مفهوم قانون الإجراءات الجزائية |
المطلب الأول : مضمون قانون الإجراءات الجزائية
إن دراسة مضمون قانون الإجراءات الجزائية من أجل إعطاء مدلول واضح له ، يستلزم الوقوف على جملة من النقاط ، والتي تتمثل في :
الفرع الأول : تعريف قانون الإجراءات الجزائية
يعرف قانون الإجراءات الجزائية بأنه : " مجموعة القواعد القانونية التي تحدد المراجع القضائية المختصة وهياكلها وتنظم أوجه نشاطاتها بمناسبة جريمة ارتكبت ، أو بمناسبة الاعتقاد بأن جريمة ما قد ارتكبت ، بغية تحديد المسؤولين عنها وإنزال الجزاءات الجنائية بحقهم في حال ثبوت دورهم أو أي دور منهم على نحو يقيني جازم في ارتكاب الجريمة المنسوبة إليهم ، أو بعكس ذلك برائتهم " .
أو بمعنى آخر يمكن تعريف قانون الإجراءات الجنائية بأنه : " مجموعة القواعد التي تنظم سير الدعوى الجنائية الناشئة من الواقعة الإجرامية ، منذ لحظة ارتكاب الجريمة وحتى يصدر حكم بات ، وكيفية تنفيذ هذا الحكم " .
ولقد أورد الدكتور (محمد الفاضل) في كتابه (الوجيز في أصول المحاكمات الجزائية) تعريفا جامعا مانعا لقواعد الإجراءات الجزائية كما يلي : " قواعد قانون الإجراءات الجزائية هي مجموعة القواعد الواجبة الإتباع في استقصاء الجرائم ، وجمع الأدلة ، والكشف عن فاعليها وملاحقتهم ومحاكمتهم ، وتنفيذ العقاب عليهم ، وتعيين الأجهزة المختصة في ذلك " .
ويستفاد من التعاريف السابقة أن قانون الإجراءات الجنائية – أو قانون أصول المحاكمات الجزائية - ، ينظم الموضوعات الرئيسية التالية :
فكرة الدعوى باعتبارها الوسيلة القانونية لاقتضاء الحق ، وفاتحة العمل القضائي في المجال الجنائي ، إذ يضع الشروط القانونية في تحريكها ، كما تقام تبعا لها أسباب إسقاطها ، وعليه فقواعد الإجراءات الجزائية هي التي تبين كيفية السير في الدعوة الجنائية ابتدءا من التحقيقات الأولية التي يجريها رجال الضبط القضائي حتى سلوك طرق الطعن ضد القرارات والأحكام الصادرة في شأنها وتنفيذ هذه الأحكام .
دراسة الأصول القانونية الواجب اتباعها منذ وقوع الجريمة حتى إلقاء القبض على المجرم ومثوله أمام القضاء لمحاكمته .
مفهوم الإثبات في الأمور الجنائية ، وكيف يمكن للقاضي أن يكون عقيدته بإدانة وتأثيم المتهم .
التنظيم القضائي الجنائي الذي يعهد إليه بمهمة الفصل في موضوع الدعوى الجنائية .
الإجراءات واجبة الإتباع أمام القضاء الجنائي حتى صدور حكم نهائي غير قابل للإلغاء .
الإجراءات المتعلقة بقواعد تنفيذ الأحكام الصادرة عن القضاء الجنائي .
الفرع الثاني : خصائص قانون الإجراءات الجزائية
هنالك خصائص تميز قانون الإجراءات الجزائية عن غيره من القوانين ، كما تمنحه هذه الخصائص وضعا خاصا متعلقا بنطاق تطبيقه ، سواء من حيت الزمان أو من حيت المكان ، إضافة إلى ذلك فإن هذا القانون يفرض أسلوبا وآلية معينة لتطبيق قانون العقوبات ، ونظرا لكون أن قانون الإجراءات الجزائية قانونا عاما فإن قواعده تطبق على أرض الواقع بأسلوب قسري أو بالإكراه وذلك لتعلقه بالنظام العام .
ولأن قانون الإجراءات الجزائية - أو قانون أصول المحاكمات الجزائية – هو الذي ينظم الحالات التي تتقرر فيها براءة المتهم ، فقد أطلق عليه أحد علماء الإجرام (فيري) اسم " قانون الشرفاء " ، في حين أطلق على قانون العقوبات " قانون المجرمين " ، ولغايات تحقيق العدالة وإظهار الحقيقة فقد ذهب الفقه إلى أن قانون الإجراءات الجزائية يتسم بالخصائص الآتية :
أولا : قانون الإجراءات الجزائية قانون شكلي (إجرائي)
من الجدير ذكره أن القواعد التي يتضمنها قانون الإجراءات الجزائية هي قواعد شكلية (إجرائية) موضوعية ، أي لا تتعلق بالتجريم والعقاب لأن هذه القواعد لا تنشئ جرائم ولا تقرر عقوبات ، ولهذا فإن القواعد الشكلية تشكل أداة لتطبيق قانون العقوبات ، وذلك لأنها تحدد الإجراءات المتعلقة بضبط الجريمة وملاحقة مرتكبها وتوقيع العقاب عليه .
مما يستوجب القول أن الصلة بين كل من قانون الإجراءات الجزائية وقانون العقوبات إنما هي صلة تبادلية ، فبدون قانون الإجراءات الجزائية يفقد قانون العقوبات فاعليته وسلاحه الذي يجعله قابلا للتطبيق ، كما أنه بدون قانون العقوبات أيضا يفقد قانون الإجراءات الجزائية مبرر
وجوده .
ثانيا : قواعد قانون الإجراءات الجزائية تتسم بالعمومية
تتسم قواعد قانون الإجراءات الجزائية بأنها قواعد عامة تطبق على كل إنسان وعلى كل جريمة إذ لا يجوز أن توضع قواعد أصولية لقضية معينة أو لشخص معين ، فهذه القواعد لما لها من الصفة العمومية إنما تتمتع بالتجريد حيث لا يجوز أن توجه هذه القواعد إلى أشخاص معينين وإنما تسري على جميع الأفراد .
ومن هنا نلاحظ أن بعض التشريعات تقوم على وضع قوانين أصولية خاصة بالقضايا التي تمس أمن الدولة تتميز عن القواعد الواردة في القانون العام ، سواء من حيث التحقيق في الجريمة أو في المحكمة المختصة أو إجراءات المحاكمة ....الخ ، وفي الأردن مثلا شكلت محكمة خاصة سنة 1960 م لمحاكمة الأشخاص الذين أقدموا على نسف مبنى رئيس الوزراء ومن تم قتل رئيس الوزراء السابق "هزاع المجاني".
ثالثا : قواعد قانون الإجراءات الجزائية تتسم بالحيدة (عدم التحيز)
من أهم مزايا وخصائص قواعد الإجراءات الجزائية الحيدة والموضوعية إذ لا يجوز أن تتصف هذه القواعد بالتحيز أو أن تكون وسيلة بيد السلطة للبطش والإنتقام والتنكيل بالمواطنين ، لهذا نرى بأن حيدة قواعد الإجراءات الجزائية وموضوعيتها إنما يترتب عليها نتيجتان مهمتان هما:
عدم جواز تعديل قواعد الإجراءات الجزائية أثناء سير الدعوى العمومية وذلك حتى تطبق على بعض الأشخاص ، لأن ذلك يخل بحياد هذه القواعد ومن تم يشكل اعتداء على استقلال القضاء .
عدم جواز تحصين بعض الأحكام من الطعن وذلك لأن حرمان الأفراد من الطعن والتظلم في بعض الأحكام ، إنما يؤدي إلى تحصين واستقرار الأخطاء التي قد تلابس هذه الأحكام ومن تم إلحاق الظلم بالمحكوم عليهم مما يخل بخاصية حيادة وموضوعية قواعد الإجراءات الجزائية ، وهذه قاعدة غير قابلة للجدل حيث تفترض من هذه الميزة أن تكون القواعد الإجرائية بعيدة عن الظلم والتحكم ، وذلك حتى يمكن لمثل هذه القواعد أن تحقق هدفها في كشف الحقيقة وضمان الحريات في المجتمع .
رابعا : قواعد قانون الإجراءات الجزائية تتسم بالمساواة والإنصاف
من أهم خصائص ومزايا قانون الإجراءات الجزائية أنها تحقق مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون دون تميز بين فرد و آخر .
لهذا نرى جميع الدساتير العربية قد نصت على مبدأ المساواة ليكون قيدا للمشرع لايجوز له خرقه ، فلقد نصت المادة 6 من الدستور الأردني لسنة 1952م على أن : " الأردنيين أمام القانون سواء لا تميز بينهم في الحقوق والواجبات ولو اختلفوا في العرق واللغة والدين " ، في حين نصت المادة 40 من الدستور المصري لسنة 1971م على ما يلي : " المواطنون سواء أمام القانون وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة " ، أما القانون الأساسي للسلطة الوطنية الفلسطينية فقد نص : " الفلسطينيون أمام القانون والقضاء سواء لا تمييز بينهم بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو الرأي السياسي أو الإعاقة ".
لما تقدم فإنه يترتب على إنصاف قواعد الإجراءات الجزائية بالمساواة أنه لا يجوز وضع قواعد أصولية لمعاملة بعض المواطنين بأسلوب معين ، أو وضع قواعد أصولية لمعاملة أشخاص آخرين بطريقة تختلف ، وذلك لأن العدالة وفقا لذلك تقاس لهذه الفئة بمقياس معين في حين تقاس لفئة أخرى بمقياس أكبر أو أصغر.
خامسا : قواعد قانون الإجراءات الجزائية بالسرعة والبساطة
تتسم قواعد قانون الإجراءات الجزائية بالسرعة في الملاحقة والتحقيق والمحاكمة وإصدار الحكم في الدعاوى العامة ، لغايات تحقيق الردع العام والخاص ووضع حد لحالة القلق الذي ينتاب كلا من المشتكى عليهم والمجتمع معا .
كما يتسم بالبساطة من حيث التسهيل على الفرقاء أمر تقديم الأدلة الذي يعود للقاضي أمر تقديرها .
الفرع الثالث : أهمية قانون الإجراءات الجزائية
متى قدر المشرع أهمية حق أو مصلحة فإنه يقرر جزاء على المساس بهما ، وإذا رأى عدم كفابة الأجزية المقررة لحمايتها لجأ إلى العقوبة بوصفها أشد أنواع الجزاء فحدد الأفعال التي تؤدي أو تهدد بالخطر لتلك الحقوق أو المصالح والعقوبة المقررة لها ، وحتى تكون العقوبة مجدية في إصلاح الجاني وردع الأفراد عن السلوكات المجرمة ، وإرضاء شعورهم بالعدل ينبغي أن تكون متناسبة مع جسامة الجرم ومسؤولية الجاني .
بيد أن استقرار المجتمع واطمئنان أفراده يستلزمان فضلا عن ذلك عدم إفلات المجرم من العقاب ، وهو مالا يتأتى إلا بوضع الأنظمة التي تكفل تعقب الجريمة ومحاكمة مقترفها ، فتحمي مصلحة المجتمع وتصان حقوق أفراده ، وقانون الإجراءات الجزائية هو محل هذه الأنظمة .
وإذا كان لزاما على هذا القانون أن يمس حريات أفراد المجتمع واستقرارهم فيجيز القبض عليهم وتفتيشهم أو حبسهم احتياطيا أو غير ذلك من الإجراءات كي يحقق رسالته ، وكان قد استقر في مجتمعنا الحديث عن أصل البراءة في الإنسان حتى يثبت العكس وما يترتب عليه من وجوب تفسير الشك لمصلحة المتهم ، إذ يأبى العدل أن يؤخذ فرد عن جرم لم يرتكبه بل إن إدانة بريء تؤذي المجتمع أكثر من براءة جان ، وكما يقول رسولنا عليه الصلاة والسلام : " .... فإن الإمام لئن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة " ، فان تقنين نصوص الإجراءات الجزائية تقتضي أكبر العناية والتدبر كي ينحصر المساس بحريات الأفراد في أضيق الحدود وبالقدر اللازم للوصول إلى الحقيقة ، ولذلك تسعى نصوص الإجراءات الجزائية إلى التوفيق بين مصلحتين بينهما قدر من التعارض وهما : مصلحة المجتمع في سرعة معاقبة الجاني الذي أضل بأمنه ونظامه ، ومصلحة الأفراد في صيانة حرياتهم والذوذ عن أنفسهم وإثبات براءتهم ، وهو ما يقتضي توفير ضمنات الدفاع لهم وبالتالي بطء الإجراءات وإطالة أمد الفصل في الدعوى ، ويتأثر هدا التوفيق بكثير من الاعتبارات في كل دولة ويعكس في الوقت ذاته مدى ديمقراطية الدولة وصيانتها للحريات أو تسلطها مضحية بتلك الحريات .
وتبعا لما سبق يتبين أن لقانون الإجراءات الجزائية في الحياة العملية أهمية كبرى بالنسبة للمجتمع وأفراده ، والتي نوجزها في النقاط التالية :
إن قانون الإجراءات الجزائية يهدف في حقيقته إلى ضمان حقوق الفرد والمجتمع ، وذلك من خلال الوسائل والأفكار التي حواها ، فهو يوفر للفرد الضمانات التي يستطيع أن يثبت برائته وعدم علاقته بالجريمة إن كان بريئاً ، وإلا فإن العدالة يجب أن تأخذ مجراها.
كما أنه يحمي المجتمع من حيث المساعدة في الكشف السريع عن الجرائم ، وذلك من خلال الوسائل العلمية التي اعتمدها في التحقيق.
كما أنه يؤكد المبادئ التي نص عليها الدستور في أن كرامة الإنسان مصونة ولايجوز ممارسة أي نوع من أنواع التعذيب الجسدي والنفسي ضده ، كما لايجوز القبض عليه أو توقيفه أو حبسه أو تفتيش منزله إلا وفق الصيغ والأصول المحددة قانوناً ، لذلك فإن المتهم يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية ، وأن حقه في الدفاع مقدس في جميع مراحل الدعوى .
المطلب الثاني : موقع قانون الإجراءات الجزائية بين فروع القانون الأخرى ذات الصلة
إن قواعد قانون الإجراءات الجزائية ولما قد يعتريها من لبس ، لاسيما مع قواعد بعض القوانين الأخرى ذات الصلة ، ونعني بالذكر هنا كل من :
- قانون العقوبات .
- قانون الإجراءات المدنية .
- علم الإجرام والعقاب .
فقد كان لزاما التطرق إلى أهم نقاط الإلتقاء وكذا نقاط الإختلاف بين قانون الإجراءات الجزائية والقوانين الآنفة الذكر ، وهذا ما سوف يتم دراسته في السطور الموالية .
الفرع الأول : العلاقة بين قانون الإجراءات الجزائية وقانون العقوبات
يرتبط القانونان بصلة وثيقة جعلت الفقه يطلق عليهما اصطلاح القانون الجنائي فلا يتصور العقاب والتجريم بغير نصوص الإجراءات الجنائية ، ولذلك سميت نصوص قانون العقوبات بنصوص الموضوعية وعرفت نصوص قانون الإجراءات الجزائية بالنصوص الشكلية ، ونصوص الإجراءات الجزائية هي التطبيق العملي لارتباط قواعد التجريم بقواعد العقاب التي تدور حول توافر أركان الجريمة وتطبيق عقوبتها .
ومع دلك يتميز كل من القانونين عن الآخر فموضوع قانون العقوبات بيان أحكام الجرائم وعقوباتها ولا يجوز القياس بشأنها كأصل عام ويسري الجديد منها على الماضي متى كان أقل شدة (مادة 2 من قانون العقوبات ) ، والحكم الفاصل في الموضوع أو جزء منه يجوز الطعن فيه فور صدوره ، بينما يقوم قانون الإجراءات الجزائية بتحديد الإجراءات اللازمة لكشف الحقيقة سواء فيما يتعلق بالجريمة أو بالشخص المتهم من أجل تطبيق قانون العقوبات ، والجهات القضائية المختصة بتطبيق هذه الإجراءات ، ويجوز القياس على قواعد الإجراءات الجزائية فيما عدا مايمس الحرية منها ، وتسري هذه القواعد بأثر مباشر كأصل عام والحكم الفاصل في موضوع الدعوى العمومية هو وحده القابل للطعن فيه دون مالم يفصل في ذلك الموضوع ، حيث يتعين الطعن فيه مع الحكم الأول .
وإزاء أهمية هذا التمييز وجب وضع معيار له ، ولا يجدي في هذا الصدد الاستناد إلى مكان النص فمجموعة قانون الإجراءات تضم نصوصا عقابية كالمادتين 46-85 اللتين تعاقبين على إفشاء المستندات الناتجة عن التقنين ، والمادة 97 التي تعاقب الشاهد الذي يمتنع عن الحضور لإدلاء بشهادته أمام قاضي التحقيق ، وكذلك لا يعني الاعتماد على غاية القانون أو هدفه قولا بأن نصوص قانون العقوبات تهدف إلى حماية المجتمع فهي مواجهة ضد الجاني وأن نصوص الإجراءات تهدف إلى حماية الفرد في مواجهة السلطات العامة ، إذ من نصوص
قانون العقوبات ماهو في صالح المتهم كأسباب الإباحة والظروف المخففة ، كما أن من نصوص قانون الإجراءات الجزائية ماليس في صالح المتهم كتلك المتعلقة بالحبس الاحتياطي وخطر الطعن في الأحكام أحيانا .
ولعل أقرب المعايير إلى الصواب ذلك الذي يستند إلى موضوع النص ، فنصوص قانون العقوبات يتناول كل ما يتعلق بالتجريم والمسؤولية الجنائية والعقاب ، وأما نصوص الإجراءات فهي تتولى تحديد الجهات المختصة بالتحقيق من الجريمة ومسؤولية المتهم عنها والحكم عليه وطرق الطعن في الحكم ، وإجمالا يتولى هدا القانون تحديد الإجراءات الواجبة الإتباع مند وقوع الجريمة وحتى الفصل نهائيا فيها .
الفرع الثاني : العلاقة بين قانون الإجراءات الجزائية و قانون الإجراءات المدنية
على رغم التشابه الواضح بين قانون الإجراءات الجنائية وقانون الإجراءات المدنية ، إلا أن هناك فروقاً جوهرية تتمثل فيما يلى :
من حيث نطاق تطبيق النصوص القانونية : وضعت نصوص قانون الإجراءات المدنية لحسم النزاع بين فردين أو أكثر حول حق شخصي ، بينما تقرر نصوص قانون الإجراءات الجنائية للوصول إلى الحقيقة بشأن جريمة ما وبيان مدى سلطة الدولة في معاقبة من يتهم بارتكابها ، فالأول يرعى صالحا خاصا ويصون الثاني الصالح العام والذي يتمثل في نظام وأمن المجتمع واستقراره فضلا عن الصالح الخاص .
من حيث إجراءات التقاضي : في قانون الإجراءات المدنية يعرض الخصوم دعاواهم على القاضي مباشرة وينحصر دور القاضي في الموازنة بين الأدلة التي يقدمها أطراف الدعوى المدنية دون أدنى مساهمة منه ، ويتقيد اقتناعه متى قدمت إليه أدلة معينة ، ويترك للأفراد حرية الالتجاء إلى القضاء وتقديم ما يشاءون من أدلة دعما لمطالبهم ، ويبيح لهم أن يتنازلوا عن دعاواهم متى رغبوا.
أما في قانون الإجراءات الجزائية فإن الدعوى العمومية تمر بمراحل متعدد قبل عرضها على القاضي ، كالاستدلالات ، والتحقيق الابتدائي ، والإحالة ، ويشارك القاضي في جمع الأدلة بغية الوصول إلى الحقيقة ، ويستمد اقتناعه من أي دليل مطروح عليه دون التقيد بأي منها ، ومتى علمت السلطات العامة بالجريمة وجب على سلطة الإدعاء تحريك الدعوى العمومية وطرحها على القضاء وليس على تلك السلطة أن تنازل عنها .
من حيث أطراف الخصومة : في القانون المدني أطراف الدعوى هم المدعي والمدعى عليه ، أما فى القانون الجنائى فأطراف الخصومة هم النيابة العامة والتي تمثل المجتمع والمتهم (المشتبه فيه) الذي ارتكب الجريمة في حق المجتمع .
من حيث سبب الدعوى : هو الفعل الضار في القانون المدني أي الخلل الذي يشوب مصادر الالتزام (ما سبب ضرراً) ، أما سببها في القانون الجنائي هو الجريمة التي ارتكبها المتهم (ارتكابه لفعل أو امتناعه عن فعل نص عليه القانون الجنائى) .
من حيث موضوع الدعوى : موضوع الدعوى المدنية التعويض ، أما الجنائية فموضوعها العقوبة.
من حيث كيفية استيفاء الحقوق : القاعدة في القانون المدني أن الحقوق تستوفى من خلال التقاضى أو التصافى (التحكيم) ، أما في القانون الجنائى فالعقوبة لا تستوفَ إلا من خلال الاجراءات الجنائية (لا عقوبة إلا بحكم قضائى) لأن المتهم بريء لحين ثبوت إدانته ، إضافة إلى أن القاضي المدني مجرد محكم بين أطراف القضية بالتبادل بين الشاكي والمشكو ضده وبين المدعي والمدعى عليه ، في حين أن القاضى الجنائى يحكم بناءاً على قناعته الشخصية لذلك يمكن للقاضى الجنائى القيام بأي إجراء يؤدي إلى الوصول إلى الحقيقة ، وعليه يمكنه استدعاء أية شهود أو طلب أية مستندات لتدعيم هذه البينات .
ومع ذلك فإن القانونين من القوانين الإجرائية المتعلقة بالتنظيم القضائي ويخاطبان محاكم تنتمي إلى جهاز قضائي واحد ، فالمحاكم المدنية والمحاكم الجزائية تنتميان إلى هيئة قضائية واحدة ، وقد تنعقد المحكمة الواحدة سواء كانت محكمة من الدرجة الأولى أو من الدرجة الثانية للفصل في الدعاوي المدنية مرة ثم الدعاوي الجزائية مرة أخرى ، بل أن هناك بعض المبادئ المشتركة في القانونين كعلانية الجلسات ، والنطق بالأحكام ، وشفوية المرافعات ، والتقاضي على درجتين ، وخضوع الأحكام لرقابة النقص (المجلس الأعلى) ، وعليه فالسؤال الذي يمكن طرحه هنا هو : هل من أثر لهذا التشابه بين القانونين ؟ ، وهل يمكن سد نقص قانون الإجراءات الجزائية بصدد مسألة معينة من قانون الإجراءات المدنية ؟ .
بادئ ذي بدء فإنه إذا وجدت النصوص التي تحكم الإجراء الجزائي فلا يجوز الرجوع إلى قانون الإجراءات المدنية مهما كانت مغايرة له ، وكذلك فلا صعوبة في الأمر ادا أحال قانون الإجراءات الجزائية صراحة إلى قانون الإجراءات المدنية كنص المادة 439 من قانون الإجراءات الجزائية بتطبيق أحكام قانون الإجراءات المدنية في أحكام التكليف بالحضور والتبليغات مالم ينص على غير ذلك .
أما إذا خلا قانون الإجراءات الجزائية من نص يعالج مسألة إجرائية أو كان النص غامضا فإنه ينبغي على القاضي الجنائي أن يبحث عن الحكم الواجب الإتباع بالإلتجاء إلى طرق التفسير المختلفة ، ولابأس من القياس على النص الوارد بقانون الإجراءات المدنية مادام غير متعارض مع المصالح التي يحميها قانون الإجراءات الجزائية ، ولا يخل بضمان الحرية الشخصية في مواجهة السلطة العامة .
ولذلك استقرت محكمة النقض المصرية والفرنسية على أن تطبيق القاضي الجزائي لأحكام قانون الإجراءات المدنية مقصور على القواعد العامة التي يمكن الأخذ بها في المجال الجزائي، أما إذا كانت نصوص الإجراءات المدنية تتضمن حكما استثنائيا كاعتبار الخصومة حضورية بالنسبة للمدعي عليه إذا حضر إحدى الجلسات ولو تخلف بعد ذلك ، فلا يصح الأخد به في نطاق الإجراءات الجزائية لأنه حكم استثنائي مخالف للواقع .
الفرع الثالث : العلاقة بين قانون الإجراءات الجزائية وعلم الإجرام
يعرف علم الإجرام بأنه : " العلم الذي يدرس الجريمة كظاهرة اجتماعية احتمالية في حياة الفرد وحتمية في حياة المجتمع ، وهو علم يدرس أسبابها الفردية والإجتماعية للتوصل إلى القضاء عليها أو الحد منها " .
و يتأثر قانون الإجراءات الجزائية بالنتائج التي يتوصل إليها علم الإجرام ، خاصة فيما يتعلق بتنفيذ العقوبة ومعاملة المجرمين داخل المؤسسات العقابية ، وهكذا نجد قانون الإجراءات الجزائية يستمد من علم الإجرام بعض القواعد ، وهي :
- قاعدة تخصص القاضي الجنائي .
- وقاعدة قاضي التنفيذ الذي يشرف على تنفيذ العقوبة داخل المؤسسة العقابية .
- وقاعدة فصل المجرمين الأحداث عن المجرمين البالغين والمجرمين المحكوم عليهم بالحبس الاحتياطي .
ويضاف إلى ذلك أن علم الإجرام يقدم وقائع لازمة إلى أجهزة القضاء والعدالة الجزائية والعدالة العقابية والسياسة التي تنطلق منها العدالتان ، والوقائع التي يقدمها علم الإجرام ضرورية للمشرع الجزائي ، والقاضي الجزائي ، وممثل النيابة العامة ، ولجميع أطراف الدعوى الجزائية (الجنائية) وفيهم المحامي ، وهي مفيدة كذلك لرجل الشرطة والأمن ومن يضطلع بتنفيذ الأحكام الجزائية المختلفة من عقوبات وتدابير احترازية أو تدابير إصلاحية .
0 شارك معنا رأيك
إرسال تعليق