التي قضت بأنه:" لا يعاقب... في جريمة مقصودة من أقدم على الفعل بعامل غلط مادي واقع على أحد العناصر المكونة للجريمة"، لذا يشترط في مثل هذا الغلط المادي أن يكون جوهريا متعلقا بواقعة لها أهمية قانونية في قيام الجريمة، لا أن يكون غلطا غير جوهريان ومن أمثلة الغلط غير الجوهري هو الغلط في الشخصية، كأن يعتقد الشخص أنه يطلق النار على ( أ) في حين هو أطقها فعليا على (ب)، كما لا يعد الغلط في التصويب غلطا ماديا، كإطلاق النار على ( أ) فيصاب (ب)، وهو ما نص عليه أيضا المشرع اللبناني صراحة في نص المادة 226 من تقنين عقوباته، التي قضت ب:" إذا وقعت الجريمة على غير الشخص المقصود بها، عوقب الفاعل كما لو اقترف الفعل بحق من كان يقصده." . 

ابحث الثاني
الخطأ الجــــنائي
الركن المعنوي للجريمة غير العمدية

        الجرائم إما أن تكون عمدية تقوم بتوفر القصد الجنائي هو الأصل، وإما غير عمدية تقوم بمجرد توفر الخطأ الجنائي[1]، فالجريمة العمدية إن كانت تقوم على قصد إتيان السلوك وترتيب النتائج الضارة المترتبة عليه، فالجريمة غير العمدية أو الجريمة الخطئية، فيكفي فيها إتيان سلوك حتى دون قصد إتيانه أو قصد تحقيق النتيجة.    وغالبية المشرعين لم يعرفوا الخطأ، بل اكتفوا بتبيان صوره، وهي الصور التي تتضح في الغالب بمناسبة تجريم الجروح الخطأ والقتل الخطأ، وهو ما فعله المشرع الفرنسي في المادتين 319 و320 من تقنين العقوبات الفرنسي، التي أوردها المشرع الجزائري في المادتين 288 و289 من تقنين العقوبات الجزائري، وهي صور تبين بأن الخطأ هو إخلال الجاني بواجبات الحيطة والحذر التي تتطلبها الحياة الاجتماعية حتى ولو لم يتوقع النتيجة الإجرامية، كونه كان بإمكانه أن يتوقعها، لذا توصف إرادته في هذه الحالة بأنها آثمة لمجرد أنها لم تلتزم باتخاذ التدابير اللازمة لتفادي وقوع النتائج الضارة والمحظورة المترتبة عن سلوكه[2].       
وعليه يظهر بجلاء الفرق بين الخطأ الجنائي والقصد الجنائي، كون الإرادة في الأول تسيطر على السلوك المادي دون النتيجة، هذه الأخيرة التي قد لا يكون يتوقعها أصلا، أو توقعها واعتقد أنه بإمكانه تجنبها، بينما في القصد تسيطر الإرادة على ماديات الجريمة وتسعى أيضا لتحقيق النتيجة وترغب فيها، لكن هذا القول لا يعني إطلاقا انعدام أية علاقة بين النتيجة والإرادة في الجرائم غير العمدية، بحيث أنه إذا ثبت بأن هذه العلاقة منعدمة فلا تقوم الجريمة ولا يسأل المتهم على النتيجة لأنه لم يثبت الخطأ في جانبه متى اتخذ قدر معين من الحيطة والحذر، أي اتخاذ جانب من الحيطة والحذر كافي لنفي القصد الجنائي.

المطلب الأول
ماهية الـــخطأ الجنائي
        الخطأ الجنائي هو انحراف الشخص إراديا غير مكره عن واجبات الحيطة والحذر التي تقتضيها الحياة الاجتماعية، لذا فإتيانه سلوك متصف بالتهور يجعله سلوك محظور بالرغم من انتفاء قصد إتيانه، ومن ذلك يتضح أن الخطأ الجنائي مفهوم غير مفهوم القصد الجنائي، ويتعين تناول ماهيته وعناصره في الفرعين التاليين.

الفرع الأول
مفهوم الخطأ الجنائي
        لم يعرف المشرع الخطأ الجنائي غير العمدي تاركا المهمة للفقه، الذي عرف الخطأ بأنه إخلال بالتزام عام يفرضه المشرع على الأفراد بالتزام الحيطة والحذر فيما يباشرونه من نشاط، وذلك حرصا على المصالح التي يحميها القانون[3]. وعرفه البعض بأنه " اتخاذ الفاعل سلوكا منطويا على خطر وخمول إرادته في منع هذا الخطر من التحول إلى ضرر" أو " إخلال شخص عند تصرفه بواجبات الحيطة والحذر التي يفرضها القانون، وعدم حيلولته تبعا لذلك دون أن يفضي تصرفه إلى إحداث النتيجة الجرمية، سواء أكان لم يتوقعها في حين كان ذلك في استطاعته ومن واجبه، أم توقعها ولكن حسب غير محق أن بإمكانه تجنبها"،  أو هو :" اتجاه الإرادة إلى السلوك الإجرامي دون قبولها بتحقق النتيجة الإجرامية التي يفضي إليها هذا السلوك مع عدم الحيلولة دون وقوعها "، وقد عرفته محكمة النقض المصرية، بأنه تصرف الشخص تصرفا لا يتفق والحيطة التي تقضي بها ظروف الحياة العادية، فهو بذلك عيب يشوب مسلك الإنسان لا يأتيه الرجل العادي المتبصر الذي أحاطت به ظروف خارجية مماثلة للظروف التي أحاطت بالشخص المسؤول.
        ويمكن أن نستنتج مما سبق بأن الخطأ الجنائي يقوم على فكرة " إمكانية التوقع" كونها الفكرة الضرورية التي بدونها لا يقوم الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية وتخرجنا لمجال الحادث الفجائي، خاصة وأننا بها نبقى في دائرة الإرادة اللازمة للركن المعنوي في صورتيه، القصد والخطأ، واستنادا لذلك يتلخص الخطأ غير العمدي في عدم توقع الجاني لما يترتب على سلوكه من نتائج، بالرغم من كون هذه النتائج في ذاتها مما يمكن توقعها، أو مما يجب أن يتوقعها، كما قد يرتكز على توقع الجاني لما يمكن أن يفضي إليه سلوكه، لكن رغم ذلك يمضي فيه معتقدا أنها نتائج قد لا تحدث، أو ظنا منه أنه اتخذ ما يلزم من احتياطات للحيلولة دون حدوث هذه النتائج، في حين أن مثل هذه الاحتياطات لم تكن كافية. لذا فبعيدا عن التعاريف، سنحاول تنال جوهر الخطأ وأساس العقاب عليه في النقاط التالية.
أولا: جوهر الخطأ 
        جوهر الخطأ يختلف من حيث الزاوية التي ينظر منها إليه، فمن وجهة نظر اجتماعية يتمثل جوهر الخطأ في إخلال الجاني بواجبات الحيطة والحذر، مما يترتب عليه إضرارا بالحقوق والمصالح التي يحميها القانون، وهو بذلك إتيان سلوك أو الإحجام عن إتيان سلوك ينطوي على خطر المساس ببعض الحقوق والمصالح التي تتطلب درجة من الحرص والانتباه حال التعامل معها أو التواجد في نطاقها المادي، ومن وجهة نظر نفسية يعد جوهر الخطأ في الغلط الذي ينشأ من الجهل ببعض الحقائق الاجتماعية أو القانونية فيما تمليه على الأفراد من واجب الالتزام بالسلوك الحريص، فتجربة الحياة تزودنا بمجموعة من الحقائق التي تخاطب الكافة، وقد لا تكون هذه الحقائق مكتوبة ومع ذلك فهي بمثابة قواعد اجتماعية ترسم حدود السلوك سواء باتباعه أو الواجب تفاديه.
ثانيا: أساس العقاب على الخطأ 
        الخطأ وعلى خلاف القصد الجنائي لا يعد سببا عاما لقيام المسؤولية الجنائية، بل يعتبر سببا خاصا لقيامها في جرائم معينة بذاتها، وإن كانت المسؤولية في القصد الجنائي هي مسؤولية أدبية قوامها الإثم
أو الخطيئة، فإن المسؤولية الجنائية في الخطأ هي أشبه ما تكون بمسؤولية اجتماعية قوامها الإضرار بالحقوق والمصالح القانونية بالإهمال أو الرعونة أو ما إلى ذلك من صور الخطأ، وبمعنى آخر لا يعاقب القانون الجاني في الخطأ عن إرادته الآثمة بل عما صدر عنه من نشاط صادر عن إرادة خاملة أو غافلة، وبالتالي المسؤولية الجنائية عن الخطأ لا تتقرر إلا بناء على نص خاص، إن لم يوجد امتنع العقاب عن السلوك كجريمة عمدية.

الفرع الثاني
عناصر الخـــطأ
        تتحدد عناصر الخطأ في إرادة السلوك سواء كان فعلا أو امتناعا، وهو العنصر المشترك بين كافة صور الركن المعنوي، والعنصر الثاني انتفاء إرادة تحقيق النتيجة وهو العنصر الحاسم للتمييز بين القصد الجنائي والخطأ غير العمدي ، والعنصر الثالث هو انتفاء العلم بصلاحية السلوك لإحداث النتيجة كليا أو أن يتخذ هذا العلم أدنى درجاته وهي درجة الإمكان ، وأهم ما نتناوله عنصر العلم .
أولا: عنصر العلم 
        العلم في الخطأ غير العمدي يمثل عنصرا هاما كونه العنصر المميز للخطأ عن باقي صور الركن المعنوي للجريمة ويميز الخطأ حتى في حد ذاته، حيث أن موقف الجاني من العلم بصلاحية النشاط لإحداث النتيجة المحظورة قانونا يتحدد في إحدى الصور الثلاث التالية: إما انتفاء العلم كلية على نحو لا يتوقع فيه الجاني حدوث النتيجة وليس في مقدوره توقعها، وهي صورة تقترب أكثر لفكرة القوة القاهرة أو الحادث الفجائي، وبالتالي تخرج من نطاق صور الخطأ تماما، كالشخص الذي تنفجر عجلة سيارته فجأة لخطأ في الصنع فيصدم شخصا ويرديه قتيلا، أو كالشخص الذي يصطاد في الليل في منطقة خالية تماما من السكان فيطلق رصاصة على ما رآه يتمشى معتقدا أنه فريسة فإذا به شخص، ففي مثل هذين المثالين انتفى علم الجاني بإمكانية إحداث سلوكه للنتيجة التي وقعت ولم يكن أصلا بإمكانه توقعها، وأما الصورة الثانية فهي انتفاء علم الجاني بصلاحية سلوكه لإحداث النتيجة مع عدم توقعه حصولها لكن كان بإمكانه أن يتوقع ذلك، كترك الأم سما أمام أطفالها مما يمكن أن يأخذه أحدهم، أما الصورة الثالثة فتتمثل في توفر علم الجاني بصلاحية سلوكه في إحداث النتيجة في أدنى درجات العلم، وهي درجة الإمكان، لكنه كان يأمل في عدم حصولها معتمدا في ذلك على مهارته وخبرته، ويسمى هنا الخطأ مع التبصر أو الخطأ الواعي، كمن يقود سيارته بسرعة كبيرة ليلا والشارع يخص بالمارة محاولا اللحاق بميعاد فاته ويترتب على ذلك أن يصدم أحد المارة ويودي بحياته. 
ثانيا: عنصر الإدراك
        وهو عنصر ذهني ضروري في كل الجرائم، سواء كانت عمدية أو غير عمدية، فالخطأ مثلما سبق القول هو انحراف عن السلك العادي المألوف، لذا يجب أن يكون المخطأ مدركا لتصرفاته، وإلا انتفى عنصر هام من عناصر الخطأ.
ثالثا: عنصر الإرادة
        السلوك الذي يأتيه الشخص في الجرائم غير العمدية يبقى دائما سلوكا إراديا، لأنه أراد أن يتصرف على النحو الذي تصرف به، وكل ما في الأمر أنه لم يرد فقط تحقيق النتيجة التي ترتبت عن سلوكه، وهو ما يميز الخطأ عن العمد.
رابعا: عنصر الانحراف
        يشترط لقيام الخطأ إمكانية نسب الضرر لمسببه، لذلك يشترط أن يثبت أن السلوك المنحرف للشخص هو الذي سبب النتيجة الضارة كما يجب أن يثبت بأنه سلوكه يشكل سلوك منحرف.
 لكن السؤال الذي يطرح، هو : ما المعيار الذي يمكننا من التمييز بين السلوك العادي السلوك المنحرف؟.  بصدد البحث عن هذا المعيار، تأثر الفقه الجنائي بأفكار القانون المدني، وهو ما تجلى في فكرة وحدة الخطأين المدني والجنائي[4]، وذلك باستعارتهم معيار الخطأ من القانون المدني، وهو معيار الرجل العادي، حيث لكي يقاس سلوك الشخص وبحث ما إن كان منحرفا أم لا، يقاس بسلوك الرجل العادي الذي هو رب الأسرة العاقل المعتني بشؤون نفسه وشؤون أسرته، والذي لا هو بالرجل الخارق الذكاء ولا بالأبله، بل هو متوسط الحذر والذكاء والسن والثقافة، فإن وجدنا سلوك الشخص مخالف لسلوك هذا الرجل، قلنا بقيام الخطأ، وإن وجدنا بأن الشخص العادي كان سيتصرف مثلما تصرف الشخص انتفى الخطأ، دون أن يهمل في ذلك أيضا مختلف الظروف والملابسات المحيطة بالجريمة وهو أمر خاضع لسلطة قضا الموضوع دون رقابة عليهم من محكمة النقض.

المطلب الثاني
صور الخــــطأ الجنائي ودرجاته
للخطأ الجنائي صور حددها المشرع، وأثارت الخلاف ما إن كانت على سبيل الحصر أو على سبيل المثال، وفي العادة التشريعات متفقة بخصوصها، كما انه للخطأ درجات وحالات وضوابط  وأثارت العديد من الجدل الفقهي، وهو ما نتناوله باختصار في الفرعين التاليين.

الفرع الأول
صور الخطأ الجنائي
حدد المشرع الجزائري صور الخطأ الجنائي بمناسبة نصه على أخطر الجرائم غير العمدية، وهما جريمتي الجروح الخطأ والقتل الخطأ، المنصوص والمعاقب عليهما بموجب المادتين 288 و289 من تقنين العقوبات الجزائري[5]، اللتان أوردتا صور الخطأ على سبيل الحصر لا المثال، لذلك لا يجوز القياس عليها ولا تفسيرها بصورة موسعة إعمالا لبدا الشرعية الجنائية، وهذه الصور هي: الرعونة، عدم الاحتياط، الإهمال وعدم الانتباه، عدم مراعاة الأنظمة والقوانين.
أولا: الرعــــــونة
        وهي الصورة التي يسميها الفقه أيضا ب:" الخطأ الفني"، وهي تعني نوع من الطيش والخفة وسوء التقدير في عمل يتعين من القائم به أن يكون على دراية وعلم به، أو هي سوء تقدير للكفاءة والقدرة، وهي في العادة تنجم عن عدم مراعاة قواعد الخبرة الإنسانية الخاصة أو المهنية التي توجبها ممارسة مهنة
أو حرفة معينة، من ناحية، ومن ناحية ثانية، قد تنجم عن مسلك إيجابي يقوم به الجاني كان يتعين عليه الامتناع عن القيام به بالكيفية التي تم بها، أو في الوقت الذي تم فيه، كالطبيب الذي يقوم بإجراء عملية جراحية لمريض دون أن يراعي في ذلك أبسط الأصول المهنية والقواعد العلمية، فيترتب على ذلك موت المريض، أو دون أن يستعين بطبيب تخدير، أو يكتفي بتخدير موضعي بينما توجب الأصول العلمية أن يكون تخديرا كليا، وكذا صاحب البناء الذي يتقاعس عن صيانة عقاره وترميمه فيتسبب في قتل خطا. وعليه،
 ومثلما تقدم، تقوم حالة الرعونة نتيجة موقف أو سلوك سلبي، في الحالات التي يحجم فيها الجاني عن اتخاذ عمل كان توجبه قواعد الخبرة المهنية باتخاذه، كالممرضة التي يستغرقها مشاهدة إحدى المسلسلات التلفزيونية أو مواصلة الثرثرة مع زميلاتها فلا تقوم إعطاء المريض المتواجد في حالة خطر دواءه في الميعاد المحدد بما يؤدي إلى وفاته.
ثانيا: عـــدم الاحتياط
        وتسمى فقهيا أيضا " عدم الاحتراز"، وهي حالة تقوم بمجرد الاستخفاف بالأمر وعدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع حدوث الضرر الممكن تصور حدوثه من أمر قابل لإحداث مثل هذا الضرر، وبالتالي عدم الاحتياط في جوهره عبارة عن اتخاذ موقف إيجابي يتمثل في مباشرة الجاني لسلوك كان يتعين عليه الامتناع عن إتيانه، نظرا لما يترتب عليه من أضرار، وأن قواعد الخبرة الإنسانية العامة تأبى إتيان مثل هذه السلوكات في مثل هذه الظروف، كسائق السيارة الذي يقود سيارته بسرعة جنونية في شارع مليء بالمارة فيصدم أحدهم فيقتله، أو كالأب الذي يسلم ابنه الصغير عجلا فيفلت منه ويصدم أحد الأشخاص فيقتله.
ثالثا: الإهمال وعدم الانتباه
        الإهمال هو سلوك يتمثل في عدم بذل الشخص العناية اللازمة في عمل يتطلب مثل هذه العناية، كمن يهمل صيانة سيارته ويصدم شخصا بسبب عدم اشتغال المكابح، وبالتالي الإهمال هو اتخاذ موقف سلبي من عمل كان يتعين اتخاذه وفقا لما تمليه قواعد الخبرة الإنسانية العامة، مما يجعل من هذا الامتناع يرتب نتائج ضارة، كامتناع حارس ممر السكة الحديد عن إغلاق ممر الراجلين وقت مرور القطار مما يجعله يصدم أحد المارة، أو الأم التي تترك رضيعها بجوار موقد غاز مشتعل مما يؤدي إلى سقوطه في إناء ماء مغلي. أما عدم الانتباه فهو انحراف يتمثل في عدم اكتراث الشخص بضرورة اليقظة الدائمة فيسبب ذلك ضررا للغير.
رابعا: عدم مراعاة الأنظمة والقوانين        
على خلاف صور الخطأ السابقة التي تقوم كلها على مخالفة قواعد الخبرة الإنسانية العامة
أو الأصول العلمية والمهنية، فإن هذه الصورة تعد أبسط وأسهل صور الخطأ للإثبات، إذ يكفي مقارنة سلوك الشخص مع متطلبات القوانين والأنظمة، فمجرد كون السلوك مخالفا للوائح والأنظمة تقوم الجريمة، مثلما هو الأمر في مخالفة قوانين المرور أو قواعد البوليس المنظمة لحركة سير المركبات واستخدام الآلات والأسلحة، ويستوي في هذه القواعد أن تكون صادرة عن السلطة التشريعية كما هو الشأن بالنسبة للقوانين بالمعنى الضيق للمصطلح، أو عن السلطة التنفيذية مثل لوائح التنفيذ والتنظيم والضبط، أو صادرة عن السلطات الإدارية في الحدود المسموح لها بإصدار مثل هذه اللوائح، وفي هذه الصورة قد يجد الشخص نفسه أمام جريمتين، جريمة مخالفة الأنظمة واللوائح حتى وإن لم يترتب عليها أي ضرر، وجريمة أخرى تتمثل فيما أحدثته هذه المخالفة من أضرار للغير.       ومخالفة الأنظمة واللوائح عبارة عن خطأ مفترض لا تلتزم المحكمة بإقامة الدليل على توفره، على خلاف صور الخطأ الأخرى، فبمجرد مخالفة الأنظمة والقوانين ينعت سلوك المخالف بالخاطئ، وافتراضه يرقى لمرتبة حد القرينة القاطعة التي لا تقبل إثبات العكس.
        والملاحظ بأن هذه الصورة الوحيدة من صور الخطأ التي لا يشترط فيها المشرع حصول نتيجة معينة بل مجرد مخالفة اللائحة أو النظام يقيم الجريمة، بل أن حصول نتيجة محظورة قانونا تجعل الشخص يسأل عن جريمتين. مما يجعل من هذه الصورة جريمة شكلية أو جريمة سلوك محض، على خلاف باقي الصور الأخرى التي تعد فيها الجريمة غير العمدية جريمة مادية ذات نتيجة ضارة يشترطها المشرع لقيام الجريمة.

الفرع الثاني
ضابط الخطأ الجنائي وحالاته
        اختلف الفقه بخصوص الضابط الحاكم للخطأ، وكالعادة انحصر الخلاف بين المذهبين الموضوعي والشخصي، وظهر الاتجاه التوفيقي، كما حاول الفقه تحديد حالات الخطأ، وهو ما نبينه في النقطتين التاليتين. 
أولا: ضابط الخطأ
        بعد أن تتحدد صورة الخطأ على النحو السابق، وجب البحث عن المعيار الذي يقاس به هذا الخطأ، وثار تساؤل عما إن كان يرجع في ذلك إلى معيار شخصي يتمثل فيما توقعه الجاني بالفعل، أو كان بإمكانه أن يتوقعه، أو فيما كان يجب أن يتخذه من احتياطات، أم يرجع في ذلك إلى معيار موضوعي يتمثل في معيار الرجل العادي المتمثل في الشخص متوسط الذكاء والحذر والحيطة بعيدا عن حرص الجاني ذاته؟، وهنا كالعادة ظهر المعيار الموضوعي المعتمد على " معيار الرجل العادي"، والذي انتقد على أساس أنه معيار مادي لا يلاءم فكرة نفسية متمثلة في الركن المعنوي، لذا طرح البعض المعيار الشخصي المتمثل في بحث موقف الجاني نفسه في ظروفه الآنية والواقعية مع مختلف جوانب شخصيته وما يتمتع به من ذكاء وقدرات، وبالتالي إن كان الجاني ولا أحد سواه يعلم أو يتوقع بصلاحية سلوكه لإحداث النتيجة قام الخطأ في جانبه، أما إذا كان الجاني متواضع القدرات ومحدود الخبرة وقليل الذكاء يجهل بصلاحية سلوكه لإحداث النتيجة أو لا يتوقع ذلك فإن الخطأ ينتفي في جانبه، ويميل الفقه إلى اعتبار المعيار الشخصي أكثر ملائمة لتقدير فكرة الخطأ واستخلاص عنصر العلم لدى الجاني. وغالبية الفقه يرى أنه يجب إعمال معيار مختلط يجمع ما بين المعيار الشخصي والمعيار الموضوعي، حيث يؤخذ من المعيار الموضوعي معيار الشخص العادي إذا وجد ضن نفس الظروف، حيث إذا وجد الجاني قد التزم بقدر من الحيطة والحذر في تصرفه يوافق ما كان يفعله الشخص المعتاد الذي وجد في مثل ظروفه، انتفى خطأه، أما إذا بذل قدرا من الحيطة والحذر أقل من ذلك نسب إليه الخطأ. نحن نرى أن هذا المعيار ما هو إلا تكريس لمعيار موضوعي، ونرى أنه بما أننا بصدد الركن المعنوي فالقاضي يأخذ في اعتباره دوما المعيار الشخصي باعتبار الركن المعنوي ينطوي أكثر على جوانب نفسية أكثر منها موضوعية.
ثانيا: حالات الخطأ 
للخطأ حسب غالبية الفقه، حالتين أيا كانت الصورة التي اتخذها، وهي إما أن يكون خطئا واعيا وإما أن يكون خطئا غير واعي. فالخطأ الواعي faute consciente، ويسمى أيضا الخطأ بتبصر أو الخطأ المصحوب بتوقع، هو الحالة التي يتوقع فيها الجاني حصول النتيجة الضارة لكنه لا يريدها، ويأمل في عدم حدوثها، إما نتيجة لاحتياط اتخذه يحول دون حدوثها في حين لم يكن كافيا، والحالة التي لا يتخذ فيها أصلا أي احتياطات للحيلولة دون حدوثها، مما يعني أنه يستوي لديه حدوثها من عدمه. والحالة الثانية، هي الخطأ غير الواعي faute inconsciente، ويطلق عليه أيضا الخطأ بغير تبصر أو الخطأ غير المصحوب بتوقع، وهي الحالة التي لا يتوقع فيها الجاني حدوث النتيجة الضارة، في حين كان يجب عليه أن يتوقع ذلك أو من واجبه أن يتوقعها، وطالما لم يتوقع الجاني النتيجة، فإنه على عكس الحالة السابقة لا يتخذ أي إجراءات تحول دون حدوث النتيجة.

الفرع الثالث
الخطأ المدني والخطأ الجنائي
        نصت المادة 124 وتقابلها في القانون المصري المادة 163 التي نصت على أنه :" كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض" ، وبالتالي المشرع المدني لم يحصر صور للخطأ كما لم يحدد لها درجات.لذا ثار تساءل منذ زمن، ما إن كان المشرع الجنائي بدوره يرتب المسؤولية الجنائية عن الخطأ أيا كانت درجته، أم أنه خلافا للمشرع المدني يستلزم أن يرقى الخطأ إلى درجة من الجسامة حتى يمكن أن يرتب المسؤولية الجنائية غير العمدية .    ولقد ساد ولزمن طويل قديما أن الخطأ يقسم إلى ثلاث درجات، الخطأ الجسيم الذي تكون نتيجته الضارة متوقعة من قبل الجميع، والخطأ البسيط، الذي يكون ضرره متوقع فقط من قبل الرجل المعتاد، والخطأ اليسير جدا وهو الخطأ الذي يكون ضرره غير متوقع وغير ممكن إلا بانتباه غير عادي يفوق انتباه ما يحظى به الرجل العادي، وهي الدرجات الثلاث التي يجب أن ينظر إليها في كل حالة على حده آخذين بعين الاعتبار للسن ودرجة الثقافة، وكان التساؤل في ظل هذه التفرقة : بأي درجة يقوم الخطأ الجنائي ؟ وما إن كان يقوم كل من الخطأ المدني والخطأ الجنائي بدرجة واحدة؟ وهو السؤال الذي تنازع إجابته اتجاهان.
اتجاه أول : استقلال الخطأ المدني عن الخطأ الجنائي، ويذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن ما يقوم به الأول لا يجب أن يقوم به الثاني، وإن كان الخطأ الجسيم والبسيط قد يقوم بها كلا نوعي الخطأ، فإن الخطأ اليسير جدا لا يمكن أن يقوم به سوى الخطأ المدني، وذلك بالنظر لما بين الخطأين من فوارق، أهمها:اختلاف الخطأين من حيث الطبيعة، واختلافهما من حيث الجزاء، واختلافهما من حيث عبء الإثبات. والاتجاه الثاني : وحدة الخطأ الجنائي والخطأ المدني، يرى أنصار هذا الاتجاه أنه لا فارق بين الخطأين وأن ما يقوم به الخطأ المدني يصح أن يقوم به أيضا الخطأ الجنائي، خاصة وأن كلاهما يقاس بمعيار واحد هو معيار الرجل العادي، وكل ما هو موجود من فروق ينحصر في أن القانون المدني لم يبين صور الخطأ المدني في حين المشرع الجنائي حصر صوره ما ذلك إلا نتيجة تقيد المشرع بمبدأ الشرعية الجنائية. وهو الاتجاه الذي تحول إليه القضاء الفرنسي وما سايره أيضا القضاء المصري.

المطلب الثالث
الشروع والاشتراك في الجرائم غير العمدية
        باختصار شديد، وبالنظر لبساطة المسألة سوف لن نقسم هذا المطلب إلى فروع، حيث أنه لا شروع ولا اشتراك في الجرائم غير العمدية، خاصة وأن هذه الأخيرة في غالبيتها من المخالفات في حين سبق القول بأن الشروع لا يكون إلا في الجنايات وفي الجنح بموجب نص خاص ولا شروع إطلاقا في المخالفات، وهو نفس الوضع تقريبا بالنسبة للاشتراك....كما أنه لا ظروف تشديد ولا تخفيف بخصوص الجرائم غير العمدية ما عدا ما قضت به المادة 290 من تقنين العقوبات الجزائري التي تضاعف العقوبة المقررة في حالة ارتكاب الجريمة في حالة سكر أو ارتكاب الجريمة ومن بعدها محاولة الهرب من المسؤولية[6]، وإن كان ذلك قد يقيم أيضا جريمة أخرى هي جريمة التهرب من المسؤولية أو عدم تقديم مساعدة لشخص في حالة خطر.

الفصل الخامس
تصنيــــف الجرائم

        سبق لنا القول عند تناولنا لتقسيمات الجريمة وتصنيفها بناء على الركن المعنوي للجريمة، الذي تناولنا فيه التقسيم الثلاثي أو القانوني، وكذا تمييز الجريمة إلى عادية وسياسية وعسكرية، أننا سنرجئ الحديث عن باقي التصنيفات والتقسيمات الأخرى المعتمدة على الركنين المادي والمعنوي، إلا ما بعد استيعاب كنه ومضمون وأبعاد هذين الركنين، لذا سنحاول أن نتناول من خلال مبحثين التصنيفات المعتمدة على الركن المادي، والأخرى المعتمدة على الركن المعنوي. على أننا سنختصر قدر الإمكان بخصوص بعض التصنيفات التي سبق تناولها في مواضع أخرى من هذه الدراسة، وكذا بخصوص الجوانب الإجرائية المتعلقة بفائدة التفرقة، كونها مسائل يصعب استيعابها قبل دراسة قانون الإجراءات الجزائية.

المبحث الثاني
تقسيم الجرائم بحسب طبيعة وتكوين الركن المادي

        بالنظر للركن المادي للجريمة، يمكن تقسيم الجرائم عدة تقسيمات، منها ما يأخذ بعين الاعتبار عنصر الزمن الذي يستغرقه إتمام الركن المادي للجريمة، حيث تقسم الجرائم بالنظر إلى ذلك إلى جرائم وقتية وجرائم مستمرة، كما تقسم بحسب النظر إلى السلوك إلى جرائم إيجابية وجرائم سلبية، أو بالنظر لتعدده إلى جرائم اعتياد وجرائم بسيطة أو بالنظر إلى النتيجة إلى جرائم ذات النتائج وجرائم شكلية.

المطلب الأول
تقسيم الجرائم إلى وقتية ومستمرة
        وأساس هذا التقسيم، هو الزمن الذي يستغرقه تحقق أركان الجريمة، الركن المادي والركن المعنوي معا، واستنادا لذلك تكون الجريمة وقتية إن لم يستغرق ارتكابها سوى برهة زمنية قصيرة، أما إذا امتد ذلك فتعد الجريمة مستمرة. والعبرة بالزمن الذي استغرقه الركن لا للأثر الذي ترتب عليها، فالقتل نتيجته إزهاق الروح إلى الأبد وبالتالي هو جريمة مستمرة الآثار، وليس هذا هو المقصود، وإنما وقتية السلوك التي أزهقت الروح، أما الجريمة المستمرة فركنها المادي مصحوبا بالركن المعنوي، يستغرق زمنا طويل نسبيا، سواء كان الاستمرار للسلوك دون النتيجة أو لهذه الأخيرة دون السلوك، فالاستمرار قد ينظر له من خلال الفعل كما قد ينظر له من خلال النتيجة الجرمية التي تحققت، بشرط أن تظل إرادة الجاني حاضرة طيلة الوقت الذي استغرقه الركن المادي، وبمعنى آخر مواكبة الركن المعنوي للركن المادي، وإلا خرجت الجريمة من المعنى الفني للجريمة المستمرة، لذا يميز الفقه بين نوعين من الاستمرار.الاستمرار المتجدد، وهو الاستمرار الذي يستلزم تدخل إرادة الجاني بصفة متجددة وهي حالة مواكبة الركن المعنوي  لحالة الاستمرار وتسمى الجريمة عندئذ ب: délit continu successif ، والاستمرار الثابت أو المضطرد،  وهو الاستمرار الذي إذا انطلق بقي بذاته دون حاجة إلى تدخل جديد من قبل إرادة الجاني، وبمعنى آخر دون حاجة لمواكبة الركن المعنوي لحالة الاستمرار وتسمى الجريمة عندئذ ب : délit continu permanent وهو ما يسميه الفقه بأنه الجريمة الوقتية في حد ذاتها في الحالة التي تخلف فيها أثار، وهو رجوع من جديد للتقسيم التقليدي بين الجريمة الوقتية والجريمة المستمرة، على أن يفهم بأن الاستمرار هو ما يلزم تدخل إرادة الجاني طوال فترة الاستمرار وأن يفهم من الجرائم الوقتية ما يحدث من آثار فورية حتى ولو كانت ممتدة في الزمن.وهو ما يحتم علينا لمزيد من التوضيح تبيان المعيار المعتمد للتقسيم بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة.

الفرع الأول
معيار التمييز بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة
                نجد الفقه يتنازعه معياران، الأول هو معيار طبيعة الاعتداء في حد ذاته، والثاني هو معيار الامتداد الفعلي للزمن الذي تستغرقه الجريمة .
أولا:  معيار طبيعة الاعتداء
        وهو المعيار الذي يذهب أنصاره للتفرقة بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة إلى اعتماد طبيعة الاعتداء ذاته، وهل هو قابل في حد ذاته للاستمرار من عدمه، فإذا كان الاعتداء في طبيعته قابلا للاستمرار كانت الجريمة مستمرة، مثل جريمة إخفاء الأشياء المسروقة حتى ولو استمر الإخفاء للحظة فقط كون الإخفاء بطبيعته قابلا للاستمرار، وإن كان غير قابل لذلك كانت الجريمة وقتية
ثانيا: معيار الامتداد الفعلي للزمن الذي تستغرقه الجريمة
        وهو المعيار الذي يرى أنصاره، إلى أن العبرة في التفرقة بين المؤقت والاستمرار هو الامتداد الفعلي للزمن الذي يستغرقه تحقق عناصر الجريمة، فالركن المادي قد يتخذ وضع الاستمرار في الجريمة الواحدة مرة وقد يتخذ وضع التأقيت في وضع آخر في ذات الجريمة، وكل ذلك بحسب ارتكاب الجاني للواقعة، وبالتالي الجريمة التي قد يتمثل بها أنها وقتية يمكن أن تقع مستمرة والعكس صحيح، والعبرة في كل ذلك بالزمن الفعلي الذي استغرقه ارتكاب الجريمة بركنيها المادي والمعنوي، لذا يرى أنصار هذا الاتجاه أن تقسيم الجرائم إلى وقتية ومستمرة له طابعا نسبيا، فالسرقة في أغلب صورها جرائم وقتية، ومن المتصور أن تكون مستمرة مثل حالة سرقة التيار الكهربائي، وجريمة القتل في أغلب صورها جريمة وقتية لكن قد تكون جريمة مستمرة في حالة القتل بالتسميم عن طريق إعطاء جرعات من السم على فترات ممتدة عبر الزمن خاصة إن كانت الجرعة الواحدة غير كافية لإحداث الوفاة، لكن مجموع هذه الجرعات هو الذي أحدث الوفاة، وجريمة استعمال المزور في أغلب صورها جرائم مستمرة لكن قد تقع وقتية مثل الحالة التي يبرز فيها الجاني بطاقة مزورة ويخبئها مباشرة. وبالتالي خلاصة هذا الرأي أن تقسيم الجرائم إلى وقتية ومستمرة ليس تقسيما مطلقا بل نسبيا، حيث ليس هناك جرائم وقتية بطبيعتها أو جرائم مستمرة بطبيعتها ولكن هناك جرائم يغلب فيها أن تكون وقتية وأخرى يغلب فيها أن تكون مستمرة. غير أن الإشكال المطروح هو انعدام معيار تشريعي من خلاله يمكن تحديد ما إن كان الزمن مستمرا أو مؤقتا، وهو ما جعل أنصار هذا الاتجاه يتركون المسألة للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع يستنتجه من النص المقرر للجريمة ذاته.
        والجرائم المستمرة لا تنحصر في الجرائم الإيجابية فقط، بل يمكن أن تشمل أيضا الجرائم السلبية مثل عدم تسليم طفل لمن له الحق في حضانته، وقد يظهر أحيانا أن الجريمة الوقتية قد تستغرق وقتا زمنيا كجريمة السرقة والتزوير، لكن رغم ذلك تبقى مثل هذه الجرائم جرائم وقتية، والاستمرار نسبي قد يستغرق دقائق أو ساعات أو أيام أو أكثر كما أن الاستمرار قد يلحق السلوك كما قد يلحق النتيجة مثل جريمة إخفاء أشياء مسروقة

الفرع الثاني
أهمية تقسيم الجرائم إلى جرائم وقتية وجرائم مستمرة
        لتقسيم الجرائم إلى جرائم مستمرة وجرائم مؤقتة أهمية تتبين من نتائج التفرقة ذاتها، منها نتائج ترتبط بالقواعد الجنائية الموضوعية، ومنها ما يتعلق بالقواعد الجنائية الإجرائية.
أولا: النتائج المرتبطة بالقواعد الجنائية الموضوعية 
        من أهم النتائج المرتبطة بتقسيم الجرائم إلى جرائم وقتية وجرائم مستمرة، من الناحية الموضوعية، مسألة سريان النص الجنائي من حيث الزمان والمكان. ففي الجرائم المستمرة يسري  القانون الجنائي الأشد لو عمل به قبل انقطاع حالة الاستمرار حتى ولو كانت قد بدأت في ظل القانون القديم الأصلح، حيث تعد الجريمة قد وقعت في ظل القانون الجديد حتى ولو كان قد بدأت في ظل القانون القديم، وهو الأمر الذي لا يعمل به بخصوص الجرائم المؤقتة، أما من حيث سريان النص الجنائي من حيث المكان، يتحدد مكان وقوع الجريمة المستمرة بكل مكان قامت فيه حالة الاستمرار، فأي جزء قام في إقليم الدولة يعد نشاطا إجراميا كاملا وليس جزءا من جريمة وقع بعضها على إقليم الدولة وبعضها في الخارج، ويضيف البعض أهمية تكمن في وقت تقدير قيام الركن المعنوي، حيث أنه في الجرائم الوقتية يجب أن يتعاصر كل من الركن المادي والركن المعنوي، وإن تراخى الأخير فلا قيام للبنيان القانوني للجريمة المؤقتة، لكن في الجريمة المستمرة يمكن أن يتراخى أحدهما عن الآخر لذا يقدر الركن المعنوي على عنصر العلم بعد بدء السلوك كحيازة الشخص بداية لشيء مسروق عند الحيازة كان حسن النية ثم يعلم بالحقيقة ويستمر في ذلك.
ثانيا: النتائج المرتبطة بالقواعد الجنائية الإجرائية
        أهم النتائج المترتبة على تقسيم الجرائم إلى جرائم وقتية وأخرى مستمرة من ناحية القواعد الجنائية الإجرائية، ما يتعلق بقواعد الاختصاص والتقادم، وقوة الشيء المقضي به. فبخصوص الاختصاص في الجرائم المستمرة، تكون مختصة كل المحاكم التي قامت في دائرة اختصاصها حالة الاستمرار
أو بدأت أو انقطعت، على عكس الجرائم الوقتية حيث يتحدد بمكان وقوع الجريمة، وبخصوص التقادم المسقط للدعوى، في الجرائم الوقتية يبدأ سريان التقادم بخصوصها من لحظة وقوعها، بينما في الجرائم المستمرة يبدأ التقادم من اليوم التالي لانتهاء حالة الاستمرار فيها وليس من اليوم الذي بدأت فيه حالة الاستمرار. وبخصوص قوة الشيء المحكوم به، في الجرائم المستمرة تنصرف قوة الشيء المقضي به إلى كل حالة الاستمرار السابقة على صدور الحكم، وما يحصل بعد ذلك من قبل إرادة الجاني للإبقاء على حالة الاستمرار يشكل جرائم جديدة تجوز محاكمته عنها دون أن يمس ذلك بمبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن الفعل مرتين، على عكس الجريمة الوقتية التي ينصرف فيها الحكم إلى الجريمة المقامة عنها الدعوى كلها. وبخصوص العفو فإن العفو الصادر عن الجريمة الوقتية، يمحو الجريمة ويمنع بالتالي رفع الدعوى العمومية عنها ثانية، في حين العفو الصادر في الجريمة المستمرة فإنه لا يحول دون رفع الدعوى العمومية عنها متى تجددت حالة الاستمرار، هذا ونشير بأن الفقه يضيف إلى النوعين السابقين، الجريمة الوقتية والجريمة المستمرة، نوعا وسطا وهو الجريمة الوقتية المتتابعة.

الفرع الثالث
الجرائم الوقتية المتتابعة
        وهو نوع من الجرائم التي يطلق عليها أيضا مصطلح الجريمة ذات الأفعال المتلاحقة أو المتكررة، وهي الجريمة التي ترتكب من أجل غرض إجرامي واحد من قبل مرتكبها غير أنها تقوم بأفعال متعددة ومتماثلة يجمع بينها وحدة الحق المعتدى عليه، وتستهدف إحداث نتيجة إجرامية واحدة، وبالتالي هي نوع من الجرائم الوقتية تصبح متتابعة ويشترط لكي تكون كذلك الشروط التالية.
أولا: تماثل الأفعال وتتابعها
        في الأصل كل الأفعال التي تتشكل منها الجريمة تعد جريمة مستقلة في حد ذاتها، حيث لو اكتفى الجاني بواحد منها عوقب عليه كجريمة، كضرب الجاني للمجني عليه عدة ضربات أو تزييف عدد من الأوراق النقدية، وهي جريمة بالرغم من أنها تظهر على أنها تعدد الجرائم إلا أنه في هذا النوع من الجرائم تعد جريمة واحدة لا توقع عليه من أجلها سوى عقوبة واحدة، كون تعدد وتماثل الأفعال في هذه الحالة لا يعد تعددا للركن المادي للجريمة، وذلك لوجود نوع من التقارب بين تكرار الأفعال دون اشتراط أن تقع في وقت واحد ولا في مكان واحد.
ثانيا: وحدة الحق المعتدى عليه
        الشرط الثاني في هذا النوع من الجرائم، هو أن تقع الأفعال المتتابعة أو المتماثلة الحاصلة في توقيت متقارب على حق واحد محمي قانونا، كجريمة الضرب بعدة ضربات تمس حق واحد هو حق المجني عليه في سلامة جسده، وفي جريمة تزوير النقود هو حق الدولة في الثقة في عملتها وسلامة اقتصادها. غير أن القفه لم يتفق حول اشتراط أن يكون شخص المجني عليه شخصا واحدا، فجانب من الفقه يرى أنه إذا تعدد المجني عليهم أصبحنا بصدد تعدد للجرائم، سيما في جرائم الأشخاص، بينما ذهب اتجاه ثاني من الفقه أن لا يقضي أن يكون الشخص المجني عليه شخصا واحدا، فالوحدة مشترطة في الحق المعتدى عليه لا في الأشخاص.
ثالثا: وحدة المشروع الإجرامي 
يستتبع الشرطين السابقين، أن يكون ما يجمع الأفعال السابقة المتتابعة والمتتالية مشكلة لمشروع وغرض إجرامي واحد لدى الجاني، أي خطة إجرامية واحدة تعددت عناصرها ووسائل تنفيذها. 
        وبالرغم من أن هذه الجريمة من الجرائم الوقتية مثلما تدل عليه تسميتها، إلا أنه تخضع في أحكامها لأحكام تشبه تلك التي تخضع لها الجرائم المستمرة، سيما ما تعلق بما يلزم من زمن طويل نسبيا يستغرقه ارتكاب الركن المادي لهذا النوع من الجرائم، ونؤيد هذا الرأي سيما بخصوص النقاط التي تناولناها سابقا بخصوص أهمية التقسيم ما بين الجرائم المستمرة والجرائم الوقتية بخصوص القانون الأشد وسريان القانون من حيث الزمان والمكان أو من حيث القواعد الجنائية الإجرائية من حيث التقادم وحجية الحكم ...

المطلب الثاني
الجرائم الإيجابية والجرائم السلبية
        وهو التقسيم الذي يستند إلى  طبيعة السلوك الإجرامي، وما إن كان يتخذ صورة إيجابية أو صورة سلبية، وبيان ذلك يتضح من خلال القواعد الجنائية التي يسنها المشرع كونها قواعد قد تتضمن أوامر للأفراد كما قد تتضمن نواهي، ففي حال مخالفة الأوامر يكون الشخص مرتكبا لجريمة سلبية وفي حال ما كنت تتضمن المخالفة لنهي عدت الجريمة جريمة إيجابية. فانتهاك النهي يكون بإتيان الجاني لحركة إرادية مادية يسعى من خلالها لتحقيق النتيجة المجرمة قانونا، وهو النوع الغالب والأهم من بين أنواع الجرائم.أما انتهاك الأوامر، فيتمثل في امتناع الجاني عن القيام بعمل يأمر به القانون ويعد ذلك اتخاذ لموقف سلبي من قبله اتجاه القاعدة الجنائية التي تأمره بالفعل. وهناك طائفة ثالثة من الجرائم تتوسط الطائفتين السابقتين، وهي الجرائم التي يكون فيها السلوك متكونا من فعل إيجابي وامتناع في ذات الوقت، ويرى الفقه أنه نوع إذا نظر إليه بتمعن لوجد أنه يميل للجرائم الإيجابية أكثر.

الفرع الأول
وقوع الجريمة الإيجابية عن طريق الامتناع
        شغلت مسألة ما إن كان يمكن تصور قيام الجريمة الإيجابية عن طريق الامتناع الفقه، وأثارت بذلك جدلا فقهيا منذ زمن بعيد، وأغلب مجال كان مدارا لمثل هذا الجدل، هو الجريمة القتل والتساؤل عما عن كان يمكن أن يتم عن طريق الامتناع أم لا، كامتناع الأم عن إرضاع ابنها فيموت، أو امتناع مراقب الشاطئ عن إنقاذ الغريق فيموت، أو امتناع الممرضة عن إعطاء المريض الدواء فتسوء حالته ويموت، وإن كان يمكن أيضا أن يثار الإشكال بالنسبة لجرائم أخرى غير القتل، وعموما تنحصر المسألة في إطار الجرائم ذات النتائج وأن تكون من الجرائم العمدية أيضا، ويضاف لكل ذلك ألا يكون الجاني قد قام بعمل حتى لا نكون بصدد جريمة إيجابية، وتمثلت الاتجاهات الفقهية في حل مسألة الجرائم الإيجابية عن طريق الترك  أو الامتناع يمكن أن نميز بين الاتجاهات الفقهية الثلاث التالي تناولها.
أولا:عدم إمكان العقاب على النتيجة الإيجابية إن كانت نتيجة امتناع
        وهو اتجاه يرى أنصاره أن من امتنع عن فعل لا يمكن القول أنه ارتكبه، أو قصده، وذلك أن الامتناع عبارة عن عدم والعدم لا يمكن أن يفضي إلا إلى عدم مثله، ونجد هذا الاتجاه سائدا في الفقه الفرنسي والقضاء الفرنسي، حيث يرون أن الحالات التي يمكن أن تتم فيها نتيجة إيجابية عن طريق الامتناع يجب أن يحددها المشرع بموجب نص خاص نظرا لخصوصيتها وأشهر قضية في القضاء الفرنسي تدلل على ذلك هو القضية الشهيرة بتسمية حبيسة بواتييه LA SEQUESTSTREE DE POITIERS حيث رفض قضاة بواتييه إدانة المدعو مونييه بتهمة إستعمال العنف والتعدي لما جعل أخته المريضة مرضا عقليا تحيا لعدة سنوات في غرفة لا يدخلها هواء نقي ولا ينفذ إليها ضوء إلى غاية  أن تدهورت حالتها الصحية، وبررت المحكمة قضائها بأنه لا يمكن للعنف والتعدي أن يقوم دون وقوع هذا العنف أو التعدي. 
ثانيا: إمكان وقوع الجريمة الإيجابية عن طريق الترك
        وهو اتجاه يرى أنصاره أن السلب مظهر للتعبير عن الإرادة مثل الإيجاب تماما، وأن موطن الصعوبة فقط حسب أنصار هذا الاتجاه يكمن في استخلاص رابطة السببية بين امتناع الجاني والنتيجة المجرمة التي تحققت، حيث في مثل هذه الحالات يصعب القطع بتوفر العلاقة السببية، لذا نجدهم يشترطون للجزم بقيام مثل هذه الرابطة أن يكون الجاني ملتزما التزاما قانونيا أو تعاقديا بالعمل على منع وقوع هذه النتيجة، ويلزم أن يتدخل المشرع لتقرير ذلك بموجب نص صريح في القانون، وهو ما له مثيل في القانون الإيطالي لسنة 1930 في المادة 40/2 التي قضت أنه : " عدم منع التي يلتزم الشخص قانونا بمنعها يعادل إحداثها " والقانون الألماني لسنة 1975 في المادة 13 التي قضت أنه :" من يحجم عن تفادي نتيجة، تشكل عنصرا في جريمة، لا يعاقب بمقتضى أحكام هذا القانون إلا إذا كان ملزما قانونا بمنع تحقق هذه النتيجة، وكان الامتناع يعادل الإيجاب في تحقيق هذا العنصر".
ثالثا:   وهو اتجاه يتفق مع الرأي السابق في إمكان تحقق النتيجة الإيجابية عن طريق الترك، غير أنه لا يضيف شرط وجوب أن يكون الجاني ملزما قانونا أو تعاقديا بمنع حدوث النتيجة المجرمة، فالقانون حسبهم يعاقب على النتائج المجرمة دون أن يعبأ بوسيلة تحققها، وعليه تستوي كل الوسائل من حيث صلاحيتها لإحداث النتيجة، وبالتالي لا يشترط سلوك معين لإحداث مثل هذه النتيجة 

الفرع الثاني
أهمية تقسيم الجرائم إلى جرائم إيجابية وجرائم سلبية
        وهو تقسيم أكثر ما يفيد في نظرية المحاولة أو الشروع، حيث يرى غالبية الفقه أن نظرية الشروع مقصورة على الجرائم الإيجابية دون الجرائم السلبية التي إما أن تقع كاملة وإما ألا تقع. وتتجلى حكمة التجريم في الجرائم البسيطة في خطورة الفعل في ذاته وما قد ينجم عنه من ضرر على الحق المحمي قانونان، أما حكمة تجريم الجرائم الاعتياد فتتجلى في حالة الاعتياد التي يتواجد عليها الجاني التي تصبح مصدر الخطورة الحقيقية التي لأجلها يعاقب على الفعل وليس الفعل في ذاته.

المطلب الثالث
الجرائم البسيطة وجرائم الاعتياد
        هناك جرائم لا تكمن خطورتها في ارتكاب الفعل مرة واحدة، وهو حال الجريمة البسيطة، بينما تكمن خطورتها في تكرار الفعل أكثر من مرة، وحينها لا يكون محل التجريم هو السلوك في حد ذاته، بل الاعتياد عليه.

الفرع الأول
معيار التفرقة بين الجرائم البسيطة وجرائم الاعتياد وأهمية ذلك
        جرائم الاعتياد، هي جرائم لا تكتمل قانونا إلا بارتكاب الفعل المكون للجريمة أكثر من مرة دون أن يحدد المشرع عدد هذه المرات وأن الفقه السائد أن تقع مرتين وأكثر، في حين هناك رأي آخر يخول السلطة التقديرية للقاضي في تقدير عدد مرات الفعل الذي تكتمل به الجريمة المستمرة قانونا على ضوء ما يستخلصه من توافر حالة الاعتياد لدى الجاني.

أولا: عناصر الاعتياد
        الاعتياد يكون بتكرار الفعل في إطار زمني معين. فبخصوص تكرار الفعل، القانون لم يحدد عدد المرات التي يوجب أن يتكرر فيها الفعل، لذا ثار خلاف فقهي حول تحديد عدد المرات، بين اتجاه يرى وجوب تحديده في عدد معين، وهو اتجاه اكتفى بتكرار الفعل مرتين، والبعض الآخر في إطار نفس الاتجاه أن يتكرر الفعل أكثر من ثلاث مراتي حين ذهب اتجاه ثاني إلى عدم تحديد الأفعال بعدد معين، ووجوب ترك المسألة للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع، وحجتهم في ذلك أن العدد ليس مطلوبا في حد ذاته، وإنما هو مجرد قرينة على توافر حالة الاعتياد، وقد ذهبت محكمة النقض المصرية إلى تبني الاتجاه الأول وقررت أن يكون تكراره مرتين على الأقل. وهناك عنصر الإطار الزمني ، لتوفر حالة الاعتياد هو أن يتكرر الفعل دون أن يكون الفعل الأول قد سقط بالتقادم، وهو رأي نتبناه كثيرا فما دام التقادم المسقط في اعتبار المشرع يعد قرينة على نسيان الجريمة، فمن باب أولى يجب أن يكون كافيا لنسيان سلوك غير مجرم لوحده ما لم يتكرر، خاصة وأنه سبق القول أن تجريم هذا النوع من الجرائم يجد أساسه في نظر المشرع من خطورة فعل التكرار لا من خطورة السلوك ذاته.

ثانيا: أهمية تقسيم الجرائم إلى جرام بسيطة وجرائم اعتياد
        تكمن أهمية تقسيم الجرائم إلى جرائم بسيطة وجرائم اعتياد، في كون هذه الأخيرة تخضع في أحكامها إلى أحكام قريبة من تلك التي تخضع لها الجرائم المستمرة، كون كلاهما يستغرق زمنا طويل نسبيا وما يترتب عن ذلك من تطبيق القانون من حيث الزمان، إذ يسري القانون الجديد حتى ولو كان أكثر شدة على فعل التكرار إن كان قد وقع في ظله، وفي التقادم يسري القانون من أول يوم يلي اكتمال فعل التكرار. غير أن أهم فرق، هو أن المضرور لا يحق له المطالبة بالتعويض كون ما هو مجرم، هو فعل التكرار والعادة لا ما لحق المجني عليه من أضرار.
        لكن تبقى هناك صعوبة استخلاص البناء القانوني لجريمة الاعتياد، حيث يرى بعض الفقه أنه هناك صعوبات ثلاث تعترض استخلاص البناء القانوني لهذه الجريمة : أولى الصعوبات، هي ما إن كانت جريمة الاعتياد تقوم بتكرار الفعل مرتين أو أكثر دون عبرة بالزمن الزمن الذي يستغرقه هاذان الفعلان أمي نبغي اشتراط مثل هذا الزمن، والفقه السائد يرى وجوب ألا يمر وقت زمني بين الفعلين يؤدي إلى تقادم هذه الجريمة، وانتقد هذا الرأي على أساس أن الفعل الواحد في جريمة الاعتياد هو عنصر فيها لا تكتمل به الجريمة قانونا وأنه لا مجال للكلام عن التقادم ما لم يكتمل البناء القانوني للجريمة، لذا يجب ترك المسألة للسلطة التقديرية للقاضي. وتتمثل الصعوبة الثانية في تحديد " ذاتية " الفعل المكون لحالة الاعتياد حينما تقترن به بعض الظروف، مثل جريمة الإقراض بالربا في الحالة التي يقرض فيها الشخص عدة قروض لآخر في وقت واحد، وهنا واضح ألا تقوم جريمة الاعتياد لكن في الحالة التي يقرض فيها الشخص بموجب عقد واحد عدة قروض لأشخاص متعددين، فهنا يرى البعض أن الفعل يعد واحد ولا تقوم به جريمة الاعتياد، غير أن البعض يرى أنها عدة قروض وبالتالي لا مناص من قيام جريمة الاعتياد.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه هناك تبعا للتقسيم السابق نوع آخر من الجرائم نتناوله في النقطة الموالية 

الفرع الثالث
جرائم الاعتياد، الجرائم المستمرة والجرائم متتابعة الأفعال
التفرقة والنتائج
أولا: التفرقة
بين الأنواع الثلاثة السابقة نقاط التقاء، ونقاط تفترق من خلالها عن بعضها البعض، فهي كلها يتطلب تحققها وقتا من الزمن مما يبرر خضوعها لنوع متشابهة من الأحكام القانونية، غير أن ذلك لا يمنع من وجود فروقات هامة بينها نوجزها في النقاط التالية:تفترض جرائم الاعتياد والجرائم المتتابعة الأفعال أفعالا متعددة ومتماثلة، في حين الجريمة المستمرة كل ما تتطلبه فعل واحد يستغرق مدة من الزمن، جرائم الاعتياد كل فعل منها لا يشكل لوحده جريمة مستقلة، على عكس جرائم الأفعال المتتابعة التي يمكن أن يسأل فيها الجاني عن كل فعل باعتباره يشكل جريمة مستقلة بذاتها. الجريمة المركبة هي الجرائم التي يكون بنيانها القانوني قائما على عدة أفعال جرمية مختلفة تدخل كعنصر من عناصرها أو كظرف مشدد لها كدخول حرمة مسكن للسرقة، هما فعلين مجرمين ومستقلين، غير أنها تعتبر جريمة واحدة كون المشرع جمعهما في نموذج قانوني واحد، أما الجريمة المتتابعة الأفعال أو المتعاقبة، فهي الجريمة التي تتكون من عدة أفعال متتابعة تعتبر كلها جريمة واحد بالنظر لورود كل الاعتداءات على ذات المصلحة المحمية تنفيذا لمشروع إجرامي واحد، كضرب الشخص عدة ضربات متتابعة أو اختلاس أموال الدولة على دفعات والزنا المتتابع مع شريك واحد وحيازة عدة قطع من المخدرات وسرقة التيار الكهربائي عدة أيام والبناء المتوالي بدون ترخيص

ثانيا: النتائج المترتبة عن تقسيم الجرائم إلى بسيطة واعتيادية 
من أهم نتائج التفرقة بين الجرائم البسيطة والجرائم الاعتيادة، هي نتائج إجرائية، أولها بخصوص تقادم الدعوى، حيث يسري التقادم بخصوص جرائم الاعتياد من اليوم التالي لآخر فعل من الأفعال المكونة للجريمة قانونا، ولا عبرة في ذلك بالمدة التي تفصل بين الفعلين المكونين لحالة الاعتياد. وفيما يتعلق بالاختصاص المكاني، الاختصاص بنظر جريمة الاعتياد ينعقد لكل محكمة من المحاكم ارتكب في دائرة اختصاصها فعل من الأفعال المتطلبة لتكوين حالة الاعتياد، على عكس الجريمة البسيطة تخضع لاختصاص محكمة مكان اقترفاها،  فيما يتعلق بقوة الشيء المقضي به، متى أدين شخص بجريمة اعتياد ليس هناك ما يمنع من رفع الدعوى عليه متى ارتكب بعد الحكم، مرة أخرى الجريمة بفعلين أو أكثر، من دون الأفعال التي سبق الحكم عليه بسببها.وفيما يتعلق بالسريان الزماني للنص، النص القانوني الجديد ولو أسوأ من القديم يطبق على جريمة الاعتياد في فعلها الأخير الذي تقوم به حتى ولو كانت الأفعال السابقة وقعت في ظل القانون القديم.

المطلب الرابع
الجرائم ذات النتائج والجرائم الشكلية
        ومعيار التقسيم بين النوعين من الجرائم، هو بالنظر لعناصر ومكونات الركن المادي للجريمة، فالجريمة ذات النتيجة هي الجريمة التي تكتمل فيها عناصر الركن المادي، بينما الجرائم الشكلية هي اتجاه إرادة الجاني لارتكاب السلوك دون النتيجة وتسمى في هذه الحالة أيضا جرائم السلوك المجرد أو الجرائم  الشكلية مقابلة للجرائم المادية، وهي الجرائم ذات النتيجة أو جرائم الضرر مقابلة لجرائم الخطر وقد كانت جرائم الخطر موضوع المؤتمر الدولي العاشر المنعقد بروما سنة 1969. وهو تقسيم سبق تناوله، ونختصر أهميته في النقاط التالية: تكمن أهمية التقسيم بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية من عدة أوجه أهمها تتعلق بالقواعد الجنائية الموضوعية سيما في مجال الشروع في الجريمة ومجال علاقة السببية. حيث أنه بخصوص الشروع في الجريمة، فلا يكون إلا في الجرائم ذات النتائج دون جرائم السلوك المحض أو المجرد أو ما تسمى بالجرائم الشكلية التي لا مجال للكلام عن الشروع فيها. وبخصوص البحث عن علاقة السببية، فلا مجال لبحثها في مجال الجرائم الشكلية لانعدام النتيجة فيها وهي التي يحتم البحث ما إن كان يربطها بسلوك الجاني علاقة سببية..

المطلب الخامس
الجرائم المركبة والجرائم متتابعة الأفعال
        الجريمة المركبة، هي تلك الجريمة التي يتألف النشاط المكون لركنها المادي من أكثر من فعل، كجريمة النصب التي لا تكتمل قانونا إلا بوقوع فعلين متميزين، هما استخدام الوسائل الاحتيالية ومن ثم الاستيلاء على مال الغير. وبذلك فمن حيث الجوانب الموضوعية تخضع الجريمة المركبة من حيث سريان النص من حيث الزمان للقانون الجديد على كل الجريمة حتى ولو بدأ سريان القانون بعد اقتراف الفعل الأول.
ومن حيث الجوانب الإجرائية ينعقد الاختصاص في الجرائم المركبة لكل محكمة وقع في دائرة اختصاصها فعل من الأفعال المكونة للجريمة، حتى بخصوص مبدأ الإقليمية حيث ينعقد الاختصاص لقضاء كل دولة من الدول التي وقع بإقليمها فعل من الأفعال المكونة لهذه الجريمة، كما أن تقادم الدعوى لا يبدأ في السريان إلا من اليوم التالي لاقتراف آخر فعل مكون للجريمة المركبة بل في جريمة النصب في اليوم الموالي لأخر عنصر من عناصر التسليم.
        أما تعريف الجريمة متتابعة الأفعال، هي تلك الجرائم  التي تتمثل في أفعال متعددة يجمع بينها بالرغم من هذا التعدد تماثل الحق المعتدى عليه ووحدة الغرض الإجرامي، كمن يصدر عدة شيكات بدون رصيد لشخص واحد عن دين واحد، وهي بذلك جريمة تقوم بعدة أفعال يصلح كل منها لتكوين جريمة مستقلة وكل منها يتكون من ركن مادي وآخر معنوي لكن تصبح جريمة واحدة لتماثل الحق المعتدى عليه ولوحدة الغرض الإجرامي وبالتالي لا يطبق عليها سوى عقوبة واحدة.

المبحث الثاني
تقسيم الجرائم بالنظر لركنها المعنوي

بالنظر للركن المعنوي للجريمة، الذي انتهينا منه منذ قيليل، فهناك تقسيم واحد للجرائم، وهي جرائم عمدية وأخرى غير عمدية، وسنحاول بنوع من الاختصار تناول كل نوع منها في مطلب مستقل.

المطلب الأول
الجرائــــم العمدية
        الجريمة العمدية، هي تلك الجريمة التي يتطلب المشرع لقيامها توفر القصد الجنائي بعنصريه العلم والإرادة، إرادة السلوك – وهي صورة مشتركة بين الجرائم العمدية والجرائم غير العمدية – وإرادة النتيجة، بالإضافة إلى العلم بكل العناصر الواقعية الجوهرية اللازمة لقيام الجريمة والعلم بصلاحية السلوك لإحداث النتيجة، وهي صورة العلم الذي إن اتخذ درجة اليقين كان القصد مباشرا وإن اتخذ درجة الاحتمال كنا بصدد القصد الاحتمالي أو القصد غير المباشر، وأن الغالبية العظمى من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات من الجرائم العمدية، وعادة ما يعبر عنه المشرع بعبارات مثل كل من ارتكب " عمدا " أو كل من ارتكب " عالم" وأن كل الجنايات عمدية وأغلب الجنح عمدية أما المخالفات فالقليل منها فقط عمدي.

المطلب الثاني
الجرائم غير العمدية
         وتسمى أيضا بالجريمة الخطئية أو بجريمة الإهمال، وهي تلك التي لا يتطلب المشرع لقيامها توافر القصد الجنائي لدى الجاني كون كل ما يلزم فيها إرادة السلوك مع العلم بكافة العناصر الواقعية الجوهرية اللازمة لقيام الجريمة – وهو أيضا عنصر مشترك ما بين الجرائم العمدية والجرائم غير العمدية - دون إرادة النتيجة ، لكن مع العلم بصلاحية السلوك لإحداث النتيجة.        وبالتالي تختلف الجريمة غير العمدية عن الجريمة العمدية، في كون الأولى توجب توافر قصد تحقيق النتيجة عكس الجرائم غير العمدية، ومن ناحية ثانية درجة العلم المتطلبة في الجرائم العمدية ترقى لمرتبة اليقين أو الاحتمال، بينما في الجرائم غير العمدية فتتوقف درجة العلم عند درجة الإمكان أي العلم بإمكان تحقق النتيجة كأثر للسلوك.
        وهناك نوع من الجرائم قد يثير اللبس بين النوعين السابقي،ن وهو ما يسمى بالجرائم المادية DELIT MATERIELS  التي تقع بمجرد إتيان النشاط المكون لركنها المادي حتى ولو لم يقم الركن المعنوي لدى الجاني، و لا حتى مجرد الخطأ أو الإهمال، بل هي جرائم تقوم بالركن المادي وحده دون الركن المعنوي، كالجرائم المرورية والجرائم الضريبية والجرائم الجمركية، وهو ما أثار حفيظة أنصار الفكر الجنائي الحديث الذين يطالبون بجعل الإثم أو الخطأ كأساس للمسؤولية الجنائية، إلا أن المبرر يكمن في القول بأن الجرائم المادية لا تعني انتفاء الركن المعنوي وإنما يجعل فيها المشرع ارتكاب الفعل المادي قرينة على توفر الخطأ لديه وتنقل عبء الإثبات من عاتق النيابة إلى عاتق المتهم الذي له أن يثبت انتفاء مسؤوليته بانتفاء الخطأ من جانبه.
        ومن أهم النتائج المترتبة على تفقسيم الجرائم إلى عمدية وغير عمدية، من حيث العقوبة المقررة، فعقوبات الجرائم غير العمدية في العادة عقوبات مخففة مقارنة بالعقوبات المقررة للجرائم العمدية، ومن حيث إمكان العقاب على الشروع، فلا شروع في الجرائم غير العمدية ولا اشتراك فيها.

الباب الثاني
نظرية المسؤولية الجـــنائية

        لا يكفي مجرد ارتكاب الجريمة بأركانها المبينة على النحو السابق لاعتبار مقترفها مسؤول عنها مسؤولية جنائية، وبالتالي استحقاق العقاب المقرر لها بل يجب أن تتوفر فيه العناصر القانونية اللازمة المكونة للمسؤولية الجنائية، لأنه هناك فرق كبير بين فكرة الجريمة وفكرة المسؤولية الجنائية، فالجريمة إن كانت تقوم ببنيانها القانوني بموجب الأركان الثلاثة العامة، فإن المسؤولية الجنائية أو كما يسميها البعض " الأهلية الجنائية" أو " أهلية الإسناد". لا تقوم ولا تتحقق إلا إذا كان الفاعل وقت اقترافه الجريمة يتمتع بملكتي " الوعي والإدراك" من ناحية، وبالقدرة على الاختيار أو حرية الاختيار من ناحية ثانية، وبدون هذه العناصر تنتفي المسؤولية الجنائية وبالتالي لا مجال لتوقيع الجزاء على الفاعل، بالرغم من ارتكابه الجريمة على النحو الموصوف قانونا، وإن كان ذلك لا يمنع من خضوعه للتدابير الاحترازية أو تدابير الأمن كصورة ثانية من صور الجزاء الجنائي، وهي التدابير التي توقع على من توفرت في جانبه خطورة إجرامية. لذا فأساس توقيع العقوبة هي المسؤولية الجنائية، والخطورة الإجرامية أساس توقيع التدابير الاحترازية أو الأمنية، وبالتالي المسؤولية الجنائية شرط ضروري لإمكان الحديث عن توقيع العقوبة على الفاعل، وقوام المسؤولية الجنائية الوعي والإدراك من ناحية، والإرادة وحرية الاختيار من ناحية ثانية[7]. لذا فنظرية المسؤولية الجنائية تقتضي الحديث عن الشخص الفاعل، حيث إن كانت أركان الجريمة تنصرف إلى الفعل المادي، فإن نظرية المسؤولية الجنائية تنصرف أكثر إلى الشخص الفاعل، لذا نجد الكثير من الفقه يتناول المسؤولية الجنائية في إطار نظرية " المجرم والجزاء"، لذا فضلنا نحن تناول المسؤولية الجنائية ضمن باب مواز لنظرية الجريمة، وكانت خطتنا في البداية أن فقسم هذا الباب إلى فصلين، فصل يتعلق بالشخص المجرم المسؤول وموانع هذه المسؤولية، وآخر يتعلق بنظرية الجزاء، غير أن قولنا بترك نظرية الجزاء لتكون موضوع مطبوعة مستقلة، جعل من هذا الباب يختل توازنه مقارنة بالباب الأول، غير أن هدف المطبوعة يتجاوز مراعاة الجوانب الشكلية، ويركز فقط على النواحي الموضوعية الهادفة لإفادة الطالب بالتفاصيل التي قد يتم تجاوزها في المحاضرات، لذا فتركيزنا في هذا الباب المختصر سيكون من خلال فصلين نتناول في الأول فكرة المسؤولية الجنائية ذاتها، على أن نتناول في الثاني موانع هذه المسؤولية. كون فكرة المسؤولية الجنائية أو الجزائية[8]، تتطلب تحديد مفهومها وذلك بتحديد معناها وأساسها وبيان شروطها، من جهة، ومن جهة ثانية تحديد الحالات التي تنتفي فيها المسؤولية الجنائية أو تمتنع من القيام بالرغم من ارتكاب الفعل المجرم قانونا. 

الفصل الأول
ماهية المسؤولية الجنائية

        قبل أن نتناول مفهوم المسؤولية الجنائية وبيان أساسها وشروطها وتمييزها عما يشابهها من أفكار قانونية، تجدر بنا الإشارة بأنه هناك العديد من الفقهاء من يتناول دراسة هذه الفكرة في إطار دراسته للركن المعنوي للجريمة، وذلك بسبب النقاط القانونية الكثيرة المشتركة بينهما، سيما فيما يخص موانع المسؤولية التي تعد في حد ذاتها موانع في الحقيقة لقيام الركن المعنوي للجريمة، وأيضا ارتباطهما معا بفكرتي الأهلية الجنائية وفكرة العدالة، وكذا اتخاذ المسؤولية الجنائية للعديد من الصور تبعا لتعدد صور الركن المعنوي ذاته، حيث نجد المسؤولية العمدية التي تقابل صورة القصد الجنائي و عنصر العمد، والمسؤولية غير العمدية التي تقابل صورة الخطأ، والمسؤولية المتعدية أو المتجاوزة القصد تبعا لصورة القصد الجنائي المتعدي
 أو المتجاوز، وهي نقاط التشابه الكثيرة التي جعلت من البعض يرى بأن الركن المعنوي هو ركن في المسؤولية الجنائية، بالرغم من نقاط الخلاف الكثيرة بينهما على نحو ما سنتبينه.

المبحث الأول
مفهوم المسؤولية الجنائية وتحديد أساسها القانوني

يقصد بالمسؤولية الجنائية في مجال النظرية العامة للجريمة، الالتزام بتحمل النتائج المترتبة على وقوع الفعل المجرم، وهي بهذا الوصف لا تعد ركنا أو عنصرا في الجريمة، بل هي الأثر أو النتيجة القانونية لها، وأيا كان الخلاف الفقهي حول مفهوم المسؤولية الجنائية، فهي باختصار تحمل تبعة الأفعال التي يجرمها القانون الجنائي، وفكرة تحمل التبعة لا تعني سوى تطبيق العقوبة، غير أن ما تجدر الإشارة إليه، أنه على خلاف الوقت الحاضر الذي تقام فيه المسؤولية الجنائية للإنسان العاقل البالغ فقط، فإن الشرائع القديمة عرفت مسؤولية الحيوان والجماد، بل وحتى الموتى في قبورهم، وفسر ذلك بنسبة الجريمة للأرواح الشريرة التي تتقمص هذه الأشياء وتسخرها في ارتكاب الجرائم، غير أنه حديثا أصبحت المسؤولية لا يمكن أن تسند إلا للإنسان لأنه الكائن الوحيد الذي يمكنه أن يفهم ويستوعب أوامر ونواهي القانون، كما أن ما يتضمنه القانون من جرائم لا يمكن تصور ارتكابه إلا من قبل الإنسان وكذلك الشأن بالنسبة للجزاءات التي يتضمنها والتي لا يمكن تصور إنزالها إلا بالإنسان، ولا يتصور تحقيق أغراضها إلا إذا نفذت على الإنسان، وكاستثناء أصبحت تتقرر مسؤولية الأشخاص المعنوية أو الاعتبارية.

المطلب الأول
تعريف المسؤولية الجنائية وتمييزها عما يشابهها من أفكار قانونية جنائية[9]
        يقصد بفكرة المسؤولية الجنائية أهلية الإنسان العاقل الواعي بأن يتحمل الجزاء العقابي نتيجة اقترافه جريمة من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات، كون لفظ المسؤولية مرادف للفظ المسائلة، أي مسائلة الشخص عن اختياره الجريمة كسلوك مخالف للقانون ومناقض له، وهو سؤال يحمل معنى اللوم والاستنكار والتهديد بتوقيع الجزاء نتيجة اختيار هذا السلوك المجرم. لذا فالمسؤولية الجنائية ليست ركنا من أركان الجريمة، بل هي حصيلة أو أثر لأركان الجريمة مجتمعة، وهي الحصيلة التي اجتمعت في شخص إنسان عاقل مميز ومريد وله القدرة على الاختيار. وعليه فالمسؤولية الجنائية تتميز عن كل أركان الجريمة، بما فيها الركن المعنوي المشابه لها كثيرا، فالركن المعنوي ركن في الجريمة ولا يمكن البحث في توفر المسؤولية الجنائية إلا بعد أن تقوم الأركان العامة الثلاثة للجريمة بما فيها الركن المعنوي، بل المسؤولية الجنائية وبالإضافة إلى توفر أركان الجريمة، يجب أن يتوفر أيضا عناصر الوعي والإرادة وحرية الاختيار لدى الجاني.
        كما تختلف المسؤولية الجنائية أيضا عن فكرة " الأهلية الجنائية"، فهذه الأخيرة تعني صلاحية مرتكب الجريمة لأن يسأل عنها، أي إمكانية الشخص أن يكون مسؤولا عن أفعاله، وهي مرتبطة بسن معينة تختلف حوله التشريعات الجنائية، مما يجعلها شرطا لقيام المسؤولية الجنائية أو عنصرا من عناصرها، فالمسؤولية الجنائية لا تقوم إلا بتوافر الأهلية الجنائية بحيث حيثما تنتفي هذه الأخيرة تنتفي المسؤولية الجنائية.

المطلب الثاني
أساس المسؤولية الجنائية
        المسؤولية الجنائية كفكرة قانونية جنائية يجب وأن تستند إلى أساس خاص يبرر مشروعية توقيع الجزاء على الشخص مرتكب الجريمة، لأن المنطق القانوني السليم يستدعي أساسا منطقيا بموجبه وعلى أساسه يمكن مسائلة الشخص، وهو الأساس الذي مثل البحث فيه مسألة فلسفية انكب على دراستها فقهاء القانون على مدار القرنين الأخيرين[10]، حيث اختلفوا وانقسموا بخصوص هذا الأساس اختلافا شديدا ومتباينا، وهو الخلاف الذي يمكن رده إلى اتجاهين أو مذهبين أساسيين، تمثلهما مدرستين عريقتين هما المدرسة التقليدية والمدرسة الوضعية، الأولى نادت بفكرة " حرية الاختيار" كأساس للمسؤولية الجنائية، فيما نادى أنصار المدرسة الوضعية بفكرة " الجبرية أو الحتمية" كأساس، وهو ما نبينه في فرعين، لكن مثلما هو الأمر دوما كلما وجد اتجاهين، يوجد اتجاه وسط توفيقي يحاول تفادي مساوئ كل اتجاه والأخذ بمزاياه، وهو ما نبينه في الفرع الثالث.

الفرع الأول
المــــــذهب التقليدي
مذهب حرية الاختيار
أساس المسؤولية الجنائية هو المسؤولية الأدبية أو الأخلاقية
        وهو المذهب الذي يقيم أنصاره المسؤولية الجنائية على فكرة أن الإنسان المكتمل لمداركه العقلية يصبح حرا في تصرفاته ويوجه إرادته حيثما يشاء ويريد، وبالتالي يكون مسؤولا عن كل أفعاله وحيثما يوجه إرادته يتحمل مسؤوليته، وعليه فالجريمة وليدة إرادة الإنسان الحرة، لذا فوفقا لأنصار المدرسة التقليدية يجب أن يتوفر عنصري الإرادة وحرية الاختيار لتقوم المسؤولية الجنائية للشخص، فالإرادة وحرية الاختيار فقط تمكن من القول بأن الإنسان يسأل عن اختيار أو سلوكه طريق الجريمة، واعتباره مخطئا قانونا، لذا فلا يسأل الصغير أو المجنون أو المكره أو النائم، ففي كل هذه الحالات تنعدم المسؤولية الجنائية لعدم قيام الإرادة وحرية الاختيار وبالتالي انتفاء عنصر الخطأ في سلوك الشخص، لأن الخطأ يقاس بمدى إدراك الإنسان لفعله الخاطئ، وللخطأ والمسؤولية الجنائية درجات تقاس وفقا للقدر الذي ينقص به الإدراك والاختيار. إذن باختصار، أساس المسؤولية الجنائية وفقا لأنصار المدرسة التقليدية، وفي جوهرها هي لوم على سلوك مخالف للقانون كان باستطاعة الفاعل أن يسلك غيره، لذا فهي مسؤولية أدبية و أخلاقية. كون الإنسان مخير في أفعاله وليس مسيرا وبالتالي عليه دوما أن يسلك الطريق نحو الفعل غير المجرم وأن يوجه إرادته نحو ذلك[11].

الفرع الثاني
المـــذهب الوضـــعي
مذهب الجبرية أو الحتــمية
        على عكس الاتجاه التقليدي، ذهب أنصار المدرسة الوضعية إلى القول بأن الإنسان ليس مخيرا وإنما مسيرا، وبالتالي تصرفاته ليست وليدة اختياره وحريته، وإنما حتمية عليه لعوامل لا دخل لإرادته فيها، وهي عوامل وراثية وخلقية ومزاجية وبيئية واجتماعية، وما الإرادة إلا ثمرة لهذه العوامل التي قد تدفع الشخص إلى ارتكاب الجريمة كقدر محتوم مكتوب عليه[12]، غير أنه بالرغم من امتناع حرية الاختيار فإن المسؤولية الجنائية لا تمتنع، فيسأل الصبي كما يسأل المجنون، شأنهما شأن الشخص العاقل، وكل ما في الأمر أن المسؤولية قابلة فقط للتخفيف لكنها لا تمتنع.

الفرع الثالث
المذهب التوفـــيقي
        وهو مذهب أقام أنصاره أساس المسؤولية الجنائية على محاسن الاتجاهين السابقين، فأقامها على أساس التمييز وحرية الاختيار، دون إهمال الظروف والعوامل الشخصية والاجتماعية المحيطة بالشخص الجاني.

المطلب الثالث
خصائص المسؤولية الجنائية
        في حقيقة الأمر، تتحدد خصائص المسؤولية الجنائية تبعا للأساس الذي تبنى عليه، وبما أن الأساس السائد في التشريعات الجنائية الوضعية، هو مذهب حرية الاختيار، فإن خصائص المسؤولية الجنائية تبعا لذلك، أن الإنسان هو موضوعها، وبذلك تكون مسؤولية شخصية.

الفرع الأول
الإنسان موضوع أو محل المسؤولية الجنائية
        السائد فقها وتشريعا وقضاء أن الإنسان هو محور أو موضوع أو محل المسؤولية الجنائية، على عكس ما كان سائدا قديما، أين عرفت مسؤولية الحيوان والنبات والجماد، كما أن الجريمة سلوك إرادي، والإرادة جوهر الركن المعنوي للجريمة، وهي التي تقف خلف السلوك الإجرامي وهي الإرادة التي لا يمكن أن تكون إلا إرادة إنسانية تصدر عن إنسان، لذا فالمسؤولية الجنائية لا يتحملها إلا الإنسان كونه المدرك والمميز والفاهم لحقيقة الأفعال والمختار لها، لذا فالإنسان هو الذي يرتكب الجريمة وهو الذي يتحمل مسؤوليتها، خاصة وأن الجزاءات الموجودة بالقانون لا يمكن تصور إنزالها بغير الإنسان، ولا يمكن تصور تحقيقيها لأغراضها إلا إذا نفذت فيه، سواء تمثلت هذه الأغراض في الردع العام أو الردع الخاص
أو التهذيب أو الإصلاح والعلاج. غير أن التطور القانوني انتهى إلى الاعتراف بالمسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، والذي لا يزال يثير الجدل لغاية اليوم، حول إمكانية مسائلة الشخص المعنوي جزائيا، وهو الجدل الفقهي الذي انعكس على التشريعات الوضعية، حيث أنكر اتجاه قيام المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، لكن هو أمر مسلم به في تقنين العقوبات الجزائري.  وهو ما تكون لنا عودة إليه. 

الفرع الثاني
شخصية المسؤولية الجنائية
من المسلمات في القانون الجنائي مبدأ شخصية العقوبة، حيث لا توقع العقوبة إلا من تقررت مسؤوليته الجنائية عن الجريمة التي وقعت، وبالتالي فالمسؤولية الجنائية شخصية، حيث لا تقوم إلا لدى الشخص مرتكب الجريمة أو المساهم فيها بوصفه فاعلا أو شريكا، فالعدالة الجنائية تأبى تحميل المسؤولية لشخص لا علاقة له بالجريمة المرتكبة، وهو مبدأ إلهي تقرر في القرآن الكريم حيث ليس للإنسان إلا ما سعى، في قوله عز وجل في الآيات من 36 إلى 39 من سورة النجم :  وفي الآية 286 من سورة البقرة " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" وفي الآية 46 من سورة فصلت" من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها"، وفي الآية 15 من سورة الإسراء :" ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى" وفي الآية 33 من سورة لقمان :" لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا"، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه".

        غير أن مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية لم تعرفه القوانين الوضعية إلا حديثا، حيث كانت تعرف القوانين القديمة فكرة المسؤولية الجنائية الجماعية، حيث كانت تمتد لتشمل أسرة الجاني وأقربائه وعشيرته، وهو الوضع الذي امتد لغاية ما قبل الثورة الفرنسية، غير أنه اليوم أضحى المبدأ من المبادئ الدستورية والجنائية، حيث لا يعرف القانون الجنائي المسؤولية عن أفعال الغير مثل القانون المدني، ما عدا في بعض الفروض النادرة مثل الجرائم الصحفية....

المبحث الثاني
شروط المسؤولية الجنائية

        في حقيقة الأمر شروط المسؤولية الجنائية تختلف باختلاف الأساس الذي بنيت عليه، فحيث يكون أساسها حرية الاختيار فإن شروطها تتمثل في ضرورة توافر الإدراك وحرية الاختيار، وحيث يكون أساسها الجبرية أو الحتمية فإنه يشترط لتقرير المسؤولية الجنائية توفر الخطورة الإجرامية، لذا يجب أن نتناول كل هذه الشروط، حيث الأصل في أساس المسؤولية الجنائية حرية الاختيار فإن شروطها الإدراك والاختيار، وحيث أساسها الجبرية فإن شرطها الأساسي توفر الخطورة الإجرامية – وهو نضيفه فقط للاستيعاب وننبه مرة أخرى هو أنه من الشروط في القوانين التي تأخذ بمذهب الجبرية-، وهو ما نبينه في المطلب التالي، بعد أن نبين شرط أساسي يتمثل في التمتع بالأهلية الجنائية.

المطلب الأول
التمتع بالأهلية الجزائية
        الأهلية الجزائية مجموعة من الصفات والعناصر التي يتوجب أن تتوفر في الشخص حتى يمكن نسب الجريمة إليه، بوصفه فاعلها عن وعي وإدراك، وهي لا تثبت إلا للإنسان باعتباره الوحيد من بين الكائنات الذي يملك قدرة الإدراك وحرية الاختيار، وكنتيجة لذلك فالجريمة لا يمكن أن يقترفها إلا الإنسان، غير أن صفة الإنسان وإن كانت ضرورية فهي غير كافية لتوفر الأهلية الجنائية، فقد ترتكب جريمة من قبل إنسان غير أن أهليته تمتنع لجنونه أو صغر سنه، وبالتالي ليكون الشخص آهلا لتحمل المسؤولية الجنائية أن يكون حيا وعاقلا وبالغا سنا معينة وهو ما نبينه في النقاط التالية.

الفرع الأول
وقوع الجريمة من إنسان حي
        صفة الإنسان شرط لازم لوصف السلوك المخالف للقاعدة الجنائية بوصف الجريمة، بحيث هذه الأخيرة لا يمكن أن ترتكب إلا من إنسان، وبالتالي الشرط الأول للأهلية الجنائية هو صدور الجريمة عن إنسان، وأن كل فعل صادر عن جماد أو حيوان دون أن يكون هناك دور للإنسان فيه فهو لا يعد جريمة، إذ غير الإنسان مستبعد من الخطاب الجزائي تجريما وعقابا ومسؤولية. كما أنه لا يكفي أن تكون الجريمة صادرة عن إنسان، بل يجب أن يكون هذا الأخير حيا، بالنظر لخاصية شخصية العقوبة التي تعني بداهة سقوطها بوفاة الجاني إذ بذلك تنتفي الغاية من توقيع الجزاء كما ينتفي محلها الذي يوقع عليه.

الفرع الثاني
أن يكون الجاني عاقلا وبالغا
        يعد العقل أساس تحمل المسؤولية، لأن العقل هو مناط الإدراك، لذلك فالشخص المصاب بمرض أو عاهة عقلية لازمته وقت ارتكاب الجريمة انعدمت أهليته وبالتالي مسؤوليته الجنائية، والعقل وفقا لاتفاق التشريعات الجنائية الحديثة يتطلب سنا معينة حتى وإن اختلفت بشأنه التشريعات، فالعقل يتدرج حسب المراحل السنية وهو لا يكتمل قانونا إلا ببلوغ السن التي يحددها قانون العقوبات.

المطلب الثاني
التمتع بالوعي وحرية الإرادة
( التبعة الجــزائية)
        لا يكفي لقيام المسؤولية الجنائية ارتكاب الفعل المجرم من شخص آهل جنائية، أي إنسان حي بالغ سن معينة، بل يجب إضافة إلى ذلك أن يكون متمتع بشرط التبعة الجزائية التي تقوم على عنصري الوعي والإرادة[13].

الفرع الأول
الوعـــــــي والإدراك
        يقصد بالوعي أو الإدراك، قدرة الإنسان على فهم ماهية سلوكه وتقدير ما قد يترتب عليه من نتائج، ويعني في مجال المسؤولية الجنائية أن يعي الشخص أنه بصدد سلوك محظور قانونا، غير أنه باختياره يوجه إرادته نحو القيام به، فيعد بذلك مسؤول جنائيا عنه. والقدرة السابقة في حقيقة الأمر، هي قدرة واقعية تتعلق بماديات الفعل في ذاته ونتائجه، كما هو الأمر في الواقع المألوف، وهي القدرة الاجتماعية التي تستمد من قواعد الخبرة الإنسانية العامة، في التمييز بين الخير والشر، والمسموح والممنوح والمباح والمحظور، وهو الفهم الواقعي من حيث الفعل بذاته وما قد يرتبه من نتائج، وليس الفهم القانوني، حيث الشخص قد يأتي فعلا يجهل أصلا أن قانون العقوبات يجرمه، إذ العلم بقانون العقوبات والتكييف الذي يتضمنه أمر مفترض، فالعلم ليست له علاقة بالإرادة، كونه لا يعذر شخص بجهل القانون. 

الفرع الثاني
حريـــة الإرادة
        ويقصد بحرية الإرادة حرية الشخص على الاختيار وقدرته على توجيه سلوكاته نحو القيام بالفعل  أو تركه، وحتى تتوفر حرية الإرادة يجب أن يكون الفعل مما يمكن القيام به، بحيث إذا كان مستحيلا فلا محل للقول بحرية الإرادة، وأن يكون أمام الشخص بدائل تمكنه من الاختيار من بينها.كما تعني الإرادة  توجيه الذهن إلى تحقيق عمل معين، فهي إرادة قد تكون واعية، كما قد تكون غير واعية، فالمجنون يريد أفعاله والصغير كذلك، غير أن إرادتهما غير واعية، والإدراك يجب توفره وقت إتيان الجريمة، أي الأفعال المادية المكونة لها حيث يجب أن يكون معاصرا لها، فإن انتفى يكون شرط أساسي من شروط قيام المسؤولية الجنائية قد تخلف وبالتالي لا تقوم، أما قدرة الاختيار فتعني قدرة الشخص على توجيه إرادته، إذ يفترض تعدد الخيارات أمام الشخص ومن ثم يوجهها الوجهة التي يختارها، الأمر الذي يجعل منه يختلف عن الإرادة، فهذه الأخيرة تتعلق بالجريمة في ركنيها المادي والمعنوي، بينما حرية الاختيار موقعها المسؤولية الجنائية كمحصلة لأركان الجريمة مجتمعة، ومعلوم انه قد توجد  الجريمة وتتخلف المسؤولية، وحرية الإرادة موجود متى كانت الظروف المحيطة بالجاني تركت له حرية التصرف، بينما هناك ظروف تنقص منها أو قد تعدمها مثل الإكراه أو الضرورة، وبذلك يتعين الإنقاص من المسؤولية الجنائية أو امتناع قيامها أصلا تبعا للمقدار الذي ترك لحرية تصرف الشخص.
        ومثلما ذكرنا سابقا، سنضيف شرط ثالثا يتعلق بشروط المسؤولية في القوانين التي تأخذ بالجبريةن وهو شرط الخطورة الإجرامية.

الفرع الثالث
شرط الخطورة الإجرامية
        وهي فكرة اعتنقها أنصار المدرسة الوضعية لتأسيس المسؤولية الجنائية، ومنها قرروا استبعاد العقوبات التقليدية وإحلال التدابير الاحترازية محلها لحماية المجتمع من تكرار الجريمة في المستقبل، وتعرف الخطورة الإجرامية بأنها: حالة أو صفة نفسية لصيقة بشخص الجاني تنذر باحتمال إقدامه على ارتكاب جريمة أخرى في المستقبل، ومن هذا التعريف تتضمن الخطورة الإجرامية عنصرين، الجريمة السابقة المرتكبة، واحتمال وقوع جرائم جديدة في المستقبل. فشرط الجريمة السابقة أو التي وقعت شرط أساسي من شروط القول بانطواء الشخص على خطورة إجرامية، فضرورة ارتكاب الجريمة وتوقيع التدبير يحكمه مبدأ الشرعية الجنائية، حيث مثلما تخضع العقوبة لهذا المبدأ، فالتدابير الاحترازية تخضع له أيضا، وبالتالي بجب توفر هذه الجريمة وإلا فلا مجال للقول بالخطورة الإجرامية حتى ولو كانت نفسية الجاني تنطوي على خطورة اجتماعية عالية، بالرغم من أن البعض عارض ذلك، بحجة عدم وجوب انتظار وقوع ضرر الجريمة ما دامت الخطورة متوفرة، فيمكن توقيع التدابير دون انتظار وقوع الجريمة، دفاعا عن المجتمع.
        وأما الشرط الثاني للقول بتوفر الخطورة الإجرامية، فيتمثل في احتمال وقوع جريمة جديدة في المستقبل، وهو ما تكشف عنه الجريمة السابقة التي تبين الشخصية الإجرامية لدى الجاني، وتوفر دلالات وإمارات لديه يخشى مع توفرها إقدام الجاني على ارتكاب جرائم جديدة في المستقبل، فالإمارات ضرورية بالنظر لكون الخطورة الإجرامية حالة نفسية يستحيل تبينها وإثباتها ما لم يتدعم بإمارات ودلالات تدل عليها، وفحص شخصية الجاني للبحث عن الاستعدادات الجنائية لديه وذلك من مختلف نواحي شخصيته، مثل بعض الظروف التي ترتكب فيها الجريمة، أو ارتكاب جرائم جسيم.

الفصل الثاني
موانع المسؤولية الجنائية

        سبق القول أن جوهر المسؤولية الجنائية يقوم على الوعي والإدراك الذين يسيران حرية الاختيار، وبالتالي تمتنع المسؤولية الجنائية كلما انعدم هذا الوعي أو هذه الإرادة، ويترتب على ذلك عدم توقيع العقوبة على الشخص بالرغم من ارتكابه للجريمة على النحو الموصوف قانونا، وبالرغم من توفر أركانها القانونية العامة والخاصة، مع ما تتضمنه هذه الأركان من عناصر قانونية، غير أن امتناع المسؤولية وإفلات الفاعل من العقوبة لا يمنع من خضوعه للتدابير الاحترازية أو تدابير الأمن، كصورة من صور الجزاء، لأنه سبق القول أنه إن كانت المسؤولية أساس توقيع العقوبة، فأساس توقيع التدابير هو توفر الخطورة الإجرامية. وبالتالي موانع المسؤولية قد تكون ناشئة عن انعدام الإرادة، مثل حالة الإكراه وحالة الضرورة – في القوانين التي تجعل منها مانعا من موانع المسؤولية لا سببا من أسباب الإباحة-، وإما أن تكون ناشئة عن انعدام الوعي مثل صغر السن أو الجنون، وهو ما نتناوله في مبحثين متتاليين، نتناول في الأول موانع المسؤولية الناشئة عن انعدام الوعي، وفي الثاني تلك المتعلقة بانعدام الإرادة.
لكن قبل ذلك، نود أن نشير أن كون المسؤولية تقوم على كل من الإدراك وحرية الاختيار وتخلف أحد هذين العنصرين أو تخلف أحدهما يترتب عليه انتفاء وتخلف المسؤولية الجنائية، أو الحيلولة دون توقيع شق الجزاء لأسباب شخصية توفرت في مرتكب الجريمة أو علقت بشخصه، مع بقاء بفعله يتسم بالصفة التجريمية من الناحية القانونية، كما قد تقيم مسؤوليته المدنية عنها، ولأن موانع المسؤولية الجنائية أسباب شخصية، فهي لا تنتج أثرها إلا بخصوص الشخص الذي توفرت لديه دون باقي المساهمين أو الشركاء معه في الجريمة، والفرق واضح ما بين مبدأ الشرعية الذي يقضي بالا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وفكرة المسؤولية الجنائية المبنية على فكرة الخطأ، فمبدأ الشرعية لما ينظر للأفعال المجرمة أنها أفعال ماسة بالقيم الجماعية المشتركة، التي يعد إتيانها مصدرا للوم الاجتماعي، كونها تمثل اعتداء على القواسم المشتركة بين أفراد المجتمع، وهم الأفراد الذين يصنفون إلى محترم ومعاد لهذه القيم والقواسم الاجتماعية المشتركة، ومبدأ الشرعية يعني لا وجود للجريمة ما لم يكن الفعل مخالف لنص جنائي، وبالتالي وفقا للمبدأ لا فرق بين الشخص المسؤول وغير المسؤول، فالشخص الذي توفر لديه مانع من موانع المسؤولية إذا ما أتى هذا الفعل فوفقا لمبدأ الشرعية قد أتى جريمة، ما دامت تصرفاته تخالف النصوص الجنائية، ولا أحد بمقدوره القول غير ذلك، كون موانع المسؤولية في حقيقة الأمر لا تمنح الحق لهؤلاء بمخالفة قانون الجماعة الذي ارتضته لنفسها، وبالتالي لا تأثر لموانع المسؤولية من كونها تصرفات مجرمة، أو أفعال تشكل جرائم، فتعليق المسائلة يتعلق بالشخص لا الفعل وبمن توفر لديه السبب دون غيره ممن ساهم معه في ارتكاب الجريمة ما لم يكن يتوفر لديه ذات المانع. ويرى البعض أن دراسة موانع المسؤولية الجنائية، يبرز فكرتين رئيسيتين، هما الشعور والإرادة، فالشعور الآثم والإرادة الآثمة هما أساسا المسؤولية الجنائية، وكلما انتفى الإثم عنهما انتفت المسؤولية الجنائية، وذلك لا يعني أنه هناك سببين لمنع المسؤولية الجنائية، وإنما هما فكرة واحدة.وعلى ذلك، فكرة الجريمة مستقلة عن فكرة المسؤولية الجنائية، غير أن ذلك لا يعني الاستقلال التام بينهما، فالمسؤولية الجنائية لا يمكن أن تستمد وجودها إلا من خلال الجريمة، فبدون الجريمة لا يمكن تصور من هم مسؤولين عنها، غير أنه بالإضافة لوجود الجريمة، تقتضي المسؤولية الجنائية زيادة عن ذلك وجود فكرة الخطأ، وإذ قلنا الخطأ، فذلك يعني بالضرورة حرية الإرادة، واختيار ارتكاب الجريمة سواء تعمدا أو بغير عمد، وعموما أن يكون الشخص في موضوع نفسي يسمح له بالحكم على تصرفاته، فالمشرع لا يولي قيمة قانونية إلا للتصرفات التي يأتيها من بإمكانه تقييم تصرفاته.
لذا فموانع المسؤولية أسباب أو أحوال أو أمور تعترض سبيل المسؤولية الجنائية فتخفف منها
أو تعدل مسارها أو تعدمها كلية، ومنها ما هو طبعي كصغر السن، وبعضها عارض أو مؤقت مثل الجنون وعاهة العقل والإكراه المعنوي وحالة الضرورة – في بعض القوانين-، وهي موانع شخصية على خلاف أسباب الإباحة، وأنها لا تزيل الصفة التجريمية عن الفعل لذا فهي تمنع توقيع العقوبة فقط دون التدابير الاحترازية وقيام المسؤولية المدنية، عكس أسباب الإباحة، غير أنها قريبة جدا من موانع العقاب، كون هذه الأخيرة بدورها شخصية، غير أن وجه للخلاف أن موانع العقاب لا تمحي الجريمة ولا تستبعد المسؤولية الجنائية عنها، بل تستبعد العقاب فقط، وذلك لتوفر بعض الاعتبارات الاجتماعية التي يقدر معها المشرع إعفاء الشخص من العقاب خير من توقيعه عليه.
ويذهب رأي في الفقه أن موانع المسؤولية الجنائية لم ترد في قانون العقوبات على سبيل الحصر، فهي وردت على سبيل المثال لذا يمكن أن تستوعب كل ما يسفر عنه العلم أو الواقع العملي من أسباب أخرى، على عكس اتجاه فقهي آخر يرى أن موانع المسؤولية وردت في قانون العقوبات على سبيل الحصر، وأن كل ما في الأمر أنها تقبل التفسير الواسع والقياس على عكس مسائل التجريم والعقاب.

المبحث الأول
موانع المسؤولية الناشئة عن انعدام الوعي

        من الموانع التي تمنع المسؤولية الجنائية من القيام قانونا، وتتعلق بانعدام الوعي لدى الشخص الذي يتجرد من ملكتي الوعي والإدراك، وبالتالي من القدرة على فهم دلالة أفعاله وإدراك أبعادها القانونية، هما مانعين أساسيين، الجنون وصغر السن، وهناك من التشريعات تضيف مانع ثالث يتعلق بالغيبوبة الناشئة عن السكر الاضطراري. وسنتناول كل مانع من هذه الموانع في مطلب مستقل.

المطلب الأول
صغر السن كمانع للمسؤولية الجنائية
        سبق القول أن قوام المسؤولية الجنائية يتمثل في الوعي والإدراك، أي قدرة الشخص على فهم حقيقة أفعاله وتمييز ما هو مباح وما هو محظور منها، وذلك بالضرورة لا يمتلكه الشخص دفعة واحدة ولا أن يولد معه، بل تنمو هذه الملكة بنمو الشخص وتقدمه في السن، فالشخص يولد منعدم الوعي والإدراك ويبقى كذلك في السنوات الأولى من عمره، والمسماة بمرحلة الطفولة، لتبدأ هذه الملكة في النمو لديه شيئا فشيء مع تقدم السنين، غير أنها تبقى منقوصة في مرحلة الطفولة المنقوصة ومرحلة المراهقة، وهي المسألة التي تراعيها التشريعات الجنائية في خطابها للأشخاص، فهي لا تحاسب الأطفال عن أخطائهم الجنائية مثلما تحاسب البالغين، بل أن مسؤولية الطفل أو الصبي غير المميز تتدرج بحسب المرحلة السنية التي يمر بهـــا[14]

الفرع الأول
علة عدم مسائلة الحدث
صغر السن من الأسباب المتعلقة بفقدان التمييز، شأنه شأن الجنون والسكر، باعتبار الصغير لا يعقل كنه الفعل أو الترك، إذ ليس بمقدوره أن يتخذ موقفا عقلانيا يعتد به القانون ويحاسبه أو يعاقبه عليه، حيث ينظر الصغير لقيم المجتمع نظرة مادية غريزية تدنو من الغرائز الحيوانية، والمشرع لا يخاطب الحيوانات، كون مثل هذه القيم تكتسب بالتدرج في الضمير الإنساني لغاية اكتمال النمو العقلي والنفسي، غير أن مثل هذه السن لم يقع عليها اتفاق الفقه الحديث، وإن كانت فكرة معاملة الأحداث معاملة متميزة قد بدت منذ القدم، ونجد إميل غارسون قد نادى بإخراج الأحداث من قانون العقوبات،  وذلك منذ بداية القرن العشرين، وفعلا خرج الأحداث من نطاق قانون العقوبات فعلا من سنة 1945 وحذت الكثير من الدول العربية حذو ذلك، حيث يخضع الأحداث إلى إجراءات تربوية وإصلاحية وحماية ومراقبة، مما يبعد فكرة المسؤولية الجنائية عن الأحداث، غير أن تقسيم مراحل السن للحدث لا يزال يثير الخلاف ويطرح الإشكاليات.
        وتختلف التشريعات العقابية الوضعية في تحديدها السن التي يعد فيها الشخص قد بلغ سن الرشد الجنائي، وبالتالي مسؤول جنائيا، وذلك باختلاف السياسة الجنائية التي نتهجها كل دولة، إلا أن غالبية التشريعات تعتبر الطفل ما دون سن السابعة منعدم التمييز وبالتالي تنعدم مسؤوليته الجنائية عن كل الأفعال المحظورة التي يأتيها[15]، وهي السن التي تمتد في قوانين أخرى لحد سن الثانية عشر وحتى سن الخامسة عشر في قوانين أخرى.

الفرع الثاني
موقف المشرع الجزائري
        قضت المادة 49 من تقنين العقوبات الجزائري على أنه: :" لا توقع على القاصر الذي لم يكمل الثالثة عشر إلا تدابير الحماية أو التربية.ومع ذلك فإنه في مواد المخالفات لا يكون محلا إلا للتوبيخ. ويخضع القاصر الذي يبلغ سنه من 13 إلى 18 إما لتدابير الحماية أو التربية أو لعقوبات مخففة.". وباستقراء هذا النص، نجد المشرع الجزائري قد قسم المراحل السنية إلى ثلاثة مراحل، وتبعا لها تتدرج المسؤولية الجنائية للشخص، المرحلة الأولى وهي مرحلة ما دون سن الثالثة عشر، والمرحلة الثانية الممتدة من 13 حتى 18، ومرحلة المسؤولية الكاملة ما بعد 18 سنة.

أولا: المرحلة الأولى: ما دون ال 13 سنة (مرحلة انعدام المسؤولية )
        وفي هذه المرحلة تكون أهلية الشخص قانونا منعدمة تماما، وهي المرحلة التي لا يكون فيها الشخص مسؤول إطلاقا، والعبرة في تحديد السن هي بيوم ارتكاب الجريمة حتى ولو كان الشخص يوم المحاكمة قد فاق هذه السن، وهو ما حددته المادة 443 من قانون الإجراءات الجنائية الجزائري، غير أن انعدام مسؤولية الصبي في هذه الفترة لا يمنع من إخضاعه لتدابير الحماية أو التربية التي ترمي لحماية الحدث لا لعقابه. وذلك لا يعني أن مسؤوليته مخففة، بل هي مسؤولية جنائية منعدمة، وتدابير الحماية والتربية مقررة لمصلحته خارج المؤسسات العقابية.
ثانيا: المرحلة الثانية: المرحلة بين 13-18(المسؤولية الجنائية المخففة ( الناقصة))
        المرحلة الممتدة بين سن الثالثة عشرة والثامنة عشرة، تكون فيها أهلية الشخص ناقصة وتبعا لذلك تكون مسؤوليته الجنائية مخففة، وفي هذه المرحلة التي يعد فيها الشص حدثا تطبق عليه إما تدابير الحماية والتربية شأنه شأن الصبي غير المميز، أو تطبيق بعض العقوبات المخففة المنصوص عليها ضمن المادة 50 من تقنين العقوبات الجزائري، التي قضت أنه: :" إذا قضي بأن يخضع القاصر الذي يبلغ سنه من 13 إلى 18 لحكم جزائي فإن العقوبة التي تصدر عليه تكون كالآتي: 1-إذا كانت العقوبة التي تفرض عليه هي الإعدام أو السجن المؤبد فإنه يحكم عليه بعقوبة الحبس من عشر سنوات إلى عشرين سنة. 2-      وإذا كانت العقوبة هي السجن أو الحبس المؤقت فإنه يحكم عليه بالحبس لمدة تساوي نصف المدة التي كان يتعين الحكم عليه بها إذا كان بالغا.". كما أضافت المادة 51:" في مواد المخالفات يقضى على القاصر الذي يبلغ سنه من 13 إلى 18 إما بالتوبيخ وإما بعقوبة غرامة."
ثالثا: المرحلة الثالثة: مرحلة البلوغ(المسؤولية الجنائية الكاملة)
        مرحلة بلوغ الشخص وفقا لقانون العقوبات الجزائري هي ببلوغه سن الثامنة عشر سنة حسب المادتين 49 من تقنين العقوبات الجزائري وكذا نص المادة 442 من تقنين الإجراءات الجزائية الجزائري، وببلوغ الشخص هذه المرحلة السية يكون مسؤول مسؤولية جنائية كاملة.

المطلب الثاني
الجنون كمانع للمسؤولية الجنائية
        الجنون هو فقدان الشخص لملكاته العقلية على نحو يجرده من الوعي والإدراك، وكذا القوة على التمييز، وقد نصت المادة 47 من تقنين العقوبات الجزائري، على أنه:" :" لا عقوبة على من كان في حالة جنون وقت ارتكاب الجريمة وذلك دون الإخلال بأحكام الفقرة 2 من المادة 21 [16]."[17].وبالتالي المشرع اعتبر الجنون أو عاهة العقل مانعا من موانع المسؤولية الجنائية، بالنظر لما يرتبه من فقدان للشعور والتمييز والإرادة، غير أن الجنون وإن كان يحول دون مسائلة الشخص بتوقيع العقوبات عليه، فإنه لا يحول دون إنزال التدبير الاحترازية عليه باعتباره ينطوي على خطورة إجرامية، وبذلك في العادة ما يوضع في المصحات العقلية أو النفسية. وسنتناول تفصيل حكم هذا المانع، في فرع، لنخصص الثاني لشروط الاستفادة منه.

الفرع الأول
حكم الجنون وعاهة العقل
وهو مانع نصت عليه أيضا المادة 62 من تقنين العقوبات المصري، والمادة 122-1 من تقنين العقوبات الفرنسي على أنه :" لا يسأل جنائيا من كان وقت ارتكاب الفعل مصابا بمرض عقلي أو عصبي أو عدم تمييزه أو القدرة على التحكم في أفعاله ". ونص على الجنون في القانون اللبناني المادتان 231 و232 من قانون العقوبات، حيث نصت الأولى على أنه:" يعفى من العقاب من كان في حالة جنون أفقدته الوعي والإرادة"، ما يلاحظ على النص وإن كان أقامها على أساس فقد الوعي والإرادة التي تقوم عليهما المسؤولية الجنائية إلا أنه أسبق المادة بعبارة " لا عقاب " مما قد يفهم منه أن الجنون مانع من موانع العقاب لا مانع من موانع المسؤولية، ولم يبن كل هؤلاء المشرعين ولا المشرع الجزائري مدلولا محددا للجنون أو عاهة العقل، لذا يرى غالبية الفقه، أنه في قانون العقوبات، يقصد بالجنون، الاضطراب الحاصل في القوى العقلية للشخص بعد تمام نموها بما يؤدي إلى فقد القدرة على التمييز والإدراك، وقد يكون الجنون نتيجة مرض يصيب المخ أو ناتج عن شيخوخة طاعنة في بعض الحالات، كما يمكن أن يكون الجنون مطبقا إذا أصاب كل الملكات الذهنية للشخص، وهنا يفقد الأهلية ويمنع قيام المسؤولية، وقد يكون متقطعا يأخذ صورة نوبات تتخللها فترات إفاقة، وهنا لا يرتب أثره إلا إذا ارتكبت الجريمة أثناء إحدى نوبات الجنون دون نوبات الإفاقة[18].
        والجنون بمعناه العام، يشمل حالة العته أو البله أو الضعف العقلي وهي الحالة التي تصاحب الشخص منذ ولادته وتفيد وقوف ملكاته العقلية أو الذهنية دون مستوى النضج الطبيعي، بمعنى يجب النظر لفكرة الجنون كمانع من موانع المسؤولية ليس بمعناه القانوني أو بمعناه الطبي الدقيق، بل يجب أن يمتد ليغطي كل الحالات المرضية التي من شأنها أن تؤدي إلى فقد الوعي أو الإرادة، سواء وصفت بالجنون أو وصفت بغير ذلك، بما يجعله يشمل كل من الأمراض العقلية والعصبية والنفسية التي تؤثر في المخ فتفقده الوعي والإرادة المعاصر لارتكاب الجريمة. لذا نجد بأنه عرف، بأنه فقدان الشخص لملكاته العقلية على نحو يترتب عليه تجرده من الوعي والقدرة على التمييز، وإن كان يؤدي إلى امتناع المسؤولية فهو لا يمنع من اعتباره خطرا إجراميا لا يحول دون توقيع التدابير الاحترازية كالإيداع في مصحة عقلية. وقد أخذ حكم المجنون الشخص المصاب بالبارنوياك Baranoiaque  وهو الشخص الذي تأتيه نوبات هذيان وشك وريبة، فهنا قد يضطر حد قتل من يضطره، ويسمى جنون Manie أو هذيان الاضطهاد غير أنه مسؤول مثلا عن السرقة إذ لا علاقة لها بمثل هذا الاضطهاد[19].        
        غير أن أنصار المدرسة الوضعية الإيطالية كانت لههم نظرة أخرى، فاعتبروا المجنون مسؤول جنائيا ولا يمكن أن يخرج عن نطاق القانون الجنائي، حيث أن مسؤوليته اجتماعية أساسها الخطورة الإجرامية الكامنة لديه، وبالتالي يجب توقيع التدابير الاحترازية عليه وذلك بوضعه في المصحات العقلية حتى يشفى من نونه وتزول خطورته الإجرامية، ورغم أن التشريعات الحالية تميل للاتجاه التقليدي، المتمثل في بناء المسؤولية الجنائية على حرية الاختيار، ومن ثم لا يمكن مسائلة المجنون جنائيا لانعدام هذه الحرية لديه، وإن كانت تأخذ بفكرة التدابير الاحترازية بخصوص المجنون وهو ما يعني الأخذ أيضا بأفكار المدرسة الوضعية.

الفرع الثاني
الشروط الواجب توفرها لامتناع المسؤولية بسبب الجنون
        حتى يعد الجنون مانعا من موانع المسؤولية الجنائية، يجب أن تتوفر فيه ثلاثة شروط أساسية، هي:
1- إصابة المتهم فعلا بجنون أو عاهة عقلية.2- فقد الشعور أو الاختيار بخصوص العمل الذي سلكه الشخص.3- معاصرة الجنون أو العاهة العقلية لوقت ارتكب الجريمة. وهو ما نتناول تفصيله في النقاط الثلاث التالية.
أولا: إصابة المتهم بجنون أو عاهة عقلية
        الجنون من وجهة النظر القانونية، يشمل كافة صور اضطراب القوى الذهنية لدى الشخص، الأمر الذي يفقده التمييز وحرية الاختيار، لذا نجد القاضي الجزائي لا يتقيد بالمعنى الطبي الدقيق للجنون، بل يكفيه أن يتأكد من أن أثر العاهة العقلية أفقدت الشخص التمييز أو حرية الاختيار لحظة ارتكابه الجريمة، سواء كان ذلك راجعا لمرض يصيب المخ، وهو الجنون في معناه الطبي[20]، أو خلل يصيب الجهاز العصبي للشخص، أو أي اضطراب في الصحة النفسية له، لكن يستبعد من مدلول الجنون كل صور الاختلالات والاضطرابات النفسية، كحالات الشخصية السيكوباتية التي تسيطر على الشخص فتجعله في عداء مستمر مع المجتمع، وكذا حالات الانفعال الشديد أو حالات ثورة العاطفة.
ثانيا: فقد الشعور أو القدرة على الاختيار
        إن لم يؤدي الجنون أو عاهة العقل إلى إفقاد الشخص لشعوره وقدرة اختياره، فلا يعد مانعا من موانع المسؤولية، ولا يقصد بفقد الشعور والاختيار زوالهما زوالا تاما، بل يكفي إضعافهما أو الانتقاص منهما إلى حد التأثير على إرادة الجاني، وهي مسألة موضوعية متروكة لتقدير قضاة الموضوع دون معقب عليهم من محكمة النقض، وللقاضي في ذلك حق الاستعانة بالخبرة الطبية والنفسية.
ثالثا: معاصرة الجنون لوقت ارتكاب الجريمة
        حتى يعد الجنون أو العاهة العقلية مانعا من موانع المسؤولية، يجب أن يكون معاصرا لوقت ارتكاب الجريمة، أي أن يعتري الشخص لحظة ارتكابه الجريمة ( وبالضبط ارتكاب ركنها المادي)، فلا عبرة قانونا بالجنون السابق لهذه اللحظة، إذا كان الشخص قد عفي منه وقت ارتكابه الجريمة، ولا عبرة أيضا بالجنون
 أو العاهة العقلية التي تطرأ على الشخص بعد ارتكابه الجريمة، بحيث في هذه الحالة يعد سببا يحول دون مواصلة إجراءات الدعوى أو امتناع توقيع العقوبة عليه، بحيث إن اعترى الشخص جنون بعد ارتكاب الجريمة وقبل إجراءات المحاكمة فإن ذلك يعد حائلا يحول دون محاكمته، وإن اعتراه الجنون وقت المحاكمة توقفت إجراءاتها، وإن طرأ بعد المحاكمة وصدور الحكم، فإنه يوقف فقط تنفيذ العقوبة لغاية شفائه إن كان جنونا من النوع الذي يشفى. غير أنه وفقا للقانون الجزائري وتطبيقا للمادة 21 من تقنين العقوبات فإنه تنزل به التدابير الاحترازية المتمثلة في مؤسسة استشفائية للأمراض العقلية[21].
        وباستجماع المرض أو العاهة العقلية للشروط الثلاثة السابقة، يصبح مانعا من موانع المسؤولية الجنائية، يمنع توقيع العقوبة على المصاب به، وهو من الموانع الشخصية التي على غرار موانع المسؤولية كلها لا يستفيد منه إلا من توفر في حقه.

المبحث الثاني
موانع المسؤولية الناشئة عن انعدام الإرادة

        إن امتناع المسؤولية الجنائية – يسميها البعض عوارض المسؤولية-  لا يشترط أن يكون ماسا بالوعي والتمييز فقط، وذلك بأن ينعدما، بل قد يكون الإنسان مميزا وعاقلا وواعيا لحقيقة ودلالات فعله، لكنه قد يكون متجرد من إرادته كلية كما في حالة الإكراه المادي، وقد ينتقص منها فقط على نحو يجعلها إرادة معيبة غير حرة، مثلما هو الأمر بالنسبة للإكراه المعنوي وحالة الضرورة- في القوانين التي تجعل منها سببا من أسباب الإباحة- وكذا الغيبوبة الناشئة عن التخدير أو السكر الاضطراري في بعض الدول، لذا سنتناول هذا المبحث من خلال مطلبين، نتناول فيهما فقط حالة الإكراه بنوعيه، وكذا حالة الغيبوبة الناشئة عن السكر، دون حالة الضرورة التي تناولناها في مجال أسباب الإباحة، وأنه يشترط فيها ذات الشروط التي سبق تناولها حتى ولو كانت مانعا من موانع المسؤولية. 

المطلب الأول
الإكــــــــــراه
        الإكراه نوعان، إكراه مادي وهو الذي تنعدم فيه إرادة الشخص كلية، ومثاله أن يمسك شخص بيد شخص آخر ويجبره على التوقيع على محرر مزور، أو على شيك بدون رصيد، وهو نوع من الإكراه يعدم الإرادة كلية، وفي هذه الحالة لا يسأل الشخص عن جرائمه. وهناك إكراه معنوي، وهو إكراه لا يعدم الإرادة تماما، وإنما يجردها فقط من حريتها، كالتهديد بإنزال الأذى بشخص إن لم يرتكب جريمة ما، والإكراه كمانع من موانع المسؤولية تضمنته المادة 48 من تقنين العقوبات الجزائري[22].وسنحاول أن نتناول نوعا الإكراه وأنواعه، قبل أن نتناول الشروط المتطلبة فيه حتى يكون مانعا من موانع المسؤولية.

الفرع الأول
نوعـــــــا الإكراه
        هناك نوعين للإكراه، إكراه مادي أين تنعدم إرادة الفاعل في حقيقة الأمر ولا يكون لها وجود، ويلحق بالإكراه المادي حالة القوة القاهرة والحادث الفجائي، وبين الإكراه المعنوي أين تبقى الإرادة لكن مجال الاختيار أمامها يكون ضيقا إلى أبعد الحدود. أو هو وجود الشخص في وضع لا يمكن معه إلا ارتكاب الجريمة، والمشرع الفرنسي في نص المادة 64 لما عالج مسألة الإكراه والجنون عالجها بطريقة توحي انه يعتبرهما من أسباب الإباحة حيث يشرع في المادة بالنص:" لا جناية ولا جنحة". والإكراه في معناه العام، هو حمل الغير على إتيان ما يكره، وفي المجال الجنائي هو حمل الشخص على إتيان جريمة، سواء كانت في صورة فعل أو امتناع، وهو كما سبق على نوعين، مادي وهو ما يقع في الغالب على جسم الغير ويعطل دائما إرادته، وأما المعنوي أو الأدبي فينصب على معنويات الغير ويحد كثيرا من حرية الاختيار، واختلاف النوعين في الطبيعة يترتب عليه بالضرورة اختلاف في الحكم القانوني، ويرى البعض أن الأول يعد مانع من قيام الجريمة والثاني مانع من موانع العقاب.
أولا: الإكـــراه المــادي(La contrainte physique)
        الإكراه المادي هو أن يحمل الجاني بالقوة المادية التي يكون مصدرها فعل الإنسان على إتيان الفعل أو الامتناع المكون للجريمة، أي دفع الشخص باستعمال قوة مادية ليس بمقدوره دفعها، كحجز الشاهد حتى لا يشهد في المحكمة بالجريمة المستدعى للإدلاء بشهادته فيها، ومن يباشر الإكراه المادي في حقيقة الأمر يباشر سلب لإرادة من وقع عليه الإكراه فيحمله على إتيان عمل أو الامتناع عن القيام بعمل. ومن غير العدل والمنطق معاقبة الشخص أو مسائلته عن فعل لم يكن لإرادته دور في ارتكابه، غير أن كلاهما يعد مرتكبا للجريمة كفاعل أصلي للجريمة، غير أن أحدهما مسؤول عنها والآخر غير مسؤول عنها، كوننا نتكلم عن مانع من موانع المسؤولية، مما يعني أن الجريمة أمر وقوعها ثابت، وعرف الإكراه المادي، بأنه قوة مادية تشل الإرادة وتعدمها بصفة عارضة أو مؤقتة وتفقد الإنسان سيطرته على أعضاء جسمه وقد تدفعه إلى ارتكاب ماديات إجرامية، أو هي قوة مادية تفرض على الإنسان عمل ما لا يجب عليه أن يعمله، أو تمنعه من عمل ما يجب عليه عمله، وقد يكون مصدر تلك القوة خارجي، كقوة الطبيعة أو الحيوان أو الإنسان، وهو الغالب، وقد يكون مصدرها داخليا، كان يصاب الشخص بشلل مفاجئ فيسقط على طفل فيقتله، أو يأخذ النوم إنسان في قطار فيتجاوز المسافة التي لأجلها دفع أجرة القطار..     والقاعدة أن من يسأل في حالة الإكراه المادي هو الشخص المكره لا الذي وقع عليه الإكراه، كون قصده الجنائي في مثل هذه الحالة يكون قد انتفى، بل أن الركن المادي في حقيقته لم يقم به الشخص الذي وقع عليه الإكراه بل من مارس هذا الإكراه. ويشترط لكي يرتب الإكراه أثره أن تكون القوة التي تعرض لها المكره قوة غير متوقعة وغير مستطاع مقاومتها، وإلا عد المكره مرتكبا لجريمة غير عمدية. الأمر الذي يتطلب منا تناول القوة القاهرة والحادث الفجائي في النقطتين التاليتين.
1- القوة القاهرة la force majeur   
        القوة القاهرة في هذا المقام تلحق في حكمها بالإكراه المادي حسب البعض - نحن نرى أنها حالة الضرورة وليست إكراها ماديا -  كون الجاني في كلتا الحالتين لا يأتي نشاطا إراديا غير أنه في حالة الإكراه سلب الإرادة يكون بفعل نشاط إنساني، بينما في حالة القوة القاهرة يكون بفعل قوى الطبيعة أو فعل الحيوان، ويضيف البعض حتى حالة فعل الشخص الغير مسؤول جنائيا، كما أن الفرق الجوهري هو أنه في حالة الإكراه المادي يكون هناك فاعل ألي للجريمة وهو من مارس الإكراه، بينما في حالة القوة القاهرة لا يكون أمامنا مسؤول، غير أنهما يشتركان في الشروط بحيث كلاهما يشترط عدم إمكان التوقع    imprévisible  وألا يكون بإمكان الشخص مقاومة هذه القوةirrésistible .، وإن انعدم أحد هذين الشرطين سؤل الشخص بحسب الأحوال عن جريمة عمدية أو غير عمدية فمن يركب حيوان يعلم أنه جامح وصعب المراس ويتعمد ذلك ويحدث بذلك أضرارا للغير، أو المرأة المتزوجة التي كان بإمكانها مقاومة مغتصبها ولم تفعل تكون قد ارتكبت جريمة الزنا.                 
2- الحادث الفجائي cas fortuit
         الحادث الفجائي قوة غير متوقعة تنشأ عن فعل الإنسان أو قوى الطبيعة التي لا تترك مجالا أمام الشخص ليعمل فيه اختياره، كدفع طفل أمام سائق سيارة كان متبعا كافة التعليمات القانونية أو سائق السيارة الذي يصاب بعمي ألوان مفاجئ فيدهس شخصا كان مارا أمامه بالطريق، وهو بذلك شأنه شأن القوة القاهرة لا يكون أحدا مسؤولا عنه، غير أنه خلافا لحالتي الإكراه المادي والقوة القاهرة هنا الشخص يمارس نوعا من النشاط لكنه نشاط مشروع غير مجرم ولا ينطوي على خطأ، ويشترط فيه أيضا ألا يكون متوقعا ولا يمكن مقاومته. لذا فشروط الإكراه المادي أن يكون غير متوقع، إذ التوقع أو إمكانية التوقع تمكن الشخص من تجنبه، وأن يكون مستحيل الدفع، ولم يرد أن يكون مصدره إنسان، حيث أن هذا الاتجاه يرد أسباب الإكراه المادي إلى عوامل الطبيعة أو الحيوان. 
ثانيا: الإكـراه المعـــنويLa contrainte morale        
الإكراه المعنوي، هو ممارسة ضغط على إرادة الإنسان لحمله على ارتكاب جريمة معينة، فهو وإن لم يقض على وجود الإرادة نهائيا من الناحية المادية، فهو شل حركتها وأفقدها قوتها على الاختيار. أو هو ضغط شخص على إرادة شخص آخر لحمله على توجيهها إلى سلوك جرمي[23]. وهناك من الفقه من يصور حالة الإكراه المعنوي الخارجي ويضيف لها الإكراه المعنوي الداخلي، المتمثل في حالة الانفعال الشديد والهوى الذي يذهب بقوى الضبط والسيطرة لدى الفرد وهي القوى الكابحة، غير أن مثل هذه الحالات وإن كانت تمنع قوى الإرادة، إلا أن المشرع الفرنسي والجزائري لم يأخذا بها، خاصة وان الحقيقة الواعية تؤكد أن غالبية الجرائم هي نتيجة مثل هذه الحالات، لذا فالقانون لا يجعلها مانع من موانع المسؤولية، بل يلقي على الإنسان عبء مقاومتها[24]. وقد يكون مصدر الإكراه المعنوي، تأثير خوف أو من وقوع خطر أو ضرر جسيم على وشك الوقوع وليس بالإمكان الإفلات منه أو دفعه إلا بارتكاب الجريمة، كتسليم شخص لوديعة مودعة لديه تحت تأثير التهديد بالقتل مما يحول دون ارتكابه لجريمة خيانة الأمانة، أو أن تأتي المرأة المتزوجة فعل الزنا تحت التهديد دون أن تكون مرتكبة لجريمة الزنا. لذا نجد جانب من الفقه يرى أن الإكراه المعنوي لا يختلف في طبيعته عن الإكراه المادي، وأن الخلاف الوحيد بينهما ينحصر في الوسيلة المؤثرة في الإرادة، بينما جانب آخر - ونؤيده - يرى أنه في الإكراه المادي حقيقة الركن المادي للجريمة تنسب لمن مارس الإكراه وأن المكره في حقيقته لم يمارس أي ركن مادي، على عكس الإكراه المعنوي أين نجد الشخص المكره من قام بالركن المادي للجريمة. بينما هناك من يرى في الإكراه المعنوي ما هو إلا صورة من صور حالة الضرورة . ويرى البعض أن الإكراه المعنوي يضغط على الإرادة إلا أنه لا يعدمها، وهو من هذه الناحية يختلف عن القوة القاهرة والإكراه المادي، فالحقيقة أن المكره معنويا ينتقص لديه الاختيار ويظل مميزا ومدركا لماهية أفعاله ونتائجها، فالاختيار هو الذي ضيق من مجاله إلى أقصر الحدود، حيث يجد الشخص نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، وهو إما الرضوخ للإكراه وارتكاب الجريمة، وإما يقبل بوقوع الخطر أو التهديد أو الشر أو الضرر الذي هدد به. 
الفرع الثاني
الشروط الواجب تطلبها في الإكراه كمانع للمسؤولية الجنائية
        حتى يعد الإكراه مانعا من موانع المسؤولية الجنائية، يجب أن يستجمع شرطين أساسيين بدونهما لا تتوفر فيه صفة المانع من المسؤولية، الشرط الأول، وهو أن يكون مصدر الإكراه الإنسان، وأما الشرط الثاني، فهو أن يكون سبب الإكراه غير متوقع ويستحيل دفعه. وهو ما نتناوله في النقطتين التاليتين.
أولا: أن يكون مصدر الإكراه إنسان
        حتى يكون الإكراه مانعا من موانع  المسؤولية الجنائية، يجب أن يكون مصدره إنسان، وهو المصدر الذي يجعل الإكراه يتميز عن بعض الأفكار القانونية الأخرى التي حتى وإن كانت تشترك معه من حيث كونها تمنع قيام المسؤوليه إلا أن مصدرها غير الإنسان، كحالة القوة القاهرة التي تعد الطبيعة مصدرا لها كالزلازل والفيضانات والعواصف، كما قد يكون مصدرها الحيوان، كحالة جموح دابة، كما قد تتمثل في المرض الذي يصيب الإنسان أو النعاس الذي يعتريه فيرتكب جريمة مدفوعا بذلك، فهي أيضا مانعا للمسؤولية. كما يختلف الإكراه عن الحادث الفجائي الذي لا يجرد الشخص من إرادته بل يجرد فعله من عنصر الخطأ، كمن يقود سيارته محترما لقواعد السير وإذا بشخص أرعن يعبر الطريق أمامه فجأة في غير المكان المخصص لعبور الراجلين، غير ملتزم بأدنى قواعد التبصر والانتباه فيصدمه ويتسبب ذلك في وفاته، فهنا يعد السائق بصدد حادث فجائي كان سببه خطأ المضرور ذاته وبذلك تمتنع مسؤوليته الجنائية.
ثانيا: أن يكون سبب الإكراه غير متوقع ويستحيل دفعه
        يجب أن يكون الإكراه المسلط على الشخص غير متوقع بالنسبة له، حتى يعتد به كمانع من موانع المسؤولية الجنائية، وعدم التوقع مسألة موضوعية يستقل بتقديرها قضاة الموضوع تبعا لظروف كل قضية على حدة، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يجب أن يكون دفع هذا الإكراه من قبل الشخص المكره مستحيلا، فإن كان يمكن دفعه يمتنع الزعم بأنه أعدم إرادة الشخص، فلا يمكن لشاب قوي البنية مثلا أن يحتج بالإكراه المسلط عليه من قبل صبي صغير محدود القدرات. هذا ويضيف البعض، ألا يكون للجاني يد في حصول هذا الإكراه، وفي حقيقة الأمر شرط عدم التوقع يغني عنه.
المطلب الثاني
الغيبوبة الناشئة عن السكر الاضطراري
الغيبوبة كمانع من موانع المسؤولية أخذت به العديد من التشريعات الجنائية، غير أننا سنركز على القانون المصري ونعطيه كنموذج، مع مقارنته أحيانا مع القانون اللبناني، على اعتبار ن الأول مصدر للثاني، وفي هذا القانون نصت المادة 62 على حالة الغيبوبة بنصها : " لا عقاب على من يكون فاقد الشعور
 أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل.... لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيا كان نوعها إذا أخذها قهرا عنه أو على غير علم منه بها"، ويستفاد من هذا النص بمفهوم المخالفة استبعاد حالة تناول هذه العقاقير
أو المواد المخدرة بإرادة الشخص، حيث المادة اشترطت تناولها قهرا أو بغير علم من الشخص .ومن شروط تطبيق هذه الحالة هو أن يؤدي تناول هذه العقاقير إلى فقد الشعور وقت ارتكاب الجريمة مع تناولها قهرا
 أو عن غير علم بحقيقة هذه العقاقير. وبينت المادة 235 من قانون العقوبات اللبناني ذلك بالنص :" يعفى من العقوبة من كان حين اقتراف الفعل بسبب طارئ أو قوة قاهرة في حالة تسمم ناتجة عن الكحول أو المخدرات أفقدته الوعي أو الإرادة. وإذا نتج التسمم عن خطأ الفاعل كان هذا مسؤولا عن كل جريمة غير مقصودة ارتكبها. ويكون مسؤولا عن الجريمة المقصودة إذا توقع حين أوجد نفسه في تلك الحالة بسبب خطأه إمكان اقترافه أعمالا إجرامية. وإذا وجد نفسه في تلك الحالة قصدا بغية ارتكـــاب الجريمة شددت عقوبته وفقا للمادة 257".
الفرع الأول
المقصود بالسكر أو التسمم
        يقصد بالسكر أو التسمم كمانع من موانع المسؤولية، الحالة التي يفقد فيها الشخص الوعي والإرادة بصفة مؤقتة وعارضة على إثر تعاطيه لكمية من سائل مسكر أو مادة مخدرة كافية لإحداث هذا الأثر. أما الكحول والمخدرات، فيقصد بها كل المواد الكحولية أيا كانت تسميتها أو نوعها، وأيا كانت نوعية أو شكل المواد المخدرة دون التقيد بالجدول المبين بقانون المخدرات، كما يستوي الوسيلة التي يتعاطى بها الشخص الكحول أو المخدرات، سواء كان ذلك عن طريق الفم أو الشم أو الحقن أو امتصاص مسام الجلد له أو أية وسيلة أخرى. والسكر وتناول المخدرات حالة مؤقتة دوما وليست مثل الحالة المرضية الناتجة عن الإدمان كما أنها ليست حالة دائمة كالجنون. 
الفرع الثاني
السكـــــر الإرادي
السكر الذي يؤدي إلى الغيبوبة ويمنع قيام المسؤولية الجنائية، هو السكر اللاإرادي أو الذي يتناوله الشخص مكرها أو عن طريق الخطأ، لذا نجد الفقه قد أثار مسألة تناول عقاقير مخدرة أدت إلى غيبوبته
أو سكر بإرادة الشخص الحرة، وحدود المسؤولية في هذه الحالة، خاصة وأن المسؤولية تقوم على مدى القدرة على الإدراك والتمييز، والشخص في مثل هذه الحالات يكون فاقدا للقدرة على التمييز والإدراك، ومن بين ما جاء به الفقه هو عقد الشخص العزم على ارتكاب الجريمة ثم يعمد إلى السكر لبث الجرأة فيه لتنفيذ الجريمة، هــنا يرى أن عقد العزم قد تم قبل تناول المادة وبالتالي يسأل، وإن كنا التبرير يجب أن ينصب حول وقت الجريمة الذي كان فيه الشخص فاقدا للقدرة على التمييز والإدراك، وهذا لا يعني أننا لا نحمل مسؤولية لهذا الشخص، لكن يجب أن نبحث عن أساس آخر لها، أما ما عدا هذا الفرض فالفقه ميز بين أربعة آراء.
أولا: المسائلة على أساس الإهمال وعدم الاحتياط
        وهو اتجاه يرى أنصاره، أن الشخص الذي يتناول المخدر أو المسكر مع علمه بطبيعة ما يتناوله وبإرادته، يعد مسؤولا مسؤولية جنائية على أساس الإهمال وعدم الاحتياط، لأن المسكر أو المخدر أفقد الجاني الشعور والقدرة على التحكم. لكن أخذ على هذا الرأي الملاحظات التالية: أنه رأي يؤدي إلى الإعفاء من المسؤولية بناء على فقدان الشعور والإدراك، وهي مسألة متطلبة في كل من نوعي الجرائم العمدية وغير العمدية، إذن لا يمكن القول بالمسؤولية أيضا على أساس الإهمال وعدم الاحتياط كون هاتين الصورتين من صور الخطأ تقوم بدورها على الإدراك والتمييز. القول بهذا الرأي، يؤدي إلى عدم مسائلة الشخص في الحالة التي لا تحتمل فيها الجريمة الارتكاب إلا عمدا، مثلما هو الشأن بالنسبة لجريمة الاغتصاب في القانون المصري وكذا جريمتي القذف والسب . 
ثانيا: المسائلة عن جرائم عمدية 
        وهو رأي يرى أنصاره معاقبة من يفقد إفاقته عمدا مع علمه بذلك، ويسأل عن جريمة عمدية رغم انعدام القصد الجنائي لديه، وإنما القانون يحمله نتيجة قصده الاحتمالي. وقد وجهت انتقادات لهذا الرأي أيضا، تمثلت أساسا في كون  القصد الاحتمالي يستلزم توفر النية لدى الجاني قبل ارتكاب الجريمة. 
ثالثا: موقف محكم النقض المصرية
        وهو رأي يقوم على التفرقة بين الجرائم التي لا تتطلب سوى القصد الجنائي العام، وتلك التي تتطلب قصدا جنائيا خاصا، فالجاني يحمل مسؤولية الجرائم العمدية التي تقوم على القصد الجنائي العام، بالرغم من فقده الشعور نتيجة السكر والغيبوبة الاختيارية، بينما الجرائم التي تتطلب قصدا جنائيا خاصا، فلا يحمل الجاني مسؤوليتها سوى على القصد العام إن كانت مثل هذه الجرائم ممكن أن تتحول إلى ذلك، وإن لم تكن تحتمل ذلك فلا يسأل الشخص جنائيا .كجريمة القتل العمد التي يرى الفقه أنها جريمة عمدية تتطلب قصدا خاصا، وفي حال فقد هذا القصد الخاص وتحوله إلى قصد عام تصبح جريمة الضرب المفضي إلى الموت، وهي جريمة تتطلب فقط قصدا جنائيا عاما، وهو موقف قضائي مصري يرى فيه الفقه المصري، أنه موقف يفتقر إلى السند القانوني، زيادة على خلطه بين الأهلية الجنائية والركن المعنوي للجريمة.
رابعا: قيام المسؤولية على أساس العمد المفترض
        تجنبا للانتقادات السابقة التي وجهت للآراء الثلاثة السابقة، حاول البعض، أن يبني مسؤولية الشخص فاقد الشعور نتيجة المخدر أو السكر الذي تناول عمدا مع علمه بحقيقة المادة، على أساس العمد المفترض افتراضا لا يقبل إثبات العكس، وأن يفترض بأن الجاني أثناء ارتكابه جريمته كان مالكا لشعوره، وبالتالي يكون مسؤولا عن الجريمة التي ارتكبها، سواء كانت جريمة عمدية أو غير عمدية، ذات قصد عام أو ذات قصد خاص. مما يعني تحمل الشخص المسؤولية عن الجريمة التي ارتكبها كما ولو كان في حال إفاقة تامة.
        ويرى البعض الميل للرأي الذي يرى وجوب ما إن كانت الجريمة تحتمل العقاب على صورتي العمد والخطأ، أم يعاقب عليها في صورة العمد فقط، فإن كانت تحتمل الصورتين يسأل الشخص مسؤولية غير عمدية، وإن لم تكن كذلك امتنعت مسؤوليته الجنائية في ظل عدم وجود نص صريح يقرر مثل هذه المسؤولية ولا يجب اصطناع أنواع جديدة من المسؤولية لا وجود لها من حيث الواقع ولا سند لها إذا قيل أنها مسؤولية مفترضة. 

[1] - الأصل في الجرائم إما عمدية تقوم بالقصد الجنائي، وإما الجرائم غير العمدية التي تقوم عن طريق الخطأ إلا أحوال استثنائية.
[2] - وقد عبر عن ذلك المشرع اللبناني بالنص:" تكون الجريمة غير مقصودة سواء لم يتوقع الفاعل نتيجة فعله... وكان باستطاعته أو من واجبه أن يتوقعها..."
[3]- حيث يرى البعض أن المشرع في هذا النوع من الجرائم يغلب جانب الإرادة على جانب الضرر، حيث يتدخل للعقاب عن الإرادة المخطئة بغض النظر عن حجم وقيمة الضرار التي ترتبت عن الفعل.
[4] - قبل سنة 1912 كان القضاء الفرنسي ومعه فريق من الفقهاء الجنائيين يفرقون بين الخطأ المدني والخطأ الجنائي، على أساس ن الخطأ المدني خطأ متدرج في جسامته أو في خطورته حيث يصنف : خطأ جسيم، خطا يسير، خطأ بسيط، في حين أن الخطأ لا يكون جنائيا إلا إذا وصل حدا من الجسامة، غير أنه حاليا وتقريبا في كل الدول نجد بأن الفقه والقضاء يأخذ بوحدة الخطأ المدني والجنائي، فإذ انتفى هذا الأخير انتفى معه الخطأ المدني.
[5] - المادة 288 ( المادة 60 من القانون رقم 06-23 المؤرخ في: 20-12-2006):" كل من قتل خطأ أو تسبب في ذلك برعونته أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو إهماله أو عدم مراعاته الأنظمة يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة من 20.000 إلى 100.000 دج"
         المادة 289 ( المادة 60 من القانون رقم 06-23 المؤرخ في: 20-12-2006):" إذا نتج عن الرعونة أو عدم الاحتياط إصابة أو جرح أو مرض أدى إلى العجز الكلي عن العمل لمدة تجاوز ثلاثة أشهر فيعاقب الجاني بالحبس من شهرين إلى سنتين وبغرامة من 20.000 إلى 100.000 دج أو بإحدى هاتين العقوبتين."
[6] - إذ نصت هذه المادة على أنه: :" تضاعف العقوبات المنصوص عليها في المادتين 288 و289 إذا كان مرتكب الجنحة في حالة سكر أو حاول التهرب من المسؤولية الجنائية أو المدنية التي يمكن أن تقع عليه وذلك بالفرار أو بتغيير حالة الأماكن أو بأية طريقة أخرى.".
[7] - لذا يمكننا القول بأن المسؤولية الجنائية أو المسؤولية الجزائية هي صلة أو رابطة الوصل بين الجريمة والجزاء، أو هي الركن الأساسي الموجب لتوقيع العقوبة.
[8] - الخلاف حول تسمية المسؤولية بالجنائية أو الجزائية تابع للخلاف الحاصل حول تسمية قانون العقبات ذاته، ما بين القانون الجنائي أو القانون الجزائي،وهو الخلاف الذي تناولناه بخصوص تسمية قانون العقوبات، فالاتجاه الذي سمى قانون العقوبات بالقانون الجنائي يسمي المسؤولية بالمسؤولية الجنائية، والاتجاه الذي سمى قانون العقوبات بالقانون الجزائي يسمي  المسؤولية بالمسؤولية الجزائية.
[9] - نقول أفكار قانونية جنائية حتى نحصر دراستنا في إطار القانون الجنائي، لأن عدم الحصر يقودنا أصلا لدراسة كل أنواع المسؤولية وهي وحدها أنواع متعددة لا يمكننا حصرها في نطاق هذه الدراسة، فهناك المسؤولية المدنية بأنواعها والمسؤولية الإدارية والمسؤولية الأخلاقية... لذا نحاول تمييز المسؤولية الجنائية فقط عن بعض الأفكار القانونية الجنائية المشابهة.
[10] - والبحث في أساس المسؤولية الجنائية له أهمية كبرى بحيث يمكن من تحديد خصائص هذه المسؤولية، وكذا تبيان عناصرها، غير أن بحث مسألة أساها مسألة عسيرة كونها عبارة عن بحث فلسفي لم يحسم الجدل حوله بعد، غير انه يمكن القول اختصارا أن المسؤولية الجنائية نشأت في أول عهودها في صورة مسؤولية مادية أو موضوعية ترتبط بالفعل دون الفاعل،  لذا لم تكن مقتصرة على الإنسان فقط، بل كانت تمتد لتشمل الحيوان والنبات والجماد، كما أنه بخصوص الإنسان لم تكن مقتصرة على مرتكب الجريمة وحده، بل كانت تمتد لتشمل ذويه وجماعته وحتى جثته بعد موته، كل ذلك دون النظر لإرادة مرتكب الجريمة وحرية اختياره، بل النظر كان منصبا فقط على الفعل الذي ارتكبه الفاعل، غير أنه وفي تطور لاحق، بدأت تتسرب لفكرة المسؤولية الجنائية أفكار الإرادة وحرية الاختيار، وبينت بعض الدراسات القديمة ذلك حتى في عهد الفراعنة، كما ساهم القانون الكنسي في قيام المسؤولية الأخلاقية التي تقوم على أساس حرية الإنسان في الاختيار، غير أن القوانين الأوروبية رغم ذلك ظلت لغاية القرن الثامن عشر تحاسب الصغير والمجنون والنبات والحيوان والجماد، على عكس الشريعة الإسلامية التي أسست المسؤولية على اكتمال العقل والقدرة على الاختيار، وقررت الإعفاء من المسؤولية في حالات صغر السن والجنون والعته والإكراه والسكر والغيبوبة.
[11] - ونجد على رأس هذا الاتجاه، الفقيه الإيطالي شيزاري بيكاريا الذي بين الأمر في كتابه " الجرائم والعقوبات" الصادر سنة 1764، الذي ضمنه مبدأ ضرورة قيام المسؤولية الجنائية على حرية الاختيار، بالإضافة إلى مبدأ نفعية العقوبة وشرعية الجرائم والعقوبات، التي تعد أهم المبادئ التي نادى بضرورة بناء قانون العقوبات عليها، وهو المذهب الذي يقيم المسؤولية الجنائية على أساس أن الإنسان مخير بين السلوك المطابق للقانون والسلوك المخالف له، وبالتالي تتقرر مسؤوليته إذا ما سلك طريق السلوك المخالف للقانون كونه كان بوسعه اختيار الطريق غير المخالف له، فاختيار الشخص طريق الجريمة وهو قادر على اجتنباه يعني أنه مذنب أو مخطأ، وهو الاتجاه الوضعي الذي تأخذ به غالبية القوانين الجنائية المعاصرة. ووفقا لهذا الاتجاه فإن الأساس التقليدي للمسؤولية الجنائية هو حرية الاختيار، التي ترتبط بالحرية الأخلاقية للمجرم وقت ارتكابه جريمته، وانه لا يكون مسؤولا جنائيا إلا إذا كان مسؤول أخلاقيا، حيث يكون متمتعا بالإدراك والاختيار اللذان يعدان شرطا لقيام مسؤوليته، وتخلفهما أو تخلف أحدها يترتب عليه تخلف المسؤولية الجنائية، كون جوهر المسؤولية المآخذة واللوم من أجل إتيان سلوك مخالف للقانون، واللوم لا يمكن تصوره إلا إذا كان الشخص أمام طريقين أو مفترق الطرق، ما بين الخير والشر واختار طريق هذا الأخير، عن وعي وإدراك. 
[12] - يرى الفقيه أنريكو فيري أحد رواد المدرسة الوضعية، أنه هناك نظام سماه " نظام التشبع الجنائي" الذي يعني أنه إذا وجدت عوامل عضوية ونفسية في شخص معين، وأضيفت لها عوامل خارجية مادية معينة وأخرى اجتماعية، فلا بد للشخص حينئذ من وقوع عدد من الجرائم في هذا الوسط الاجتماعي، وهذا العدد من الجرائم ثابت ولا يتغير كونه بلغ درجة التشبع، وهو بذلك يشبه السلوك الإنساني بالظاهر الطبيعية، التي تقوم على أسس علمية وهو مسلك المدرسة لوضعية التي تتناول الجريمة والمجرم منهجا علميا تجريبيا.
وهي مدرسة وجدت تحت  تأثير أفكار أوغست كونت، الذي نادى بخصوص المسؤولية الجنائية باستخدام المنهج العلمي، القائم على الملاحظة والتجربة وإعمال مبدأ السببية الحتمية الذي يحكم مختلف الظواهر، والبحث العلمي يكشف عن الأسباب المؤدية للنتائج، فتصرفات الإنسان محكومة بأسبابها، فهي دوما نتيجة حتمية لأسباب مؤدية إليها ولا يتصور العقل ألا تكون كذلك، وهي أسباب السلوك التي شرع أقطاب المدرسة الوضعية ( مثل لومبروزو، فيري وجاروفالو) يبحثون عنها، في سلوك الشخص، وانتهوا في أبحاثهم أن هذه العوامل قد تكون داخلية ( تكوين عضوي ونفسي وذهني وأمراض...)، وقد تكون خارجية ( مادية وبيئية ومناخية...)، وهي العوامل التي متى توفرت ستدفع حتما للإجرام، وتنعدم بتوافرها حرية الإنسان في الاختيار ويكون مدفوع جبرا لارتكاب الجريمة، ولا مجال له حتى للتردد بين اقترافها وعدم اقترافها، وحرية الاختيار لدى أنصار هذه المدرسة، مجرد وهم وخيال ولا وجود لدليل علمي يؤكدها، بل الجبرية التي لها مسببات تقوم على أسس علمية لا يرقى إليها الشك، وبالتالي المسؤولية لديهم مسؤولية قانونية هدفها القضاء على الخطورة الإجرامية لدى الجناة، يجب أن تتخذ ضده تدابير اجتماعية للدفاع عن المجتمع، وبالتالي المسؤولية الجنائية تتقرر لكل من قد يضر بالجماعة حتى ولو كان صغيرا 
            أو مجنونا، ما دام يمثل مصدر خطورة إجرامية أو اجتماعية، وذلك بإنزال التدابير الاحترازية ضدهم
[13] - هناك تشريعات نصت على هذين الشرطين صراحة، مثلما هو الشأن بالنسبة لقانون العقوبات اللبناني في المادة 210 منه، التي قضت أنه:" لا يحكم على أحد بعقوبة ما لم يكن قد أقدم على الفعل عن وعي وإرادة".
[14] - بحيث على أساس التدرج في السن، يكون الإدراك والاختيارـ وبناء على ذلك تتحدد قواعد المسؤولية الجنائية، ففي الوقت الذي ينعدم فيه الإدراك تنعدم فيه المسؤولية الجنائية، وفي الوقت الذي يكون فيه الإدراك ضعيف تكون المسؤولية ناقصة أو مخففة، وهي المسؤولية التي تكتمل باكتمال الإدراك وذلك عند بلوغ الشخص سن البلوغ الجنائي.
[15] - وهي السن التي كان يعتمدها حتى القانون الروماني، والسن المتفق عليها أيضا لدى فقهاء الشريعة الإسلامية في تطبيقهم 
             للحديث الشريف :" رفع القلم عن ثلاثة: الصبي حتى يحتلم، والنائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق."
[16] - وقد نصت المادة 21 من تقنين العقوبات الجزائري المادة 21 ( القانون رقم 06-23 المؤرخ في 20 ديسمبر 2006) :" الحجز القضائي في مؤسسة استشفائية للأمراض العقلية هو وضع الشخص بناء على أمر أو حكم أو قرار قضائي في مؤسسة مهيأة لهذا الغرض بسبب خلل في قواه العقلية قائم وقت ارتكاب الجريمة أو اعتراه بعد ارتكابها. يمكن أن يصدر الأمر بالحجز القضائي بموجب أي أمر أو حكم أو قرار بإدانة المتهم أو العفو عنه أو ببراءته أو بانتفاء وجه الدعوى، غير أنه في الحالتين الأخيرتين، يجب أن تكون مشاركته في الوقائع المادية ثابتة. يجب إثبات الخلل العقلي في الحكم الصادر بالحجز القضائي بعد الفحص الطبي. يخضع الشخص الموضوع في مؤسسة استشفائية للأمراض العقلية لنظام الاستشفاء الإجباري المنصوص عليه في التشريع الجاري، غير أن النائب العام يبقى مختصا فيما يتعلق بمآل الدعوى العمومية."
[17] - قرار مؤرخ في: 30-03-1981 في الملف 21200:" يختلف حكم الجنون بحسب ما إذا كان لاحقا للجريمة أو معاصرا لها، فالجنون اللاحق للجريمة يوقف المحاكمة حتى يزول ويعود إلى المتهم من الإدراك والرشد ما يكفي لدفاعه عن نفسه، أما الجنون المعاصر للجريمة فإنه يرفع العقاب عن مرتكبها لانعدام الإدراك فيه، ومسؤوليته الجزائية عملا بأحكام المادة 47 من قانون العقوبات، لذلك يعتبر مشوبا بالقصور ويستوجب النقض قرار غرفة الاتهام القاضي بأن لا وجه للمتابعة بناء على تقرير طبي أثبت الجنون يوم الفحص دون أن يبين ما إذا كان المتهم مجنونا يوم اقتراف الجريمة."
         قرار في: 19-12-1993 في الملف 101792 :"لا يجوز إعفاء المتهم بسبب الجنون إلا استنادا لتقرير خبير، ومن ثم فإن قضاة الموضوع الذين استبعدوا تقرير الخبير المعين من قبل قاضي التحقيق للحكم بإعفاء المتهم من العقوبة، يكونوا قد خالفوا القانون ما دام أن التقرير المذكور يشير بوضوح أنه – المتهم- كان مسؤولا كامل المسؤولية حين ارتكابه الجريمة."
[18] -    والجنون في حقيقته لا نعني به المرض بالمعنى الدقيق، لذا نجد بعض التشريعات مثل التشريع الليبي سمته العيب العقلي، في نص المادة 83 من قانون عقوباته.
         والجنون في العصور القديمة لم يكن ينظر له نفس النظرة التي يحظى بها اليوم، فقد فسر قديما تفسيرا دينيا، واعتبر المجنون أن أرواح شريرة تتقمصه، وأن علاجه لا يمكن أن يكون إلا بالصلاة للتخلص من تلك الحالة، غير أنه مع القانون الروماني أصبح المجنون غير مسؤول جنائيا ,انه يحتاج للعلاج أكثر من احتياجه للعقاب، على عكس الوضع الذي آل إليه الأمر في العصور الوسطى حيث اعتبر المجنون من جديد بأنه مس من الشيطان لا يحول دون مسائلته جنائيا، وهو ذات الوضع الذي ساد في فرنسا إلى ما قبل الثورة الفرنسية. إلا أنه عد مانعا من موانع المسؤولية في القانون الفرنسي لسنة 1810، وذلك بالاستناد لأساس المسؤولية الجنائي المتمثل في حرية الاختيار التي تقوم على التمييز والإدراك والقدرة فعلا على الاختيار
[19] - ولا يراد بالجنون المعنى اللغوي أو الطبي له، بل يجب الأخذ بمعنى واسع له يغطي كل حالات الاضطرابات العقلية أو الذهنية التي تؤثر على المخ ويترتب عليها فقد الإدراك أو القدرة على الاختيار، وهو الذي استقر عليه الأمر في الفقه والقضاء الفرنسي في ظل غياب تعريف قانوني له، وهو ما دفع المشرع المصري على النص عليه ب" عاهة العقل"، ويعني الجنون لغة ذهاب العقل أو فساده أو عدم القدرة على التحكم في التصرفات والأفعال وتقدير عواقبها، وأما معناه الطبي فهو غير مستقر بالنظر لما يلحق بالعلوم الطبية والعقلية والنفسية من تطورات، ومن التعاريف الذي أعطيت له أنه:" انحطاط تدريجي وبات في الملكات العقلية" أو عدم قدرة الشخص على التوفيق بين أفكراه وشعوره وبين ما يحيط به لأسباب عقلية، والجنون ليس مرضا في ذاته وإنما هو عارض من أعراض مرض عقلي، وهو نتيجة تغير غير طبيعي في المخ، نتيجة لأسباب متعددة، على عكس عاهة العقل التي تخرج به عن حالته الطبيعية وتشمل الجنون، بما فيها السفه والعته وكذا الأمراض العصبية التي ينجم عنها عدم أداء الجهاز العصبي لنشاطه على نحو طبيعي مما يؤثر على القدرة على الإدراك والاختيار، ويضاف لها الصرع والهستيريا وازدواج الشخصية واليقظة النومية.
[20] - ويشمل الجنون مختلف الأمراض العقلية التي تصيب المخ فتؤدي به إلى الانحراف عن وظيفته العادية المتمثلة في الإدراك والسيطرة على مراكز الإرادة في جسم الإنسان، وبذلك يتسع الجنون ليشمل العته والضعف العقلي المتمثل في عدم اكتمال الملكات الذهنية وتوقفها عن نضجها الطبيعي، كما يضم الجنون أيضا مرض الصرع والهستيريا وازدواج الشخصية واليقظة النومية، ويشمل قانونا أيضا التنويم المغناطيسي الذي يؤثر على إرادة النائم فيؤثر فيها أو يعدمها نهائيا، وفي مثل هذه الحالة المنوم قد يسأل بوصفه محرضا على الجريمة أو فاعلا معنويا لها، والحل الأخير هو موقف المشرع الجزائري كون الذي نوم يصبح مجرد وسيلة أو أداة مادية في يد المنوم. 
ويرى البعض أن الصم والبكم يأخذان حكم الجنون بالرغم من أنهما ليس كذلك، ويستندون في ذلك على القول بأن السمع والكلام هما أداة التفاهم وعن طريقها تتم المدارك وتفتح الملكات الذهنية، فمن يولد فاقدهما آو يفقدهما قبل تكملة ملكاته الذهنية يبقى في مستوى عقلي دون المستوى الطبيعي من القدرة على الإدراك والاختيار اللازم لتحمل المسؤولية الجنائية، غير أنه رأي لا يمكن التسليم به، خاصة في ظل الواقع العملي.أما الأمراض النفسية، التي تصيب النفس بالاضطراب وتكون باعثا لارتكاب الجرائم، فاستقر القضاء على أنها ليست حالات موانع للمسؤولية، كونها لا تفقد الشعور والإدراك، وكونها لا تؤثر في سلامة العقل وصحة الإدراك، ومنها الشخصية السيكوباتية وثورة العاطفة وشدة الانفعال. والشخصية السيكوباتية شخصية شاذة في تكوينها النفسي لا تتكيف ولا تتلاءم مع قيم وتقاليد المجتمع وتدفع المصاب بها إلى ارتكاب الجرائم، غير أنها لا تأثير لها على الإدراك والاختيار، وبالتالي لا تأثير لها على المسؤولية الجنائية، وذهبت محكمة النقض المصرية قد قضت في إحدى قرارتها أنه المصاب بالحالة المعروفة باسم الشخصية السيكوباتية وإن عد من الناحية العملية مريضا مرضا نفسيا إلا أنه لا يعتبر في عرف القانون مريضا بجنون أو عاهة في العقل مما يصح معه اعتباره فاقد الشعور أو الاختيار في عمله، كما انه لا تأثير لثورة العاطفة وشدة الانفعال في القدرة والاختيار، وبالتالي فالحب الشديد والكره الشديد والغيرة والانتقام وكل حالات هياج النفس وشدة الانفعال، وإن كانت باعث أو دافع لارتكاب الجرائم، إلا أنها لا تعدمن قبيل عاهة العقل
[21] - وإن كانت مسألة وجوب اقتراف الجريمة وقت إصابة الشخص بالجنون لا تثير إشكالا بالنسبة للجرائم الوقتية، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للنوع الآخر من الجرائم، حيث أنه في الجرائم المستمرة يجب أن تظل حالة الجنون قائمة لدى الشخص، فإذا ما استرجع الشخص ملكاته الذهنية في مرحلة من مراحل الجريمة المستمرة سؤل عنها، وفي جرائم الاعتياد فلا يحتسب في تكوين ركن الاعتياد سوى الجرائم التي يأتيها الشخص وهو في كامل قواه العقلية. . هذا بخصوص حالة الجنون المعاصرة  لارتكاب الجريمة
كما أن عاهات العقل منها الدائم المستمر التي لا يفيق منها المصاب، وبعضها عرضي متقطع يصيب الشخص في فترات دورية تتخللها فترات إفاقة، وفيه الشخص لا يسأل عن الجرائم التي حدثت في فترات الإصابة دون الجرائم التي ارتكبت
في فترات الصحو، غير أن ذلك كان محل انتقاد طبي وفقهي حيث يصعب التمييز بين الفترتين، كما انه من الآفات العقلية ما يكون عاما أو شاملا لكل الملكات العقلية أو الذهنية، مثل الجنون، وهذا النوع بين الآثار الجنائية، بينما النوع الثاني فهو لا يصيب كل الملكات الذهنية والعقلية بل يصيب فقط ناحية منها دون باقي النواحي، ومنها ما يصيب الإدراك مثل البرانويا أو ما يسمى بالجنون المتخصص، وهنا تتملك الشخص وتتسلط عليه فكرة ثابتة أو اعتقاد معين يكون خاطئا، مثل جنون الاضطهاد وجنون العظمة،  ومنها ما يصيب الإرادة، حيث يصبح للشخص دوافع شاذة لا يملك قدرة على مقاومتها، وقد تدفعه إلى ارتكاب أنواع معينة من الجرائم، فهناك ما يعرف بجنون السرقة، ويسمى في هذه الحالة Kleptomanie وجنون الحريق الذي يطلق عليه مصطلح Pyramanie، والنوع المعين من هذه الجرائم يمكن القول بعدم قيام المسؤولية الجنائية بخصوصه،لكن     الإشكال الجرائم الأخرى التي ترتكب مع هذه الجرائم، والتي أثارت جدلا فقهيا يشبه الجدل الذي أثاره الجنون المتقطع
[22] - التي نصت على أنه:" :" لا عقوبة على من اضطرته إلى ارتكاب الجريمة قوة لا قبل له بدفعها."
[23] - كما عرف بأنه:" قوة إنسانية توجه إلى نفسية إنسان فتضغط على إرادته وتحمله على ارتكاب الجريمة، تحت تأثير الخوف من خطر أو ضرر جسيم وشيك الوقوع"

[24] - انظر: د/ محمد الرازقي، المرجع السابق، ص: 298.


0 شارك معنا رأيك

إرسال تعليق

مواضيع قد تهمك :